كيف يرتفع الضد بالضد لمرتبة الكمال

هذا العنوان أوحت به أبيات في الغزل لعروة بن أذينة، وهو تابعي عاش في عصر بني أمية وتوفي قبل سقوطها بقليل عام 130 هجرية. وهذه الأبيات هي في   الذروة من شعر الغزل العذري، وقد صيغت في شكل حوارية متخيلة أو حقيقية بين الشاعر وصديقه:

إن التي زعمت فؤادك ملها

                              خلقت هواك كما خلقت هوى لها

حجبت تحيتها فقلت لصاحبي

                              ما كان أكثرها لنا وأقلها

بيضاء باكرها النعيم فصاغها

                              بلباقة فأدقها وأجلها

وإذا وجدت لها وساوس سلوة

                             شفع الضمير إلى الفؤاد فسلها

أما حكاية الأضداد في الأبيات، التي ارتقت بها إلى الكمال في الجمال فإليك بيانها:

لقد وصف الشاعر تحيات فتاته بالكثرة والقلة بآن معا، 

وقد يوهم هذا بالتناقض، لكن المتمرس في العشق يفطن إلى روعة التعبير عن الشعور العاطفي، فالشاعر العاشق، على الرغم من كثرة تحيات محبوبته له قبل أن تحجبها، كانت لا تروي غليله، بل يزداد شوقه، ولا تنطفي نار العشق في جوانحه، فكأنما هذه التحيات على كثرتها قليلة، وبهذا ارتفع الضد بالضد لمرتبة الكمال في جماليات الغزل. وحين وصف الشاعر أثر النعيم في صوغ جمال محبوبته قال إنه أدقها وأجلها، فأتى بمعنيين متضادين في الظاهر، لأن الدقيق أي الصغير هو ضد الجليل أي الفخم، غير أن مقاييس الجمال العربية كانت وما زالت ترى في هذا التضاد كمالا في الجمال، إذ إن هذا النعيم الذي لابس محبوبة الشاعر مبكرا، أي مذ كانت صغيرة، قد صاغها كما تصاغ الإسوارة الثمينة بلباقة أي بمهارة دقيقة فائقة بأن أعطى لكل جزء من أجزاء جسمها حقه من الجمال وافيا، فالأنف والثغر والذقن من جسمها جاءت دقيقة لطيفة، والساقان والأرداف صيغت فخمة جليلة، وهكذا لم تكن لفظتا (أدقها، أجلها) متناقضتين، بل متكاملتين في موازين الجمال الأنثوي لدى العرب خاصة. وفي الخلاصة: إن الضد ارتفع بالضد لمرتبة الكمال. وقبل أن أختم أريد أن أنوه بهذا الشاعر الذي أشرت في المقدمة إلى أنه كان تابعيا وقد رأينا كم اتسمت أبياته بعاطفة رقيقة وعميقة يندر وجودها لدى أساطين الشعراء الغزلين، وقد تجلت أروع تجل لها في البيت الأخير عندما قال بأنه إذا ما خطر له أن يسلوها وينساها ردا على جفائها بحجب تحيتها، تدخل ضميره ليشفع لها عند قلبه  فيستل هذه السلوة التي خامرته كما يستل القذى من الماء الصافي، مما يؤكد صدق عاطفته ونبلها، هذا فضلا عن براعته الفنية في الوصف، لأصل في النتيجة إلى حقيقة إنسانية تتعلق بالعواطف البشرية التي أنعم الله بها على أسمى مخلوقاته الإنسان، فهو محب، مبغض، راض، غاضب، مسالم، معاد.... إلخ، أي يحمل بين جنبيه ثنائيات أو إن شئت أضدادا في جدلية دائمة ومستمرة، وأعتقد انها سر كماله الإنساني.

وسوم: العدد 724