التطبيع السعودي الإسرائيلي .. ذاب الثلج وبان المرج

والذي أذاب الثلج هو ولي العهد ورئيس مجلس الوزراء الأمير محمد بن سلمان في مقابلة مع محطة فوكس نيوز التليفزيونية الأميركية ؛ أجراها بريت باير في مدينة نيوم في شمال غربي البلاد . في المقابلة قال ولي العهد في وضوح خالف فيه كل البيانات السعودية الغامضة السابقة عن التطبيع : " كل يوم نصبح أقرب لإقامة علاقات مع إسرائيل . " ، وسبقه وزير خارجية إسرائيل إيلي كوهين إلى هذا الوضوح الحاسم بيوم واحد حين أكد أن التطبيع بين الدولتين بات وشيكا ، وكوهين على كل حال عبر دائما بصورة أو بأخرى عن حتمية هذا التطبيع واقترابه . والواقع الذي كان ماثلا دائما للعيون  التي تحسن الرؤية هو أن التطبيع لا مفر منه ، وأن الطرفين راغبان فيه ومصران عليه إصرارا يتساويان في حرارته وقوته ، وهو على كل محض إظهار علني رسمي للعلاقة القوية السرية بينهما حتى قبل قيام إسرائيل رسميا في مايو 1948 ، والاتصالات بين الملك عبد العزيز وقادة الحركة الصهيونية مثل حاييم وايزمان المستوطن البيلاروسي وأول رئيس دولة لإسرائيل معلومة . وهو ، التطبيع ، محطة أساسية لاندماج إسرائيل في المنطقة ، وفتح الباب متسعا أمامها للهيمنة السياسية والاقتصادية والأمنية عليها انطلاقا من كون إسرائيل أداة من أدوات المشروع الغربي الذي أقره المجتمعون في المؤتمر الاستعماري الغربي الذي انعقد بين عامي  1905 _ 1907 برئاسة هنري بنرمان رئيس وزراء بريطانيا ، واعتبر المجتمعون فيه الحضارة العربية الإسلامية عدوا لا علو ولا بقاء للحضارة الغربية المسيحية إلا بالقضاء عليه ، وقدم زعماء الحركة الصهيونية ، ومنهم حاييم وايزمان ، حركتهم وسيلة من وسائل هذا القضاء شرطَ إقامة دولة لليهود في المنطقة العربية الإسلامية يتكفل الغرب بتمويلها وتسليحها وحمايتها ، وهو ما التزم به  حتى الآن حرفاً حرفاً دون أي إخلال مهما صغر بمضمون ما اتفق عليه الطرفان . ومسلسل مشروع تحطيم الحضارة العربية الإسلامية مترابط الحلقات لا فجوات فيه ، وكل حلقة تلي سابقتها وتلتحم معها ليتواصل المسلسل في إحكام واطراد ، كل خطوة تمهد للخطوة التي تليها حتى تتواصل المسيرة . وبعضنا ، نحن _ العربَ والمسلمين _ يقرأ الأحداث في المنطقة قراءة من يصب اهتمامه على الفقاعة فوق سطح النهر ، ويغفل عن منبعه ومجراه ومصبه ، فيكون خطأ الرؤية والتحليل والاستنتاج . الصواب في الرأي ينبع من رؤية الأمور في كلياتها لا في جزئياتها التي قد تبدو أحيانا متباعدة بفعل خداع متعمد . ومن الرؤية الجزئية نبعت تقديرات لا صواب فيها حين عد بعض الساسة والكتاب وأهل الرأي العرب مصالحة الرياض مع إيران ودمشق ابتعادا عن التطبيع مع إسرائيل ، في حين أن الرؤية الكلية توجب رؤية هذه المصالحة وسيلة نحو التطبيع لتحييد إيران وسوريا عن معارضته . ونقول ذات القول عن الشروط الثلاثة التي اشترطتها الرياض للتطبيع مع إسرائيل ، وهي معاهدة توجب حماية أميركية لبلاد الحرمين ، وبيعها أسلحة متطورة ، وبرنامج نووي سلمي . الشروط الثلاثة قصدت الرياض منها بالاتفاق مع أميركا وإسرائيل أن يكون تحقيقها لها إنجازا يهدىء كل من يلومها على التطبيع . ستقول إنها أخذت مقابلا ثمينا . فلا مشكلة لدى أميركا وإسرائيل في البرنامج النووي السلمي ، ولا في بيع الأسلحة المتطورة ، ويمكن الاتفاق على الحماية الأميركية بطريقة أو بأخرى ، وهي على كل موجودة منذ أربعينات القرن المنصرم بالاتفاق بين الملك عبد العزيز والرئيس الأميركي روزفلت وفق معاهدة الحماية مقابل النفط . واحتجاجات إسرائيل متفق عليها مع أميركا والرياض للإيهام بعظم الثمن الذي نالته الرياض من التطبيع ، وفداحة الثمن الذي دفعته إسرائيل من أجله . وشارك الخبيث كيسنجر في معزوفة النفاق والكذب ، فزعم أنه ليس " مرتاحا للتنازلات التي ستحصل عليها الرياض . " . وما قلناه عن ابتزازية وخداعية شروط الرياض الثلاثة لنا أن نقوله مطمئنين عن اشتراطها تسوية سياسية للمشكلة الفلسطينية تفضي إلى دولة فلسطينية في الضفة وغزة . الجميع يعلمون أن إسرائيل ترفض هذه الدولة ، وأن التطبيع مع الرياض سيتجاوزها ، ولن تقف عقبة معطلة له ، ومن ثم يكثرون من الحديث عن تحسين أحوال الفلسطينيين الاقتصادية . قال ابن سلمان في المقابلة : " أريد أن أرى حياة جيدة للفلسطينيين . " . كلام عام . حتى إسرائيل تقوله . وأمس قال بايدن : " يجب اتخاذ تدابير فورية لتحسين الوضع الأمني والاقتصادي في الضفة . "    وفي التمهيد للتطبيع السعودي الإسرائيلي خفضت قطر معونتها الاقتصادية لحكومة حماس من 10 ملايين دولار شهريا إلى 3 ملايين ، فاضطرت الحكومة إلى خفض نسبة رواتب موظفيها من 60% إلى 55 % .  كيف يكون هذا الخفض الذي قد يتحول إلى قطع تام تمهيدا للتطبيع السعودي الإسرائيلي ؟! سيضعف حماس مرتفقا مع خطوات أخرى ضدها ، ويعطل معارضتها لهذا التطبيع ، ويقوي السلطة الفلسطينية التي نسقت له مع الرياض وأميركا وإسرائيل ، وقد تعمل الأطراف الأربعة بالاتفاق مع مصر على إعادة السلطة إلى غزة ، وتفجير حرب أهلية فلسطينية ، وكل التحركات الأميركية والإسرائيلية التي يشترك فيها الأتباع العرب تستهدف الوجود الفلسطيني بشرا وأرضا وإلا كيف ستبقى إسرائيل آمنة قوية مضفورة مع المخطط الغربي للقضاء على الحضارة العربية الإسلامية.فلسطين هي منصة الوثوب على هذه الحضارة ، ومن العرب والمسلمين من يتوهم أن الخطر الغربي المتآزر مع الحركة الصهيونية محصور فيها ، ولن يتخطاها لهبه إلى أجسادهم  وأرواحهم ووجودهم .   

وسوم: العدد 1050