العلم والتعلم بين العبرة والاعتبار

العلم والتعلم بين العبرة والاعتبار

د. ضرغام الدباغ

[email protected]

لو كنت مستشاراً للرئيس الأسد (مع استبعاد هذا الاحتمال)، وسألني رأيي قبل إلقاؤه لخطابه لأشرت عليه أن لا يتحدث كثيراً، فعدا أن الحديث قد فات أوانه ومفعوله، فالرجل بصرف النظر عن فحوى خطاباته، لا يمتلك حديثاً طلياً، لذلك لا يبعث على التفاؤل ولا على المرح رغم أنه يحاول ذلك، ولا ينطوي على المصداقية فهو يسرف في الوعود أي كان صنفها، مقابل القليل القليل من تحقيقها على أرض الواقع، وهكذا فإن الخطابات الأربع لم تمثل وزناً يذكر في السجال بين النظام والمعارضة، وإن مثلت شيئاً، فحتماً في الجانب السلبي.

فالرئيس يحصر حديثه واهتمامه بالثورة وفلسفة قمعها، وأنه حزين جداً لمقتل الآلاف، ولكنه يعد بقتل المزيد ويهدد بالويل والثبور وعظائم الأمور، ثم يصرح بعدم مسؤوليته بما يتحقق فعلاً من تهديد، وأن سوريا ستخرج أقوى، فيما هو الذي يدفعها كل يوم نحو الهاوية دفعاً، يبشر بقرب نهاية الأزمة(المؤامرة / الفتنة / الإجرام) وأنها أصبحت خلفه، بينما تشير الوقائع أنها تعد بالكثير.

يدرس طلاب الفلسفة، موضوعات المحاكاة والتقليد والتجربة والتعييث،  وهي جميعها من أساليب التعلم، كما يتعلمون أساليب التعليم، فهناك من يقرأ كتاباً فيتعلم، وآخر يشاهد ما جرى لصاحبه، فيتعظ، وهناك ثمة من يصر على أن يدفع ثمن تجربته بنفسه نقداً، ولكنه يتعلم على أية حال. ولكن المصيبة هي إذا لم تفد كل هذه الدروس النظرية والتجارب العملية في تكوين إدراكات، وبالتالي لتشكل الوعي والمفاهيم، ولهذا يقال في مناسبات شتى، عن قائد ما، أنه رجل محنك ذو تجربة، والمقصود هنا أنه لا يعتمد كلياً على ما يقال له، أو أن لا يبتهج كثيراً عندما يسمع تصفيق بائس مثير للشفقة والاشمئزاز مدفوع ثمنه سلفاً، بل ينبغي أن تكون للقائد خبرته في الحياة السياسية والعملية، وكيف أن عليه ليس الاختيار بين الحلو والمر، فذلك سهل قد يدركه ويفعله حتى الصغير الغر، بل عندما تلعب الخبرة والحكمة دورها في اختيار أهون الشرين، بين المر والأكثر مرارة، وأن يعلم أن التراجع قد يكون مكسباً، والتقدم يعد في بعض الحالات تهوراً واستعجالاً للهاوية.

في مطلق الأحوال، لست أقصد هنا في الحديث عن الرئيس وكأنه كينونة شخصية، بل أتحدث عنه كشخصية اعتبارية تمثل في لحظة تاريخية ما شأناً له تأثيره المباشر على أحداث جسيمة، ربما من بينها مصير بلد وشعب بأسره. وقد لا يكون ذنب قائد أو رئيس ما أنه مبتلى بعقد، أو بموانع التفكير والقرار الحر(كضغوط معينة)، ولكن المسكين هو البلد والشعب الذي يكون مصيره معلقاً بأصابع شخص واحد، فتدفع الآلاف حياتها ثمناً لسعة أفكاره أو لضيقها، وهنا لابد من القول أن أقطارنا الصابرة تعيش في قرن وعصر هو غير عصرنا هذا.

 الأمر يبدو على نحو ما كنكتة في أوربا أن تقمع سلطة ما الشعب بالدبابات والمدفعية والقوات الخاصة، ناهيك عن الشبيحة، (أعترف أن ثقافتي لم تسعفني في مغزى هذه  التسمية)، ويحتار المساكين الأوربيون في ترجمة هذه المصطلحات الجهنمية، فيكتبوها في صحافتهم كما هي (Al Schabiha-Milizen)، دون أن يفهموا ما تعني عدا كونها عصابات حكومية، كما يحارون في فهم أشياء كثيرة، فيعزوها إلى الشرق الزاخر المسحور بالجن والشياطين والخرافات الجميلة، وإلى الطوطمية(Totemism) والفتشية (Ftishism)، وعبادة الأفراد في السياسة كما في غيرها وهي شائعة في بلادنا، مع مفارقة: أن شعوبنا دعت إلى التوحيد قبل غيرها من أمم الأرض، ولكن ما زال للوثنية بقايا، كما تروج في بلادنا مصطلحات أخرى عف عليها الزمان، فلم تعد تستخدم إلا في هذا القسم من العالم، عشعشت في أقطارنا بما يشبه الأمراض الخبيثة.

لماذا يصر الناس على عدم التعلم أو الاستفادة من تجارب غيرهم وتجاربهم، في ذلك سر إنساني لا علاقة له بالحسابات الرياضية والعقلانية، في ضرب من التذاكي واللعب بالوقت، وإن فعلوا ذلك وأعادوا النظر، فيفعلون ذلك متأخرين حيث يكون لا فائدة ترجى منه  ؟ ما الفائدة من الاستفادة من التجربة بعد أن يكون المراد علاجه جثة هامدة وقد استوطنت فيها كل الأمراض السارية والمعدية، وما الفائدة أن تحكم بلاداً لا تريدك، ولا تقتنع بك، بل وأن تعالج تلك الإشكالية بقتل الناس بالآلاف لتعمق عدم القبول بك ..؟

ومن نافلة الكلام القول، أن حصيلة المسيرات الفتشية والطوطمية في السياسة عندنا كما عند غيرنا، لا تنطوي في نتائجها النهائية سوى على احتمال واحد، وهو العودة للمربع الأول عندما تصبح كافة المنجزات موضع تساؤل ونقاش يبدأ هادئاً ثم ينتهي ساخناً، فيتناول التغير المنشود ثوابت منها  الوطن والنشيد الوطني، وربما حتى أسم البلاد، ولكن ترى لماذا كل هذا العبث واللعب بمصير البلاد كلعبة يمارس فيها من في أعلى السلطة(وغالباً هو شخص واحد) فنون اللعب وقوة الإرادة والشكيمة، والقدرة على فعل الأهوال، وتأثيرات علاقاته الشخصية والفئوية والحزبية، ولكن مع تجاهل تام لمصير البلاد التي تتآكل أمام عينيه، فيما يعتقد السيد الرئيس أن هذا صموداً ......!

كل من يراقب الشؤون السورية يرى بأم عينيه أن البلاد ماضية لكارثة، وأن تظاهرة لبضع مئات من الأشخاص(لا نريد الخوض في هوياتهم) لن تعيد الدفء لعلاقة انتهت بل تذروها الرياح، فلن تعيدها أنشودة قومية من الأيام الخوالي، أو استفاقة مشكوك في صحتها على الوعي القومي، فالنظام وليس غيره من ألحق البلاد بدولة أجنبية معادية للعروبة لحد النخاع، ألحقها بدرجة أفقدته شخصيته، وهذا ما لم يفعله حتى رجل كنوري السعيد الذي أشترط قبل الدخول في حلف بغداد أن لا ينطوي الحلف في أي من نشاطاته معاداة دولة عربية، فماذا ينفع نشيد قومي حيال حقائق كهذه ......؟

الحاكم الأوحد لا يريد أن يستوعب حقيقة تاريخية مهمة، أنه مهما فعل ومهما ارتدى من ثياب، أن مرحلة الحكام الأوحدين قد مضت بلا رجعة، ولن ينفع حتى لو استفاق من قبورهم قادة عظام أحبتهم شعوبهم، كجمال عبد الناصر وتيتو وماوتسي تونغ وكانوا مطيعين لهم اقتناعاً بنزاهتهم، فالأمر على الأرجح لا يتعلق باسم شخص، بل أن ذاك زمان مضى دون رجعة في إطار تطور نظم السياسة والحكم، اليوم تريد الشعوب أن تتأكد بدقة تفصيلية ماذا يحدث، ولماذا نراوح في أماكننا أو نسير بخطى بطيئة يحسدنا عليها السلحفاة ....؟ أين ذهبت مليارات الشعب السوري الغلبان ..؟ لماذا يعجز نظام عن استعادة أراض وطنية محتلة، بل يرهنها برسم الألعاب والمناورات السياسية، وفوق ذلك يفخر بعجزه ويطلق عليها في تلاعب على الألفاظ والمعاني ممانعة ...؟ ففي ألمانيا مثلاً، يضع الشعب و الصحافة رئيس الجمهورية تحت المطرقة والسندان تنهال عليه بلا رحمة بدعوى أنه لم يعط بيانات كافية بصدد قرض أخذه من بنك وهو يدفع أقساط المبلغ بانتظام منذ سنوات...! وأنه رد بطريقة غير لائقة على رئيس تحرير صحيفة، ولم ينفع اعتذار خطي قدمه، المطلوب هو استقالته من منصبة.

لماذا يموت الألآف من البشر بسبب المطالبة بتغير رئيس ..؟ من يملك حق إطلاق النار على مواطنين ينشدون الإصلاحات ويريدون تغير الحاكم ..؟ أليس هذا شأناً عادياً يحدث كل يوم في دول البشر، يتغير فيها الحاكم حتى لهفوة بسيطة ..! والرئيس السوري قد أعترف بنفسه أن نظامه قد أرتكب أخطاء كثيرة بعضها جسيمة بحق الشعب، وأصغر تلك الأخطاء تضعه في قفص الاتهام حتى في دولة نامية كبوركينا فاسو. النظام في سوريا يدفع الشعب دفعاً لاستخدام السلاح للدفاع عن نفسه حيال سلطة تخالف القانون والدستور، النظام لا يعامل الشعب  كبشر محترمين، فأين الدهشة في ردة الفعل ..؟ وأين العيب في أن تنتصر إرادة الشعب ..؟

يوماً فيوم تضيق دائرة الحلول العقلانية، ويستمر شلال الدم، واهم من يعتقد أن بمقدوره إعادة التاريخ إلى الوراء، واهم من يتصور أن مسكنات تسكت الناس، هدير شلال الدماء سيمفونية سوف لن تنتهي إلا بانتصار الشعب.