النمام

عبد الرحيم عبد الرحمن منصور

مسرحية من أربعة مشاهد

المشهد الأول :

سوق المدينة مزدحم بالناس , وقد نصبت في جانب من السوق منصة  لبيع العبيد, عليها مجموعة من العبيد على رأسهم نخاس يجيد عرض بضاعته .

وقف النخاس على منصته وأطلق العنان لصوته الأجش ينادي على بضاعته :

النخاس : من يشتري العبد , من يلزمه عبد , للعمل في الحقل , للعمل في المنزل , للعمل في البناء , عبد لكل الأعمال , تعال وانظر إلى القوة   إلى الشدة   إلى الفتوة والجلد ...

أحد المارة يقف وينظر : أريد هذا العبد , فكم طلبت فيه ؟

النخاس : إنه فتي ّ وقويّ يصلح لكافة الأعمال  , بارك الله لك فيه ..

زبون آخر : أريد هذا العبد

وآخر ... وآخر...

لم يبق عند النخاس إلا عبد واحد , قوي البنية , مفتول العضلات

أبو السائح  رجل معروف في السوق تفدّم من  المنصة لاحظ العبد , تفحصه , قال للنخاس:

ابو السائح: كم تريد بهذا العبد ؟

النخاس( بلهجة الناصح الأمين ) يا سيدي علي أن أبين لك ما فيه من عيب قبل الصفقة

ابو السائح : وما عيبه أيها النخاس ؟

النخاس : عيبه يا سيدي  عيبه يا سيدي في الحقيقة لا يشكو من مرض ولا ضعف

إنه قوي , نشيط , وجلد يتحمل المشاق, وهو مطيع أيضا غير معاند , ليس فيه إلا عيب واحد

ابو السائح : أقلقتني ماهو هذا العيب ؟

النخاس : ‘نه نمام يا سيدي   نمام    يمشي بالنميمة !! ها أنا ذا أبين لك إن شئت اشتره أو دعه !!

ابو السائح : نمام !! هه هه هه  إن وجد ما ينمّ به فليفعل , قبلته سوف آخذه

النخاس : خذه  نفعك الله به  وهداه على يديك ابو السائح : تعال أيها النمام .. اتبعني .. هيا أسرع ..

المشهد الثاني :

يأخذ ابو السائح العبد إلى بستان له ليعمل فيه

ابو السائح : انظر أيها العبد إلى هذا البستان هنا عملك وهذه الغرفة هي لك , فيها ادوات الزراعة اللازمة لعملك  وهذا الفراش والغطاء لترتاح عليه .. العبد : شكرا لك يا سيدي , سأكون عند حسن ظنك بي , لا تقلق

ابو السائح : ما اسمك أيها العبد ومن أي البلدان أنت ؟

العبد : اسمي يا سيدي"زاكم " وأنا من بلدة بعيدة يقال لها   " طشقند  " أسمعت بها يا سيدي ؟

ابو السائح : طشقند   طشقند   نعم   نعم  سمعت بها    إذن أنت مسلم ؟

زاكم العبد : نعم يا سيدي أنا مسلم وأتبع شيعة أهل البيت وقد رماني قدري في الرق فلا حول ولا قوة إلا بالله

ابو السائح : حسنا يا زاكم , في هذا البستان عملك وفي هذه الغرفة ترتاح وتنام  وانس الوصف الذي وصفك به النخاس وأنا سأنساه العبد زاكم : سأفعل يا سيدي   شكرا لك

ابو السائح : سأذهب لأحضر لك بعض الطعام تتقوى به

يذهب ابو السائح إلى البيت ويخبر زوجته أنه اشترى عبدا ليعمل في البستان وطلب منها أن تعدّ له شيئا من الطعام والشراب

عاد ابو السائح ومعه الطعام نادى بأعلى صوته :

زاكم   يا زاكم  أين أنت يا زاكم ؟ العبد زاكم : أنا هنا يا سيدي عند شجرة التوت

ابو السائح : تعال وتناول طعامك  خذ  ابدأ باسم الله

المشهد الثالث : بعد عدة أسابيع يرتاح ابو السائح لعمل العبد زاكم ويرى نشاطه وقوته فيأخذه العطف عليه ويناديه بمودة وحنان

ابو السائح : زاكم  زاكم يا بني   تعال   آن وقت الغداء ,اذهب إلى البيت وقل لسيدتك أن تعطيك طعام الغداء ولا تتأخر 

زاكم : أمرك يا سيدي  مسافة الطريق فقط يعود زاكم ومعه صرة الزاد  يفترش الأرض أمام سيده ويفك عقدة تلك الصرة ليكشف عن طعام شهي لا يزال يحمل سخونة الطبخ زاكم : تفضل يا سيدي

ابو السائح : صحتان .. إنه طعامك .. هنيئا مريئا    هل طلبت منك سيدتك شيئا ؟

زاكم : لا يا سيدي  إلا أن .. ثم صمت ابو السائح : إلا  ماذا يا زاكم   لماذاا سكت ؟ !! زاكم : لاشيء  يا سيدي لاشيء   إلا أنها سألتني عنك أسئلة كثيرة اين تذهب .. ماذا تفعل .. مع من تتحدث .. من يزورك ..؟ ابو السائح : وماذا كان ردك على هذه الأسئلة ؟

زاكم : لا شيء  قلت لها يا سيدتي أنا في الستان لا أرى أحدا  ولا أحد يزورني إلا سيدي ابو السائح .. لا أعرف شيئا

ابو السائح : أحسنت صنعا   دعك منها  إنها هكذا كثيرة السؤال

( هنا بدأ زاكم النمام يظهر على حقيقته ) زاكم : والله يا سيدي من كثرة ما ألحت علي بالأسئلةخشيت أن يكون قلبها قد امتلأ بالشك فيك  ( ثم نظر إلى سيده نظرة فاحصة بطرف عينه )

ابو السائح : تشك في ّ وبما تشكّ  وما سبب الشك ؟

زاكم : لاأدري يا سيدي  ولكنني أحسست بذلك ولعلي مخطىء ابو السائح :  لابأس .. لا بأس  لا عليك  أنا سأتصرف

(وفي اليوم الثاني عندما ذهب لإحضار الطعام كعادته بذر بذرة الشك في قلب سيدته وأوحى لها أن سيده ربما تعرّف على امرأة .. وربما كان يزورها  ويحادثها  ويريد أن يتزوج منها  )  ثم قال : زاكم : يا سيدتي أرجوك لا تخبري سيدي أني حدثتك بهذا الأمر  وحافظي أنت على زوجك كي لا يضيع من بين يديك (إنه نمام محترف حقا ) فبعد عدة أيام أو أسبوع قال لسيده :

زاكم : يا سيدي إن سيدتي حانقة عليك   غاضبة منك وهي شديدة الشك والغيرة    وأنت تعرف ياسيدي النساء وغيرتهن إذا تمكنت منهن   فاحذر من تصرفاتها   وانتبه لمعاملتها

ابو السائح وقد بدا عليه الضيق : لابأس يا زاكم لابأس  أنا سأتصرف . 

عند السيدة : زاكم : عند سيدته يقول بخبث واضح : انتبهي يا سيدتي أخشى أن يضيع سيدي من بين يديك   إني أراه يهتم بمظهره   بهندامه   برائحته  ماذا تفعلين إذا تزوج عليك امرأة حسناء تنافسك فيه   انتبهي جيدا لتصرفاته وإلا ...

وهكذا استمر زاكم يقوي الشك في نفس سيده  ويشعل نار الغيرة في قلب سيدته حتى كاد أن يفرق بينهما    ألم يقل النخاس : لا عيب فيه إلا أنه نمام .. نمام .

المشهد الرابع: زاكم في عمله في البستان , يأتي سيده وقد ظهرعلى وجهه بعض الضيق 

ابو السائح: يازاكم ...يازاكم..

زاكم : نعم يا سيدي.. حاضر .. أنا قادم

ابو السائح : اذهب إلى سيدتك وقل لها أن تعد طعاما لي ولك فأنا سأتغدى معك اليوم

زاكم : نعم يا سيدي..  حبا وكرامة ... يذهب وفي الطريق يخطط لأمر ما

زاكم : يا سيدتي يقول سيدي ابو السائح أعدّي طعام الغداء لي وله فإنه يريد أن يتناول طعامه معي اليوم _  ويضف بخبث _ لماذا لا أدري السيدة : هكذا يا أبو السائح حتى طعامك لا تريد أن تتناوله معي في المنزل .. حسنا  ثم انفجرت بالبكاء

زاكم : لم تبكين يا سيدتي .. هوّني عليك .... هوّني عليك

السيدة : قل لي ماذا أفعل يا زاكم , إنه لا يطيق الجلوس معي , ولا يطيق محادثتي .. ماذا أفعل .. ماذا أفعل ؟ زاكم : أنا خادمك المطيع يا سيدتي , وأنا مستعد لمساعدتك , وإني أعرف أحد المشايخ الذين يكتبون الكتب  ويصنعون الحجابات .. ويعملون بعض الأعمال التي تقرب بين الزوج وزوجه  والحبيب وحبيبه , سأستشيره بأمرك  ثم أخبرك  لا تجزعي ولا تهتمي السيدة : أرجوك .. أرجوك يا زاكم افعل ذلك مهما كلف الأمر

حمل زاكم الطعام وعاد إلى سيده في البستان وقد نوى على شيء

زاكم : يا سيدي إن سيدتي شديدة الحنق عليك , وهي غاضبة لأنك صرت لا تتناول طعامك معها في البيت وسمعتها تتمتم وتقول : حتى الطعام لا يريد أن يشاركني فيه

سأذبحه .. سأتخلص منه .. غدا إذا آوى إلى فراشه لينام سأذبحه بيدي هاتين !!

ابو السائح : هل سمعتها تقول ذلك ؟ زاكم : نعم يا سيدي   ربما لا تعني ما تقول   إنه الغيظ والغيرة  ولكن الحذر يا سيدي واجب  وأنا أرى أن تتصنع النوم غدا وتراقب ما تفعل .. فغيرة النساء قاتلة

وهي تعتقد أنك سوف تتزوج عليها.. إنها ليست في وعيها ..  يا سيدي  الحذر .. الحذر

ابو السائح : يهزّ رأسه كأنه نوى على شيء

في اليوم التالي يذهب زاكم كعادته ليحضر الطعام

زاكم : يا سيدتي هاتي البشارة !!

السيدة : ما وراءك يا زاكم ؟

زاكم : استشرت الشيخ كما وعدتك وقال لي : إن الأمر بسيط وسهل , فقط يريد بضع شعرات من لحية سيدي ابو السائح كي يعمل بها العمل , وسترينه بعد ذلك مثل الخاتم بأصبعك , فإن سحر الشيخ لا يخيب

السيدة : بسيطة .. اليوم سأقص بضع شعرات من لحيته وهو نائم , أهناك شيء آخر ؟ زاكم : لا.. وأنا في خدمتك وطوع بنانك يا سيدتي وفي المساء , بعد صلاة العشاء , أراد ابو السائح أن ينام دون أن ينسى نصيحة العبد 

ابو السائح : أنا سأنام الا تنامين أنت يا امرأة ؟

السيدة : نم أنت , وأنا سأنهي العمل الذي بيدي وأنام

أبو السائح : يتصّنع النوم ويراقب ما تصنعه الزوجة

السيدة : إنه ينام .. سأنتظر قليلا حتى يستغرق في النوم .. ها قد علا شخيره ..الآن .. سأحضر موسى الحلاقة .. هه . هذا هو الموسى .. تتسلل على رؤوس قدميها .. تمسك الموسى بيدها بحذر , وتتحسس لحيته باليد الأخرى .. ولما قرّبت الموسى من لحيته لتقص بضع شعرات .. فجأة .. ابو السائح : ايتها الخائنة .. ايتها الخائنة .. تريدين ذبحي .. أهذه هي النهاية !!

تريدين ذبحي إذن .. لقد صدق العبد .. لقد صدق العبد

ألسيدة : تسرع بالهرب كالمصعوقة بعد أن فاجأها ابو السائح , هربت إلى بيت أهلها وهي تبكي وتقول : يا ويلي .. لقد خرّبت بيتي بيدي .. لقد خرّبت بيتي بيدي

استيقظ ابوها وإخوتها على صوتها مشدوهين

الأب : ماذا حصل يا ابنتي  ماذا حصل ؟

السيدة : تبكي بحرقة وتندب وتقول: لقد خرّيت بيتي .. لقد خرّبت بيتي

هدّأها إخوتها واستوضحوا منها الخبر , واستفسروا عن كل خطوة وحركة قامت بها وعرفوا المكيدة .. وتأكدوا أنها لعبة شيطان رجيم متمثل في شخص النمام زاكم

وقرروا معالجة الأمر يتعقل وهدوء

وفي الصباح يأتي رجلان من عقلاء الحي إلى بيت ابو السائح وأخذا يستمعان إليه وهو يقص عليهما ما حدث بالتفصيل

ابو السائح : إنها تريد ذبحي .. إنها تريد ذبحي  رأيت الموسى بيدها لقد وضعتها على رقبتي   لقد صدق العبد .. لقد صدق العبد

الرجلان : لا يا أبو السائح  لقد صدق النخاس .. لقد صدق النخاس

ألم يقل لك النخاس أن هذا العبد نمام   ينشر الفتن والمكائد بين الناس

إنه نمام !! كيف تأمن له  وتصدقه ؟

ثم أطلعه الرجلان على مكيدة العبد النمام الذي أوشك على خراب بيت عامر بالمودة والمحبة

أبو السائح : استغفر الله العظيم .. أستغفر الله العظيم  صدق رسول الله   : ( لا يدخل الجنة نمام ) .

وسوم: 638