رسائل من أحمد الجدع (42)

رسائل من أحمد الجدع (42)

أحمد الجدع

الشاعر العالم الحكيم : أبو العلاء المعري

السلام عليك ورحمة الله وبركاته ،

أخاطبك بعد حوالي ألف سنة من وفاتك ، فقد ولدتَ عام 363 هـ وتوفاك الله عام 449 هـ ، وقد قدّر الله لك أن تعيش ستة وثمانين عاماً في هذه الحياة الدنيا .

أخاطبك وبين يدي شرحك لديوان المتنبي الذي أسميته " معجز أحمد " أتساءل من هو أحمد الذي تعنيه ؟

هل تعني المتنبي : أحمد بن الحسين المكنى بأبي الطيب ؟

أم تعني نفسك : أحمد بن عبد الله التنوخي المعروف بأبي العلاء المعري ؟

هل تعني أن شعر المتنبي هو المعجز ؟ أم تعني أن شرحك هو المعجز ؟

نعم كنتَ معجباً بشعر المتنبي ، بل كنت مفتوناً به ، ولم تكن تسمح لأحد أن يحط من شعر المتنبي ، ولك في ذلك مواقف مشهورة .

وفي الوقت نفسه كنت مدلاً بنفسك ، واثقاً من ثقافتك ، معجباً بشعرك .

إن اختيارك لهذا العنوان في شرحك لشعر المتنبي إعجاز ( براعة متفوقة ) ، وقد ساعدك على هذه التورية الموفقة اتحاد الأسماء ، وقد وضعت القارئ في حيرة ، ولكنها فريدة وماتعة ، وهل البلاغة، ومنها التورية، إلا لذة ومتعة وانتشاء .

أعود لأسأل : هل تعني أن شعر المتنبي كان معجزاً، أم تعني أن المعجز هو شرحك له ؟

وكما تركتَ قارئ هذا الشرح " معجز أحمد " مبتسماً ابتسام إعجاب أمام براعتك في اختيار هذه التورية، لا يستطيع أن يرجح بين الرأيين فضلاً عن أن يقطع فيهما برأي ، فقد تركتني أنا كذلك .

يا أبا العلاء : إن افتتانك بالتورية أغراك أن تسمي شرحك أو تعليقك على ديوان البحتري " بعبث الوليد " ، ومرة أخرى وضعت القارئ لهذا العنوان في حيرة بين الوليد وهو الصغير وبين اسم البحتري وهو الوليد بن عبادة .

ونسبت العبث إلى هذا ( الوليد ) .

أنا أميل إلى أنك سجلت رأيك في شعر البحتري ، واعتبرته " عبثاً من العبث " ، وهذا تحامل على البحتري، فأنا أعتبره من سادة الشعر العربي ، وأعتبر شعره إشراقة لامعة في ديوان الشعر العربي كله .

أنا لا ألومك على موقفك هذا من شعر البحتري ، ذلك لأنك عالم متبحر في اللغة ومعانيها وأقرب إلى أن تكون من العلماء الشعراء ، والبحتري يسير في شعره على الفطرة البدوية التي سار عليها أوائل الشعراء في الجاهلية .

ثم إنك شرحت وعلقت على ديوان أبي تمام ، وراقك أن تختار التورية للمرة الثالثة فتسمي هذا الشرح "بذكرى حبيب " ، فتضع القارئ أمام الحبيب المعشوق أو حبيب بن أوس المشهور بأبي تمام ، وتوحي هذه التورية بميلك إلى أبي تمام الذي اختار لشعره مذهب التكلف ومذهب التفاخر بثقافته اللغوية ومقدرته على تطويعها لشعره.

لا نعجب إذن من موقفك من البحتري في " عبث الوليد " ومن موقفك من المتنبي محباً ومعجباً في " معجز أحمد " ومن أبي تمام في " ذكرى حبيب " .

أحب هنا أن أنبه على صلابتك في مواقفك من المتنبي ، وأنك لم تكن تتهاون أمام الذين كانوا يذمون المتنبي ويحطون من شعره .

كنت ملازماً مجلس الشريف المرتضى في بغداد ، وكان لك صديقاً ، وكان لك مكرماً، ولكنه لم يكن على رأيك في المتنبي، فقد كان له منتقداً وقد كان له كارهاً .

تحامل الشريف المرتضى في مجلس من مجالسه على المتنبي ، وكنت حاضراً، فغاظك قوله وأحنقك ، فقلت له : لو لم يكن للمتنبي إلا قصيدته :

لك يا منازل في القلوب منازل   

 

 

أقفرت أنتِ وهن منك أواهل

 

لكفاه ذلك فخراً .

فأمر الشريف المرتضى أن يخرجوك من مجلسه ، فأخرجوك سحباً من رجليك !

ثم إن الشريف المرتضى التفت إلى الحاضرين في مجلسه وقال لهم : أتدرون ماذا أراد هذا الأعمى ؟ لقد أراد قول المتنبي في هذه القصيدة :

وإذا أتتك مذمتي من ناقص   

 

 

فهي الشهادة لي بأنك كامل!

 

وأنا أعجب لتلميحك ، وأعجب أيضاً لذكاء المرتضى وتمكنه من الشعر العربي ، فهو وإن يك كارهاً للمتنبي فقد كان لشعره حافظاً .

أبا العلاء ، أحمد بن عبد الله التنوخي .

لقد كنت شاعراً، غلبت اللغة وتبحرك فيها على شعرك ، وكنت محقاً عندما عثرت برجل في مجلس المرتضى، فقال هذا الرجل : من هذا الكلب ؟ فأجبته فأخرسته : إن الكلب هو الذي لا يعرف للكلب سبعين اسماً !!

أليس هذا الجواب ينبي أنك معتدٌ اعتداداً كبيراً يثقافتك اللغوية ؟

يا أبا العلاء : إنك واحد من مفاخر العرب ، ولا زلنا ونحن نعيش بعدك بألف عام نقرؤك ونعجب بمؤلفاتك وبشعرك أيضاً .

يا أبا العلاء : أدعو الله أن يغفر لك ، وأن يغفر لي

ثم : سلام عليك ... سلام عليك .