في وجه الثورة.. إرث العقود

د. سماح هدايا

 أي عمل من دون فلسفة ورؤية لا يستطيع أن يقدم شيئا...وأعداؤنا يحبوننا أمواتا ليجهزوا علينا بالرصاصة الأخيرة ويحتفلوا بالنصرعلينا...ولذلك يريدوننا عبيدا وأذلاء ومرضى...أما نحن فلنا الثورة لنكون أحياء ونصنع ذكرا لا ينساه الزمان...؛ فدثرينا ايتها الثورة بالرؤية والفلسفة لكي نتعافى وننجز الأفضل الموعودين به . دثرينا؛ فنحن مازلنا محمومين بما مضى من خواء وخراب"...

 في ثورتنا السوريّة ثوار وأحرار وأفراد يقاتلون بشرف من أجل أن يكونوا أحرارا، أو لكي يدافعوا عن حقهم وحق أهلهم في الحياة والبقاء. وهناك كثيرون يستشهدون، لكنّهم يستشهدون أحرارا من أجل الحياة الكريمة لأهلهم وأرضهم. لكنْ، بعد عقود الاستبداد التي سادت فيها كل أمراض الاستبداد، وسيطر فيها الإرهاب والعسف على مناخ الحياة ومفاصلها...كان على الثورة التي هبت ضد العبودية والذل والظلم، أن تواجه أصعب الأمور وأفدح الكوارث لكي تحقق مشروعها التحرّري. ولعل على رأس ما كانت تواجهه، ومازالت، هو القفز لتجاوز حالة الخراب القيمي والوجداني والأخلاقي التي تبدّت واضحة في عدّة مواقع وفي عدة وجوه. سواء في الأفراد، أو في جماعات المعارضة، أو في الجماعات المسلحة، أو في القائمين على العمل المدني .

 عملية إدارة الثورة وتمثيلها كانت صعبة جدا إعلاميا وسياسيا وعسكريا وحتى إنسانيا. خصوصا، وهي تخرج بعد إرث طويل من الاستبداد والفساد؛ فقد ترافقت الثورة بتدفق ماكان مخزونا من أمراض؛ وأثر فيها سلبا ما شاع من فردية وفرقة وفساد كان قد حفرها نظام الاستبداد، عبر عقود حكمه، عميقا في النفوس والعقول أنانية وانتهازية وضحالة وفوضى وجهل ورغبات تسلّط. وأضطرت الثورة أن تقود معركتين: أولا معركة مع نظام سياسي مستبد إرهابي يدعمه العالم القوي أو يصمت على بطشه. وثانيا- معركة مع داخلها فكريا وثقافيا واجتماعيا وقيميا؛ لكي تتخلص مما استشرى في النفوس والعقول من أمراض. وعليها وحدها أن تنتج حلولا مؤقتة على المستويات العسكرية والمدنية والسياسية والخطابية لتفلت من حصار الداخل والخارج . ولعل الحلول في تحديات المستوى الأخلاقي الوجداني القيمي هي الأهم في التعاطي مع جميع المستويات لأنّه عصب الثورة. ومن أهم ما يجب أن يجري تأكيده هو أن الثورة ليست ردة فعل ضيقة ذات صبغة طائفية انتقامية ثأريّة. قد يكون هناك انتقام وثأر وردة قعل دينية، لكنّ الموضوع المحمول هو وطني في الجوهر والمطلب، وهو متعلق بالحقوق المهضومة والكرامة المهددورة

 أدار جوانب الثورة قوى مختلفة، لاح فيها قصور قيمي ووجداني وأخلاقي. فإدارة الجانب العسكري للثورة عملية معقدة وصعبة جدا ملأى بالتحديات؛ فتجليات الانهيار القيمي شديدة؛ فعلى أرض الواقع، يعرف الجميع أن ضرورة توحيد البندقية تحت راية وطنية شريفة وضمن رؤية سياسية واضحة أمر ملح. وأن توحيد الخطة السياسية لعمل المعارضة السورية في غاية الأهمية للخروج بحلول سياسية توازي انتصارات الثورة العسكرية والميدانية وتدعمها لتحقيق الهدف السياسي في بناء دولة الحرية والعدالة والكرامة. لكن ما حصل ويحصل كشف عن حالة انهيار المنظومة الوطنية والأخلاقية. فالطرح العسكري الوطني الخالص يتم اختراقه من عدة جهات: من التيار المتشدد الشبيه بالطالباني ومن العلماني والليبرالي والعصاباتي وكتائب الأقليات الدينية والقومية. .... . حتى أصبح للكتائب أحزابا. وللأحزاب كتائب تقوم بتمويلها لمكاسب سياسية خاصة. وانتشرت كتائب للتشبيح والتجارة بالقوت والعيش والدماء والأعضاء والآثار...ومما قاله أحد القادة الميدانيين العسكريين في المنطقة الوسطى من أن هناك تسميات كثيرة للمقاتلين السوريين وخلافات كثيرة فيما بينهم...وهذا من الأسباب التي تؤخّر النصر.. فقد نشأت كتائب العرعور وكتائب إخوانية وكتائب شبيحة مذهبيّة من مختلف المذاهب ممن كانوا يعملون مع النظام.. ثم نشأت من جانب آخر، كرد على الكتائب السنية كتائب الأقليات وكتائب الوحدة الوطنية التي تعتمد على عصب الأقليات ...وهؤلاء كلهم يخدمون أحزابا وقوى سياسية لاعبة، ولم يقدموا حتى الآن مشروعا عسكريا وطنيا جامعا له شعبيته وقبوله العام، بل على العكس. هم أضعفوا الثورة وأساؤوا لكثير من المقاتلين الأحرار الثوار المسلحين بغبائهم أو تقاعسهم عن النجدة وبمشاريعهم الخاصة التي تتقاطع مع النظام أو منظومته أو تخضع لحسابات خارجيّة ...وبالطبع بهذه الوجدانية والمسلكية لن يحقق الجيش الانتصارات؛ فلابد من توحيد الجهود للمصلحة الوطنية الخالصة بما يلائم النسيج المجتعي. وحتى لو خافت الأقليات واتجهت لتكوين كتائبها ليكون لها كلمتها في مواجهة العقل الجمعي الذي يذوبها؛ فلن يكون لها وجود حقيقي فاعل في العملية الوطنية. اما التيارات الدينية الشبيهة بالطالبانية، وجبهة النصرة ومثيلاتها في التفكير لن تبقى. ووجودها ضيق في مكانه. هي حالة أملتها الظروف السياسية وحالة الثأر وهجمة الحرب الطائفية الشرسة التي مارسها النظام بالإضافة إلى الفوضى وتقاطع المصالح السياسية. ويعلم الجميع أن هؤلاء لا حاضنة شعبية لهم وانهم سيذوبون وتنتهي صلاحيتهم. أما حالة الاختراق التي يتكلمون عنها ويتهمون فيها التيارات الإسلامية؛ فقد تكون صحيحة لكنها ليست فقط في جبهة النصرة أو غيرها. هي في كل كتائب النضال ولها أسبابها وبرامجها. ولكن جرى تضحيمها إعلاميا في حالة النصرة نتيجة أخطاء فادحة وخطابات قاصرة، تم التقاطها تحت المجهر فأي شيء يدعو بتيار إسلامي متطرف أو تيار علماني أو تيار وطني حيادي؛ لن ينجح؛ فالناس في هذا الوقت ستحاربه. . ولأن غالبية الناس المقاتلين مسلمون؛ فالأفضل تنمية تيار وطني حر إسلامي معتدل يحتضن الواقع ويتصل به.

 أما الجانب السياسي للثورة فلم يكن أفضل ؛ فالحلول السياسية التي على المعارضة السياسية بلورتها صعبة ولابد من إنجازها.. لا تكتفي فقط بعملية الحوار على ترحيل النظام وتنحيته وجلب الإغاثة والنجدة للشعب السوري ومد الجييش الحر بالسلاح. وإقامة حكومة مؤقتة، أو هيئة تنفيذية، وهي مهمات أساسية وضرورية، إنما مخاطبة العالم بذكاء ودهاء ومخاطبة الثورة وشعبها بصدق وتطوير الأحداث بما يخدم الثورة والشعب السوري، والضغط السياسي القوي على أصحاب القرار بورقات كثيرة لتأمين ممرات آمنة ومتطلباتها وتهيئة الظروف لعملية الانتقال . إطلاق الحوار على رحيل النظام ليس هدرا لثوابت الثورة وعلى رأسها إسقاط النظام، كما يعتقد بعض الغاضبين دوما. بل هي محاولة للعب بالورقة السياسية لعزل النظام والضغط على القرار السياسي العالمي الذي يريد حلا سلميا واكتساب شرعية دولية تخدم المصلحة الوطنيّة، ولو في حدودها الدنيا. ليست العملية السياسية ومفاوضة العالم على رحيل النظام إلغاءً للعمل المسلح والثورة كما يصرخ أصحاب الحناجر القوية في المعارضة. فالثورة على الأرض مستمرة والثوار المخلصون يقاتلون بالسلاح ويناضلون ولا ينصتون إلا لوقع المعركة العسكرية التي فضها عليهم عدوان النظام الهمجي.

 مازال ملحا على العملية السياسية أن تتابع عملها من موقعها وأن تخاطب العالم بمنطقه وبهدف واحد يتجاوز الخلافات، وبتوحيد الكلمة ووحدة الهدف وتجاوز الخلافات، وتسعى إلى دعم الثورة بإخلاص. العالم يريد شرطا حلا آمنا لكي يقدم المساعدة. وتحاول المعارضة استنزاف هذا الشرط. وعندما قدم معاذ الخطيب مبادرته سعيا إلى حقن الدماء وتخليص الشعب من المعاناة وإنقاذ الإنسان ووضع شروطا إنسانية رمزية؛ أثار موقفه ضجة هائلة واتهامات بالتخوين والغباء السياسي في داخل أطياف المعارضة قبل الخارج، مما كشف عن مشاكل قيمية ومسلكية عميقة متجذرة أكبر من أمراض النرجسيات والجمود واللهاث وراء المكاسب والتخلف عن مواكبة الثورة. فهناك سعي لإسقاط شخصية معاذ نفسها ومصداقيتها، لأن وعيها يلتقي مع وعي جمهور واسع من الشعب...ولأنه حقق إلى حد ما قبولا جمعيا وشعبيا. وهناك حالة مخاوف حقيقة تسود في المعارضة من سيطرة الجمهور الواسع من الإسلام على السياسة. ليس الخوف الحقيقي من الأخوان المسلمين؛ فقوى سياسية كثيرة تحالفت مع الأخوان المسلمين. وليس خشية من جبهة النصرة ومثيلاتها؛ فيعلم الجميع أن هؤلاء لا حاضنة شعبية لهم، كما أشرنا مسبقا...وأنهم مهما فعلوا سيضمحل نفوذهم بعد الانتهاء من معارك إسقاط النظام ومايليها من معارك التصفية. الخوف هو من سيطرة العقل الجمعي الإسلامي، ومن نفوذ شخصيات معتدلة قد تحقق شعبية ومكاسب تقصي الآخرين من الشرفاء والطامعين؛ ولذلك كان لابد من ضرب شعبية الخطيب لتقليص جمهوره ومؤيديه ونفوذه. فالكل يريد أن يأخذ الحصة الأكبر من الكعكة؛ حتى لو كانت ملطخة بالدماء. ولن يتركوها لجهة واحدة.... إن سيناريو العراق في سلة تقاسم الحصص مازال ماثلا في أذهانهم الباطنة مع ان ألسنتهم ترفضه في تصريحاتهم الإعلامية والسياسية؛ فأشد الانهيارات القيمية الوطنية تبدو عندما يكون الانقسام الشديد. ولكل غرضه السياسي. وهذا الغرض يتقاطع مع أجندات خاصة أو خارجيّة. في سعي محموم لحصد المكاسب والتنافس على السلطة والظهور والنفوذ.

أما العمل المدني، فالمفروض أن يكون مقصده توطيد قيم الثورة وحماية مبادئها وحماية اللحمة الاجتماعية ودعم الناس لتصمد وتعيش في مواجهة التوحش الدموي، وتهيئة الظروف لبناء قاعدة المؤسسات المدنية المجتمعية وتنفيذ المشاريع الانمائية والتمكينية الممكنة؛ لكنه حتى الآن لم ينج هذا المجال من الأمراض نفسها وعلى رأسها العقل الذاتي والفئوي والشللي وحالة التكسّب والولاء، مما يضعف القيم الوطنية المخلصة ويقف مانعا أمام مد نسيج مجتمعي وطني. وهناك كثير من المال والتمويل لجهات معينة ذات صبغة خاصة. قد تكون علمانيّة تابعة أو دينيّة موالية. والشعب بين مفكّكات يوميّة ومراوغات. سلات غذائية مشروطة. شحنات طحين يهرب منها أكثر مما يصل منها. وأحيانا... ويتاجرون بقوت المساكين وغذائهم وحقائبهم المدرسية وخيمهم . ومنهم من لا يتحركون بقلوب صادقة وضمائر نزيهة وعقول ناضجة، إذ تحركهم أهواؤهم واطماعهم وأولويات انتماءاتهم الضيقة. وقد يكون هؤلاء خطرا حقيقياً يسهم في تدمير المحتمع حاضرا ومستقبلا، خصوصا عندما تكون أعمالهم الطيبة ستارا يخفي فكر الأقليات الانعزالي التفتيتي أو فكر التحزبات. المطالب الوطنيّة تصبح مشروعة عندما تلتحم الإرادات في مصير واحد. وأن تسود روح الأخوّة. فيتقاسم الجميع في الوطن دماءهم ومصيرهم. فلا تكون المساواة وفقا للتمثيلات الضيقة والفرعيّة. تكون المساواة بالتساوي في بذل الدم والتضحيات قبل التساوي في تقسيم المكاسب والمصالح.

 ومع هذا؛ فإنّ الثورة، وهي تدخل العام الثالث بعد سنتين من الغربلة والتعرية والصراع والبذل والتضحيات، ستتخطى بنوايا المخلصين والعقلاء وبأعمالهم كثيراً من اختلال الرؤية، وستقوى على محاربة الأمراض التي تفشّت؛ لأن قيم الثورة أقوى على أرض المعركة، قادرة، واقعيّاً، على بلورة مفاهيم الحرية والعدالة والكرامة فوق مرجل الزمن. وستكون قادرة على معالجة ماتبقى من أمراض كانت طي الكتمان. ومن ثم لا مجال لمساعي المتاجرين ومنتهزي الفرص في تخطي عجزهم وفشلهم وسقوطهم الأخلاقي والقيمي. إنها الثورة. ثورة تنضج مع الزمن . ولا يمكن لأحد أن يوقف الزمن.