بشار والجيش والطائفة

ياسر الزعاترة

كان لافتا وقوف بشار أثناء خطابه في دار الأوبرا بدمشق (الأرجح أن الخطاب كان مسجلا ولا يبث على الهواء كما جرى الإيحاء)، كان لافتا وقوفه أمام جدارية للعلم السوري عليها صور مئات الجنود القتلى الذي سقطوا في المواجهة مع الثورة خلال ما يقرب من عامين، وبشكل أكثر دقة خلال العام المنصرم لأن الضحايا في العام الأول كانوا من المدنيين العزل قبل أن يضطر الناس إلى حمل السلاح دفاعا عن أنفسهم، وهي الحقيقة التي ما لبث بشار ينكرها رغم إجماع العالم عليها، ورغم حديث فاروق الشرع عن أن النظام كان يستجدي وجود مسلح واحد خلال شهور الثورة الأولى من أجل إثبات نظريته حول المواجهة مع عصابات مسلحة وجماعات إرهابية.

في الخطاب، لم يأت بشار على ذكر حزب البعث الحاكم، لكنه ركز كثيرا على الجيش وسط تصفيق الحضور وهتافهم للجيش، إلى جانب الرئيس بالطبع، ما يعكس بُعدا مهما لفت انتباه المراقبين، ومنهم مقربون من النظام وذوي صلات بحلفائه، كما هو حال روبرت فيسك الذي أثار انتباهه تركيز بشار على الجيش، وحديثه الموجّه إلى جنوده وأشباح 12 ألف قتيل سقطوا منهم في المواجهة، كما قال.

منذ شهور طويلة، والمراقبون ذوو الصلة بالنظام يتحدثون عن تصدر الجيش للمواجهة الدائرة في البلاد. ولما كان البعد الطائفي قد وسم الجيش بسبب انشقاقات الضباط السنة الذي كانت نسبتهم في الأصل محدودة قياسا بالعلويين، فقد باتت المؤسسة الأمنية والعسكرية طائفية بامتياز، أولا بسبب توالي الانشقاقات، وثانيا بسبب الشكوك التي باتت تحوم حول أي ضابط أو عسكري سني إثر الاختراقات التي حصلت ووصلت خلية الأزمة في مبنى الأمن القومي، فضلا عن وزارة الداخلية ومناطق أخرى بالغة التحصين.

في ذات السياق يصعب الفصل بين عسكر الطائفة العلوية وبين جمهورها، فعندما نتحدث عن 27 ألف ضابط علوي، وأضعافهم من الجنود، فهذا يعني أن جزءا كبيرا من الطائفة ينخرطون عمليا في المؤسسة الأمنية والعسكرية، إلى جانب مؤسسات الدولة المدنية، وهم تبعا لذلك يعتبرون المعركة بمثابة معركة مصير لهم جميعا، ولا بد من خوضها حتى النهاية في ظل حشد طائفي، وفي ظل جرائم ارتكبت سيكون من الصعب لجم ثاراتها التالية. ولا يخفى أن جميع تطمينات قوى المعارضة مهما كانت جديتها لا يمكنها تبديد هواجسهم. ولعل ذلك هو ما يبقي فكرة الدويلة العلوية قائمة رغم استبعادها بسبب صعوبة صمودها من جهة، وبسبب تعقيدات لوجستية تتعلق بحاجتها لعمليات تطهير عرقي حتى توضع موضع التنفيذ من جهة أخرى.

سيقول البعض إن هذا التحليل غير صحيح، وأن هناك أقليات أخرى تناصر النظام، ومنها المسيحية والدرزية، وبعض السنيّة أيضا، وهذا صحيح إلى حد ما فيما خصّ الأقليات الأخرى، لكن السنّة ليسوا كذلك حتى لو قيل إن بعضهم لا زال منخرطا في مؤسسات النظام لاعتبارات الخوف قبل كل شيء (ما من ثورة انخرط كل الناس فيها). ولعل ذلك هو ما يفسر حساسية النظام لحشره في إطار الطائفة كما تأكد من ردة فعله على تقرير الأمم المتحدة الذي أكد أن الصراع بات يأخذ طابعا طائفيا واضحا.

في ضوء ذلك كله يمكن القول إن بشار قد أصبح من الناحية العملية أسير النخبة العسكرية والأمنية، وحتى السياسية داخل الطائفة العلوية، وهو لا يمكن أن يحدد مصيره بمفرده، ولا يمكن تبعا لذلك القول إن ما طرحه من حل في خطابه الأخير كان من بنات أفكاره، بل هو نتاج توافق مع تلك النخبة عنوانه رفع سقف التفاوض من أجل حل سياسي يحافظ على الطائفة، وجزء معتبر من مكتسباتها، ولا يتركها رهينة الخوف من الانتقام.

لقد بات واضحا أنهم قرروا بدعم صريح وواضح من إيران خوض المعركة حتى النهاية وصولا إلى حل سياسي يرونه ممكنا في ظل عجز قوى الثورة عن تحقيق حسم عسكري سريع، طبعا في ظل رفض الغرب الحاسم لفكرة التدخل المباشر، بل ميله مؤخرا إلى منع تسليح الثوار بعد اتساع دائرة الجهاديين بينهم. وكل ذلك ضمن سياق من مجاملة الهواجس الإسرائيلية لا أكثر، وهي هواجس ترى أن نظاما ضعيفا وهشا يأتي نتاج تسوية سياسية سيكون أفضل لها من الناحية العملية.

هذه المعادلة تفرض كما قلنا مرارا إحداث نقلة في الصراع من خلال دعم عسكري ولوجستي للثوار يسمح لهم بتقدم عسكري كبير؛ تقدم حتى لو لم يكن حاسما، فإنه سيفرض على النظام تسوية تقبلها المعارضة تحت هاجس حماية ما تبقى من البلد من التدمير. ولا شك أن مسؤولية هذا الدعم تقع على الدول العربية المساندة للثورة ومعها تركيا، وهم جميعا معنية بألا تنتهي المواجهة بانتصار إيراني بعد كل هذه التضحيات التي بذلت. هل يحدث ذلك؟ لننتظر، ونرجو ألا يطول انتظارنا بحيث تذهب المعركة نحو حرب استنزاف طويلة سيخسرها النظام دون شك، ولكن بعد أن يكون البلد قد دمّر تماما.