الحزب الشيوعي العراقي

د.محمد سالم سعد الله

الحزب الشيوعي العراقي .. رسم سياسيّ

أم وَهْمٌ أيديولوجي !

د.محمد سالم سعد الله

في إطار استدعاء الفكر ومحاورة الآخر ، وفي خضم البحث عن الحقيقة ، يُضاء القلم ليخط موضوعية الخبر ويقدم الآخر بوصفه كتاباً يبحث عن قارئ فطن يتلمس مواطن الجدة ، ويحاول إسدال الستار عن الأسئلة العقيمة التي غيبت صوت المخاطب على حساب صوت المتكلم .

    لقد آل الحوار على نفسه التوجه نحو المختلف ليقدم الائتلاف في أبهى صوره ، ويجلو في الوقت نفسه صور العتمة التي لم تبنَ إلاّ على صدى الافتراض ، وعلى حكايات القيل والقال .

    انطلاقاً مما ذُكِر كان لنا صوت محاور وموضوعيّ مع الناطق باسم الحزب الشيوعي العراقي في الموصل ( الرفيق أبو فرات ) والأستاذ فخري أمين ،  وكان هذا الحوار :

    كيف كانت مسيرة الحزب الشيوعي العراقي عبر العقود الثلاثة الماضية تحديداً ؟

ـ نبدأ مع ميثاق الجبهة الوطنية مع العام 1973 اتبع الحزب منذ تأسيسه سياسة التحالف مع الأحزاب والتيارات الوطنية من أجل تعزيز التوجه الوطني للشعب العراقي عموماً ، وعندما عُرِض التحالف على الحزب الشيوعي بعد انقلاب حزب البعث في( 1968 ) رأى الحزب في ذلك فرصة لدفع النظام السابق ربما نحو آفاق تقدمية وتحررية أكثر ، وبالفعل تحالفنا مع النظام البعثي واستطعنا فعلا من خلال سنوات التحالف دفع النظام والحكومة باتجاه اعتماد سياسات تقدمية وشعبية ، وقد شهدت فترة التحالف الوطني انتعاشا اقتصاديا ملحوظا ولافتا ، وسياستنا التعليمية كانت طموحة فعلا ، وكانت هناك نوع من الحرية ـ هامش من الحرية ـ ، وقد تصاعد الفكر الشيوعي في ظل تلك الحرية النسبية .

ونتيجة لتصاعد الفكر الشيوعي والتفاف الجماهير حوله ـ في تلك الفترة ـ في ظل أجواء الحرية النسبية المتاحة ، لم يتحمل النظام السابق هذا التصاعد والتوسع والالتفاف الجماهيري حول الحزب الشيوعي ، لذا اتخذ قرار تصفية الحزب وإلغاء الجبهة الوطنية وبالفعل قام النظام بعمليات إعدام واسعة في صفوف رفاق الحزب ـ بالمئات ـ وحاول تصفية الحزب جذريا ، وحاول إبادة الحزب تصفيته من العراق ، غير أن الحزب استطاع مواجهة تلك المرحلة بتنظيماته وأساليبه في العمل ، وهناك من الرفاق من التحق بالمنطقة الشمالية ونظم حركة مسلحة ، وقسم عمل في الداخل بشكل سري ، وبعد ذلك تطور النظام السابق نحو الديكتاتورية وبدا وضع البلد ـ بشكل عام ـ يزداد سوءا يوماً بعد يوم ، أما من ناحية الحزب ففي العام 1985 عقد الحزب الشيوعي في داخل العراق ـ على الحدود العراقية الإيرانية ـ مؤتمراً داخل خيمة أطلق عليه (مؤتمر الخيمة) ، قام بمراجعة أحوال الحزب والمستجدات ، وقد عقِد المؤتمر على أرض عراقية لأن الشيوعيين العراقيين لم يرضوا أن يكون المؤتمر خارج العراق ، ورغم ظروف الحزب استطاع الحزب الشيوعي عقد المؤتمر ، ومراجعة المرحلة السابقة ونقدها ، وبيان طبيعة العلاقة مع حزب البعث ، وانتهج الحزب سياسة جديدة هي الكفاح السري والمسلح ، وخلال التسعينات عقِد مؤتمر آخر عام 1993 بعنوان ( الديمقراطية والتجديد ) بعد انهيار الاتحاد السوفيتي ، وارتضى الحزب أن يراجع فيه كل التطورات التي أحدثت زلزالا في العالم كله ، فضلا عن رسم سياسات تختلف كليا عن المرحلة السابقة .

    هذا المؤتمر غيّر أسلوب الحزب من الجمود العقائدي ودكتاتورية البروليتاريا إلى إيجاد الديموقراطية التي تمثل البديل الصحيح للوضع الاجتماعي الذي يعيشه العراقي في ظل ديكتاتورية صدام ، لقد غيّر هذا المؤتمر سياسة الحزب فوقيا وداخليا ، وحتى التنظيمات تغيرت ، فضلا عن الانفتاح الحاصل أمام الحركات الإسلامية والحركات القومية عن طريق مجموعة من اللقاءات مع حزب الدعوة وغيره ، سياسة الحزب كانت سياسة واضحة وهي إنعاش الحياة الديمقراطية داخل مؤسسات الحزب التنظيمية ، وإنعاشها مع الأحزاب الشيوعية في ألمانيا والدانمارك والسويد وكل أنحاء العالم .

    ما هي الأركان والأهداف والوسائل التي يدعو إليها الحزب ويتبناها ؟ .

ـ اعتمد الحزب الشيوعي لاسيما بعد مؤتمر ( الديموقراطية والتجديد ) الحوار السلمي بوصفه أسلوبا من أساليب النضال والتحالف مع الأحزاب وبضمنها الإسلامية ، وهذه التحالفات مبنية على وضع مبدئي وليس على وضع ذرائعي أو أناني ، ونحن يجمعنا مع الأحزاب بلد واحد وقضايا مشتركة في إقامة حكم ديموقراطي ائتلافي وشعبي ، تسود فيه القوانين والتعددية وتحقيق التقدم هذا هو الفهم بشكل عام .

    من أين يستمد الحزب قوته السياسية ، لاسيما وأن المَعين الفكري والسياسي للمسار الشيوعي قد انهار منذ عقد من الزمن ، وما هي فرص بقائكم على خارطة العمل السياسـي؟ .

    ـ أولاً الشيوعية لا تساوي الاتحاد السوفيتي ، الشيوعية هي قضية ونظرية وتجربة تطبيق الاشتراكية وهي منفتحة على العالم كله ، وهناك دول أخرى تطبق الاشتراكية وهي ذات تقدم على المستوى الاقتصادي مثل الصين ، وهناك أحزاب اشتراكية في أوربا ، وهي بشكل أو بآخر تنتمي إلى الفكر الماركسي ولا تنتمي إلى الفكر الشيوعي ، والماركسية الآن أصبحت علماً ، وجزءاً من النظرية العلمية الأساسية في الاجتماع والفلسفة ، وهي في الأساس ليست دوغمائية فهي تضم التطور والانفتاح على مستوى العالم كله ، وبالتالي هي نظرية قائمة على التجدد ، ويجب في هذا الإطار التفرقة بين الحزب وبين النظرية ، الفرق بين السياسي وبين المنظر ، يتجه المنظر دائماً إلى الانفتاح والحوار ، أما الحزبي فبحكم كونه قائداً للآلاف الناس هو بحاجة إلى تحقيق اللحمة وشحن الروح الكفاحية للجماهير ، فلو نقلنا هموم الفكر وتناقضاته إلى هذه الجماهير لتشتت الحركة ، والسياسي يحرص على جمعها ضمن أفكار محددة ، وهي ليست دوغمائية بل هي آليات عمل .

    يتهمكم بعض الناس بأنكم أصحاب شعارات ولون أحمر وفكر جامد وقيادات بعيدة عن الواقع العراقي المعاصر وحسب ، ما هو تعليقكم على ذلك ؟ .

ـ مسألة الشعارات مسألة محسومة ، فنحن أقل الأحزاب شعارات ، شعـارنـا هـو واحد : ( وطن حر وشعب سعيد ) ، نحن لسنا أصحاب شعارات نحن أصحاب منهج للعمل السياسي وشعاراتنا بسيطة جدا : مزيد من العدل والحرية والديموقراطية وحكومة ائتلافية وحكم القانون ونتمنى أن نشترك مع الجميع في قضية واحدة وفي مسألة واحدة ، فنحن مثلا نلتقي مع كل التيارات الإسلامية في رفض العولمة والسوق المشتركة ، لكن في مرحلة أخرى قد نختلف ، ونتمنى أن نعمل معا نحن وانتم وكل الأحزاب لتحقيق اختصار معاناة الشعب ، والمهم هو تحقيق أهداف الشعب ، وفي مراحل لاحقة سيكون لكل حادث حديث ، وسنواجه مهمات جديدة قد نختلف فيها لكن سيبقى هناك ما هو مشترك دائما بيننا وبينكم ، وبين كل الأحزاب السياسيـة ، ومن الجدير بالذكر أن العولمة ستزيد من الحاجة إلى الفكر الشيوعي بسبب زيادة الفقر وتعميمه وكثرة الجياع ومحاولة مواجهة ذلك ، ثم إن العولمة ستقود إلى تدنٍ في المستوى الأخلاقي والقيمي ، ويقود الإنسانية إلى مستقبل غامض ومجهول .

    لماذا غاب الفكر الشيوعي عن الساحة العراقية طيلة عقود ثلاثة ماضية ، أين تكمن الأسباب : أهي في هشاشة الطرح ، أم في قمع النظام السابق ، أم غياب التأييد الشعبي ، أم بسبب الارتكاز على الدعم الخارجي وتمويله والاستئناس بالحياة خارج القطر بعيداً عن المشاكل ؟ .

ـ تأكد أن الحزب الشيوعي لم يغب عن العراق ، فهو دائما موجود ، لكن في ظروف سرية بالغة في ظل الحكم الديكتاتوري ، ولهذا لم يكن له تأثيرا محسوسا في الجماهير وقد كان موجودا في كل مكان حتى في الجامعة ، ولكل كان له طريقه في المحافظة على انتمائه وقد جعل النظام السابق إمكانية العمل للحزب الشيوعي مستحيلة ، وقضية التمويل الخارجي للحزب الشيوعي مقطوعة ، فصدقني لا يوجد تمويل خارجي لا قديما ولا حديثا ، فالشيوعية أفقر حزب في الساحة ، لكنه أغنى حزب بالفكر ، والحزب قائم في الأساس على تبرع الأعضاء في الداخل والخارج .

يُقال عنكم أنكم ترفعون المظلات في بغداد إذا أمطرت في موسكو ، ويتهمكم البعض بالعمالة لجهات خارجية ، فما ردكم على ذلك ؟ .

ـ الاتهامات كثيرة للحزب وهو بريء من هذه التهم ، والتعبير السابق يعبر عن تضامن الحزب الشيوعي العراقي مع الأحزاب الشيوعية خارج القطر ، وتخصيص العلاقة بهذه الدرجة من القوة والمتانة فيها الكثير من المبالغة ، وعلاقتنا مع الخارج هي علاقة تضامن ليس إلاّ .

    مقولة : ( الدين أفيون الشعوب ) شعار رفعه الفكر الشيوعي منذ قرن من الزمان تقريباً ، هل ما زال هذا الشعار يمتلك أسس بقائه ، وهل أنتم عقيدة بلا دين ، وما موقفكم من الأديان السماوية ؟ .

ـ يجب فهم هذه العبارة ضمن سياقها التاريخي ، في ظل الإقطاع كانت الكنيسة هي المتصرفة في الشؤون كلها ، وقد جاءت هذه العبارة لتصف الدين ـ من قبل ماركس ـ الذي كانت تمارسه الكنيسة ، فالدين هو حاجة ضرورية للإنسان ، والدين الإسلامي يختلف عن تلك العبارة لأنه دين حرية ، والعبارة السابقة مخصوصة في عصر الإقطاع وسيادة الكنيسة ، فالدين في الشرق يختلف عنه في الغرب ، وعلاقة الفكر الشيوعي مع الدين هي علاقة حوار، ويجب أن لا ننسى أن الفكر الشيوعي هو فكر علماني على مستوى النظرية والفكر ، أما على مستوى الأفراد فالحزب لا يفرض على أعضائه أن يصلوا أو لا يصلوا ، فمسألة الإيمان والدين هي مسالة ذات خصوصية فردية ، وعندما تعرضتُ للتعذيب على يد النظام السابق كان أول شيء فعلته هو صلاة الفجر ، وقد شعرت حينها ـ صدقني ـ بعـد قـول المـؤذن ( الله اكبر ) بدفء روحي كبير لم أشعر به من قبل .

    كيف نفهم أن يكون للمرء ولاء مزدوج : ولاء للنظرية يقول بلا إله ، وولاء للذات يقول بوجود الله ؟

ـ لقد قلتُ منذ البدء أن الإيمان والصلاة والعبادات هي حالة فردية حينما يشعر الفرد بالتردد والحيرة والاطمئنان ولا علاقة له بالجانب الفكري أو الحزبي أو العملي .

    كيف نصف الالتزام الديني عند الشيوعي ، أهو التزام إيمان أم التزام طقوس وكفى ؟

ـ أعتقد أن الذي يصلي ويصوم هو مؤمن إن لم يكن يرائي ، وأنا من الذين يصلون ويصومون رمضان ويقومون الليل ويقرؤون القران ، وأحفظ منه من ( ثلاثين إلى خمسة وثلاثين جزءاً !!) صدقني إن من يقرأ كتاب ( في ظلال القران ) لسيد قطب يجد فيه نقاطا مشتركة مع الفكر الشيوعي في العدل والحق والمساواة .

هل الفكر الشيوعي عقيدة ودين ، أم عقيدة بلا دين ؟

ـ سيطول بنا الحديث في هذه الفقرة ولا ارغب في الخوض في تفاصيل ذلك ، لكن أعود واقول : إن التدين حالة فردية لا علاقة له بالتوجه الحزبي أو العمل السياسي ، فالحزب الشيوعي حزب علماني لا يشترط على الناس الإيمان ، فعلاقة الإنسان مع ربه لا يفرضها أحد وهي حالة فردية ، ونحن ضد تسييس الدين على نحو ما ، وعمل الدين مع السياسة هو عمل خاطئ ، فعملية تحويل الدين إلى سلطة أو شرطي عملية مرفوضة ، لأنها تقود إلى عملية تحجيم الدين ، يعني أن الشيوعية تبتعد عن الدين كي يبقى في صورته الناصعة الأولى دون تسييس ، وتترك الدين للناس.

    إذن يمكن القول أن الشيوعية عقيدة بلا دين ؟ وأن الدين حالة فردية . أهذا ما تريدون الوصول إليه ؟

ـ نعم الفكر الشيوعي عقيدة ، ولا يتبنى الدين للحفاظ عليه من التسييس والتحجيم ، والتدين عندنا حالة فردية .

أنتم متهمون بالإباحية ، والدعوة إلى انفتاح العلاقات الجنسية بشكل واسع ، ما هو تعليقكم على ذلك ، وهل لهذا الإتهام علاقة في رفض الجماهير لكم ؟ .

ـ نحن ضد شيوعية الأخلاق التي لا تعترف بضوابط معينة للحفاظ على سيرها ، فعندنا قيم وأخلاق، وأول من أتهم الشيوعية بالإباحية هي الكنيسة ، الفكر الشيوعي طالب بتعميم وسائل الإنتاج ، والبرجوازي استخدم المرأة بوصفها أسلوبا من أساليب الإنتاج والدعاية ، وجاءت الشيوعية لتمنع إباحية المرأة ، وهذه المسالة ـ أي الإباحية ـ كانت قائمة قبل الشيوعية ، وقد وقفت الشيوعية ضد البغاء ومنعته ، مثال على ذلك الصين التي تمنع البغي والاعتداء على أي امرأة ، والمرأة تعني عندنا الزوجة والأخت والبنت والأم والوطن والقضية والرسالة وليس هناك إباحية في العلاقات الجنسية في الفكر الشيوعي ، وما يدور حول ذلك هو محض افتراء ، وقد طالب الفكر الشيوعي بتحرير المرأة ، وإذا ما تحررت فسيتم تحرير كل شيء ، وإذا ما تسنى للحزب الشيوعي تسلم مقاليد الأمور في العراق فإنه سيعمد إلى منع البغاء فوراً لأنه يهين المرأة ويهين كرامتها .

    هل تؤمنون بوجود ( الله ) ، فإن كان الجواب بنعم ألا يُعد ذلك خروجاً عن الفكر الشيوعي المعروف ذي التوجه الملحد ، وإن كان الجواب بلا فكيف تتوقعون القبول الجماهيري لاسيما وانتم في دولة دستورها الإسلام ؟ .

ـ قلت لك في البدء أن الإيمان هو مسألة فردية ، واما من ناحية الفكر فهو علماني ، وإثارة هذه المسألة لا تخدم المرحلة الراهنة لأنها تثير الأحقـاد والظغائـن ، والحـزب الشيـوعي لا يفرض على الأفراد انتماءاتهم الدينية أو أسلوب تدينهم ، ونتمنى أن لا نثير هذه المسائل في الوقت الحاضر ، ولدينا رفاق مسلمون يصلون ويصومون ويسمعون الوعظ ، ونحن نستفيد منهم بعد ذلك في مسائل التعامل الإنساني ، والفرد الشيوعي له الحق في التعامل مع خياراته الدينية ، ونحن لدينا رجال دين في الحوزة العلمية في النجف ، وفي كردستان وغيرهما