رواية "عصر واوا" للروائي "فؤاد قنديل" 4

رواية "عصر واوا" للروائي "فؤاد قنديل" :

إستشراف الهدير .. في ميدان التحرير (4)

د. حسين سرمك حسن

عَوْدة :

...

ومع مجيء سيدوري / سلوى من المطبخ ، تحمل الثمار اللذيذة على صحن الجسد المورّد ، تنطلق من فم شريف شرارة تحرّشية يسّر انفلاتها استرخاء عين الأنا الأعلى المُراقبة في حركة مقايضة مع كرم الإرادة الإلهية ، هذه العين الراصدة المُعاقبة التي تستطيب الرشى النرجسية والتصافق الذي يسوّي بين مصالح الجهات النفسية الثلاث : الهو والأنا والأنا الأعلى :

(رآها تطلع عليه من داخل الثوب الوردي الفضفاض نهماً مُجتاحاً فتذكّر دعاءه : يا ربّ مادمتَ قد قضيت عليّ بأن لا أنجب ، فلا تحرمني من الشهوة أبداً ، ومُرْ عصبي دائماً بالإستجابة كما أمرته ... وكان قد أتاها في فترة حيض ، وإذا به يتعطّل بعدها شهرين ، لو أُدخل جهنم لما عانى من العذاب قدر ما عانى .. يا ربّ ما دمتَ قد .. وسرعان ما انتشر ونهض ، فتلقاها بين أحضانه .. وقبّلها قبلة ناعمة ومُدلّلة ، لكنها امتدت أكثر مما ينبغي ، ودنا الجسدان في اتجاه التوحّد ، وشرعا يرحلان إلى عالم آخر . تعالت الموسيقى المتئدة وتوتّرت) (ص 47) . 

ومع تعالي الموسيقى كجسد أنثويّ يتلوى يقوم فؤاد بـ "تجنيس" الموسيقى و "موسقة" الجسد ، يوحّدهما : إيقاع الموسيقى وإيقاع الجسد في تناغم حرّ ساخن متصاعد وصولاً إلى الذروة الجسديّة الحسّية النهائية الغامرة ، وتتكفّل الكلمات المحوّمة وطاقاتها الإيحائية المشحونة بإفهام المتلقّي بما يجري ، وعليه أن يتصوّره بحرّية عبر غلالة الموسيقى أو يستقبل موجاته المُكهربة النافذة ، يستقبلها "فرديّاً" من دون أي تأثير خارجي جمعي أو مادي مهما كان .. يغوص معه في لحم الإحساس .. في روحه المرتجف .. في خفقات الوجدان .. مع النغمات الهلامية الغير محدّدة التي صارت لحماً متعرّقاً نازفاً ملتهباً .. والعكس حيث أصبح اللحم البشري المُرتجف نغماً يرجّع ذاته و " يشبّقها " .. فيشهق الجسد والنغم نحو الله ليتصالح معه ويقرّ ويسجد .. دعونا نقرأ ما سطّره فؤاد قنديل وهو يصف ممارسة بطليه " الجنسموسيقية " الباهرة :

(ألقى بالفلسفة بعيداً حين صرخ النغم فجأة ، وارتجفت الأوتار من هول الأعصاب المحمومة وتأوّهت من عنف الإيقاع ... لو كان لها الآن أن تتمنى لتمنتْ أن يُؤجّل موتها لحظات حتى تكمل اللحن الخالد .. أيّ سرٍّ في هذا اللحن الأثير ؟!

تحوّلت الحجرة السابحة في الأسرار والدفء إلى تفّاحة كبيرة تأكلها آلاف الشفاه .. اللعنة لو لم يكن لهذا اللحن الرائع نهاية ، ولم يكن منه شبع ، لا شكّ أن الذي وضع هذا الكونشرتو كان يبغي أن يُجنّ العالم بفنّه ، وأن يأسرهم بحكمته وجبروته العبقري .

وفي الحركة الأخيرة انشال المايسترو وانحط ، وتوتر اللحن المحموم ، وأسرع يدور حول نفسه بعنف ويوشك أن يحطّم الأوتار الملهمة .. ثم علا وعلا .. وواجه أقصى قمم اللذة التي صدمته بلا رحمة ، فاندفع نحو الأرض بقسوة إلى أن أرتطم بها وسكن ، وتفجّر البهاء على الملامح المنهمكة واستسلم العالم لغيبوبة الرضا والسعادة ..

بعد لحظات اقترب نحوها ورآها متألقة في الضوء الوردي المتواري .. كان في جسده .. وهي في جسد آخر ..

العبنان في العينين والشفاه مُنهكة ... دنتْ الأصابع من الأصابع وتشبثت بها ... هذا فقط ما يُستطاع والساعة الآن الثالثة حبّاً بتوقيت حجرة النوم في شقّة شريف أبو العلا موسى ، وعلى المقيمين خارجها أن يضبطوا أزمانهم عليها إذا استطاعوا ) (ص 48 و49) .

الآن ، أدّى المايسترو العظيم دوره في قيادة "عمليّة" الخلق الكونيّة المصغّرة .. عزفَ كونشيرتو قصّة الخليقة الذي نفّذه شريف وسلوى ببراعة ، ونقله لنا فؤاد قنديل عبر الكلمات التي صارت  لحماً مختلجاً وموسيقى .. هبط الإلهان الصغيران إلى الأرض .. وحان موعد "المسرّات الصغيرة" .. تبادل هدايا عيد الزواج .. قدّم لها خاتماً كانت قد حلمت بشرائه منذ عام وظلّ ينتظر المدد إلى أن جاءه أستاذ قبل اسبوعين ليخبره بأنهم كسبوا قضية الحوافز المُستحقة لهم منذ أربع سنوات بواقع جنيه واحد و85 قرشاً في الشهر .. وأهدته روباً غريباً من قماش غريب صنعته بأناملها الحاذقة من ريش الديوك !! :

(خطرت لي الفكرة بعد عيد زواجنا الماضي مباشرة .. أي منذ عام . جمعتُ ريش الديوك التي أربّيها لمدّة ستة اشهر ، ثم بدأتُ في صنعه .. نسجته من خيوط الريش الرفيعة بعد أن نزعتُ من الريشة عصبها الأوسط !!) (ص 50) 

ارتدى الثوب الغريب .. انتفخت نرجسيته وطافت به مشاعر إله صغير متلمّظ .. مشاعر أرادتها له الحبيبة من كلّ قلبها .. تخفّف قليلاً عن صلاته الأرضية في حضرة حبيبته وكانت مسحورة به كالعبّأد الراضخين بقناعة .. أحسّ أنه يريد أن يصيح ويوقظ الفجر .. وهنا ، وكما هو الحال في ايّ حركة بشرية تتململ فيها حفزات اللاشعور الإنساني نحو الألوهة الضائعة التي يستميت في سبيل استعادتها :

(هاجمه العدو اللدود الذي تعوّد أن يتربص بلحظات هناءته .. وفكّر في سعادتها الناقصة .. وسرعان ما قاوم الإستدراج نحو الإعتراض من جديد على حكمة الله قائلاً يكفي أننا نُقبل على نزواتنا بلا مخاوف ، وهناك أناس يدفعون ثمنها غالياً .. وتمضي بهم رحلة الحياة ولا همّ لهم إلّا ملء البطون ) (ص 51) ..

ولكي يدق فؤاد جرس الختام بعد أن تلاعب – طويلاً - ببطليه وبنا – وهذه من عطايا الإبداع في توفير الرهاوة والسيطرة الموصلة لمشاعر الألوهة – يعيدنا إلى الأرض بصورة نهائية .. إلى أرض شقة شريف الصلبة لتذهب سكرة العشق الخالق ، وتأتي فكرة المعي النهم ، يحترق اللبن فتهرع سلوى إلى المطبخ عريانة تماماً . وحتى هنا لا ينسى فؤاد ترافة الفن وطرافته فيصف مؤخرة سلوى الكبيرة بالمشمشة :

(غمرته فجأة رائحة غريبة ... تشمّم الهواء متوجّساً .. صرخت سلوى :

-اللبن ..

أسرعت عريانة تجري في الشقّة كجنّية خرجت من البحر والمشمشة الكبيرة خلفها تترجرج) (ص 51) .

(6) 

يخرج الأستاذ "عبد الرحمن شمعة" من السجن بعد أن ثبتت براءته من تهمة المشاركة ضمن جماعات دينية لقلب نظام الحكم . رآه شريف مهزولاً شاحباً كأنّه لم يأكل منذ عام . كان شمعة كتلة ناقمة على كل شيء في البلاد ، لا يملّ من إدانة الناس ، لكنّه الآن – وبعد تجربة  السجن المريرة – صار بركاناً هادراً بالنقمة والغضب بالرغم من هدوئه وخفوت صوته . كان شريف يندهش - ليس لكثرة الآيات القرآنية والأحاديث النبويّة التي يستحضرها شمعة لتبرير نقمته على كل شيء حسب - ولكن لتوفّر آية أو حديث لكل حادث مهما كان بسيطاً أو حتى حديثاً من منتجات عصر التكنولوجيا (ص 53) .

كان شريف – كما رأينا – "منطقي" يرفض التعميمات والتبريرات والإدانات الشاملة . فهو يرى أن الناس – بخلاف ما يراه شمعة – هم في الغالب طيّبون إلّأ قلّة قليلة ، وهذه القلّة لا تقصد الخطأ أو الإساءة . في حين كان عبد الرحمن يرى غير ذلك ، ويعلن بحماسة أنّ القضية أكبر :

(لقد عبث الساسة بالتكوين الأصيل للإنسان المصري ، شوّهوا معدنه ، ودفعوا بالناس إلى طرق غريبة لن توصلهم إلى الأمان أبداً ، والمشكلة الأنكى أن أجهزة الإعلام وخاصّة الصحافة تروّج لكل أقوال الساسة وأفعالهم وتبتكر من التحليلات العبقرية ما يبرّر للناس صواب كلّ ما يدعو إليه الساسة) (ص 53) .

ولا أعلم كيف يمكن أن يكون الناقد موضوعياً مصنوع الوجدان من الحديد الخالص غير القابل للطرق ، لكي يحقّق أطروحة البنيويين في "الناقد الموضوعي" المُحايد الذي ينقل ويحلل ويفسّر ولا ينحاز إلى طرف . هذا ناقد نباتي في الحقيقة . أمّا الناقد "الإنساني" الذي يستعر لحم قلبه ويتمزّق منفعلاً بالآلام والعذابات الجسيمة التي ترزح تحت مطارقها الشخصيات التي يرسم المبدع حالها المُحزن المدمّر ، فلا يستطيع أن يكون موضوعيّاً .. ولابدّ أن ينفعل وينحاز ويؤلّب قرّاءه الذين ينتظرون منه موقفاً بدورهم . وإلّا قلْ لي كيف يستطيع الناقد نقل إصرار شريف على أنّ التجربة الديمقراطية في البلاد إيجابيّة ولا تخدم السلطة .. وأن انهيار أوضاع البلاد هو جزء من أزمة عالمية .. وكيف لا يؤيّد الناقد ما يقوله عبد الرحمن شمعة بالرغم من معارضته لنقمته التي بلا حدود حين يفسّر اللعبة الديمقراطية الكريهة بالسماح لصحف المعارضة بالنشاط :

(يبدو أنّك لا تدرك أن الغرض الحقيقي من وراء التصريح لصحف المعارضة بالنقد ليس إلّا للثرثرة فقط والتنفيس .. أي تفريغ الشحنة ..

- لكنها وسيلة كشف

- هذا إذا كان أحد من المسؤولين يريد أن يكشف شيئاً ... هو مرتاح في موقعه وراضٍ عن كل ما يجري حوله ... إنّه مناخ كامل كوّنته طبقة سميكة من السعداء المتكاتفين .. بصرف النظر عن الخطب .. أنتَ نائم في العسل) (ص 54) ..

وشريف فعليّاً ، ومن خلال ما يعكسه سلوكه "المتفائل" أبداً ، من النائمين في العسل وسط جحيم الخراب .. ويحتاج إلى من يوقظه . هذه كانت قناعة شمعة ، وهي – كما تشير القرائن وكما ستبيّن الوقائع المقبلة – قناعة الروائي الذي صمّم شخصيّته . ولعلّ شمعة كان من عوامل ذلك الإيقاظ الأوّليّة البسيطة لكن المهمّة ، فقد حرّكت حماسة الأخير وغضبته العارمة وتجربة سجنه وإعلانه عن أن العدّ التنازلي لانهيار الأمّة وضياعها قد اقترب ، وأنّ هذا أمرٌ لا يجوز السكوت عنه ، استجابة أوّلية في نفس شريف حين سأل شمعة بصورة مفاجئة :

- هل أنتَ ممّن يسعون لتشكيل حكومة دينية ؟

وكانت استجابة غريبة لأنها خارج سياقات حياة شريف وانشغالاته " البيتيّة " .. حتى شمعة نفسه اندهش لذلك السؤال لأنّ معناه أن شريف يريد أن "يقترب" ، هو الذي كان ديدنه أن "يبتعد" . أمّا الإستجابة الأوّلية الثانية التي أثارتها تجربة شمعة فهي أيضاً سؤال شريف المفاجيء له :

- هل آذوك في السجن ؟

 وقبل أن يجيب شمعة على هذا السؤال أعدّ الروائي " المكان " لتعزيز الفعل النفسي للإجابة :

(تطلّع شمعة أمامه ، وتأمّل الطريق الطويل الذي يمتد بلا نهاية ، تحوطه العمارات الشاهقة كالحرّاس العمالقة) (ص 56)

وكأنّ الروائي "يحذف" الكثير من الجمل المقبلة التي سيصف بها شمعة سجن "الداخل" من خلال وصف سجن "الخارج" الذي يخنق البلاد ويكتم أنفاس العباد . ردّ شمعة :

(- لن يضيرني أن أقضي عمري كلّه بالسجن .. ولعلمك نحن لا نحسّ به ، ولكن يضيرنا أن يعيش الناس في سجن)

ولأن شريف قد بدأ يتململ في "العسل" ، وتخرق وخزات "شمعة" جلد ضميره المستريح ، فقد ثارت في ذهنه تساؤلات مضاعفة حول جملة شمعة :

(- لعلمك نحن لا نحسّ بالسجن ! )

وراح في توسّع لدائرة الإنفعال والتأثّر والمشاركة يتصوّر نفسه داخل السجن في زنزانة حقيرة صغيرة تجمعه مع عشرة ، يأكلون الخبز الجاف ويتبوّلون في دلو ، ويشربون من آخر ، تتنقل بينهم الحشرات ، يتبادلون الأفكار السود ، وتُوزّع عليهم سخافات السجّانين من السبّ إلى الضرب .. طابور طويل يفضي إلى هدفٍ واحد هو محو الآدميّة) (ص 57)

راح شريف "يتدرب" عبر مخياله على عذابات السجن حيث القلق على الأهل سرطان يأكل المخ ، والساعات طويلة مملة ، والنهارات بلا قلوب تسلمهم لليالٍ بلا نجوم .. وهذا التدريب – وهذا من نتائج التواصل الإنساني العظيمة – يقوم بـ "ترقيق" دفاعات الشخص النائم في العسل ، ويعمل على استنهاضه ولو بجرع بسيطة قد تفضي إلى يقظة أكثر عزماً عن طريق التراكم . وقد دُمّر هذا المنفذ التواصلي العظيم بصورة محسوبة لصالح الإنترنت والفضائيات .

وليس من الممكن أن يتفاءل أي قاريء مُراقب بنجاح مثل هذا الفعل التراكمي البطيء في التأثير في شخصيّة شريف وتغيير سلوكه القائم على التفاؤل حتى والعالم على وشك الإنفجار كما قال له شمعة ، وكما ثنّى هو على هذا القول بالقول وهو يتنفس بعمق :

(- أجمل ما في الحياة حسنُ الظنّ بالأيام) (ص 57)

ولكي يؤكّد لنا الروائي أنّ شريف لن يقنع أبداً بأن "هناك من يتربّص بأيامه" كما قال له شمعة ، وأنّ طريقة التحفيز التدريجي هذه لن تُفلح مع شريف ، وأنّه سيبقى طافياً على سطح غيمة من عسل ، فقد جعله يودّع شمعة بحرارة ، ويُهرع إلى سطح بيته حيث الدجاج والبطّ والحمام والأرانب .. وحيث يوغل الكاتب في عرض مستوى الطمأنينة الإجتماعية المُغيّبة ومسالمة الراهن الفاجع من خلال انهمام شريف في اكتشافاته : الطيور بلا اسنان ، تلتقط الحب وتبتلعه ويبقى في حواصلها ، الضغط على رقبة البطّة بالعصا يكشف حبّات الذرة المكوّمة أسفل رقبتها .. وعلى هذه المكتشفات البسيطة تتجلى له عظمة الخالق :

(اقشعر جسده من قدرة الخالق ، وأحسّ بضآلة الإنسان الذي يعتبر نفسه السلطان الأوحد) (ص 59) .

وهذه السلامة النفسية المسبوكة التي لا تخدشها أشدّ الأهوال تعود إلى بنية الشخصية من وجهة نظري .. وإلى سطح اللاشعور الهاديء المُتصالح مع شعور الفرد . أمّا أولئك – مثل عبد الرحمن شمعة - الذين يحلفون بأن العالم سيبلغ نهايته الوشيكة ، وأنّ الدنيا ستنقلب ، والكون سيتفجّر ، فهم يُسقطون هذه الرؤى من الجحيم المستعر في لاشعورهم وصراعاته البركانية الناقمة على العالم المُحيط بهم والذي يُقدّم لهم المادة البنائية للمشاهد بفوضاه وظلماته وتفجّراته . ومثل هذه الشخصيات – شخصية شريف – لا "تصحو" من سرير العسل وتنهض منه بسهولة .. تحتاج – في العادة – إلى تجربة مدوّية مرعبة ومزلزلة تدمّر لا سرير العسل حسب ، بل وجود الفرد الغافي عليه بأكمله .. وهذا ما أعدّه له فؤاد قنديل .

(7)

يستهل فؤاد قنديل الفصل السابع من روايته ببداية لا صلة لها – في الظاهر - بكل مضامين الفصول السابقة وخصوصاً الفصل السابق – السادس – حيث عوّدنا الكاتب على أن تمتد  الوشائج بين حلقة كل فصل والفصل الذي يليه ، يستهله بوصف حركة سيّارة تخفض سرعتها تدريجيا ، وتقف في منتصف طريق يكفي وصف وحشته وظلامه وعزلته ليجعل فأر التوجّس يلعب في العبّ الإدراكي للقاريء ، فهو طريق خالٍ مظلم ، صامت موحش ، يرتفع فجأة فتقع من جانبيه الوديان السحيقة ، وينخفض فجأة فيختفي بين تلال متجهّمة (ص 61) ..

قدم السائق عذراً لعطل السيّارة لا علاج له سوى أن توافق الشابة – التي أخفى عنّا الروائي اسمها وغيّب هويّتها عامداً – على أن تنتظر إصلاحه وهي في السيارة من قبل الكهربائي الذي لا يبعد أكثر من خمسين مترا في الجهة المجاورة .. عرض السائق مقترحه بصورة حرّة تاركاً لها الإختيار ، لكن أين تذهب ؟ ومن سيقف لها في هذه الأرض المنعزلة والشارع مخيف ؟

دفع السيارة بيديه وترك الطريق المعبّد وهبط في طريق ترابي مسافة مئة متر تقريباً ، وأوقفها أمام مبنى مظلم .. تركها واختفى لدقيقتين وعاد ليخبرها بأنه أيقظ الكهربائي من النوم ، ويرجوها أن تنزل لأن "العدّة" تحت الكرسي الذي تجلس عليه .. ما إن نزلت حتى انقضّ عليها ليغتصبها .. لم يكن إنساناً .. بل حيواناً .. فشلت كل محاولاتها .. صرخت .. خمشته .. عضّته .. أوهمته بأن زوجها ضابط .. عفّرت وجهه بالتراب .. دسّت التراب في عينيه وفي فمه .. أمسكته من اذنيه .. أكلت وجهه أكلاً .. نهشت لحمه .. رفسته .. لكن لم يفلح معه كلّ شيء :

(لم يطل الوقت حتى أصبح فخذاها منفصلين ، سرعان ما دخل بينهما (...) كان الأمر قد انتهى ، وانطلق السهم الذي لا يمكن أن يعود إلى موضعه) (ص63) .

مزّقها هذا الوحش ، ثم قاد سيارته ، مبتعداً ، وتركها ، منهارة محطّمة ، على قارعة الطريق .

وإلى هنا ، وحتى قبيل نهاية فصل الكارثة هذا ، لم يفصح الروائي عن اسم الضحيّة .. إلى أن يجعلها تقول وهي تبحث عن حلّ لمصيبتها :

(أسهل الحلول أن أموت قبل أن تحفر أظافر الفضيحة في صدور أهلي وزوجي شريف .. مستحيل أن تمسّ ثوبه ذرّة من ترابي .. لابدّ أن أموت) (ص 64)

إنّها سلوى .. وإنّها لمفاجأة كبرى صامة لنا لأن الروائي قد هدهد توقّعاتنا نحو سلوى في ختام الفصل السابق حين جعلها تتصل بشريف لتخبره بأنها ذاهبة إلى أختها "صحراء" الموشكة على الولادة ، وحين جعل شريف يأكل برتقالة من مخلفات الإحتفال السنوي بعِيد ركوبه السرير في الليلة الحمراء الفائتة . 

نعم إنّ الضحية الملقاة الآن على قارعة الطريق هي سلوى .. سلوى شريف !! سلوى صديقة البطّ الأصفر والحمام الأبيض والأرانب القطنية .. وشريف المتفائل الذي يرى أنّ (أجمل ما في الحياة هو حسن الظنّ بالأيام) فرتّب له السرد هذه النهاية الفاجعة .

(8)

فصل الإنتظار والقلق .. حيث شريف يتقلّب على جمر التوقّعات المفتوحة تحاصره عشرات الأسئلة عن مصير زوجته .. نحن نعلم بما حصل لها وهو لا يعلم ، ونتلذّذ بعدم معرفته .. رهاوة وتحكّم .. وهواجس قدرة كلّية على الورق وفي فضاءات التخييل .. فيا لخطورة هذا الإبداع والتخييل .. وضرورتهما لصحّتنا النفسية وسط مشاعر العجز والإهمال التي تحاصرنا من كل حدب وصوب ..

ودائماً تأتي "حركات" الروائي – المقتدر وليس أي روائي – متسقة ومشحونة بالقصديّة العالية ، فمع نزول شريف بالروب – هل هو روب الديكة أم روبه القديم ؟! – إلى الشارع يوقظ الكاتب غرائز العدوان في كل شيء ، ليعدّ شريف لاستقبال الشدّة الفاجعة المقبلة ، فالمعارك تدور بين القطط بلا رحمة .. في لمحة عين تتحوّل القطط من جنس إلى جنس إذا ظهر الطعام ، وتدخّلت المعدة لتحكم العالم الذي تهبط عليه الظلمة والقمامة ... الكلاب تعدو في إثر بعضها وتعبث بودّ دون مبالاة بأحد ، وقد أحسّت بأنها تمتلك الليل .. الكلاب ملوك الليل .. وهناك كلب امتلك هذه الليلة واستفرد بسلوى وعبث بها بلا هوادة .. صار ينظر إلى السماء يسألها عن سلواه الغائبة ! وها هي تطرق باب الشقّة بعنف لتدخل كائناً ممزّقاً تشوّه وجهه برك الدموع والوحل ..

هل سينفع شريف تفاؤله ؟

هل سينقذه حسن ظنّه بالأيام ؟

(من الذي سيعيد إليه شرفه ؟

هل الله نفسه يستطيع ؟ ) (ص 69)

هذا الإنسان الذي لم يكن يمشي على الرصيف بل تحته كما يقول .. وليس بجوار الحائط بل في الحائط نفسه ، امتدت إليه مخالب الخراب العامة التي تلتهم البلاد ، والفساد الذي يدمّر نفوس العباد :

(لقد طبع الكلاب بصمات الدنس على كل مليمتر من حياته) (ص 70) .

الآن ، بلغ توتّرنا النفسي الحناجر ، ووصلت الحبكة الروائية ذروتها القصوى التي لن يحافظ الكاتب على مستواها إلّا بحدثٍ أكثر هولاً وتمزيقاً ، وهذا صعب الحصول لأن الحياة فيها وقائع محدودة تتصف بسمات الشدائد الفاجعة مثل الإغتصاب . ولهذا كنتُ أتمنى أن يختم فؤاد هذا الفصل عند نهاية المقطع الذي يحاول فيه شريف الإفلات من دوّأمة الكارثة الرهيبة فلا يجد ملاذا ، وتتسفّه من حوله كل الرموز التي استبطنها وتتساقط حيث تقف عاجزة .. ومجرد صور .. صور :

(حانت منه التفاتة ، وهو يجلس على أحد كراسي السفرة إلى صورتها وهي تبتسم وعلى صدرها البط الصغير الأصفر ، وفي الجانب الآخر صورة عبد الناصر يضع رأسه بين كفيه مفكّراً في الحركة التالية، وقد اشتعل فؤاده من حرارة الموقف الصعب) (ص 70) .

وحتى الجملة الأخيرة : (وقد اشتعل فؤاده من حرارة الموقف الصعب) يمكن التخلّي عنها لصالح عملية "الإغلاق" .. إغلاق حدث الشدّة الفاجع كي ينطوي على ذاته مكتفياً بذاته السوداء ، لأن أي إضافات خارجية – مهما كانت – ستبغي الحلول ، وهنا ستضعف طعناته الساحقة . وهذا ما حصل عندما استنجد شريف بالنقيب سليمان الملط ، وعاد به وهو شبه نائم يُطلق النكات والتحليلات على السلالم .