خواطر من أستاذنا الطنطاوي

خواطر من أستاذنا الطنطاوي

الشيخ: علي الطنطاوي

د. محمد بن لطفي الصباغ - سورية

عرفت الأستاذ العظيم علي الطنطاوي من خلال سماعي أحاديثه في إذاعة دمشق، وخطبه في مساجد دمشق أيام الجمعة وفي المناسبات الدينية والاجتماعية، وكنت محباً لطريقته في الإلقاء.

عرفته من مقالاته البليغة الجميلة التي كان ينشرها في جريدة الأيام وغيرها من الجرائد، ومن مقالاته الرائعة التي كان ينشرها في مجلة "الرسالة" المصرية، وبلغ من إعجابي بها أنني كنت أحفظها عن ظهر قلب، وكنت أنتظر يوم الاثنين حيث كانت تصل المجلة إلى دمشق فأقرأ حينها أول ما أقرأ، مقالة الطنطاوي، وكنت آنذاك طالباً في المرحلة المتوسطة، وكذلك فقد كنت أنتظر موعد حديثه الإذاعي الذي كان بعد صلاة الجمعة، وكان هذا شأن كثير من الناس. لقد كان حديثه ومقالاته من السحر الحلال ومن الممتنع.

وأذكر أننا عندما أردنا أن نقيم خطبة الجمعة في مسجد الجامعة السورية، وكنت أحد أعضاء لجنة المسجد، طلبنا من الأستاذ الطنطاوي إن يلقي خطبة الجمعة لأول مرة فيه فوافق، وكانت الجامعة خارج المدينة. فلما علم الناس أن الخطيب الشيخ علي الطنطاوي سارعوا إلى الحضور فامتلأ المسجد بالمصلين، وكنا ندعوه إلى الخطبة في المسجد أحياناً كثيرة، وكان – رحمه الله - يستجيب.

إن الأستاذ الطنطاوي أمة وحده، خصه الله تعالى بمواهب فذة جعلت منه العالم المؤثر الذي له قبول عند جمهور الناس، والخطيب المفوه، والأديب اللامع، والكاتب الموهوب، والإعلامي المتميز، والمؤلف القدير، والأستاذ الناجح، والقاضي النزيه، والمجاهد الصادق.

كان – رحمه الله - أماراً بالمعروف، نهاءً عن المنكر، لا تأخذه في الله لومة لائم، وكان يتصدى لأعداء الله من الملحدين فيبين باطلهم، وكان يقول كلمة الحق بأسلوب مقبول، يمزج الجد بالفكاهة، ويأتي بالنكتة الأدبية المهذبة، فيفحم مخالفيه، ويستولي على أذهان مستمعيه.

وكانت الموهبة الفذة تساعده في إبلاغ الحق ونقله إلى الناس.

وليس من السهل أن تتحدث إلى الناس بأسلوب بليغ في قمة البلاغة، ويكون حديثك مع ذلك مفهوماً يفهمه الناس جميعاً ويقبلون عليه.

ومن أجل ذلك كان يحرص على استعمال العامي الفصيح، فكان يؤثر الكلمات التي يستعملها الناس في كلامهم وهي من الفصيح، يؤثرها على غيرها رغبة منه في إفهام الناس الدعوة وإبلاغهم إياها.

عاش أستاذنا ثلاثاً وتسعين سنة هجرية، فقد كان دائماً يؤرخ ولادته بالتقويم الهجري، وكان عطاؤه في هذه السنين غزيراً وافراً على أكثر من صعيد.

وكان بحق شاهد قرن كامل، فلقد أدرك التطور الهائل الذي مرت به أمتنا بعين بصيرة، وفكر مستنير نقّاد.. إن التطور الذي حصل في القرن الرابع عشر الهجري يفوق التطور الذي تعرضت له أمتنا خلال القرون الماضية.

درس الأستاذ الطنطاوي العلوم الشرعية واللغوية على كبار علماء بلده دمشق، وكان لجده في الدراسة، وذكائه النادر أثر في حصوله على الملكة الفقهية، وكان لمعرفته أحوال الناس والأوضاع الجديدة التي قامت في حياة الناس أثر كبير في عرضه مسائل الفقه بأسلوب سهل ميسر، ولم يكن متعصباً لمذهبه الحنفي كما كان شأن معظم العلماء من أساتذته وأقرانه، بل كان يأخذ بما يراه أقرب إلى الدليل.

وكان أحياناً يتوقف في المسألة، ويقول: أنا في هذه المسألة متوقف، ولا شك في أن توقفه هذا كان من الورع ومن صميم سجايا العالم.

والأستاذ الطنطاوي موسوعي المعرفة فهو فقيه، وأديب، وقاض، وعالم، ومؤلف وحقوقي، وناقد، وكاتب، وصحفي، وخطيب، ومحدث ناجح في الإذاعة والتلفاز، ومرب وداعية إلى الله.

كانت أسرة الطنطاوي أسرة علم وفضل ودين، منذ جاء جده من طنطا إلى الشام وكان من طلبة العلم، وكذلك كان أبوه الشيخ مصطفى عالماً وله شعر في مدح النبي صلى الله عليه وسلم.

وأمه من آل الخطيب وهي أسرة دمشقية عريقة، أسرة علم ودين، يرجع نسبها إلى الحسن بن علي رضي الله عنهما، ويشارك فرد من هذه الأسرة في خطبة الجمعة في مسجد بني أمية وخاله الكاتب الإسلامي الكبير والعالم والصحافي والسياسي الأستاذ محب الدين الخطيب.

تزوج أستاذنا من آل الخطيب، ورزق خمس بنات زوجهن جميعاً، وله منهن عدد كبير من الحفدة، وكان يقول لي: أنا من الصنف الأول وكان يتلو الآيتين: "لله ملك السموات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء الذكور * أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً ويجعل من يشاء عقيماً إنه عليم قدير" الشورى: 49 – 50.

عمل في التدريس في بلاد الشام والعراق والرياض ومكة، وعمل في القضاء حتى بلغ أعلى درجاته.

ورحل في البلاد الإسلامية كلها تقريباً، داعياً إلى الله ومذكراً بقضية فلسطين، واستمر في الدعوة إلى الله أكثر من سبعين عاماً من عمره المديد. يقول الحق لا يخشى فيه لومة لائم، وكان مجاهراً بالحق في كل حين وفي كل وسط يكون فيه، حضر مرة احتفالاً دعوياً أقامه شباب طيبون في مسجد من مساجد دمشق، وكان من المتكلمين شاب قال كلاماً غير صحيح في مسألة فقهية، فلم يمهله حتى ينهي كلمته بل قاطعه بأعلى صوته قائلاً: من أين جئت بهذا الكلام؟ هذا كلام باطل، فاستغفر الله! ولا تقل إلا ما تعلم صحته يقيناً.

وله تاريخ حافل في مقاومة الفرنسيين بلسانه وقلمه منذ كان طالباً في المرحلة الثانوية، وكان زعيماً للطلبة تلتف حوله القلوب وتصغي له الأسماع، وكذلك كان شأنه في انتقاد الظلمة في كل عهد، وبيان الحق لهم وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، وكان يصبر على ما يلقى بسبب ذلك من أذى أو مضايقة.

وكذلك فقد كان له تاريخ حافل في التحذير من انحرافات الفرق، والمذاهب الهدامة، ومن فتاوى الجهلة من أدعياء العلم.

وكان – تغمده الله بالرحمة - أبيّ النفس، حريصاً على كرامته أن تمس، لا يتهاون في الرد على من يحاول النيل منه إن كان من المنحرفين، مهما كان وزن المعتدي العلمي والاجتماعي، وكان الله تبارك وتعالى يؤيده وينصره بالحق.

أما مع إخوانه وتلامذته فقد كان يتسع صدره لسماع الرأي المخالف منهم ويتحمل هفواتهم، وكان يعترف بخطأ الرأي الذي يقوله إذا تبين له صواب رأي مخالفه وكان يعلن ذلك.

وقد صحبت أستاذنا سنين طويلة في دمشق، فقد كنت أحضر درسه الأسبوعي في أصول الفقه، وكان يحضره ناس كبار من أمثال الدكتور أحمد حمدي الخياط والشيخ ناصر الدين الألباني والأستاذ عبد الرحمن الباني والدكتور محمد هيثم الخياط وآخرون. وكنت أزوره في بيته وفي المحكمة حيناً بعد حين، ثم صحبته في الرياض عندما جاء إليها مدرساً في كلية اللغة العربية، فكنت ألقاه كل يوم في الكلية، ثم نسهر معاً، وقد جعلني أميره وهذا من قبيل المداعبة، فكان يقول مازحاً: يا سيدي أنت أميري.. أطيعك فيما لا أعصيك فيه، فقلت له: يا سيدي كل الناس يطيع بعضهم بعضاً هذه الطاعة!

رحم الله أستاذنا الطنطاوي رحمة واسعة وجزاه عن جهاده الدائب خير الجزاء والحمد لله رب العالمين.