حوار مع ليلى المقدسي

حوار مع ليلى المقدسي

أجراه: رفيف هلال

    السيدة ليلى المقدسي أديبة تميزت بغزارة إنتاجها، إذ لغ عدد أعمالها عشرين عملاً منشوراً، وثمانية عشر عملاً مخطوطاً، وقد توزعت مابين الشعر والرواية والرسائل والخواطر وأدب الأطفال، وكان أول هذه الأعمال (ثالوث الحب) وآخرها (أبجدية الزهور). كما تميزت هنا الأديبة بالتوافق النادر ما بين كلماتها الشفافة السامية النقية وروحها التي تمسكت بأسمى المبادئ الإنسانية وأنقاها..

   مع الأديبة ليلى مقدسي كان اللقاء الآتي: ‏

ہ  في إطار استدعاء الفكر ومحاورة الآخر ، وفي خضم البحث عن الحقيقة ، يُضاء القلم ليخط موضوعية الخبر ويقدم  هل لك أن تقدمي لمحة موجزة عن ليلى المقدسي الإنسانة والأديبة؟ وما الدوافع التي اسهمت في تكوين تجربتك الأدبية؟ ‏

ہہ أنا ابنة البحر الذي تركني موجه متغاربة أبداً.. والطبيعة في مدينة­ صافيتا­ التي ترعرعت فيها سحرتني وجعلتني غارقة في تأملاتي ووجدت ميولاً للكتابة والمطالعة وأنا صغيرة، وظل الكتاب صديق حياتي، بدأت العمل في سن مبكرة بعد أن حصلت على الإعدادية­ في مدرسة الراهبات­ وحين بلغت السن القانونية ثبت في ملاك التربية وعملت في المدرسة مدة /28/ عاماً أمينة للسر في معهد المحبة الخاص..

وتابعت دراستي حرة وحصلت على الثانوية الفرع الأدبي، وانتسبت الى قسم اللغة العربية في الجامعة، ولم استطع المتابعة بسبب ظروف العمل. ‏

فقدت النظر في العين اليسرى إثر عملية جراحية خاطئة.. وتركت آلامها أثراً عميقاً في ذاتي. ولكن تجربة العمل والكتابة صقلت ذاتي وعلمتني ألا استسلم للصعوبات.. كانت حياتي سلسلة من الصعوبات والصدمات والمسؤولية وكان الطموح والإرادة والمثابرة قوتي وكفاحي. ‏

عام 1990 استقلت لظروفي الصحية من المعهد، وتفرغت لنشر مخطوطاتي المتراكمة منذ سنين طويلة بلغت خمسة وعشرين. وكل كتاباتي محورها حرية الإنسان، العدالة، صدق الإنسان مع ذاته ومع الآخرين، والمحبة الإنسانية، وكتاباتي مجموعة من

الخبرات والتجارب والمشاعر والمواقف التي اعترضت حياتي. ‏

 

ہ ربما يوجد في كنف الأديب أحياناً شخص أو عدة أشخاص يكون لهم عميق الأثر في تحفيز موهبته وحثه على سلوك طريقه الإبداعي، فهل وجد في حياتك من اتخذ هذا الدور؟ ‏

 

ہہ لقد كان عمي المرحوم /رفيق المقدسي/ أديباً ويعمل في الإذاعة و التلفزيون مترجماً وإعلامياً. لقد شجعني ونشر لي في صحف دمشقية قديمة وحين توفي أصبت بصدمة إذ لا أحد سواه معي يتفهم تجربتي الإبداعية.. أما الشخص الآخر فهو مدرس اللغة العربية في الصف الأول الإعدادي الذي اعجبه موضوع إنشاء كتبته حول الأمومة المقدسة فنشره لي في كتاب التعبير الفني للإنشاء، وفرحت وأنا أجد اسمي مع كبار المبدعين والأدباء وكان اسمه الدكتور حسن الخطيب، ثم صار الكتاب

هو الرفيق والصديق الذي استقيت منه مناهل المعرفة والثقافة. فالمطالعة تأخذ القسم الأكبر من حياتي اليومية وهي محور طريقي الإبداعي. ‏

ہ إذاكان الأديب يكتب ضمن ما تنوع من الأجناس الأدبية، فهل هذا يمكنه من الإبداع فيها جميعاً؟ أم أنه لابد من أن يبرع في جنس معين دون سواه؟ ‏

ہہ أنا مزروعة في كروم إنسانية الكتابة، خرجت من بئر المعاناة وكان الصمت الدلو الذي أغرف منه كتاباتي، على شفاهي جرح وابتسامة، وبيادري عطاء وجفاف احترقت بالآلام الإنسانية وكان رمادي الحرف الذي تشرّب الحزن والقوة لأسقي

الإنسانية من رشفات المحبة في زمن متخم بالمادة والجشع والحقد والتعصب والأنانية والحروب والكوارث، فأنا إنسانة قبل أن أكون كاتبة وكل شيء لا يمس إنسانية الإنسان بعيد عني، فتجربة الكتابة ليست تجربتي فقط، إنما هي تجربة الآخرين وهي التي تثمر حروفي. ‏

أحب كل أشكال الكتابة ومنها أصنع عالمي الكتابي لأن آلام الآخرين لغتي الثانية.

أحس في زوارق الكتابة أني أعوم مع موجات بحر لا نهائية. القصة والرواية والنثر و التأملات ودراسة التصوف والحب. ‏

وهناك تطابق بين الذات والموضوع، بين الإنسانة والكاتبة والأهم أنه لا يمكن أن تنفصل كلمة من كلماتي عن سلوكي وشخصيتي وصدقي مع المتلقي ولا أستطيع أن أحدد في أي جنس أبدع، تلك هي مهمة المتلقي أو القارئ وهو الناقد الموضوعي الوحيد.

‏ہ بما أنك تكتبين الشعر والرواية والرسائل والخواطر، فإلى أي من هذه الأجناس تجدين نفسك أكثر انجذاباً وأكثر قدرة على التعبير عما يجول في داخلك؟ ‏

 

ہ أنا مسافرة عبر دروب التجديد، الحرية جوهر حياتي والكتابة الدافع الداخلي، وفعل الكتابة يسحرني منذ طفولتي، أما فعاليتي فهي متوهجة دائماً مع الشعر.

ويبقى الشعر أعلى مراتب الفكر، ويبقى الشعر كالحب حالة لاتفسر.. حارق ومحروق واحد. والشاعر إنسان يعشق العالم، وهو الذي يجعلنا نحب، وكلماته كائنات حية قوتها هائلة، واللحظة الشعرية هي بوح اللاوعي في النفس والشعر يحول وهم الزمن الى معنى، وأصالة المشاعر تنبع من عملية الخلق والتجديد، ولقد قال مور: «الشعر هو ما أبدعه الشاعر معبراً فيه عن شخصيته» وما نذرت نفسي للشعر أبداً، بل ضحيت بها في سبيله. الشعر الكلمة البكر، فعل الخالق والمخلوق والشاعر طير مهاجر أبداً. وقال ملارميه: «الشعر هو الذي يمنح حياتنا الصدق والأصالة، ويكون في حياتنا الرعشة الروحية الوحيدة ويبقي الشعر الإنسان العاشق للطبيعة والمعاناة.

ہ قد يكون للأديب أحياناً عمل معين أثير الى نفسه دون سواه. فهل لك من بين أعمالك العديدة واحد يمتلك خصوصيته في نفسك؟ ولماذا؟ ‏

 

ہہ حين سلب مني الكثير، وبقي لدي الفكرة والحب و الذكرى والحرف، تغلغلت في حياة الإنسان وكانت القوة الإنسانية في داخلي تفيض على كل كتبي المتنوعة، ولكن الأقرب الى القلب كتاب (رسائل لم تصل) وفيه اختصر كل مبادئي وتطلعاتي وآفاقي وشخصيتي، وهو يشمل الحب و التضحية و الإنسانية والوجدان النقي. ‏

وهو تجربة وانتقال بين الطبيعة والروح والمصير، وهو الكتاب الثاني مما نشر من كتبي بعد ثالوث الحب. ‏

ہلقد بات الفصل ما بين الأدب النسائي والأدب الرجولي أمراً قائماً في هذا العصر، فما موقفك أنت حياله؟ ‏

ہہ لا أظن أن الأدب ينشطر إلى مذكر و مؤنث، هناك أدب أو لا أدب والمبدع إنسان سواء كان رجلاً أو امرأة ولكن معاناة المرأة واضطهادها وبقاءها زمناً محكومة بالعادات و التقاليد و التخلف و سلطة الرجل، جعلها تبتعد عن حصاد العقل و موهبة القلب، لذلك انعكست عصور اضطهادها على كتاباتها وبقي عقلها مغلفاً بالإنسانية والحنان، لذلك كانت أنوثتها قلباًَ، والذكورة عقلاً و لا يمكن أن تحرر المرأة إلا بعدالة الرجل مع ذاته­ مع الآخرين­ مع المرأة، ولا يمكن فصل حرية المرأة عن قضية تحرر المجتمع العربي، ربما كان سلاحها العلم والعمل ولكن الشهادة لا تعني الثقافة والوعي وا لمعرفة. ‏

والمبدع يتجاوز برؤيته الثاقبة مفهوم المرأة والرجل، ويعبر عن الإنسان، ألم يستطع (نزار قباني) أن يتغلغل إلى أحاسيس المرأة ويعبر عنها ويحرض على حريتها وكرامتها وحقوقها؟ وكذلك طه حسين كتب عن مشاعر المرأة في قصة (دعاء الكروان) وجوته (آلام فرتر)­ (ماجدولين) ترجمة المنفلوطي­ (مدام بوفاري) لفلوبير­ (لا أنام) لإحسان عبد القدوس­ (الطريق المسدود) لمحمد عبد الحليم عبد الله­ (أنا كارنينا) لتولستوي­ (مذلون مهانون) لدوستوفسكي­ والأمثلة كثيرة.. فالمبدع هو الذي يحس بذات الإنسان المعذبة ويعبر عنها. ‏

ہ بما أنك شقيقة الإعلامي المعروف فايز المقدسي، فما هو دور الإعلام في الأدب وفق منظورك؟ ‏

 

ہہ الثقافة رئة الفن التي تقود المبدع الى نضارة الرؤيا عن طريق المعرفة والغوص في أسرار الكون­ النفس­ الأشياء. الإعلام أحد الأساليب الترويجية للثقافة، ولكنه لا يصنع مبدعاً إنما المجتمع يحتاج إلى المبدعين ليتطور ويبني حضارته.

والإبداع لكل شيء في العالم لا يلقى جزاءه الحقيقي والعادل، وقد يغفل الإعلام أو يتناسى الكثير من المبدعين المغمورين في عزلتهم ووحدتهم. وأتمنى أن يصبح الإعلام مركزاً من مراكز الإشعاع الفني العادل. واتساءل: لماذا يحتفى بأعياد كثيرة عيد الأم والعامل والفلاح إلخ.. أليس هناك عيد للمبدع؟... لماذا لايكرم المبدع إلا بعد وفاته إذ تكثر حوله الأضواء ويعرف به.. كم أرغب أن يلمع اسم كل مبدع في سماء الوطن والعالم، ويكرم وهو مازال يحيا ليحس بنفحة معنوية يستحقها.

وأقول بكل موضوعية وليس فقط لأن /فايز مقدسي/ شقيقي إنه يحاول أن يتواصل مع المبدعين في كل الوطن العربي ويحاورهم ويعرّف بهم حتى الغرب وهذا موقف إنساني،

فالإعلامي طير المسافات الطويلة في كل العالم... وأنا الوحيدة التي تجاهلني ولم يعرّف بي بسبب القرابة والحذر من أن تفسر الأشياء بعدم موضوعية. ‏

ہ بعد انخراطك في تجربة الكتابة وتمرسك بها، ماذا يمكنك أن تقدمي من نصائح للأدباء الشباب الذين لا يزالون في بداية الطريق؟ ‏

ہہ التجربة الإبداعية للمواهب الشابة هي حركة الحياة المتجددة والمتطورة، وحين لايكون هناك حركة أدبية شابة يعني أن الأدب يحتضر على فراش موته لكن هذا الجيل يمر بمرحلة الضياع والقلق ويطمح إلى مستقبل بشكل سريع وجاهز. والمطالعة هي امتلاك المعرفة، وهي جزء من تكوين الجيل الصاعد، ولايكفي أن يعارض القديم دون أن يتغذى منه ويلزمنا الارتقاء بالمواهب الشابة ابتداء من الأسرة إلى المدرسة والتشجيع على المطالعة لتنمو الموهبة وتثمر، وعدم الانسياق وراء مظاهر الحضارة البراقة وتقليدها (الفضائيات) وما أشبه ذلك بأشياء كثيرة. ‏

والموهبة الفردية لاتبدع بالتقليد الأعمى إنما في تربة خصبة ووعي معرفي وفكر متطور والشاب يشكل حضارته من خلال ثقافته وتطلعاته وتطوره وتحريره من كل مايمكن أن يشكل عائقاً في سبيل مستقبله بالمثابرة والعمل والطموح رغم كل العثرات والصعوبات التي تعترضه. ‏

ہ هل لك من كلمة أخيرة تريدين توجيهها في مجال الأدب أو الحياة الإنسانية؟

‏ہہ محور الأدب هو الإنسان وعلى قدر مايتغلغل في حياة الإنسان تكون أصالة المبدع، والفنان بإدراكه يستطيع أن يخلق ويبدع ويطور ويجدد.. والتفاعل اليومي مع الإنسان هو عصب الكتابة ونبضها والتأمل فيها. ولافن يخلد إلا حيث يستثمر من الانفتاح على هموم الآخر ومعاناته، والمحبة الإنسانية هي الحياة لأن المبدع ينسى ذاته ويعيش مع الآخرين والغوص في المعرفة إلى ما لانهاية. وأنا مؤمنة بقول جبران «إني أكره كتاباً لاينطبق على حياة مؤلفه، فالصدق شرط أساسي في العمل الإبداعي» والفن وحده لايموت ينتقل من جيل إلى جيل...... ‏