أيّتها الثورة المثاليّة إلى متى؟

محمد علي شاهين

[email protected]

أجمعت المعارضة السوريّة منذ انطلاقة ثورتها في أدبياتها وبياناتها وممارساتها على سلميّة حراكها، وعلى حرمة الاستقواء بالخارج، وعلى رفضها الطائفيّة، وجعلته دستوراً لها، وتبرّأت ممن خرجوا على هذا الإجماع.

وحافظت الثورة على نهجها وثوابتها المعلنة وهي تقتحم شهرها السادس بكل جرأة، وقد اكتسبت خبرة وتجربة ومزيداً من المؤيّدين في الداخل، والأصدقاء في الخارج، غير عابئة بالسهام التي توجّه إليها وهي تتقدم نحو الانتصار بكل جسارة.

بينما كان الوريث يتجاهل حراك الشارع السوري ويحتقره، دون أن يعير المظاهرات والمسيرات والاعتصامات السلميّة اهتمامه على شدّة زخمها، واتساع رقعتها، وارتفاع صوتها، فما بقيت مدينة أو قرية في سوريّة إلا وانتفضت، وسقط منها شهداء، وتصدرت القضية السوريّة نشرات الأنباء، وحظيت تحليلاتها بالصفحات الأولى من صحافة العالم.

ولا يزال النظام يصرّ على أن كل ما جرى مجرد مطالبات محقّة لعدد محدود من المواطنين تقوم الحكومة بتلبيتها، وإصدار المراسيم لتقنينها، في ظل برلمان مزوّر، وحكومة فاسدة.

ويواصل نظامه حجب الحقائق عن الجمهور ويمنع مراسلي وكالات الأنباء والمصوّرين من نقل أخبار الثورة، ويحول دون دخول المحقّقين والمراقبين ولجان حقوق الإنسان، وتدوين مظاهر الانتهاكات، وفنون التعذيب، وأساليب القتل والترويع.

ويستخدم آلته الأمنيّة والعسكريّة في قتل مواطنيه المطالبين بالحريّة وهي حق لهم، ويتفنّن في تعذيبهم، وينكر الوقائع المنشورة كقصف المدن من البحر، واجتياحها بحاملات الجند والدبابات، وإطلاق رصاص الغدر على رؤوس المتظاهرين وصدورهم العارية في واضحة النهار، ولا يجد قناصته حرجاً في استهداف ضحايا غدره، ولا شبيحته الطائفيين حرجاً من تصويب فوهات بنادقهم نحو المشيّعين والمعزّين، وسفك دماء الأطفال، والتمثيل بالأسرى، وخطف الجرحى من على أسرّة المستشفيات.

ومع ارتفاع عدد الضحايا كل يوم على يد زبانية النظام، بسبب تمسكه بالحل الأمني، واستمرار تدفّق شلال الدم في الشارع السوري، يصبح التغيير السلميّ بعيد المنال، بتجاوز عدد شهداء الثورة 2500 شهيد، وتتبخّر الآمال بعودة الاستقرار والأمن، ويصل الشعب إلى حالة من اليأس.

ومع هذا فلا زالت الثورة متمسّكة بسلميّتها ورفض عسكرتها على مضض، حريصة على رفض كل شكل من أشكال العنف والتخريب، والاعتداء على الممتلكات العامة لأنها ملك للشعب السوري وحده.

غير عابئة بصيحات الثأر، والدعوة لحمل السلاح التي ازدادت شعبيتها بعد الهزيمة العسكريّة المرّة لملك ملوك إفريقيا وعميد الحكام العرب بدون منازع.    

وكظم الشعب السوري غيظه، واكتفى شباب الثورة بتسيير المظاهرات، وعقد المؤتمرات، ونشر البيانات، خشية انزلاق ثورتهم السلميّة نحو العنف، ضدّ نظام لم يعلن توبته عن القتل في رمضان، ولم يدع الأطفال يكملون فرحتهم صباح يوم العيد.

ولا يزال نظام الوريث المصاب بعقدة (السنّة فوبيا) يتحدث عن الإسلاميين المتطرّفين الذين قتلهم أبوه وسجنهم وهجّرهم، وعن الإمارة الإسلاميّة السلفيّة الموهومة، ليكسب رضى الدول الكبرى في حربها المعلنة على القاعدة.

ويشفي صدور أمّة مصابة بداء (الحقد التاريخي) من هؤلاء الذين يخرجون عليه من المساجد كالعقبان، ويقيمون صلاة الجماعة في ساحات الاعتصام كالرهبان، ليكسب رضى حلفائه من جماعة (حزب الله) والحرس الثوري الإيراني، وشباب العلويين (الشبيحة) الذين أساؤوا إلى الأقليّة العلويّة (11%) إساءات بالغة، لن تمحى من ذاكرة السوريين بسهولة، بسبب قسوتها وفظاعتها وجرأتها على الله، وما كان يرافق جرائم القتل من سجود لصور الرئيس، وسب للذات الإلهيّة، وإجبار الأسير على ترديد عبارة: لا إله إلا ماهر وبشار(تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا)، وتدنيس بيوت الله، وهدم لمنارات المساجد، والاعتداء على العلماء، مما أصبح ينقل بالصوت والصورة على شاشات التلفاز، دون أن نسمع تصريحاً لناطق باسم النظام ينفي أو ينكر.

لقد أضافوا بحقدهم وجهلهم إلى سيرة الحشاشين ببلاد الشام، وفتنة المهدي الضال بأرض جبلة، صفحة سوداء جديدة يعرفها القاصي والداني .

وحقّ عليهم قوله تعالى: (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير). (الحج : 3 ، 4(  

ومع هذا فلا تزال الثورة مصرة على رفض النعرات العرقية والطائفية والعشائرية والمناطقية، متمسّكة بمبدأ حماية الوحدة الوطنيّة، رافضة المساس به، لأنّه خيار العقلاء.  

وفي محاولة لخلط الأوراق يواصل النظام (المقاوم) تلويث سمعة المعارضة المثاليّة السوريّة باتهامها بالرغبة في دخول سوريّة على ظهور الدبابات الأمريكيّة، وقد أوصل البلاد إلى حالة لا تحسد عليها من اليأس. 

ولم يطلب أحد من زعماء الثورة طلب العون من الأجنبي خشية إعادة شرعيّة الاحتلالات الأجنبيّة، علّ هذا النظام يتوقف عن سفك الدماء خجلاً من الله الذي يملي للظالم قبل أن يأخذه، وحياءً من الشعب الذي يدفع ثمن السلاح الذي يقتل به.

ولكن هل يرضى أحرار العالم الوقوف موقف المتفرّج من استمرار ذبح شعب أعزل مطالب بالحريّة إلى ما شاء الله؟ والاكتفاء بعبارات الشجب والاحتجاج.

ومن قال برفض مبدأ التدخّل العربي والإسلامي؟

في إحدى زيارتنا لقلعة صلاح الدين (صهيون سابقاً) في منتصف الستينات دعونا حارس القلعة على كأس من الشاي، فلبّى الدعوة رجل تبدو على محيّاه معاني الأنفة والتواضع،  وسرعان ما تبيّن لنا أنّه المناضل الوطني عمر البيطار الذي قاد الثورة ضدّ الفرنسيين في منطقة صهيون مع الشيخ عز الدين القسّام.

لن أعلّق على وظيفته التي كافأته بها حكومة الاستقلال كحارس لقلعة صهيون، ولا على طمس سيرة رجل شجاع من ذاكرة الأجيال، ولكني أسترجع الحديث الذي جرى بيننا وبينه وقد كثر اللغط حول مبدأ التدخّل الخارجي.

قال رحمه الله: كان المجاهدون في الساحل السوري وجبل الزاوية يحملون العلمين السوري والتركي معاً، وكان برفقتهم ضبّاط أتراك، يدرّبونهم ويرسمون لهم الخطط.

وأضاف البيطار: فلمّا عقد مصطفى كمال (أتى الترك) اتفاقه الشهير مع فرنسا توقّف الدعم التركي واضطرّ الزعيم إبراهيم هنانو إلى وقف المعارك، وسافر إلى فلسطين حيث قبض الانجليز عليه وسلّموه إلى الفرنسيين، والتحق الشيخ القسّام بصاحبه الشيخ كامل القصّاب بحيفا.

بقيت رواية الرجل حيّة في وجدان الفتى المولّه بسير الأبطال ووقائع التاريخ حتى أصبحت حديث ذكريات وقد شاب الزمان، وحان وقت استلهام الدروس والعبر.     

أقول: ومن يضمن ألاّ يستعين أهل الأندلس بيوسف بن تاشفين جديد، ليؤخّر سقوط الأندلس بيد قشتالة وليون أربعة قرون.

ومن يضمن ألا تنزلق البلاد إلى العنف والطائفيّة والتدخل الخارجي إذا أصرّ النظام على مواصلة العنف، وتخويف الأقليّة من انتقامّ الأكثريّة، وحرمان الضحيّة من الحماية.

ويبقى سؤال واحد ستجيب عليه الأيّام: إلى متى ستتمسّكين أيّتها الثورة بمثاليتك؟