الليلة الأولي

الليلة الأولي

عزة مختار

سمعت كثيرا عن تلك الليلة من كثيرين خاضوها  قبلي ،،،،، ربما بسنوات أو بحقب طويلة ، ،،،،،، وأصبح لزاما علي أنا أن أصفها لمن سيخوضها بعدي ,,,,,,, حتى  لا يفاجئوا بأمر لا يستطيعون تحمله أو تجاوزه ،,,,,  حكوا لي كثيرا عن التشريفة والاستقبال الحار وعن العروسة  التي يأتون بها إليك رغما عنك وعنها ,,,,,، تحدثوا عن ذلك الشراب الأحمر الذي يقدمونه في تلك الليلة بالذات ،،،،، بينما أنت في دهشة مما يحدث ,,,,,,,  تتساءل كثيرا وأنت فيها ,,,,, أين أنت ؟  ومن تكون ؟  نعم ، فمن كثرة المفاجآت تنسي من أنت وأين أنت .  

الظمأ يكاد يقتلني حلقي يجف شيئا فشيئا ، ربما يكون  من شدة ترقبي لما سوف يحدث ، وربما يكون من توجسي  لذلك الشراب الأحمر الذي سيقدمونه ، ما هو طعمه ، وما هو مصدره أو كنهه .

 مكثت مع مجموعة في حجرة تكاد تكون مظلمة ، لا أسمع فيها إلا أصوات همسات مترقبة مثلي ، لا أحد يرفع صوته بالتساؤل ، الكل فقط مترقب في تلك الغرفة العجيبة .

 صوت خطوات حائرة هنا وهناك ، خطوات رتيبة يخترق صوتها الآذان المترقبة خلف الأبواب ...ازداد إحساسي بالظمأ وازداد شوقي للماء ... تتوقف الخطوات الحائرة أمام غرفتنا ... يفتح الباب ويشتد الشوق للماء ..

لحظات من السكون لم أشهدها من قبل إلا في مواقف لا يمكن أن تحدث هنا في هذا المكان وتلك الغرفة المترقبة بالذات .

 تراءت أمام عيني عشرات المشاهد الساكنة الصامتة المهيبة ،،،، لا تسمع فيها إلا صوت الأنفاس المتلاحقة من شخص إلي آخر ، تكمل بعضها بعضا حتي كأنها تكاد تسد فجوات الزمن ، فلا تترك فرصة لتردد النفس ليدخل ثم يخرج ،،،، وإنما كلها أنفاس تخرج ، وكلها أنفاس تدخل تسمع معها للصمت صوتا .

مشهد القبور حين نذهب بعزيز لدينا لنودعه التراب  ،،،،، مشهد الرحيل حين يكون لزاما عليك أن تغادر حبيبك إلي حيث الغربة والسفر بينما تقفا حائرين أمام دموع مرة المذاق ولا تجدا كلمات تعبر عن حالكما ،،،،،، مشهد تلاوة آيات من كتاب الله في جوف الليل وحين تشرق شمس التوبة الصادقة علي نفس مؤمنة غلبتها الدنيا في حين غفلة من ضميرها الحي ...

 تتوقف الخطوات الحائرة أمام باب غرفتنا .. فينخلع لها القلب ،،، وأتوجه بالنظر إلي من حولي ، ليس بالالتفات ، وإنما بالإحساس بذاتي ، فكل النفوس هنا لا تملك إلا ذات واحدة ، وقلب واحد ، وأنفاس متلاحقة تكاد تصدر عن صدر واحد ، لم أشعر أنني أنا التي جئت هنا منذ بعض الوقت ، ،، قولون أنني هنا منذ فجر اليوم الذي يمر بي الآن ،،، بينما أشعر أنا أنني هنا منذ حقب لست أدري عددها ، فهنا لا يهم الزمن ، لا يهم كم مر عليك من أيام ، هنا العمر يحسب بالأحداث ، كم ليلة انتظرت ذلك الشراب الذي يقدمونه للخاصة من القوم ،,,, كم ليلة انتظرت فيها العروسة لتقضي معها الليل بطوله ،،، كم ليلة أراد صاحب المهرجان الكبير أن يستضيفك بينما هو ليس عنده ما يقوم بتسليته تلك الليلة سوي أن يتسلي معك أنت ،،، هكذا تحسب الأيام هنا في ذلك العالم العجيب ....

نظرت في نفسي في تلك اللحظات المترقبة ، لم أشعر أنني إنسان ، وإنما تمكن مني شعور بأنني جثة ،،، وأن من حولي جثث تنتظر التصريح بالدفن ،،،،،،كلنا نترقب ، أو بالأحرى كل الجثث تترقب ،،،، يتجول القادم بنظره ليشير علي جثة أحد منا تتعلق العيون المتوجهة بالخوف ،،،، تري علي من سيشير .،،،، ومن سوف يكون ضيف تلك الليلة ،، وباعتبار أنني الجديد هنا ، وتلك هي ليلتي الأولي فقد وقع الاختيار علي أنا . .. تتعلق العيون بي شفقة ورحمة ،،، ولست أدري لم كل تلك الشفقة ، ومع أنني لم أنظر في عيونهم ،،، إلا أنني نظرت في نفسي الميتة فوجدت فيها شفقة علي نفسي ولست أدري لم ؟  تقف جثتي الممدة ولا اعرف كيف ؟ كيف يبعث الإنسان من بعد موات ؟ لا تكاد قدماي تحملاني انخلع قلبي وأصبحت بلا قلب واشتد ظمئي ... واشتد شوقي ....

ـ مطلوب عند الباشا ... ، قالها بكل برود الدنيا ،،،، واستمعت إليها بجسدي الميت وروحي المنهكة ، سرت ولا أدري أفي الدنيا أنا أقابل الباشا أم في الآخرة أقابل ملائكة الحساب .. دخلت مكتب فخم ، محمولا أو مستندا علي شيء متحرك ينبض مثلنا وله قدمين مثلنا بينما بحثت في جنبات نفسه لأجد له قلب ،، فلم أجد   ,, ،، في المكتب وجدت باشا مبتسم ويبدو انه رجل خلوق مضياف ،،، قابلني بابتسامة واسعة ووقف بنفسه ليستقبلني ويأمرهم بإحضار كرسي خاص بي لأجلس قبالته مباشرة  ،،،،، علي المكتب زجاجة ماء باردة ،،،، يظهر من جدرانها المشبعة بقطرات الماء أنها باردة  ،،،،،، وجدتها  أمامي تناديني أن اقترب ، جذبتني قدماي إليها ومددت يدي كي انتزعها من فوق المكتب ، وإذا بها وهي القريبة مني تبتعد عني مسافات ومسافات .. تبتعد عني كما بين السماء والأرض أو كما بين الموت والحياة  .. مددت يدي فوجدت جدارا وجدارا وجدت عصا الساحر الشرير . امتلأت عيناي بالدموع من شدة الشوق إليها .  شربت دموعي وشربت وكثرت الدموع لكنني ما ارتويت

تكلم الباشا وسال لكني لم أجيب ، ليس لأني لا أعرف الجواب ولكن لأني لم أستمع  إلي السؤال ، شدة الشوق إلي الماء حجبت عني الاستماع . ورأيت الإشارات من خلف الدموع فإذا بالباشا يشير إليهم ، وإذا بالعروسة تأتي وإذا بهم يحملون جثتي إليها , لم أشعر بما يفعلون ولم أدري بما يريدون ، لم أري غير عرائس تتحرك ، وكرابيج تتسارع لتحطم وتمزق، لكن لا أدري من تحطم ومن تمزق ., غير أني شعرت بشراب لزج رأيته أحمر بينما هو يتساقط علي وجهي وعيني إلي فمي الظامئ ,,, فشربت وشربت لكنني ما ارتويت ........