رواية "عصر واوا" للروائي "فؤاد قنديل" 2

رواية "عصر واوا" للروائي "فؤاد قنديل":

إستشراف الهدير .. في ميدان التحرير (2)

د. حسين سرمك حسن

(3)

الآن ، تبدأ رحلة استعاديّة (فلاش باك) ، يسترجع فيها الكاتب - من خلال شريف - الذكريات السعيدة ، مبتدئاً من نقطة صفر - إذا جاز التعبير - قد يعتقد القارىء أنها سوف تسهم في إجهاض أو تخفيف المسار التصاعدي المحتدم لإيقاع أحداث الرواية ، ولكنها سوف تفعل العكس ، من وجهة نظري ، من خلال المقارنة بين "جُرع" الخراب التي زرق الروائي عروق وعينا بها خلال الفصلين السابقين ، والطبيعة الآسرة للعلاقة الحبّية الرائعة بين شريف وزوجته سلوى . إنّها البداية الإستدراجية المُطمئنة في حكايا سيّدة الحكايات ألف ليلة وليلة : "كان يا ما كان .. " أو "بلغني أيها الملك السعيد .." التي أخّرها الكاتب ، وقدّم بدلا منها النهاية الصادمة والجارحة التي يأتي فيها "هادم اللذات ومفرّق الجماعات" كما تقول أميرة الحكّائين السيّدة "شهرزاد" .

كانت سلوى تجلس منبهرة ومأخوذة أمام شاشة التلفاز تتابع أفلام الكرتون المخصصة للأطفال لساعات في هذا الصباح الذي يمثل يوماُ فاصلا في حياتهما الزوجية حيث يوافق العيد السابع لزواجهما . كانت مدمنة على أفلام الأطفال ، ولهذا فقد باركت لزوجها هذا اليوم وعادت سريعاً إلى ملاحقة فيلم الأطفال الذي يعرضه التلفزيون . وكان شريف يرصد أدق خلجات تعبيراتها وهي تتابع باهتمام حال البنت الصغيرة التي يطاردها الوحش في الفيلم . كانت تتلوى على كرسيها ، وقد علت وجهها سحابة حزن عميق حتى أن ملامحها تداخلت من الألم .. كانت تتأوّه كلّما تلوّت البنت في يد العملاق . وحين بكت البنت وصرخت ، فوجىء شريف بالدموع على خدّ سلوى تسيل في صمت (ص 19) . وهذه – في الحقيقة - تعبيرات عن جوانب طفلية في شخصية سلوى .. عن تأخر في النضج الإنفعالي .. عن مرحلة في التماهي – نوعاً وشدّة – كان يجب أن تكون قد غادرتها منذ زمن بعيد . وهذه المظاهر السلوكية تأتي ضمن حزمة من الأفعال تشير كلّها إلى معاناة شريف "اللذيذة" من طباع سلوى وتصرّفاتها . فامتصاص مشاهدة الفيلم لها عطّل انتباهها لأي شيء آخر : نسيت الغسالة التي ملأتها بالملابس .. وحين نبّهها شريف ألقت في بطنها دورا ثانيا وعادت قفزاً إلى كرسيها التقليدي أمام التلفاز .. وحبن رنّ جرس التلفون أسرعت إليه ووضعته في حجرها لتتابع الفيلم .. ونسيت الغسالة وغاصت في الحديث ناسية كل شيء حتى زيارة أبيها لهم هذا اليوم ولم تشتر اللحمة لدعوة الغداء .. وهكذا .. فسلوى امرأة خُلقت من مادة خاصة بها وحدها هي النسيان .. في الواقع كان وجودها يخلق فوضى منزليّة "يأنس" لها شريف الذي كان يكتفي بالنظر إلى السماء معاتباً الله :

-لماذا يا ربّ اخترت لي هذه السيّدة دون كل نساء الأرض !! (ص 21)

وهي لا تنسى نسياناً مطلقاً ، بل تمتلك ذاكرة "انتقائية" تلتقط برامج التلفاز وسير حياة الممثلين فقط . إنّ هذا الإنشغال بالدائرة الشخصية ورغباتها التي يمكن تأجيلها ، على حساب متطلبات الحياة الزوجية ، يعكس الكثير المستتر في لاشعور سلوى سنتركه إلى حين . ولكن المهم في ذلك هو هذه الروح الإستقبالية "المازوخية" لدى شريف الزوج . لقد دخل عليها ذات يوم فوجدها ترقص لأن راقصة في التلفزيون ترقص ، ولم تقم بهدم بيوت العنكبوت التي ملأت البيت وطلب منها أن تقوم بهدمها .. صحيح أنه كان يحتج ويتذمّر من سلوكها إلّا أنّه كان يعدّ نسيانها أقل خطورة من ذاكرة نساء أخريات يتفنّن بهذه الصفات في خلق الأجواء التعسة في مجال الحياة الزوجية (ص 22) . ولم يكتف بذلك حسب ، بل راح يحل نفسه بديلاً عن "الله" في البحث عن تفسير دقيق لعدم استجابة الله لشكواه :

(كان في البداية يعزو ذلك لأنه يشكوها له ربّما وهو غير طاهر ، وربّما لأن الله يدرك أنه غير جاد في مظلمته .. لكنه بعد سنوات اقتنع أن الله لا يريد أن يعبث في مخلوقاته بعد أن أعدهم بهذا الشكل ووزّع عليهم عيوبهم ومزاياهم المتباينة ، بحيث تكون عالماً من الناقصين يحتاج فيه كل فرد للآخر . ومادام الله ، قد قرّر ذلك ، فسوف يظل الأمر كذلك ) (ص 22) .

إنّ محاولة شريف "الحلول" محل المرجعية الإلهية في إيجاد التفسيرالملائم لعدم الإستجابة لشكواه من سلوى ، فيها قدر من "الروح التحرّشة" التي هي واحدة من أعظم مهاميز الإبداع المتفرّد . إنّ الإبداع في جوهره هو محاولة لتحقيق الإمتداد الخلودي للإنسان الفاني في وجه الموت أو المثكل حسب وصف جلجامش العظيم له . في ساحة الإبداع - وليس على أرض الواقع الصخري المسنّن - نستطيع الحصول على امتيازات إلهية صغيرة لا يُسمح ، بل من المُحرّم ، حتى أن نجرؤ على التفكير فيها في وعينا المُراقب من كل الجهات القامعة – خصوصا الدينية والسياسية منها - . ولكن استثمار هذه الفرصة الكبرى يتطلب روحاً "تحرّشية" وإرادة تعرّضية واقتحامية تطلق زفراتها بلا تردّد . يتكرّر الأمر الآن حين يدخل عم فريد - أبو سلوى - وأمّها ، حيث يتفق شريف مع العم على أداء صلاة الجمعة في سيدنا الرفاعي ، فتبدأ تداعيات شريف "التحرّشية" عن سبب عدم استطاعته أداء الصلاة في حين يصلّي الكثير من الناس ؟! لقد تعلّم الصلاة في صباه لأسباب مصلحيّة ، فقد كان يصلّي باهتمام قبل الإمتحان وعندما ينجح ينسى الصلاة (ص 24) .. وحتى عندما عاد للصلاة بعد الزواج كان دافعه الظروف الصعبة التي أحاطت به التي اعتقد أن سببها غضب من الله لتركه الصلاة !! ثم تتصاعد تلك الروح لتلقي المسؤولية على عاتق الذات الإلهية :

(أنت تعلم يارب أني عبدك المطيع الذي لا يفعل ما يغضبك .. فلماذا أجد صعوبة في الصلاة خمس مرات يومياً ؟ ولماذا لم تشجع نبيّنا محمد كي يطلب منك أن تكون مرتين ؟ لماذا لا تجذبني إليها ولماذا لا تجذبها إلي ؟! أنت تجعلها عليّ ثقيلة وتستطيع طبعاً أن تجعلها عليّ خفيفة ! ) (ص 25) .

ثمّ يخيّر الله بين أن يجعل الصلاة محبّبة إليه مثل سلوى ، وبين أن لا يحاسبه عليها يوم القيامة ، ويطلب منه أن يُرسل إليه علامة (آية كعلامة أو ملاك يخبره) .. ثم يستدرك : "آه .. فهمتُ .. أنا لست موسى ولا ابراهيم ولا أحداً من الصفوة" (ص 25) .. وأخيرا انحسرت وتائر همّته الإيمانية في تعبيرها الطقوسي الأجلى المتمثل في أداء الصلاة بتشاغله عن عمد أو غير عمد عن أدائها في اليوم الوحيد المقدّس وهو يوم الجمعة بعد أن نفض يديه ، كما يبدو ، من أن تحمل إحدى الصباحات المصرّة على الطلوع ، الخبر الذي ينتظره منذ سبع سنوات وهو وصول : ولي العهد (ص 26) ..

 لعب طفولي في الواقع لا يمتلك جسارته إلّا أولئك "الأبرياء" الذين يتربّصون في أعماق كلّ مبدع ، والذين يسحبون الآلهة من ثيابها أو يقرصونها من آذانها ، لأنهم لم تنضج في عالمهم النفسي الداخلي تلك السلطة الرادعة والمُهدّدة التي نسمّيها الضمير والتي تنبت فيها عين الآله الحمراء المتوعّدة التي يسمّونها الضمير . "وشريف – كما يعتقد هو – يخبرنا بأنه قد تخلّى عن الكثير من الممارسات "الآثمة" من أجل الصلاة منها عادته التبصّصية المزمنة في "التطلّع إلى مؤخرّات النساء" ، عادة فكّر في إحدى المرّات المجنونة لأن يسجّلها في كتاب يخدم فيه الثقافة ! (ص 26) يقوم على أفتراض أنّ الله قد خلق المؤخرات لتدمير الرجال والنساء معاً بـ "صنعة لطافة" ودون أن يحسّوا ، هم أنسهم ، بذلك مستسلمين للإغراء الجميل . وتمتزج هذه الروح التحرّشية المُباركة بتمرير التعبيرات بروح ساخرة كما نرى في أكثر من موضع تعبيري في هذا الفصل . فعلى سبيل المثال يقول الراوي إن شريف قد أصبحو يسهو عن صَلاته ويقلّل عددها ويؤدّيها أحيانا :

(دون وضوء وهو يحسب أنّه على طهارته في حين يكون قد أخرج من الريح ما يكفي لدفع زورق شراعي) (ص 26) ..

وأحياناً تأتي الروح التحرّشية المبطّنة بالتهكّم بصورة "صامتة" إذا ساغ الوصف ، حيث يطلقها الروائي على لسان راويّه بصورة تعليق سريع "محايد" عليك أن تلتقط ما يكمن وراءه من موقف ناقم من التعبير المثير لاشمئزازه . وهذا ما حصل حين التقط صحيفة الصباح بعد أن هنّأته زوجته بعيد زواجهما :

(طالعته في قلب الصفحة الأولى صورة رئيس الجمهورية وهو يضحك بملء شدقيه) (ص 16)

.. وصحيح لمن يضحك هذا ؟ .. بل على منْ ؟

وتتسع حدود السؤال ودائرة حرقته المضحكة المُبكية ليشمل صور كل الملوك والرؤساء العرب : لمن يضحك هؤلاء ؟ وعلى من ؟

وهذه الإشارة تفوق اللمحة الإنتقادية التي قالها شريف حين ترحّمت سلوى على روح أبيه لأنه حجز تلفونا للبيت الذي يسكنان فيه ، فقد تذكّر شريف أن والده حجز التلفون منذ عشرين سنة ، ولم يُركّب إلا بعد وفاته بيوم !!

هذه الإشارات السريعة - وبعضها خاطف - نطالعها كثيراً في الأدب السردي لفؤاد قنديل حتى صارت سمة أسلوبية لفنّه الحكائي ، وهي بليغة مؤثّرة وأفضل من الكثير من الشروحات والتوسيعات التي يقوم بها كتّاب آخرون فقدوا الثقة بعقول قرّائهم وقدرتهم على الإستجابة الإنتقادية الحيّة السريعة والماكرة . لا يستطيع أيّ قارىء لمّاح درّب بصيرته على قراءة ما وراء الكلمات والسطور تفويت فرصة مفارقة أن تكون جيوب العم فريد مملوءة بكل ما يلزم رحّالة ينوي الدوران حول الكرة الأرضية حسب تعبير الكاتب الموفّق (راديو، بطاقة التموين، بوصلة، سكينة، بطارية، علبة نشوق، زوج جوارب، قصّافة أظافر.. وغيرها) ومعها الخطاب الوحيد الذي تسلّمه من ابنه "أصيل" بعد غياب خمس سنوات في كندا يخبره فيه أنّه اصبح المستشار النووي لأكبر مصانعها ، ولا مفارقة أنّ هذا الخطاب قد أرسله ولده الباقي بعد استشهاد ابنه الأكبر "منتصر" في حرب عام 1973.

إنّ هذا المنحى الذي يصف وينقل أفعال وسلوكيات شخصيات الرواية بـ "حيادية" ودون "تحيّز" هو المطلوب من كاتب يثق بعقل قارئه وقدراته .

وهذه المواقف التحرّشية والتعبيرات الساخرة الجارحة ، تعبر عن انحطاط وضع عام في البلاد ، ولكن الناس – ممثلة بشريف وسلوى - تعيشه و "تنكّت" عليه . ولعل هذه الروح التحرّشية الساخرة هي من أدوات البقاء لهذا الشعب بالرغم من أنها قد ابتُذلت كطريقة للتعامل مع القهر والإنذلال ، مثلما هي سلاح جمعي في عالم يهدّد وجودنا بالفناء والإجتثاث . السخرية علاج وتسفيه واداة مقاومة في وجه القهر والطغيان وجور الحياة الرهيب . وبالرغم من كلّ هذه العوامل الضاغطة ، كان شريف وسلوى يعيشان

مثل طائرين وحيدين جميلين . ففي علم النفس نجد الشخصيات المختلفة تتجاذب والشخصيات المتشابهة تتنافر كما في حال الشحنات المغناطيسية في علم الفيزياء ، ولهذا فقد انجذب شريف – وبقوة – إلى سلوى في كلّ ما تقوم به من أفعال نزقة ولا أباليّة مما لم يكن ولن يكون قادراً على القيام به بسبب محدّدات بنيته الشخصية الحاكمة ، والإنسراح الطفلي لانتعاشة طاقات ورغبات سلوى في كل تفاصيل تصرّفاتها . كان يعيش شبه متعة مازوخية طويلة المدى مع معذّبته الجميلة . ها هي تلمح غضبه يتصاعد لإهمالها تهديم بيوت العنكبوت ، وهي منشغلة بأفلام الكرتون :

(- باقي عشر دقائق وينتهي الفيلم وسأهدم لك كلّ بيوته .

رفع يديه في اتجاه السقف وبكل خشوع قال :

لماذا يا ربّ من دون كل نساء الأرض زوجتني هذه السيّدة التي ...

قاطعته وكأنها تخشى أن يفضح عيوبها لله :

شريف ... قلت لك عشر دقائق ..

لم يكن عتابه لله إلّا إعلاناً عن عدم رضاه ، إعلاناً متفقاً عليه تفهم منه مؤقتاً ماذا يريد ! وهي تعمل بكل وسيلة كي تنفّذ له ما يريد لأن قلبها عامر به تماماً وهي متغلغلة في قلبه ) (ص 23) .

(4)

مع القسم الرابع يكون القارىء قد تصفّى ذهنه واسترخت أعصابه من آثار محنة شريف التي استولت الإنفعالات المرتبطة بها خلال الأقسام الثلاثة السابقة . الآن يتفرّغ تماماً لحركةٍ بطلها ابو منتصر ؛ عمّ فريد ، الذي يحبه حتى طوب الأرض بسبب روحه الهازلة وقذائف النكات التي يطلقها بلا تردّد نحو كل شيء يصادفه أو يحيط به . فهو يقول النكت على الأطباء والشعراء .. وعلى الصعايدة والراقصات .. وعلى الملوك والرؤساء .. والطير والحيوان .. وها هو يفتتح هذا الفصل بتعليق على قلق ابنته سلوى لأن زوجها شريف قد تأخر أكثر من ساعة ونصف لجلب الخبز بالقول :

(ربّما قبضوا على مدرّسي التاريخ .. شريف كثيرا ما يشرد ... ربّما وقف في طابور وبعد أن جاء دوره اكتشف أنه ليس طابور العيش) (ص 30).

وهو يؤكّد أنه لا يتلاعب بقلق ابنته ويحرق أعصابها كما تقول زوجته الأم ، بل يقدّم تعليقات جدّية . وفعلياً فإن وقائع حياتنا تجري وفق هذا المنوال المضحك المُبكي الذي يختلط جدّه بهزله ، فلا تعرف اين حدود العقل اليقظ من غفلة السخريّة . وكالعادة يترك الروائي هذا التعبير المشوّش - لكن الفاصل والحاد - لنا ولا يعلّق عليه . فهو – وهذا هو واجب الحكّاء – ينقل إلينا الوقائع ولا يفسّرها ، وحتى إذا أراد أن يحمّلها بتلميحات مسمومة فهو يتركها لتفصيلات الصورة أو دلالات الحوار بين الشخصيات ، يصوغها بطريقة تُشعرنا بأنه "تحليل" وكشف دلالة يضيء السياق . وها هو يكشف لنا – وببلاغة – عبر مشهد جديد دقّة مقولة عم فريد بأنه لا يُنكّت ، ويحسم الحوار بينه وبين زوجته بأنه يصنع السلطة لجيرانه لتأكيد عرى المحبة والوصال ولا حاجة لأن يفتح دكاناً مختصّاً بها ، حين يدخل شريف - بعد ساعتين من الغياب - وقد مُزّقت ملابسه وتعرّض للطعن بمطواة :

(البنطلون عليه بقع كبيرة ، والشعر أشعث ، وعينه اليسرى زرقاء ، وعلى شفته السفلى نقطتان من الدم ... الخبز على كفّه اليمنى ، بينما ذراعه اليسرى مشرعة في الهواء لأن بها ما يعوق نزولها إلى جانبه كباقي البشر / كل ملامحه تنطق بالألم العميق) (ص 31) .

بهذه الهيئة الشعثاء المغبرة والملابس الممزقة ، يردّ عم فريد – ومن ورائه فؤاد قنديل طبعاً – على من يشكّك في أن خطابه الساخر الذي لا يستثنى شيئاً ولا أحداً ، هو عمليّة "تنكيت" على الماشي .. وليس خطاباً في غاية الجدّية والحزم ، مثلما يردّ على ذاته وهو يروّج لتعزيز عُرى الوصال والإنسانية بين الجيران وأناس البلد أجمعين . كما أنّ في هذا المشهد الردّ الناجع على شريف / الضحية الذي يروّج بدوره للتغيير المُقبل على يد الحكومة "في يوم ما" ! ويدعو الشعب إلى الصبر مثلما صبرت شعوب أخرى وتحمّلت ! :

(-الشعوب كلّها تمرّ بظروف من هذا النوع ، وعليهم أن يصبروا لأنها غالباً ما تكون مؤقتة ... المشكلة تبدأ على يد المرتزقة عديمي الضمير الذين يتاجرون بأقوات الشعب ... إن الحكومة لن تسمح لهم بالنمو واستغلال الأزمة .. إنّها ولاشكّ تعمل وتعدّ العدّة) (ص 32) .

وحين يسأله عمّ فريد عن السبب الذي يجعله واثقاً كل الثقة في هذا التوقّع ، يردّ عليه قائلاً :

(المنطق ... إن الظروف الحالية لا تخفى على أعمى ، ولا يهملها إلّا بليد الحسّ)

فيعلّق عم فريد بلسانه المنشاري الذي لا يرحم :

(لماذا لا تشتري لك الملابس الخاصة بالطوابير ... الخوذة والجاكيت الحديد ؟!)

وقد يعتقد الكثير من القرّاء – مع زوجة عم فريد "مكاويّة" – أنّ عم فريد إنّما يمزح وينكّت و"يقفّش" .. ولكن "المنطق" – خصوصاً الأرسطي البليد والمُبلّد الذي يرعاه وعّاظ السلاطين – يؤكّد ذلك من خلال مقدّماته ، وأطروحاته الصغرى والكبرى .. صدّقوني إنّه المنطق نفسه الذي يدعو إليه شريف ، وهو المنطق الذي تعتمده كل الحكومات العربية الطغيانية التي يضع فيها شريف ثقته ويراهن على أنّها تعدّ وتحسب وتتحسّب ليوم الصولة على المعضلات المزمنة التي تطاولت وتغوّلت وثقلت فأهلكت البلاد والعباد .

وذلك التلميح المشهدي والإحالة إلى الصورة والحوار يأتي أيضاً ليمسّ - بخفّة مؤلمة - محنة عقر سلوى وحرمان شرف من الأطفال ، من خلال المقارنة المستترة بـ "صحراء" (أخت سلوى) وزوجها "مُفرح" ، اللذين أنجبا سبعة أطفال خلال عشر سنوات . ومفرح يصرّ على إقامة "جمهوريّة" من الأبناء يحكمها – وهذه هي مواصفات الحكّام والملوك الآن - في حين أن الأحق بالجمهوريات "منطقيّاً" هو شريف ، وليس مفرح الذي يعتاش - وبلا عمل - على ما تركه له أبوه من عمارات ومزارع ، في الوقت الذي يأتي فيه شريف مدرّس التاريخ – ولاحظ أهميّة هذه المادة التي تعني وجودنا – ممزّقاً في سبيل الحصول على رغيف الخبز ، وقد فتح مفرح للتعمية على الناس "مكتبة" أسفل عمارته كنشاط وهمي ، ليعزّز الكاتب مهانة الفكر لدينا من خلال هذا الإجراء التلاعبي التستري . ومفرح يصرّ على أن لا تقوم أي امرأة بخدمة زوجته صحراء عندما تُنجب عدا أختها سلوى ، وفي هذا - بالرغم من نكران الراوي - عدوان مبيّت لاواعي على شريف وسلوى في الوقت نفسه ، فهو يسحق أعصاب سلوى ويحطّم قلبها . وعمّ فريد يرى – بروحه الساخرة الجادة - في هذه المفارقة بين زوجي إبنتيه كرماً من الله :

(-أعطاني الله زوجين لابنتيّ يعيشان في الوهم ... واحد متفائل بدون سبب يقول إننا سنعيش قريباً أزهى عصورنا ... بعد مئتي سنة فقط ! والثاني يبحث عن أيّ شعب ليحكمه .. نفسه يحكم ناس .. وحين لم يصل إلى الحكم قرّر الإنجاب بلا نهاية) (ص 34) .

والأخير مُفرح يريد كل جمهوريته من إبنته "صحراء" - ولاحظ المفارقة بين الإسم والدور المطلوب - وقد حصلت فعليّاً ، في حين أن سلوى المُعطّلة عن الإنجاب من معاني أسمائها في اللغة العربية العظيمة هو : "العسل" !!

يصعد الجميع الآن إلى السطح للبدء بحفلة الشواء المنتظرة . وهنا يحيلنا الكاتب - بعد كل هذه المهزلة البشرية المؤلمة والفوضى التي يصنعها عدوان الإنسان على أخيه الإنسان ، الإنسان حاكماً ومحكوماً .. جلّاداً وضحية .. وفوضى العيش والحاجات الحيوانية التي تخنق وجود الفرد المنكسر الروح والمُعذّب الوجدان والمُعتقل الإرادة - يحيلنا الكاتب إلى الله الحنون الطيّب وإلى ابنته المُعلّمة البارّة : الطبيعة ، وإلى عطاياها ، عطايا الله التي جعلتنا دوّامة الحياة الطاحنة التي يؤججها "منطق" الحكام والملوك السفلة لتلوك حوّاسنا وتخلطها ثم تبصقها على قارعة الطريق لتدوسها أقدام الحاجات الفسيولوجية التي لا ترحم . الوصف المُقبل الذي يقدّمه فؤاد قنديل ليس "قطعاً - Cut" وفق التعبير السينمائي الذي يجيده هو نفسه بفعل خبرته ، وليست محطّة وصفيّة عابرة ، إنّها درس نفسي ووجودي وفكري وحياتي .. و"منطقي" . صعدت المجموعة العائلية إلى السطح لبدء حفلة الشواء .. فـ :

(طالعهم النور الغامر والسماء الصافية والشمس الشتوية الحنون ، ميدان صلاح الدين يبدو بكامله تحت أعينهم ، وترتقع إلى اليسار قلعة صلاح الدين وقباب جامع محمد علي ، وإلى اليمين قليلاً مسجدا الرفاعي والسلطان حسن ، وإلى جوار المنزل مباشرة مسجد المحموديّة .

دعت سلوى والديها لمشاهدة الأرنبة وأولادها ... قطعٌ من القطن الناصع تتقلّب حول الأم وتقرص بأفواهها المنمنمة أعواد البرسيم ... صورة بسيطة وناعمة للحنان والجمال ... نغمة في سمفونية الوجود) (ص 35 و36) .

ومع مشهد نتف القطن البيض الأرنبية الغضّة ، تشتعل في نفس أم سلوى حسرة عن حرمان ابنتها وهذا السطح الواسع من حركة الأطفال .. وهذا – المشهد – برمّته هو "المنطق" الضائع يا سيّد "شريف" ويا أيها السادّة القرّاء .. هكذا يريد فؤاد قنديل إبلاغ رسالته . والمشكلة أن لا أحد قد التفت إلى لوحة الله أو استمع إلى لغة الطبيعة عدا الإستجابة "المصلحيّة" لحركة الأبناء الأرانب من أم الزوجة . لقد بدأوا بلفّ Hسياخ اللحم وإشعال الفحم الذي كانت سلوى – وكالعادة – قد نسيته فأصابه البلل ليصبح (عصير فحم) حسب وصف عمّ فريد K وعجز شريف عن إشعاله إلّا بعد أن أُرهق وسقط على ظهره ، والعم فريد يهوّي على وجهه بمنديله كما يفعل المدرّب مع الملاكم المهزوم . تحرّكت الأحشاء وغابت دروس الروح ، فانتشرت رائحة تحرّك بطون كل السكان الذين يعيشون في مساحة كيلو متر كامل ، بدأت الحلوق تستعد ، والأمعاء تترقب وصول المؤن الغزيرة (ص 37) ، وظلّ شريف مضطجعاً على ظهره من الإرهاق .. مال عليه عمّ فريد فلفت نظره أن جيب الحاج يتقلّب بما يعني أنّ حركة بداخله . ثم برزتْ رؤوس كتاكيت ملوّنة صفراء وحمراء وبنّية .. اختفت ثم أطلّ فأر برأسه .. تلمّظ بفمه الصغير الحقير واهتزت شواربه .. وظهرت بعد لحظات قطّة تتلمّظ . دلك شريف عينيه واختفت القطة ، وهبط الجيب المنتفخ (ص 37) . ويتساءل شريف عن سرّ هذا المشهد الهلوسي البصري وهل هو وليد اشتعال غريزة جوعه ، ويرى أن هذا ممكن ، ولكن إذ تؤكّد الكتاكيت الرغبة في الطعام ، فإن الفأر والقطّة يكذّبانها . ثم يتساءل بعد عجز هذا التفسير هل لأنّه مُحطّم ؟ فيرى ذلك ممكناً ، ولكن السلسلة الإلتهامية النهمة لا توافق ذلك ، حيث تفترس الفئران الكتاكيت لتأتي القطة فتفترس الفئران ، وهكذا يتفرّد القط الأكبر .. وهذه هي حياتنا كما يرسمها "المنطق" .. وهنا يصحّ تساؤل شريف الأخير :

(... ولماذا لا تكون الحقيقة ؟

ممكنٌ جدّاً ) (ص 38) .