التفاوض بين القبول والرفض

التفاوض بين القبول والرفض

د. هشام رزوق

يكثر الحديث والجدل هذه الأيام حول التفاوض مع نظام بشار أو رفضه، ويختلف من يقبل بالتفاوض على الشروط اللازم توفرها لبداية الجولة الأولى منه، وعلى أي شيء سيتم التفاوض ؟ هل سيكون على رحيل بشار وقادته العسكريين والأمنيين ومن تورطوا بقتل الشعب السوري وتدمير البلد أم على محاكمتهم لينالوا جزاء ما اقترفت أياديهم من جرائم؟ هل يتم القبول ببقاء بشار لفترة انتقالية مؤقتة، وهل يقود هو بنفسه تلك الفترة؟ هل يتم القبول بوجود عناصر من قلب النظام في المرحلة الانتقالية وفي الحكومة المؤقتة ممن لم تتلطخ أيديهم بدم السوريين؟ وكيف يمكن تحديد مفهوم تلك العبارة؟ ومن المقصود بها وهل هناك من القيادات العليا المدنية والعسكرية من هو بريء من دم تسعين ألف شهيد ومئات آلاف الجرحى والمعتقلين والمختفين وملايين المهجرين؟

بالمقابل فهناك في معسكر الرافضين لأي حوار أو تفاوض مع النظام ورأسه من يعتقد أن هذا الأخير غير معني بأي حل سياسي تفاوضي مع المعارضة السياسية الداخلية منها أو الخارجية وأن هذا النظام لا يجيد سوى لغة القتل والدمار واستخدام الحل الأمني والنفخ في نار الحرب الطائفية ولا فائدة من الحوار معه، بينما يعتقد فريق آخر أن الثورة منتصرة قريبا ولا داعي للتفاوض مع النظام ويؤجلون كل شيء إلى ما بعد انتصار الثورة.

كلا الطرفين (المؤيد للتفاوض والرافض له) يملك بعضا من الحجج المنطقية المقبولة للدفاع عن رأيه، حيث أن كل الثورات التي قامت في مختلف بقاع الأرض وانتصرت، كلها في مرحلة معينة من تطورها تفاوضت مع العدو الذي تقاتله للبحث في شروط تسليم السلطة ورحيل النظام المهزوم أو الذي بدأ يفقد السيطرة على الأرض وأصبح وضعه ميؤوس منه.

المشكلة في سورية هي في عدم اعتراف أي من طرفي الصراع أنه بدأ يخسر المعركة على الأرض، فالثورة تحقق فعلا انتصارات ميدانية محدودة أحيانا ومهمة أحيانا أخرى ثم تتراجع عن بعض المكاسب لعدم قدرتها الاحتفاظ بالأرض نتيجة ردود فعل النظام الهمجية المجنونة، ولا النظام يعترف بأن معركته مع الشعب خاسرة لكونه ما زال صامدا ويمتلك ترسانة هائلة من جميع أنواع الأسلحة الفتاكة التي يجددها له كل من روسيا وإيران، وما زال يعتبر الثورة مؤامرة خارجية والثوار مجموعة من الإرهابيين والمرتزقة ويرفض أي تنازل لهم ليلعبوا أي دور سياسي ولذا فإن معسكر الداعين للتفاوض يعيشون مأزقا حقيقيا في ظل الظروف الحالية التي تتميز بأن طرفي الصراع يريد كل منهما إنهاء الآخر وإلغاءه وتصفيته بينما التفاوض يعني إيجاد حلول وسط يتنازل فيها كل طرف عن شيء من شروطه.

أما معسكر رفض التفاوض فإنه يعيش مأزقا أكثر تعقيدا، فرفض الحوار أو التفاوض يعني الاستمرار بالمعركة  حتى تحقيق النصر على النظام وإسقاطه كليا بداية من رأسه مرورا بكل أجهزته الأمنية  والعسكرية ومافياته الاقتصادية، واستمرار المعركة يحتاج إلى سلاح متطور وذخيرة وأموال ودعم سياسي عربي ودولي لا يتوفر حاليا، حيث لا يملك الثوار سوى السلاح الذي يغتنموه من أيدي كتائب الأسد ومن الثكنات التي يسيطرون عليها ومن تجار الأسلحة والمهربين، بينما لا يوجد دعم سياسي حقيقي للثورة تحت ذرائع كثيرة وغريبة ليس لها أي معنى سوى تهرب المجتمع الدولي من القيام بواجباته الأخلاقية والإنسانية في حماية المدنيين وفي دعم قوى الثورة ضد نظام القتل والإجرام، ثم أن من يبدي استعداده للدعم بالأموال فإنه يريد مقابلا لذلك، والمقابل سيكون من سيادة سورية ومن استقلالية قرار من سيحكم سوريا مستقبلا، فدافعي الأموال لا يفعلون ذلك حبا بالثورة والديمقراطية والكرامة التي ينادي بها السوريون، بل يفعلونه كاستثمار للمستقبل يؤمن لهم موقع قدم في سورية ما بعد الأسد، فكلهم يريدون ترويج رؤوس أموالهم للتأثير في مستقبلها وسياستها داخليا وإقليميا وعالميا.

رغم التوجه الدولي نحو إيجاد تسوية من خلال المفاوضات والضغوط التي تمارس على جميع الأطراف (وخاصة على المعارضة)، فإن فرص نجاح هذا التوجه تبدو ضئيلة جدا نتيجة الهوة الشاسعة التي تفصل بين مواقف طرفي الصراع وتقدير كل منهما لحقيقة ما يجري على أرض الواقع.

الخطر الذي يواجه الثورة حاليا هو إدامة هذا الصراع الدامي والمدمر دون أن يكون هناك حسم عسكري ميداني بسبب عدم تقديم الأسلحة النوعية التي تمكن الجيش الحر من مواجهة ما يملكه النظام من وسائل الدمار، وهو الشيء الذي بدا واضحا للعيان حيث تخلى جميع من كانوا يوصفون بأنهم "أصدقاء الشعب السوري" على الصعيد العربي والدولي عن الوفاء بالتزاماتهم الأخلاقية في حماية المدنيين والوقوف إلى جانب الشعب السوري وثورة الحرية والكرامة التي يخوضها ضد نظام القمع والاستبداد، وفي تلك الحالة فلا معنى لأية مفاوضات لأنها ستكون  دفعا  للاعتراف بالهزيمة وتسليما بها، وهو الشيء الذي لا يمكن لأحد من قوى الثورة والمعارضة القبول به بعد كل ما حدث.

كان من الممكن أن تكون انتصارات الثورة على أرض المعركة وإضعافها لكتائب الأسد ومواقع تمركزها في الثكنات والحواجز والمراكز الأمنية والعسكرية كفيلة بأن تؤمن للمعارضة موقعا قويا تستطيع من خلاله فرض شروطها التي توافقت عليها جميع مكوناتها في الداخل والخارج للدخول في تلك المفاوضات، لكن يبدو أن هناك قرارا دوليا بألا تحقق الثورة انتصارا عسكريا على نظام بشار رغم كل الكلام الذي يقال هنا وهناك.

إن دعم الجيش الحر والحراك الثوري وتوحيد الكتائب والألوية المختلفة التي تواجه كتائب النظام، إضافة إلى وحدة كلمة المعارضة السياسية في الداخل والخارج حول برنامج عملها وأسلوب تحركها لدى الدوائر السياسية العربية والإسلامية والدولية كفيل بأن يضعها في موقع قوي على طاولة المفاوضات يسمح لها بالوصول إلى جزء كبير من أهدافها في تنحي رأس النظام ومحاكمة المسؤولين عن ارتكاب المجازر وممن قتلوا واعتقلوا واغتصبوا وهجروا ملايين السوريين ودمروا بيوتهم وممتلكاتهم، لتبدأ بعد ذلك مرحلة مهمة أخرى تتمثل بالبدء ببناء دولة الحق والقانون، دولة مدنية ديمقراطية لجميع أبنائها بغض النظر عن انتماءاتهم العرقية أو الدينية أو المذهبية.