رسالة إلى الصديقات والأصدقاء في فلسطين

clip_image001_8f4ed.jpg 

ترددت طويلاً قبل كتابة هذا النص، فالكتابة من ساحات الانتفاضة الشعبية اللبنانية ليست سهلة. فنحن، أيتها الصديقات والأصدقاء، نعيش لحظة مفصلية في تاريخ لبنان. أرى جيلاً جديداً يولد كي يصنع وطناً من ركام نظام طائفي استبدادي عفن، وأستمع إلى لغة جديدة طالعة من أعماق الألم والإفقار، وأشهد للثورة على طبقة الرأسماليين الذين دمّروا لبنان ونهبوه.

هذه الانتفاضة كانت اللحظة التي انتظرتنا كي تغسلنا وتعيد رسم هويتنا الوطنية والإنسانية.

والحق أنني أشعر بمزيج من العتب والغضب على رفيقاتي ورفاقي في فلسطين، أقول في فلسطين كي لا أشمل الفلسطينيين، فأهلنا في مخيمات لبنان معنا مثلما كنا ولا نزال معهم، وأهلنا في مخيمات سوريا يعيشون نكبتهم الممتزجة بنكبة الشعب السوري الرهيبة. لذا، فأنا أخاطبكم أنتم في فلسطين، في الضفة وغزة والجليل والمثلث، كي أسألكم لماذا هذا الصمت؟

سؤالي ليس موجهاً بالطبع إلى سلطَتَي رام الله وغزة، فقد ابتكرت العبقرية الشعبية اللبنانية شعار «كلُن يعني كلُن»، وهو شعار صالح في فلسطين مثلما هو صالح في لبنان.

سؤالي موجه إلى النُخب الثقافية وإلى المناضلات والمناضلين الفلسطينيين، إلى الأسرى والفقراء والمحاصَرين في الغيتوات التي صنعها الاحتلال.

سؤالي هو أين أنتم؟ لماذا لا نسمع أصواتكم في الشارع؟ هل يحق لكم أن تتركوا «خيمتنا الأخيرة»، وحيدة في مواجهة الاستبداد الطائفي الأوليغارشي؟ هل رأيتم أمس مظاهرة كفرشوبا؟ أرجو أن لا تكونوا قد نسيتم اسم هذه القرية الجميلة، التي كانت أشجار زيتونها هي الملاذ الأول للفدائيين في لبنان.

هناك شيء يجب أن نعيه معاً، وإلا ضاع معنى فلسطين وضاعت فكرتها، فلقد تهاوت أنظمة العسكريتاريا وانفضح شيوخ النفط، وليس أمام شعوب المنطقة سوى طريق واحد اسمه بناء مجتمعات وسلطات ديمقراطية تسمح لشعوبنا باستعادة كرامتها، من أجل الخروج من هاوية الانحطاط والإفقار والإذلال.

منذ بداية الانتفاضات الشعبية العربية، بدأ أفق تاريخي جديد يرتسم، وكان علينا أن نلتقط المعنى الجديد، ونستخلصه من أوحال لغة قديمة صارت جثة في أفواهنا.

لا أريد أن أحلل منعطفات الانتفاضات العربية ومآسيها وخيباتها وآلامها وأحلامها، بل أريد أن أروي كيف يصوغ الناس في شوارع لبنان وساحاته لغتهم الجديدة. وهي بالمناسبة مزيج من لغات العرب، ننشد مع العراق ونغني أناشيد الثورة السورية مع حنجرة القاشوش المقطوعة، نرنو بأفئدتنا إلى الخرطوم وثورة السودان، ونستعيد الجزائر، ونلمح ساحة التحرير في القاهرة، لكننا للأسف، نشعر أننا فقدنا لغتنا الفلسطينية وإيقاعات الأناشيد التي ملأت شبابنا بفكرة اقتحام السماء.

لا أريد أن أدّعي بأنني أشعر بالحزن، فالثورة هي لحظة تتفتح فيها أكمام وردة الفرح، لكنني أشعر بالمرارة، ففلسطين التي صنعت وعينا الثوري في شبابنا لا يحق لها أن تغيب في لحظة النهوض الثوري التي نعيشها.

هذا هو الموضوع، لا أكتب معاتباً مثلما كتب بعض رفاقنا السوريين وسط هول مأساتهم بالمستبدين الذين جعلوا من فلسطين ومقاومة الإمبريالية أحد أقنعتهم. أفهم مرارة السوريين من مواقف الكثير من النخب الفلسطينية التي أيدت وشبّحت مع شبيحة المستبد، وأفهم ضيقهم ومعاناتهم ممّا يسمى بـ«فرع فلسطين» الذي أذلهم.

مشكلتي ليست في غياب مظاهرة واحدة ولو صغيرة في حيفا أو رام الله كتحية لبيروت وطرابلس وصور والنبطية… وعلى الرغم من أن هذا الغياب يشعرني بالحزن، لا لأنني لبناني فقط، بل لأنني فلسطيني القلب أيضاً، لكن هذا ليس موضوعي.

موضوعي هو هذا الغياب المحزن لفلسطين عن خريطة هذا التحوّل التاريخي الذي يشهده العالم العربي.

ألا تشعرون أيتها الرفيقات والرفاق أن اللغة القديمة ماتت، وأن فلسطين باتت تعيش في مقبرة لغوية وثقافية وسياسية؟

تعالوا معي إلى البداية، ففلسطين لم تكن إلا قضية حرية وحق، وهي بهذه الصفة استطاعت أن تلهم أجيالاً من الشابات والشبان العرب الذين رأوا فيها بداية تحرر المنطقة من الاستبداد الذي جلب لها عار الهزيمة الحزيرانية.

فكرة الحرية تتخذ اليوم مسارات جديدة، عنوانها النضال من أجل المساواة والديموقراطية.

كيف لا تكون فلسطين جزءاً من هذا النضال؟ وإذا لم تكن كذلك فماذا تكون؟

أعرف أن فلسطين تعيش في ظل تسلّط سلطتين، وأنها بطلت أن تكون نفسها منذ أن وهنت قياداتها السياسية وارتضت بسلام مستسلم حوّل أرضها إلى غيتوات ومعازل، أو منذ أن صارت ساحة لصراعات المنطقة التي لا تريد من فلسطين سوى أن تكون غطاء لعهرها واستبدادها.

فلسطين التي نعرفها ونحبها ليست هناك، فأين نجدها؟

أين الضمير الفلسطيني الذي كان ويجب أن يبقى ضمير كل المضطَهدين في العالم؟

هذا هو السؤال.

اللبنانيات واللبنانيون، كما كل الشعوب العربية المنتفضة والتي ستنتفض، ليست في حاجة إليكم من أجلها.

عندما أستمع إلى تلامذة المدارس في لبنان وهم يميّزون بين دراسة التاريخ وصناعته، أشعر بأنني أعيش حقيقة أجمل من الحلم، وهي حقيقة تكتفي بذاتها ولا تحتاج إلى دعم من أحد.

ولكننا في حاجة إليكم ليس من أجلنا، بل من أجل فلسطين.

من أجلكم أنتم أيتها الرفيقات والرفاق نكتب، فالشاعر الذي أهداكم ضيا عينيه، كان يتكلم باسم الضمير العربي. وهذا الضمير يناديكم اليوم، أن «هبوا واستفيقوا».

أما الانتفاضة في لبنان فمستمرة، وكان إنجازها الأكبر أنها نزعت كل الأقنعة عن «الوجوه المستعارة».

انتفاضتنا دعوة لتأسيس وطن من ركام الفقر والاستبداد والعنصرية والطائفية وسيطرة نظام المافيا الذي يريد إذلالنا وتجويعنا.

لذلك، فهي انتفاضتكم أيضاً، وعلى فلسطين بمناضليها ومثقفيها أن تعي أن «تفاحة البحر»، كما وصفها شاعرنا محمود درويش، تُعيد صوغ نفسها: «من ذهبٍ ومن تعبٍ وأندلسٍ وشامْ».

وسوم: العدد 850