محبرة الخليقة (15)

تحليل ديوان "المحبرة"

للمبدع الكبير "جوزف حرب"

د. حسين سرمك حسن

ملاحظة : حلقات من كتاب للكاتب سوف يصدر عن دار ضفاف (الشارقة/بغداد) قريباً . 

وهكذا في حركةِ تناوب محيّر ومؤلم يعبّر عن القلق وهيمان الرغبات المكبوتة الدفينة تأتي استجابات الشاعر متناقضة في صعود وهبوط ، وفي إقبال وإدبار ، وتقديس وتدنيس ، وسطوة وانكسار ، يحكم طاقتها الصراعية قوّة وضغط شحنتي التضاد العاطفي . فبعد هذه الفورة الأوديبية تنكسر الموجة النرجسية الجامحة ليعود لائذا من سهام الفناء بأذيال قوة الأم / الأرض ، الربّة المطلقة ، معترفاً بأنه جنينها وخبز معجزتها ، لكن يبدو – وكأن الأمر عبارة عن توازنات طاقة فيزيائية – أن اضمحلال طاقة الشحنة السلبية ، يؤجج طاقة الشحنة الإيجابية لتنهض موجتها الجامحة وتتسيّد ، وتدفع الشاعر إلى أن يدعو أمّه الأرض من جديد ، لتأتي وترتّب له عريَ جسدها ، فهي امرأته التي سترتب له بيته ، بيت شيح الغابات المفتوح على المطر . ولكن يبدو أنه قد أحس هذه المرّة أن لا مفرّ .. وأن الرحيل إلى الدرب الذي لا عودة منه كما يسمّيه السومريون محتوم ، ولا بدّ من الإستجابة لندائه الفاجع مهما كانت درجة رفضنا وخوفنا . فيقرّر الرحيل بكرامة ، وحتى في هذا الرحيل هو بحاجة سافرة لعون أمّه / الأرض الكريمة الحنون ، ستصمّم له رحيل إله إبنٍ مخلوع إذا ساغ الوصف ، تحفّ به الشموع في درب السواد الذي لا ذكريات فيه ولا أبواب .. ولا عودة :

(......... تعاليْ

         رتّبي سفري .

          تعالي ،

          وافتحي أرجوحتي وغناءكِ البحريّ .

ها قدْ شعّ قنديلُ الغروبِ

          فرتبي نومي .

              وإنّكِ ربّتي ، وأنا المحمّلُ بالشموعِ ،

                                      فرتّبي روحي .

              ويا

              أرضُ ، اغمريني للصباحِ ، فإنّ صوتاً

              من بعيدٍ بي يناديني :

              لقد

              هبّتْ

              رياحُ

                      الراحلينَ ،

              وإنّكَ مبحرٌ معنا لأسودنا الذي

لا ذكرياتَ بهِ ، ولا ابوابَ فيهِ ،

              ولا حنينَ ،

              ولسنا من هناكَ

              بعائدينْ . – ص 103 و104 ) .

ولكن هل تنتهي حكاية الإبن والأرض / الأم عند هذا الحدّ من التسليم السلبي بنداء الرحيل النهائي ، والإستجابة المذعنة له بلا حول ولا قوّة ؟ أمن أجل هذه النهاية المحتومة والبائسة نؤسطر ونحتج ونثور ونسخط على المثكل ؟ ألكي نقرّ بانتصار الفناء علينا أن نداور بقهر هذه المداورة العجيبة المضنية التي تُسمّى الحياة ؟

قد يقرّ هذا شعورنا المسكين ، لكن هذا ما لا يقرّه لاشعورنا المؤمن برسوخ بخلوده وعصيانه على الفناء ؟ (ففي داخل كلّ إنسان منا يعيش إنسان عصور ما قبل التاريخ داخل لاشعورنا دون أيّ تغيير .. هذا الإنسان الذي كان موقفه متميّزاً للغاية إزاء الموت . ولقد كان موقفاً بعيداً عن التماسك ، وكان حقّاً موقفاً متناقضاً . فهو من ناحية كان يأخذ الموت مأخذ الجدّ ويدركه على اعتبار أنه ختام الحياة ، وكان يستخدمه لهذه الغاية ، ومن ناحية أخرى فأنه كان يُنكر الموت ويردّه إلى عدم .. وهو في الشقّ الثاني من موقفه يعبّر عن طبيعة لاشعورنا الذي لا يعتقد بموته هو ، إنّه يسلك كما لو كان خالداً . وما نسمّيه (لاشعور) - أي الطبقات الأعمق من عقولنا التي تتكون من الحوافز الغريزية – لا يعرف شيئاً أيّاً كان عن السلبيات أو المنفيات – فالمتناقضات تتوافق فيه – ومن ثمّ لا يعرف شيئاً أيّا كان عن موته هو ، لأننا لا نستطيع أن نعطي هذا الموت إلاّ معنى سالباً . وينشأ من هذا أنه ليس بين الغرائز التي نملكها غريزة مستعدة للإعتقاد بالموت - ص )  (21) .

 ولعلّ هذا هو الذي يفسّر التناوب الصارخ والموجع في موقف الشاعر من التسليم بالرحيل عن الأم الأرض ، ورفضه ، ورغبته الساحقة في أن (يظلّ بغير موت) (ص 96) . لكنه مات الآن ، وراح بعيداً في "الأسود" الذي لا رجعة منه . ولكن لاشعوره الذي هو بدائي بطبيعته لا يقرّ بهذا المصير أبدا . فقضيّة الظفر بحياة مجيدة بعد الموت تبدو نكتة في نظر اللاشعور . ولهذا لم يقتنع "أنكيدو" ابداً بما قاله له الإله "شمش" عن امتيازات ما بعد الموت :

(جلجامش سيجعل أهل أوروك يبكون حزناً عليك

وسيمتليء الناس السعداء حزناً عليك ) (22) .

وعاد ليحلم حلما مروّعاً عن الكيفية التي يخطفه فيها ملك الموت ويقوده إلى "بيت الظلمة" المرعب . كما يمكننا أن نتذكر إجابة روح "أخيل" على "أوديسيوس" :

(في الماضي ، في أثناء الحياة على الأرض ، كنّا نبجلك لا أقل من إله / نحن الأخيليين . والآن في مملكة الموتى فإننا نبجلك كملك ، فهنا أنت تحكم . إذن ، فلماذا يتعيّن أن يحزنك الموت ، أخيل ؟

هكذا تكلمتُ ، عندئذٍ أجابني على الفور ، لا تتكلّم برفق عن الموت ، أتوسّل إليك أي أوديسيوس الشهير ، الأفضل كثيراً أن تظلّ على الأرض كعبدٍ للآخر ، حتى ولو لرجل لا نصيب له ، حظّه من حق الحياة ضئيل ، من أن تحكم ملكاً أوحد على مملكة أشباح بلا أجساد ) (23) .

وعليه لا يمكن أن يقرّ لاشعور الشاعر بموته الشخصي على الإطلاق ، بالرغم من أنه اذعن في النهاية لقرار الفناء ، والتمس من أمّه / الأرض أن ترتّب روحه ، وتشيّعه بالشموع إلى أسْوَد اللاعودة . وها هي ردة فعل لاشعوره تأتي في صورة "رؤيا" تعويضية هائلة الأبعاد حيث ينهض من نومه استجابة لهاتف يأمره بأن يقوم ويضطلع بمسؤولياته التي نُذر لها ، لأنه غير منذور للنوم ولا للزوال ، وكلاهما شكلان للموت ، الأول وجيز والثاني أبدي . إنه من سيقود الأرض الأم ، ويفكّ أسرار هذا الكون العنيدة ليصبح عارفه الوحيد ، سيصير إبناً بمرتبة إله :

(                هي

                 الرؤيا ، وقد سطعت ، ولاح لمسمعي

من راح يهتفُ :

                قمْ .

                فلا للنومِ أنتَ أو الزوالِ . وإنما أنتَ

الذي سيقودُ هذي الأرضَ مكتشفاً عناصرها ، ومنطلقاً

إلى الكونِ البعيدِ تفكُّ منْ أسرارهِ ما سوف يجعلُ

منكَ عارفهُ الوحيدَ ، كمثلِ معرفةِ المصلّي بالغروبِ ،

وراحة البحّار في صنع الزوارقِ – ص 104 و105) .

ولو تنبّهت إلى الصورتين الأخيرتين : (كمثل معرفة المصلّي بالغروب) ، (وراحة البحّارِ في صنعِ الزوارق) ، فستجد أننا قد عدنا إلى شيء من ربكة البداية في نصّ الأرض هذا ، ونحن الآن على مشارف ختام رحلته . حتى الموسيقى صارت شاحبة قليلاً قريبة من دائرة الروح السجعية :

(              سوفَ تُقبلُ نحوكَ

               الأشجارْ ،

               على أكتافها قطعُ

         الغمامِ

             جرارْ ،

             وقربَ ظلالها تمشي بأحذيةٍ لها

    شكلُ الحصى

            الأنهارْ ، - ص 105) .

وكلا الحالتين : الصورة العاديّة والموسيقى الشاحبة ، لا تمتّان بصلة لجوزف حرب المقندر حين يكون ملتحماً بنصّه وضائعاً في عوالمه ، من دون خلخلة تصيب لاشعوره فتوقظه على حقيقة فنائه الشخصي الصادمة المشوّشة ، وتشعره بمدى تناقض رؤياه مع ما مقدّر له فعلاً وقسراً ، وبرغم إرادة الإنبعاث والقيام ، وتذكّره بأنه قد قال كثيراً ما لم يفعل ، وهام الشاعر طويلاً في وادي رؤى الخلود والتجدّد والإنبعاث الذي فرشه له الشعر :

(                        ويأتي من قراه القمح ، والعصفور ،

والحقلُ الفتيُّ بزيّه الورقيّ (...)

                                               ضفدعُ الدفلى ،

                         سيمشي كلّ بركانٍ

                               بجبّةِ راهبٍ .

                         وتجيء ناسيةً دفوف الخصرِ راقصةَ

الزلازلِ . كلُّ سرٍّ في العناصرِ

                                         سوف

                                         يأتي . – ص 106) .

ولكن من عادة لاوعينا أن يمضي بعزم لتحقيق ثأره خصوصاً حين يكون الشعور الذي يروضّه عادة منجرحا هو بدوره ، ولهذا فهو لم يعد يسمع غير الهتاف المنعش : (قمْ) ؛ هتافٌ يدعوه إلى أن ينظر إلى موكبه الكوني الذي اعتاد على قيادته وانطلق به من قبل إلى الشمس والقمر . لكن الموكب الكوني لن ينطلق الآن إلى أي جهة ليتسلّم منها صولجاناً أو تاجاً كما حصل في النصّين السابقين ، لقد أتاه مبايعاً هذه المرّة .. القمح والحقول والمطر والشموس والأرض والبحر والليل والنهار استعدوا لاستقباله الملكي ، ولن يطلقوا النشيد العظيم إلى أيّ من الخلائق مثلما حصل من قبل ، بل له وحده ، فقد تأكّدوا من أنّه هو "العارف" الذي سيفكّ اسرار وجودهم . وبما أنه قد تسلّم ، سابقاً ، صولجان الحقيقة من الشمس ، وتاجها من القمر ، فهو الآن في "عيد الجلوس" ليُنصّبَ على عرش الحقيقة ، إلهاً بتزكية أمٍّ وشهادتها ، وهي أصدق وأعظم الشهادات قاطبة ، خصوصاً حينما تكون هذه الأم هي الأرض ، أمّنا العظيمة الحنون المعطاء :

(قمْ .

 قد جاءكَ البحرُ الذي ألقى على أكتافهِ ذا اللازوَردَ ،

وحمّل الأمواجَ من أنوالِ ساحلهِ

                 صناديقَ الياضِ،

                                      ورافقتهُ الريحُ في

فمها نشيدُ الأفقِ ، والاعماقُ في يدها كتابُ الملحِ .

وانظرْ . إنّها الأرضُ ارتدتْ

                  قمصانها الخضرَ الوريقهْ ، (...)

فقمْ يا

      سيّدَ الأرضِ الحكيمَ ، الأرضُ

في عيدِ الجلوسِ ، فقمْ ، تقدّم نحوها ،

      واجلسْ

      على عرشِ الخليقهْ . – ص 107 و108) .

.. ثمّ يأتي "نصّ العاقل" وهو النص الأخير من "رباعية الخليقة" ، والذي يستهله الشاعر بالقول :

(أيا منْ دواتكَ حبرُ رياحِكَ ،

والقلمُ المصطفى

       ريشُ عصفورتكْ ،

نصوصُكَ ليستْ على

صورتكْ- ص 109) .

ولا يسعفك عنوان النصّ بأي إضاءة بسيطة للمقبل من عتمات النصّ ، بل يربكك ، فقد تناولت النصوص الثلاثة السابقة ثلاث كواكب جامدة وغير عاقلة الشاعر هو الذي أنسنها وأضفى عليها العقل والحكمة وهي : الشمس والقمر والأرض ، وها هو يتحول بنا إلى "العاقل" بصورة مباشرة ، عاقلٌ هو شاعرٌ أيضاً لديه دواة من حبر الرياح وقلم مصطفى من ريش العصفورة . لكنّ مشكلته – وجوزف ينقّح هنا وينقد – أن نصوصه ليست على صورته . وهي ملاحظة شديدة العمق من ناحية قصّة الخليقة التي "يحكيها" لنا الشاعر ، ومن ناحية العملية الشعريّة ، وسوف يبيّن لنا الشاعر أهمّيتها ، ففي البيت الثالث من هذا النص يكشف الشاعر طبيعة المُخاطب ، هو شاعر الغمامات الستّ ، الله ، الذي يضعنا إنجازه الشعري في موقف محيّر ، فهو "الكلمة" التي سُطّر بها الخلق في تلك القصائد ، ثم اختفى من حيث آثاره في خلقه . فالشاعر يُعرف من نصوصه وفيها ، ويبقى مستقلّ الوجود بعدها . لكنّ أيّاً من الخلائق نتاج النصوص لم يأت على صورة منشئه . مثلما لم تبقِ آثاره منه شيئا يُتعرّف عليه من خلاله . وهو خلل كبيرٌ في البدايات كما يؤشر ذلك الشاعر . وعليه فعلامَ احتفاء البدايات هذا :

(               فما أنتَ إلاّ الذي في غماماتكِ

الستِّ . لم يبقَ شيءٌ يسمّونهُ انتَ خارجَ هذي

القصائدِ .

             إنّكَ ملحٌ

             وذبتُ بريشةِ مائكَ .

                    لا يومَ كي تستريحَ لكي يغتدي

سابعاً . إنّه خللٌ في البداياتِ . فامحُ المغنّينَ

والراقصاتِ ، وردّ لتلكَ الجرارِ

                     المعتّقَ

                     من خمرتِكْ .

                     نصوصكَ ليستْ على

                     صورتِكْ . – ص 110) .