نزع الهوية !

أ.د. حلمي محمد القاعود

[email protected]

في الفترة الماضية عقدت الحظيرة الثقافية مجموعة من المهارج – لا أعرف كم تكلفت ولا دوافع إقامتها في هذا الظرف الصعب الذي تحتاج فيه مصر إلى كل قرش يذهب في الهواء – ولا أدري ما هو العائد منها على الشعب المظلوم الذي يتهمونه بالجهل والأمية بل يضعونه أحيانا في صف البهائم !

 فى افتتاح نشاطات مهرجان الأفلام التسجيلية والقصيرة والرسوم المتحركة "كام" فى دورته الثانية ؛ قال مولانا الذي في الحظيرة : " إنه لا يمكن لهذا الوطن أن يتأثر فنه وإبداعاته بالظروف التاريخية التي يمر بها الآن، ولن يستطيع أي فصيل أو تيار أو فئة أن ينتزع منا هويتنا ، لأنها لو انتزعت منا لتحولنا إلى جثة بلا روح. ويستحيل لهذا الوطن أن يتحول إلى جثة بلا روح، فستبقى مصر دائما بفنها وثقافتها وإبداعها ".  

وكلام مولانا الذي في الحظيرة صحيح إذا كان يقصد ثقافتنا الإسلامية والعربية التي أساسها القرآن الكريم والسنة النبوية والتراث العظيم الذي خلفه الآباء والأجداد الصالحون ، أما إذا كان يقصد ثقافة الهيشك بشك أو ثقافة الهلس أو فن التسطيح والابتذال فهذا ليس من ثقافتنا ولا من هويتنا ، ولا ينتسب إلينا بسبب من الأسباب .

ولا ريب أن مولانا الذي في الحظيرة يحاول أن يبدو ثائرا وهو ابن حظيرة النظام الفاسد التي استمرت ربع قرن من الزمان فقد أضاف قائلا : إن صعوبة مهرجان كام السينمائي الدولي وحتى فى دورته السابقة تكمن فى هذا الحراك الثقافي والسياسي والاجتماعي وهذه الروح الثائرة الجديدة فى حياتنا وهذا الهدير المتواصل الذي نأمل من خلاله أن يستقر هذا الوطن وألا يتعارض التعبير من خلال أي شكل من أشكال التعبير المحترم سواء فى الكتابة أو التظاهر مع حرية الفن والإبداع.

وهذا الكلام على ركاكته لا يعبر عن ثورة ، ولا عن ثقافة ، ولكن يدور في دائرة السيولة والرخاوة التي صنعتها عقود الفساد المجرم التي استمرت ستين عاما . ويزيد عليها هذا الإنفاق السفيه الذي لا مبرر له .

وفي افتتاح ما يسمى مؤتمر "الدين والسياسية" الذي انعقد مؤخرا بالمجلس "الأعلى للثقافة" عبر أحدهم عن استيائه الشديد من تباطؤ إدارة المجلس فى تنظيم الندوات والفعاليات والأنشطة وإعدادها ، وهو ما أدى إلى تأخر المؤتمر " ، وتساءل : هل هذا متعمد لأن الندوة حول "الدين والسياسية"؟. وواضح أن حسن نية الرجل جعله يرجح الإهمال لارتباط المؤتمر بالدين والسياسة ، فالدين الذي هو الإسلام لا مكان له في المجلس الأعلى للثقافة ، وسبق أن قال أمينه الحالي إنه لن يسمح بتديين الأدب ولا أسلمة الفن ..

والأعجب من ذلك أن أبرز المشاركين في المؤتمر من أشد الخصوم عداء للإسلام ، وإن كانوا أكثر مودة لغيره من العقائد . لقد قال أحدهم وهو ماركسي قديم يوصف بأنه أستاذ التاريخ الإسلامي : " إننا نعيش فى حالة من الفوضى الدينية نتيجة أن التفاسير القرآنية والأحاديث النبوية ممتلئة بالإسرائيليات فيما عدا تفاسير (؟) الزمخشرى وابن الرازي ". ويبدو أن حضرته لم يسمع قط عن الجهود الإسلامية الضخمة التي بذلت في القديم والحديث والدراسات التي وضعت لمعالجة موضوع الإسرائيليات وكشفها والتحذير منها .

لم يكتف صاحبنا الماركسي القديم بما ادعاه عن الإسرائيليات ، فأضاف إليه أن العرب قديمًا كانوا يلجأون إلى يهود المدينة المنورة فى تفاسيرهم للقرآن الكريم، موضحًا أن ذلك يعد أحد أسباب حالة الفوضى الدينية التي نعيشها الآن فى مصر.

إن الرجل يشطب جهود أمة بأكملها ليفسر الفوضى الدينية – كما يسميها – التي تعيشها مصر الآن ، ولو أنه كان باحثا يربط الظواهر بأسبابها ، لعرف أن ما يسميه فوضى دينية محض هراء ، لأن اختلاف الناس في الفهم أمر طبيعي ، ولشخّص ما تعيشه الأمة الآن بأنه فقر في الحصيلة المعرفية الإسلامية لأسباب ، منها انهيار الأزهر الذي خربه المستبدون ، وفساد المناهج التعليمية التي خلت عمليا من تعليم الدين ، وتوحش الإعلام العلماني وحربه الشرسة ضد الإسلام على مدار الساعة ، وعدوان الحظيرة الثقافية الدائم على الإسلام والمسلمين .

إن المؤتمر الذي لم يضم عالما واحدا من علماء الإسلام ، واقتصر على الحظائرين ومن شابههم ،يأتي في إطار تشويه الثقافة الإسلامية وتفريغها من مضمونها ، بل يعبر في بعض جوانبه عن خلل فكري واضح في فهم الإسلام . وها هو صاحبنا يطالب المنادين بتطبيق الشريعة أن يقوموا بتطبيقها مثلما فعل العز بن عبد السلام . ومبدئيا نحن نوافقه على ذلك ، ولكن هناك سؤالا : هل لم تكن الشريعة مطبقة قبل العز بن عبد السلام ؟ ألم يكن هناك مسلمون كثر طبقوا الشريعة الإسلامية قبل العز وبعده ؟ وأين يقف هو وهو أستاذ تاريخ إسلامي من تطبيق الشريعة ؟ هل يؤمن بها حقا؟ أو إنه يكشف عن عدائه للشريعة والدين حين يزعم أن كل الدول التي مرت بالتجربة الثيوقراطية أي خلط الدين بالسياسية – كما يدعي - أثبتت تاريخيًا أن "الدين" كان "ركوبة" من أجل الوصول إلى السلطة ولتحقيق أغراض تسيء للدين ولا تحقق إلا أغراضًا بعيدة عن الدين.

والثيوقراطية – لو سمح لي الشيوعي القديم – هي حكم رجال الأكليروس وليس مجرد خلط الدين بالسياسة  . إنهم يحكمون بالدين غير الإسلامي ، ويفرضون الحرمان ويتفضلون بالغفران ، والإسلام ليس فيه أكليروس ، ولا حرمان ولا غفران. الإسلام فيه أحكام تشمل الأوامر والنواهي التي يقبلها كل مؤمن بالإسلام ومنتم إليه .

وفي النهاية تبقى الحظيرة الثقافية وما تقيمه من مهارج ومؤتمرات معادية للإسلام ورافضة له تمارس سلوكا همجيا يجب التصدي له وتصحيحه ، فالوزارة ملك للدولة أي للشعب المسلم الذي ينفق عليها ويتكفل بموازنتها . إنها متأكدة في أعماقها أن الإسلام هو ثقافة الأمة وأساس إبداعها وفنونها .. ولكن الحظائريين يصرون على الحرب ضد الإسلام مستخدمين الوسائل الملوثة وما بالك بصعلوك من صعاليك الحظيرة يرى أن علماء الإسلام هم سبب الاحتلال الصليبي وهجوم التتار الوحشي على بلاد المسلمين ؟ ثم يزعم أن ما نراه الآن من تنحية كل مفاهيم العلم الحديث. ومناهج التفكير والبحث القويم. واكتشافات واختراعات وتطوير هو رغبة  "علماء الدين والدعاة " ؟ هل سمعتم عن ذلك في مصر يا قراء ؟ .

لقد آن الأوان للتصدي للحظيرة الثقافية ، وتطهيرها من خصوم الإسلام ، وأنصار النظام المستبد الفاشي الذي سقط رأسه ولم تسقط أذرعه بعد !