أصحاب الفيل ومصارع الظالمين

د. حمدي شلبي

مازال الصراع بين الحق والباطل مستمراً وسيظل إلى قيام الساعة ، والعجيب أن التاريخ يعيد نفسه ، فأبو لهب موجود بيننا ولكنه باسم غير أبي لهب ، وكذلك أبرهة وابن سلول ، وابن أبيّ وغيرهم .

مازال فينا ألوف من أبي لهب = يؤذون أهل التقى بغياً وعدواناً

وقد عرض القرآن الكريم حلقات الصراع بين الحق والباطل في أكثر من ثلث آياته ، حيث تحدث عن قصص السابقين ومصارع الغابرين {وذكرهم بأيام الله} (إبراهيم : 5) .. ومع قدوم الرسالة الخاتمة لم تكن للعرب قوة ولا شوكة ، وكان غيرهم مستأسدا عليهم مستذلاً لهم ، وقد سجل القرآن حلقة من حلقات الاستخفاف والاستفزاز التي تعرضت لها المقدسات أبان ميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم حيث كان العرب على ما كانوا عليه من ضياع وشتات وضلال مبين .

ما أشبه الليلة بالبارحة

أمة متناحرة متحاربة ـ في جهل وضلال ـ ضيعت مواريث دينها وحولت معالم دين الأجداد إلى طلاسم وتعاويذ .

وطاغوت من الطواغيت أراد أن يبني مجداً لنفسه على حساب مقدسات الغير وثوابته لينال الحظوة والرفعة عند من ولوه ونصبوه .

ملك جبار يسمى أبرهة الأشرم أخذ عرش اليمن بحيلة ماكرة من مستحقيه ، فقتل الملك غيلة ، وأراد أن يواري سوأة تصرفه الشائن بأن بنى لملك الحبشة الذي أرسله كنيسة أحسن بناءها ، وكان يريد أن يجعلها قلعة وكعبة معاً يطل منها على صنعاء بغياً وعلواً .

أراد أن يصرف الناس عن حج البيت العتيق ، فبنى كعبته الجديدة وطلاها بالذهب ـ من دماء المستضعفين ـ فهيج ذلك بعض العرب ، فدخل أعرابي فقعد " أي قضى حاجته " في الكعبة المحترمة .. فما ذنب البيت العتيق ؟ رجل أراد البغي والعلو فتطاول عليه غيره ، فلماذا تصفى الحسابات مع المقدسات الآمنة والحرم الشريف ؟

خرج أبرهة في جيشه وأعد الجرافات والكاسحات لسحق الكعبة المكرمة ، تمثل ذلك في الفيلة والعجلات الحربية والحشود ، وياليت الأمة العربية واجهت جيشاً بجيش ، بل ثورات فردية عاجزة بتشتتها عن النيل من العدو الغاشم .

ولما طالب عبد المطلب أبرهة بإبله ـ والقصة معروفة ـ قال له أبرهة : لما رأيتك هبتك ، فلما كلمتني زهدت فيك ، تدع بيتك وبيت أجدادك جئت لهدمه وتكلمني في إبل لك ، فقال : أنا رب الإبل ، وللبيت رب سيمنعه ، قال : ما كان ليمنعه مني .

تصحيح مفهوم

كلما تذاكرنا قضية القدس سمعنا صوتاً يقول : أريحو أنفسكم " للبيت رب يحميه " .

وهي كلمة حق أريد بها باطل وهو تخذيل المسلمين عن نصرة قضيتهم ، وإليك البيان :

ـ إن عبد المطلب ذهب في طلب إبله ، ولو لم يعطها لقاتل عنها ، واستمات في الدفاع عن حريمه ، فلم لا نذكر نخوة الرجل في الدفاع عن حقه ؟

ـ قال عبد المطلب : " للبيت رب يحميه " لأنه لم يكن هناك إسلام ولا تشريع جهاد ولا ما شابه ذلك .

ـ فلا يصح لمسلم أن يتعلل بها الآن ، بعد أن استقر الدين وبسط سلطانه على فلسطين ردحاً من الزمن ، وشرع لنا الجهاد ونحن أمة خمس سكان الدنيا ، ذروة سنام دينها الجهاد في سبيل الله تعالى .

ـ ولما وجد الرجل نفسه شبه وحيد في مجتمع الظلم والطغيان ـ وهو ليس بمسلم ـ حرز الناس في رؤوس الجبال وتعلق بأستار الكعبة وناجى ربه واستنصره على أعدائه .

حجارة موجعة شديدة التأثير

أرسل الله تعالى عليهم طيراً أبابيل { ترميهم بحجارة من سجيل (4) فجعلهم كعصف مأكول (5) } (الفيل) . أما أبرهة فإن الله ـ تعالى ـ سلط عليه داءً عضالاً ليموت على مراحل ، فقد كانت تتساقط أعضاؤه جزءاً جزءاً حتى حملوه معهم وما مات حتى انصدع صدره عن فؤاده .

دروس بليغة

1 ـ الجيوش المنظمة لابد أن تواجه بمثلها ، وليست بأصوات مبحوحة وفلتات فردية .

2 ـ الثبات على المبدأ أمر لازم لأصحاب الدعوات والانحراف عنه جريمة .

3 ـ إن الله عز وجل يحمي المقدسات بنا حتى إذا هلكنا جميعا جاءت المعجزات الإلهية ، أما أن يقعد مليار وربع المليار عن الجهاد ويقولوا : يا رب انصرنا واحمنا من بضعة ملايين يهودي ، فإن الله سيستجيب لكن بعد إهلاكنا نحن أولاً ، نسأل الله السلامة : { ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض } (محمد : 4).

4 ـ قد يدفع الله عن قوم ليس بكرامتهم عليه ، ولكن لحكم واعتبارات أخرى ، لأن قريشاً لم تكن ساعتها تستحق النصر ولكن هزم الله أعداءها لحرمة المقدسات لا حرمة قريش وتمهيداً لخلق جيل الحق من أصلابهم ، لا اغترار بذلك .