أيها المصريون

كسب القلوب أولى من كسب المواقف!!

حسام مقلد *

[email protected]

منذ نجاح الثورة المصرية وهناك محاولات كثيرة من فلول النظام في الداخل وأعداء مصر في الخارج لإجهاض هذه الثورة النقية البيضاء وتشويهها والالتفاف عليها، وهذا وإن كان يعبر عن وجود مؤامرة بشكل واضح إلا أنه لا يعفينا نحن المصريين جميعا من تحمُّل المسؤولية كاملة تجاه ما نقوم به من أفعال وتصرفات، فكلنا نسمع ونرى ونقرأ ما تقوم به مختلف وسائل الإعلام المصرية: الرسمية قبل الخاصة، والأرضية قبل الفضائية، والصحف الورقية قبل الإليكترونية ـ من عمليات شحن وتهييج وإثارة، واستعداء لهذا الطرف على ذاك، وهذه الجماعة ضد تلك، ولأكثر من ثلاثة أشهر كاملة والعقل المصري الجمعي واقع تحت تأثير حملات التخويف والتحريض المنظمة ضد توجهات فكرية بعينها، وكلنا شاهدنا المحاولات الدؤوبة في كافة وسائل الإعلام تجري على قدم وساق لتشويه صورة الإسلاميين ـ خاصة السلفيين ـ وإظهارهم على غير حقيقتهم وطيبتهم الشديدة وفطرتهم النقية وحبهم الخير للبشر جميعا فضلا عن حبهم إياه لمواطنيهم وبني جلدتهم من المصريين مسلمين وأقباط!!

نعم هناك من يحاول أن يبث في قلوب الناس الخوف والرعب والهلع من الصعود الملحوظ للتيار الإسلامي  بعد نشوب الثورات العربية مؤخرا، لاسيما مع وجود مؤشرات عديدة على نجاح هذه الثورات في إحداث تغير حقيقي وجوهري في وجه المنطقة ينتظر أن نشهد نتائجه العملية في الفترة القريبة المقبلة بإذن الله تعالى، وللأسف فقد تولدت بالفعل مخاوف وهواجس شتى لدى بعض أبناء المجتمع من الإسلاميين عموما والسلفيين خصوصا، واستُغِلَّت بمكر وخبث ودهاء شديد قلة خبرة السلفيين بالسياسة وألاعيبها، وتم استدراج مجموعات منهم للتعبير عن مواقف معينة بصورة معينة أثارت لدى شريحة ليست بالقليلة من الناس هذه الحالة من الفزع والحيرة والإرباك والحذر والترقب والخوف والتوجس الشديد من المستقبل!!

وعلى الجانب الآخر تم تهييج الأقباط وتخويفهم ودفعهم إلى مواقف عنيدة ومتصلبة بل متطرفة أحيانا في قضية كاميليا شحاتة، والحل فيها كان واضحا وسهلا وبسيطا، بل كان في منتهى اليسر باستدعاء السيدة المذكورة أمام أية جهة رسمية لسؤالها عن دينها وإن كانت مختطفة أو لا، وكنت شخصيا أتوقع أن حكمة عقلاء الأقباط ورجالات السلطة في البلد ستدفع إلى تنفيذ هذا الحل بكل هدوء، لكن بعض الأقباط تشددوا واعتبروا المسألة تمس بهم جميعا رغم أنها حالة فردية واعتناق هذه السيدة  للإسلام أو بقاؤها على مسيحيتها لن يقدم ولن يؤخر، ولن يضيف شيئا للمسلمين ولا للأقباط، ولن يسلب شيئا من أحدهما، وفي مقابل تشدُّدِ بعض الأقباط تشدَّدَ بعض السلفيين وتمسكوا بحق الدولة في بسط سلطتها على جميع رعاياها الآن ولم يعطوا المجتمع فسحة كافية للتعاطي بروية مع الأمر!!

وهكذا بدلا من سيادة الحكمة والعقل في هذه الظروف الاستثنائية والأحوال المضطربة رأينا التشنج وضعف الوعي وقلة النضج سمة لمواقف بعض الشباب السلفي وبعض شباب الأقباط، وبدلا من معالجة الأمور بهدوء وحكمة رأينا البعض من كلا الطرفين يستدرج الشباب للعنف المقيت، ولا يخفى على أحد هوية تلك الأيدي الآثمة الشريرة التي عزَّ عليها نجاح الثورة المصرية وأحزنها الوحدة الوطنية الرائعة والقوية التي ظهر بها المصريون في ميدان التحرير فراحت بكافة الوسائل القذرة تثير الحمية الدينية في نفوس الشباب لجرجرة مصر للوقوع في متاهة العنف الطائفي والسقوط في دوامة لا تنتهي من الخراب والدمار حتى تؤول في النهاية إلى التشظي والانقسام والتفكك والضياع.

وللأسف الشديد وقع المحذور، ونجح من لهم مصلحة في الإيقاع بين السلفيين والأقباط ـ نجحوا في إثارة الفتنة وإشعال نيرانها في أكثر من مكان ولأكثر من سبب، وكانت الأداة في كل مرة: هم المغفلون من الطرفين، الذين يُستخدَمُون دون أن يشعروا كمعول هدم وتدمير لمصر وتخريب لوحدتها الوطنية، ولا أفهم ما علاقة ما يحدث بسماحة الإسلام ومنهجه الواضح العادل في التعامل مع البشر كافة، ولا أعرف ما صلة ما يفعله بعض المتعصبين من السلفيين بمنهج السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، كما لا أفهم علاقة ما يصدر عن بعض المتعصبين من الأقباط بما يعرف عن المسيحية بأنها تدعو للمحبة والتسامح، وإن ضربك أحدٌ على خدك الأيمن فأَدِرْ له الأيسر!! فأين الأخلاقيات الحسنة من الجانبين في التعامل مع هذه المشاكل الطارئة؟!

ووسط هذه الحرب الدعائية الشرسة والمنظمة التي تشنها جهات كثيرة على السلفيين، ووسط كل هذه الشائعات والدعايات المضللة ضدهم فما كان أجدرهم بالتحلي بالصبر والتحمل وطول النفس واحتساب الأجر عند الله تعالى، والتخلق بأخلاق الإسلام الفاضلة، والتحلي بالروح الطيبة، والتعامل مع الناس بصورة جيدة، وضرب الأسوة الحسنة والقدوة الطيبة لهم، فكسب القلوب أهم مليون مرة من كسب المواقف، والسلوك العملي الحسن هو أشد وقعاً في النفس البشرية من آلاف الخطب والمواعظ والنصائح، فعندما يرى الناس رحمة السلفيين وحكمتهم وبشاشة وجوههم وصدق دعوتهم، وقولهم الحق ولو على أنفسهم، وعدلهم وإنصافهم وحسن تعاملاتهم خاصة المادية منها سيثقون بهم ويقتربون منهم ويتوددون إليهم، ويقتنعون برؤيتهم الإصلاحية التي ينادون بها ويدعون إليها، بعد أن يجدوا كلامهم نموذجا عمليا واقعيا، وليس مجرد كلام منمق غير قابل للتطبيق، هذه هي السلفية الحقة التي تدعو لاستعادة أمجاد الأمة الإسلامية، وبناء عزتها على أسس إيمانية راسخة باتباع هديَ القرآن الكريم وصحيح السنّة النبوية الشريفة كما فهمها السلف الصالح من الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وهذا هو ما فعله الرسول الكريم ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ مع المشركين وأهل الكتاب من اليهود والنصارى، فلِمَ لا نقتدي به ـ عليه الصلاة والسلام ـ وهو أفضل أسوة حسنة يقتدي بها المؤمنون في حياتهم؟!! قال تعالى: "لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا" [الأحزاب:21]

ولِمَ كل هذه المشاحنات والخلافات والصراعات والنزاعات بين المصريين وبعضهم البعض؟ ولمَ الإمعان في الانتصار للذات ولو على حساب الوطن كله؟ ولا شك عندي أن أغلب ما يقع من ذلك إنما يكون بين الشباب الصغير قليل العلم قليل الخبرة بمعترك الحياة، وأكيد أن هؤلاء لا يستوعبون حجم الخطر الذي يحيط بمصر، ولا يعون ما يدبر لها من مؤامرات غاية في المكر والخبث والدهاء، لكن من الجور وقلة النصفة أن يضرم أولئك الفتية النار في مصر كلها بمثل هذه التصرفات الطائشة التي تصنع الفتنة!! وعلى السلفيين الحقيقيين أتباع النبي محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ السائرين على هديه ومنهجه، وهم ـ ولا نزكيهم على الله ـ أبعد الناس عن شهوة حب الظهور والانتصار للنفس ـ عليهم كي يكتسبوا قلوب المصريين جميعا أن يكونوا نموذجا عمليا لنا في التغافر والتعاون والتغافل عن الزلات، والتخلص قدر الإمكان من حظوظ النفس، وإخلاص النية والعمل كله لله تعالى.

وقد آلمنا جميعا ما وقع مؤخرا في إمبابة من أحداث الفتنة الطائفية وما حدث قبلها في قرية صول فأين يحدث ذلك؟! في مصر الحضارة والتاريخ؟! مصر التي نشمخ بها جميعا ونتغنى بعراقتها وتسامحها!! والله إن ما يحدث لعار على كل رجل مصري  مسلما كان أو قبطيا، وأول من تلطخهم وصمة العار هذه هم من ارتكب هذه الجرائم البشعة، وتولى كبرها وتحمل وزرها من بعض السلفيين وبعض الأقباط ـ كما يشاع ـ، ولا أفهم كيف رضي هؤلاء على أنفسهم أن يشعلوا النار في مصر بهذا الشكل الأرعن الآثم، ولا أدري كيف يرضى هذا الطرف أو ذاك بتصوير أنصاره على أنهم وحوش كاسرة لا تعرف قلوبهم الرحمة، وأنهم سفاحون سفاكون للدماء، أو أنهم على هذا القدر من السطحية والسذاجة والوحشية بحيث يُستَدْرَجُون بكل بساطة لتحويل مصر العريقة مصر العظيمة إلى بِرْكَةٍ من الدماء!!

ونتمنى أن يكفَّ الجميع فوراً عن اللعب بالنار، وأن نتوقف تماما عن استعمال المفردات القاسية والكلمات العنيفة التي تولِّد الحقد والكراهية في وجدان كل منا، وتشحن نفوسنا بشحنات من الغضب المكتوم الذي لا يفتأ يأكل قلوبنا حتى نصل إلى مرحلة الانفجار، وقد تندلع شرارة أخرى هنا أوهناك وتضرم ـ لا قدر الله ـ حريقا هائلا يأكل الأخضر واليابس!! أجل نتمنى من الجميع أن يحكِّمُوا عقولهم في كل تصرفاتِهم، وينحُّوا عواطفهم تماما جانبا، وأخشى ألا تجدي بعد الآن كل عبارات الندم والأسف ونفشل في صينة وطننا من الفوضى وحمايته من الانزلاق ـ لا قدر الله ـ لحرب أهلية ضروس تدمر الجميع!!

وبقيت كلمة أوجهها لنفسي أولا ثم لكل صاحب قلم، ولكل من له منبر يتحدث من خلاله أن يتقي الله في مصر وأن يتقي الله في أهل مصر، فنحن شعب واحد ومن صفاتنا حدة العاطفة وسرعة الغضب والانفعال، ولا يجوز ولا يصح مطلقا أن نثير الجماهير ونوقظ الفتنة بينهم، فلو اشتعلت نيرانها ـ لا قدر الله ـ فلن تبقي ولن تذر، فلنحذر الفتنة التي وصفها الله تعالى قائلاً: "وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ" [البقرة:191] ولنتقِ الله فيما نقوله من كلام، ولنحرص على إظهار التسامح والبشاشة والهشاشة في وجوه بعضنا البعض لنخفف من حدة الانفعالات وكآبة الحياة وصعوبتها، ولنرسم الابتسامة الرقيقة دائما على شفاهنا، ولننشر أخلاق الرحمة والمحبة والتراحم والتواضع بين الناس ولنحرص على أن نشيع ونبث الكلمة الطيبة فيما بيننا، قال تعالى: "أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26)" [إبراهيم24 :26] وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله، لا يلقي لها بالا، يرفع الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله، لا يلقي لها بالا، يهوي بها في جهنم" وفي رواية أخرى: "يهوي بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب" (رواه البخاري) وعنه ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "الكلمة الطيبة صدقة" (رواه البخاري ومسلم وأحمد والترمذي) والله تعالى نسال أن يحفظ مصر وأهلها من كل سوء ويوفقنا جميعا لكل ما فيه خير وصلاح وإصلاح.

                

 * كاتب إسلامي مصري