درب الآلام

شمس الدين مطعون

[هذه قصة مستوحاة من واقع الثورة السورية ومن مدينتي داريا الثائرة في الريف الدمشقي عن رجل كهل في الخمسين من عمره كيف يعيش ويمضي عمره وكيف ينتهى في واقع مرير خلاصه الشهادة ]

هاهو كعادته يستيقظ باكرا قبيل شروق الشمس يؤدي صلاته، ويستمع لصوت الطبيعة.. حيث لايتاح له ذلك لا بالنهار ولا بالليل . فإن القصف لا يهدأ

لقد آثر هذا الكهل أن يبقى في مدينته وأن يخرج عائلته خوفا عليهم من القصف، و ظل هو يحمي بيته ويدافع عن مدينته كما يقول .

كان أبو فياض يعمل مزارعا عند أحد التجار الكبار حيث كان يسقي ورد المزرعة ويوصل الأطفال إلى المدرسة، ويتقاضى مقابل هذا العمل راتبا بسيطا في نهاية الشهر يقوم بتوزيعه على أبنائه بالتساوي ويبقي لزوجته ونفسه جزءا بسيطا يقتات عليه 

فلقد أحب أن لايتعب أولاده بالعمل وأراد لهم أن يكملوا دراستهم.

وإنه الآن بعد خمسين عاما أو يزيد لا يجد أبناءه بجانبه وهم لم يستطيعوا أن يكملوا تعليمهم بسبب الحرب الدائرة، وبات اليوم يعيش وحيدا 

يحتسي فنجان قهوته لوحده منتظرا الساعة السابعة والنصف، وهو يهيئ دراجته الهوائية ويقوم بتنظيف سلاحه ، فلقد آثر الخروج لجبهات القتال مع الشباب المرابطين على ثغور المدينة .

وقبل أن تدق السابعة والنصف تسمع أبا فياض يصرخ على جاره أبي محمد (هيا بنا لقد حان موعد الانطلاق) ويرد أبو محمد كعادته (دائما أنت مستعجل يا أبا فياض)

ويمضي الاثنان كل منهما على دراجته بين ركام المدينة وبقايا البيوت، يمرون على المطبخ المعد للثوار ، يأخذون حصتهم من الشوربة في إناء صغير ، وكلمات الحمد والتهليل لاتنقطع من لسان أبي فياض ....

وعندما يصل صاحبنا إلى نقطته على أطراف المدينة ..يبادر بالسلام على الشباب هناك ويتبادلون الأدوار فيذهب الذين سهروا ليلتهم بالحراسة، ويستلم أبو فياض ومن معه من الشباب نوبتهم حتى المساء .

ويجلس خلف متاريس جهزت ليرصد تحركات العدو أمامه على بعد أمتار،ينصب عينه على بارودته واضعا كفه على الزناد، ويظل على هذه الحال حتى انتهاء نوبته إلا لقضاء حاجته أو شربه قليلا من الشوربة إذا انتصف النهار .

ويقضي الشباب نهارهم في أحاديث الجبهات الأخرى ومشاريعهم ، ويستذكرون ماضيهم وذكريات جميلة عاشوها .

وأبو فياض خلف متراسه يتلوا آيات من القرآن قد حفظها ليلة أمس بين المغرب والعشاء ، لأنه قد اعتاد على حضور الدرس عند الشيخ أبي اسماعيل في مسجد صغير في طرف المدينة قد سلم من الدمار بعض الشيء ، يلقي فيه الشيخ آيات من القرآن يقوم بتحفيظها وشرحها للطلاب 

وأبو فياض لم ينل حظه من التعليم في المدرسة في الماضي .. وإنما أحب الجلوس إلى هذه الحلقة يتعلم شيئا يدخره لآخرته.

لقد كان أبو فياض يثير انتباه الكثيرين ... وقد سأله أبو محمد يوما (لماذا لاتخرج إلى أهلك فثمت طريق مفتوح .. وليس عليك من حرج فأنت كبير في السن) يجيب أبو فياض بصوت الواثق (قلت كبير في السن ..وكم كانت أعمار الصحابة حين جاهدوا مع النبي محمد صلى الله عليه وسلم)....

(أنا يا صاحبي قد ضيعت الكثير من عمري بالعمل والكد ..وكل هذا يزول 

فإني أود أن ألحق بأبي زهير وسعيد وجابر ... إنهم ينتظرونني هناك .... )

هؤلاء كانوا قدوة صاحبنا فيما يطمح إليه ، أما أبو زهير فهو جار أبي فياض قد استشهد هو وأبناؤه منذ أشهر حين أسقطت الطائرة صاروخا على بيته، وأما سعيد وجابر فهما أصحابه منذ الصغر، ولقد انتهى الأمر بسعيد أن استشهد برصاص قناص عندما كان برفقة أبي فياض في طريقهما إلى الجبهة 

وجابر اصطفاه الله حين توفاه بمرض أصابه في ظل الحصار فلم يجدوا له دواء ولا علاجا .

لقد كان حلم الشهادة عند أبي فياض ..  كحلم الطفل بشراء لعبته المفضلة إذا حل العيد ... فكان يطارده ليل نهار .....

إنه لم يعد يفكر في تلك الحياة البسيطة ولم يعد يطمح لتحسين آثاث بيته أو لتعليم أطفاله .... ولكنه نوى أن يلحق بركب الشهداء 

....... ولقد اصطفاه الله شهيدا