بقية الخلفاء الراشدين

الشيخ: علي الطنطاوي

من العظماء رجال، لم يكن لهم في غير الخط مجال، صفوا إليه همهم كلها حتى برعوا فيه، ومرنت أيديهم على صنع المعجب من آثاره، وخلفوا لنا لوحات لا تقل جمالاً عن أخلد الصور الفنية.

ومنهم رجال ضربوا في أودية البلاغة، وسلكوا طرق البيان، وصاروا أئمة القول، وأعلام الكلام، وتركوا لنا رسائل، هي العسل المصفى، وهي السحر الحلال.

ومنهم رجال صرفوا حياتهم، وأمضوا أعمارهم في النظر في الأدلة، وتخريج المسائل، حتى صاروا سادة الفقهاء وصدور العلماء.

ومنهم رجال كانوا ملوكاً عباقرة مصلحين، بنوا ممالك ووطدوا دولاً، وفتحوا في الأرض شرعة السماء(1)، وكان حكمهم خيراً على الناس وبركات.

ومنهم رجال كانوا قواداً مظفرين كانوا جن الحروب ومردة المعامع، لا يخرجون من معركة إلا إلى معركة أشد منها، ينتزعون النصر من يد الهلاك، ويبنون الحياة على أشلاء الموت. لا يحاربون للقتل ولا للتخريب ولا للأذى ولكن ليدافعوا – عن الحق والحضارة – شرّ من يأبى أن يقوم في الأرض صرحُ الحضارة، وأن يرتفع فيها لواء الحق.

ومنهم رجال كانت عظمتهم أن كرهوا العظمة، وزهدوا في الدنيا واستصغروها، وهانت عليهم بمتعتها ولذتها، لما طمعوا بلذات الآخرة ومتعها، فأقبلوا على العبادة وأنسوا بالله، وتجافت جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً يرجون رحمته ويخافون عذابه...

وهذا عظيم جمع هذا كله، فكان خطاطاً وكان شاعراً، وكان فقيهاً، وكان ملكاً عظيماً، وكان قائداً مظفراً، وكان زاهداً متعبداً..

حكم الهند كلها، خمسين سنة، فأقام فيها العدل، ونشر الأمن، وأعز الصالحين، وقهر الطغاة الجبارين، وترك آثاراً على الأرض، وآثاراً في الحكم وآثاراً في العقول.

ملأ الهند مساجد ومشافي ومارستانات، وملاجئ للعاجزين، ومدارس للمتعلمين، وسن في أساليب الحكم سنن الخير.. فنظم القضاء، وأصلح قوانين الضرائب، وترك للعلماء كتاباً من أجل كتب الفقه الإسلامي.

هو السلطان عالمكير(1)، أورانك زيب(2) بن شاهجهان بن جهانكير بن الامبراطور أكبر، حفيد تيمورلنك.

نحن الآن في الهند، في القارة التي حكمناها ألف سنة، في الدنيا التي كانت لنا وحدنا، وكنا نحن سادتها، في الفردوس الإسلامي المفقود حقاً، ولئن كانت لنا في إسبانيا أندلس فيها عشرون مليوناً، فلقد كان لنا ها هنا أندلس أكبر، فيها اليوم أربعمائة مليون – خمس سكان الأرض – ولئن تركنا في الأندلس من بقايا شهدائنا، ودماء أبطالنا، ولئن خلفنا فيها مسجد قرطبة والحمراء، فإن لنا في كل شبر من هذه القارة دماً زكياً أرقناه، وحضارة خيرة وشيت جنباتها، وطرزت حواشيها، بالعلم والعدل والمكرمات والبطولات، وإن لنا فيها معاهد ومدارس، كم أنارت عقولاً، وفتحت للحق قلوباً، ولا تزال تفتح القلوب، وتنير العقول. وإن لنا فيها آثار تفوق بجمالها وجلالها الحمراء، وحسبكم تاج محل أجمل بناء علا ظهر الأرض.

ولو كنتم تعرفون من تاريخ المسلمين في الهند – ولو مثل القليل الذي تعرفون من تاريخهم في الشام ومصر – لدخلت الآن في الحديث عن اورانك زيب، ولكنكم لا تعرفون – مع الأسف – تاريخ الهند، ولا أجد بداً من أن أمهد لهذا الحديث بشيء من التاريخ.

لقد مرت بالهند أربعة عهود إسلامية: عهد الفتح العربي، ثم عهد الفتح الأفغاني، ثم عهد المماليك، ثم عهد المغول.

كان أول حمل إلى الهند لواء الإسلام، محمد بن القاسم الثقفي، القائد الشاب الذي هجر منازل قومه في الطائف ومشى إلى العراق في ركاب ابن عمه الحجاج، الذي ظلم كثيراً، وقسا كثيراً، وكانت له هنات غير هينات، ولكنه هو الذي أبقى العراقيين، وفتح لنا المشرق كله والسند – فبعث المهلب العظيم حتى أطفأ نار الحرب الأهلية التي ضرمها الخوارج، وأرسل قتيبة العظيم حتى فتح سمرقند وبخاري وتركستان، وأوفد ابن عمه محمداً العظيم حتى فتح السند.

ولولا الإيمان الذي يصنع العجائب، ولولا الهمم الكبار التي تزيح الجبال، ولولا البطولة التي وضعها محمد صلى الله عليه وسلم في قلوب العرب.. لما استطاع هذا الجيش أن يقطع خمس محيط كرة الأرض، وهو ماش على الأقدام، أو معتل ظهور الإبل والدواب، ما عرف قطاراً ولا سيارة، ولا رأى على متن الجو طيارة، ولما وضع ابن القاسم الحجر الأول في هذا الصرح الهائل وأدخل الشعاعة الأولى من هذه الشمس التي أشرقت في مكة إلى هذه القارة، وفتح السند ولم تبلغ سنه سن تلاميذ البكالوريا..!!

وعاد إليها لواء الإسلام مرة ثانية في القرن الرابع، عاد بالفتح على يد السلطان العظيم محمود الغزنوي، الذي خرج من غزنة - وكانت قصبة بلاد الأفغان، وهي إلى الجنوب من كابل -، فاحترق ممر خيبر، المضيق المهول الذي يشق تلك الجبال الشاهقة شقاً، والذي تجزع أن تسلكه من وعورته ووحشته أسد الفلا، وجنّ الليالي السود، ثم دخل الهند وخاض عشرات من المعامع الحمر، التي يرقص فيها الموت ويشتعل الدم، واجتمع عليه أمراء الهند وأقيالها جميعاً، فطحن أبطالهم ومزق جيوشهم ومضى حتى جاب البنجاب، واستجابت له هاتيك البلاد، فأقام فيها حكم الله، وأذاق أهلها عدالة الإسلام.

وجاء من هذا الطريق بعد أكثر من قرن، السلطان شهاب الدين الغوري، فوصل من هذا الفتح ما كان منقطعاً، وأكمل منه ما كان ناقصاً وملك شمالي الهند، وبلغت جيوشه دهلي، فأوقدت فيها منار الدعوة الإسلامية فضوَّأت بعد الظلمة، وأبصرت بعد العمى، ودوى في أرجائها الصوت الذي خرج من بطن مكة، صوت المؤذن ينادي في قلب الهند ذات الأرباب والآلهة والأصنام، أن خابت آلهتكم، وهوت أصنامكم، إنما هو إليه واحد:

لا إله إلا الله محمد رسول الله

وقامت في الهند حكومة إسلامية قراراتها دهلي.

وبينما كان قطب الدين ايبك قائد السلطان الغوري يفتح المدن بسيفه، كان الشيخ معين الدين الجشتي يفتح القلوب بدعوته، فدخل الناس في الإسلام أفواجاً، وكان هذا الفتح أبقى وأخلد، وكان منه اليوم ثمانون مليوناً من المسلمين في باكستان، وأربعون مليوناً غيرهم في هندستان(1)، وسيبقى الإسلام في تلك الديار إلى آخر الزمان بإذن الله.

وولي الملك بعد السلطان الغوري قائده قطب الدين، الذي فتح دهلي، وبدأ به عهد المماليك، وكان منهم ملوك عظام حقاً، منهم قطب الدين هذا – باني منارة قطب مينار، التي يقف اليوم أمام عظمتها كل سائح يرد دهلي – وشمس الدين الالتمش وغياث الدين بلبان.

ثم جاء الخلج وكان منهم الملك العظيم علاء الدين الخلجي الذي عدل في الناس، وضبط البلاد، وبسط الأمن، وأوغل في الهند.

وجاء من بعدهم آل تُغلق، وكان منهم الملك الصالح المصلح فيروز.. ثم جاء اللودهيون.. وكان في أحمد آباد ملوك ذكروا الناس بالخلفاء الراشدين كمظفر الدين الحليم الكجراتي.

وكان للعلماء في دولة المماليك أكبر منها، وكان لهم سلطان أكبر من سلطان الملوك. ولقد روى أخونا أبو الحسن علي الحسني الندوي، أن السلطان شمس الدين الالتمش الذي دانت له البلاد كلها – وكان في القرآن السابع الهجري – وخضع له ملوك الهند جميعاً، كان يستأذن على الشيخ بختيار الكعكي فيدخل زاويته ويسلم عليه تسليم المملوك على الملك. ولا يزال يكبس رجليه ويخدمه ويذرف الدموع على قدميه، حتى يدعو له الشيخ ويأمره بالانصراف.

وإن علاء الدين الخلجي أكبر ملوك الهند في زمانه استأذن الشيخ الدهلوي في أن يزوره فلم يأذن له الشيخ.

ولما مرض الشيخ الدولة آبادي المفسر، وأشرف على الموت، عاده السلطان إبراهيم الشرقي، ودعا عند رأسه أن يكون هو – أي السلطان – فداءه من الموت.

وكانت زاوية نظام الدين البدايوني، أحفل بالقصاد، وأزخر بالناس من قصر الملك، وكان سلطانه الروحي أعظم من سلطان الملك المادي.

كان ذلك يا سادة، لما تجرد هؤلاء العلماء من أثواب المطامع والرغبات، وزهدوا بما في أيدي الملوك، فسعى إلى أبوابهم الملوك، ونزعوا حب الدنيا من قلوبهم، فألقت بنفسها على أقدامهم الدنيا.

وفي عهد السلطان إبراهيم اللودهي سنة 933هـــ جاء بابر حفيد تيمورلنك من كابل، وكسر جيوش اللودهي – وكانت مائة ألف – جاء باثني عشر ألفاً من فرسان المغول المسلمين، وأسس دولة المغول التي كانت أكبر الدول الإسلامية في الهند، وكان من ملوكها، الملك الصالح الذي أحدثكم عنه: أورانك زيب.

ولما مات بابر، وولى ابنه همايون، وثب عليه رجل عصامي لم يكن من بيت الملك، ولكن كانت له همم الملوك، فانتزع البلاد منه وأقام دولة كانت نادرة في الدول. ونظم الإدارة والمالية والجيش تنظيماً لم يسبق إلى مثله، وهو السلطان شيرشاه(1) السوري، ولما مات، عاد الملك إلى ابن همايون، وهو الامبراطور أكبر وكان من أعاظم الملوك، حكم الهند كلها إلا قليلاً... وطال حكمه فكفر في آخر أيامه بالله، وأكره الناس على الكفر، وابتدع لهم ديناً جديداً. وأزال معالم الإسلام، وأبطل شعائره(1) وكان معه الجيش، وكان معه الأمراء، وكانت البلاد كلها في يده، فمن يقوم في وجهه، ومن ينصر الإسلام ومن يدافع عن الدين؟

لقد قام بذلك شيخ ضعيف الجسم، قليل المال والجاه والأعوان، ولكنه قوي الإيمان بالله تبارك وتعالى، كبير النفس والقلب، قد استصغر الدنيا فهو لا يحفل بكل ما فيها من مال ومناصب ولذائذ واستهان بالحياة فهو لا يبالي على أي جنب كان في الله مصرعه، هو الشيخ أحمد السرهندي.

ولم يكن يطمع بإصلاح الامبراطور، ولا يجد فيه أملاً، فجعل يتصل بالقواد الصغار، ويعدُّ لانقلاب شامل، لا لانقلاب عسكري ثوري، بل لانقلاب روحي فكري، وكان يرسل الرسائل تلتهب بالحماسة الدينية والعاطفة والإيمان.

ولما مات أكبر وولى ابنه جهان كير(2)، استطاع الشيخ محمد معصوم السرهندي – ابن الشيخ السرهندي – أن يشرف على تربية طفل صغير، هو أحد حفدة جهانكير.

ولم يكن هذا الطفل كبير إخوته، ولا كان ولي والعهد ولم يكن يؤمل له أن يلي الملك. ولكن الشيخ وضع في تربيته جهده، وبذل رعايته كلها، فنشأ نشأة طالب في مدرسة دينية داخلية، بين المشايخ والمدرسين، فقرأ القرآن وجوَّده، والفقه الحنفي وبرع فيه، والخط وأتقنه، وألمَّ بعلوم عصره، وبي مع ذلك على الفروسية، ودُرب على القتال.

ولما مات جهانكير، وولي شاه جهان، ولى كلا من أبنائه قطراً من أقطار الهند، وكان نصيب هذا الطفل وهو "أورانك زيب" ولاية الدكن.

وكان لشاه جهان زوجة لا نظير لحسنها في الحسن، ولا مثيل لحبه إياها في الحب، هي "ممتاز محل" فماتت، فرثاها ولكن لا بقصيدة من الشعر، وخلدها ولكن لا بصورة ولا تمثال، لقد رثاها فخلدها بقطعة فنية من الرخام ما قال شاعر قصيدة أشعر منها، فهي شعر، وهي أغنية، وهي صورة، وهي أعظم تحفة في فن العمران.

هي تاج محل، هذا البناء العجيب الذي أدهش بجماله الدنيا، وما زال يدهشها، والذي لان فيه الرخام لهذه الأيدي العبقرية، فجعلت منه أجمل بناء شيد على ظهر هذه الأرض بلا خلاف، ونقشته هذا النقش الذي لم يعرف قط نقش في مثل دقنه وفنه وسحره.

هذا القبر الذي يأتي اليوم السياح، من أقصى أمريكا إلى "أكا" قرب دهلي ليشاهدوه، ويسمعوا قصته، وهي أعظم قصص الحب على الإطلاق. لقد صدع موت هذه الزوجة الحبيبة الامبراطور العظيم، فزهد في دنياه لأنها كانت هي دنياه، وحقر ملك الهند لأنها كانت أعظم عنده من ملك الهند، ولم يعد له أرب بعدها إلا أن يملص من حاضره، ويوغل بذكرياته في مآرب الماضي، ليعيش بخياله معها، يستروح رؤياها، ويستجلي جمالها، ويسمع خفي نجواها، ويحس حرارة أنفاسها، ثم استحال حبه إياها حباً لهذا القبر الذي شاده لها، فجن به جنوناً، وصار يحس في برودته حرارتها، وفي جموده خطراتها، وفي صمته حديثها، وانصرف عن الملك وأهمله، فوثب ابنه الأكبر فولي الملك إلا اسمه، وتصرف بالأمر وحده، ونازعه إخوته، وجاء كل من أمارته: شجاع من البنغال، ومراد بخش – أي مراد الله – من الكجرات، وأورانك زيب هذا من الدكن، واستطاع أن يغلبهم جميعاً، وينفرد بالأمر، ووضع أباه في قصر من قصور الملك، جعل له في ما يشتهيه من الفرش والطعام واللباس والحاشية والجواري وجعل له حيال سريرة مرآة أقيمت على صناعة عجيبة لا تزال تدهش السياح يرى منها "تاج محل" على البعد، وهو مضطجع في سريره كأنه أمامه، وكان ذلك كل ما بقي له من لذائذ دنياه!

وكان جلوسه على سرير الملك سنة 1068هــ .. وكأني بكم تظنون أن هذا الملك الذي ربي بين كتب الفقه وأوراد النقشبندية، سيدخل خلوته، ويعمل من قصره مدرسة أو تكية، يصلي ويقرأ في كتب الفقه، ويسيب أمور الدنيا ويهملها زاهداً فيها، كلا يا سادة، وما هذه خلائق الإسلام ولا هذه طريقته..

إن العمل لإسعاد الناس، وإقامة العدل ورفع الظلم، وجهاد الكافرين المفسدين في الأرض. كل ذلك صلاة كالصلاة في المحراب، بل هو خير من صلاة النفل، وصوم التطوع، وعدل ساعة أفضل من عبادة أربعين سنة.

لذلك ترونه قد لبس لأمة الحرب من أول يوم – وكان يومئذٍ في الأربعين – ونهض بنفسه، يقضي على الخارجين ويقمع المتمردين، ويفتح البلاد، ويقرر العدالة والأمن في الأرض، وما زال ينتقل من معركة يخوضها إلى معركة ومن بلد يصلحه إلى بلد، حتى امتد سلطانه من سفوح همالايا، إلى سيف البحر من جنوب الهند، وكاد يملك الهند كلها.. حتى قضى شهيداً في سبيل الله في أقصى الجنوب بعيداً عن عاصمته بأكثر من ألف وخمسمائة كيل.

ومن خاض هذه المعارك، استنفدت وقته كله، ولم تدع له بقية لإصلاح في الداخل، أو نظر في أمور الناس، ولكن أورانك زيب، حقق مع ذلك على الإصلاح الداخلي ما لم يحقق مثله إلا قليل من الملوك.

كان ينظر في شؤون الرعية من أدنى بلاده إلى أقصاها، بمثل عين العقاب، كما كان يبطش بالمفسدين بمثل كف الأسد، فأسكن كل نأمة فساد، وأقر كل بادرة اضطراب، ثم أخذ بالإصلاح فأزال ما كان باقياً من الزندقة التي جاء بها "أكبر" أبو جده، وكانت الضرائب الظالمة ترهق الناس ولا ينال أمراء المجوس لفحٌ من نارها، فأبطل منها ثمانين نوعاً، وسن للضرائب سنة عادلة، وأوجبها على الجميع، فكان هو أول من أخذها من هؤلاء الأمراء، ولولا هيبته، ولولا شدته في الحق لأبوها عليه. وأصلح الطرق القديمة، وشق طرقاٌ جديدة. ويكفي لتدركوا طول الطرق في الهند أن تعرفوا أن طريقاً واحداً مما كان فتحه شيرشاه السوري، كان يمشي فيه المسافر ثلاثة أشهر وكانت تحف الأشجار من الجانبين على طوله وتتعاقب فيه المساجد والخانات!

وبنى المساجد في أقطار الهند، وأقام لها الأئمة والمدرسين، وأسس دوراً للعجزة، ومارستانات للمجانين، ومستشفيات للمرضى.

وأقام العدل في الناس جميعاً، فلا يكبر أحد عن أن ينفذ فيه حكم القضاء، وكان أول من جعل للقضاء قانوناً، فكان يحكم في القضايا الكبرى بنفسه لا حكماً كيفياً بل حكماً بالمذهب الحنفي معللاً له مدللاً عليه، ونصب القضاة للناس في كل بلدة وقرية، وكان للإمبراطور امتيازات فألغاها كلها، وجعل نفسه تابعاً للمحاكم العادية، ولمن له عليه حق أن يقاضيه به أمام القاضي مع السوقة والسواد من الناس.

وكان الرجل عالماً، فقيها بارعاً في الفقه الحنفي، فأدنى العلماء ولازمهم، وجعلهم خاصته ومستشاريه، وبنى لهم المدارس وجعل لهم الرواتب.

ووفق إلى أمرين، لم يسبقه إليهما أحد من ملوك المسلمين:

الأول: أنه لم يكن يعطي عالماً عطية أو راتباً إلا طالبه بعمل، بتأليف أو تدريس، لئلا يأخذ المال ويتكاسل فيكون قد جمع بين السيئتين، أخذ المال بلاحق، وكتمان العلم، فما قول مدرسي الإفتاء والأوقاف في الشام اليوم؟

والثاني: أنه أول من عمل على تدوين الأحكام الشرعية، في كتاب واحد، يتخذ قانوناً فوضعت له (وبأمره وبإشرافه ونظره) الفتاوى التي نسبت إليه فسميت الفتاوى العالمكرية، واشتهرت بالفتاوى الهندية، ويعرفها كل من يقرأ هذا المقال من العلماء، لأنها من أشهر كتب الأحكام في الفقه الإسلامي، وأجودها ترتيباً وتصنيفاً.

وكان – بعد ذلك كله – يؤلف، ألف كتاباً في الحديث وشرحه وترجمه إلى الفارسية، ويكتب الرسائل البليغة، التي تعد في لسانهم من روائع البيان، ويكتب بخطه المصاحف ويبيعها ليعيش بثمنها لما زهد في أموال المسلمين، وترك الأخذ منها، وحفظ القرآن بعد أن ولي الملك، وكان شاعراً موسيقياً ولكنه ترك ذلك وكرهه، وأبطل ما كان للشعراء والموسيقيين من هبات وعطايا، ولم يكن يراهم لازمين لأمة لا تزال تبني في الأرض صرح مجدها.

وكان يصلي الفرائض في أول وقتها مع الجماعة، لا يترك ذلك بحال، والجمعة في المسجد الكبير ولو كان غائباً عن المصر لأمر من الأمور يأتيه يوم الخميس ليصلي الجمعة ثم يذهب حيث شاء، وكان يصوم رمضان مهما اشتد الحر، وما أدراكم ما حر الهند؟ ويحيي الليالي بالتراويح، ويعتكف في العشر الأواخر من رمضان في المسجد، ويصوم الاثنين والخميس والجمعة، في كل أسبوع من أسابيع السنة، ويداوم على الطهارة بالوضوء، ويحافظ على الأذكار ويمد أهل الحرمين بالصلات المتكررة الدائمة.

وكان مع ذلك آية في الحزم والعزم، والبراعة في فنون الحرب، وفي التنظيم الإداري. فكيف استطاع أن يجمع هذا كله.

كيف قدر أن يتعبد هذه العبادة؟ ويقضي بين الناس ويؤلف في العلم؟ ويكتب المصاحف؟ ويحفظ القرآن؟ ويدير هذه القارة الهائلة؟ ويخوض هذه المعارك الكثيرة؟

لقد كان يقسم بين ذلك أوقاته، ويعيش حياة مرتبة، فوقت لنفسه، ووقت لأهله، ووقت لربه، وللإدارة والقتال والقضاء أوقاتها.

حكم الهند كلها خمسين سنة كوامل، وكان أعظم ملوك الدنيا في عصره، وكانت بيده مفاتيح الكنوز، وكان يعيش عيش الزهد والفقر، ما مدّ يده ولا عينه إلى حرام، ولا أدخله بطنه، ولا كشف له إزاره، وكان يمر عليه رمضان كله لا يأكل إلا أرغفة معدودة من خبز الشعير، من كسب يمينه من كتابه المصاحف لا من أموال الدولة!

هذا هو الملك الذي قلت إنه كان بقية الخلفاء الراشدين توفي (1) في مثل هذا الشهر (ذي القعدة) من سنة 1118هـــ وما رأى الناس بعده وقلما رأوا قبله مثله.

رحمة الله على روحه الطاهرة.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

***

(1) الشرعة والشريعة الطريق، لذلك قلت فتحوا.

(1) أي زمام العالم أو قائد العالم.

(2) أي زينة الملك.

(1) هم على شر حال اليوم من الجهل فيهم وإهمال الحكام لهم. والأمل في جماعة التبليغ وفي جماعة المودودي وفي الجامعات والمدارس كجامعة ديوبند ودار العلوم لندوة العلماء في لكنو، وهي خير مدارس الهند منهجاً وسلوكاً. (1) شيرشاه: أي الملك الأسد، أو ملك الأسود.

(1) ولذلك يعظمه المؤرخون من أعداء الإسلام من الغربيين ومن يقلدهم منا بلا علم ولا فهم.

(2) أي قائد الدنيا.

(1) توفي في ذي القعدة، وولد كذلك في ذي القعدة، وتولى ملك الهند في ذي القعدة أيضاً.

وسوم: العدد 848