رسائل من أحمد الجدع 24

رسائل من أحمد الجدع

24

أحمد الجدع

الشاعر الجاهلي النابغة الذبياني

سيد الشعر الجاهلي ، هكذا يقول بعض نقاد الشعر على مرّ العصور ، يقدمونك على امرئ القيس بن حجر ، وأنا أميل إلى ذلك .

إلا أن الذين يقدمون امرأ القيس أكثر عدداً ممن يقدمونك ، وأقول لك : لا يضيرك كثيراً أن تكون بعد امرئ القيس ترتيباً في دنيا الشعر العربي ، فأنت على كل حال مقدم فيه .

لا أكتب هنا عن مقامك في الشعر العربي ، ولكني أكتب عن إمامتك لفن الاعتذار في شعرنا العربي ، وأكتب عن تأثيرك الطاغي على من جاء بعدك من شعراء الاعتذار .

غضب عليك النعمان بن المنذر الملقب بأبي قابوس ، فبعد أن كنت عنده مقدماً نجحت دسائس رجال القصر من أعدائك في إثارة غضبه عليك ، وقد اتهموك بميلك إلى الغساسنة ، والغساسنة أعداء المناذرة الذين كانوا تحت إمرة النعمان .

كنتَ محباً للنعمان لما كان يسديه إليك من معروف ، ولأنه كان يقدمك ويستمع إليك ، وكان غضبه عليك هو الذي دفعك للهروب إلى الغساسنة ، فلم يضيع الغساسنة الفرصة فقدموك وأجلوك وغمروك بجوائزهم، واستمعوا إليك ففكوا لك أسرى قومك من بني ذبيان وأسرى حلفائهم من بني أسد .

ولكنك لم تدع حبك للنعمان ، وعندما سمعت بمرضه، أسرعت إليه واعتذرت إليه عما ألصقه بك أعداؤك ، ولقد كررت هذا الاعتذار بأكثر من قصيدة ، وكانت قصائدك في الاعتذار من أجمل ما أبدعت من شعر .

ولأنك قدمت أكثر من قصيدة تعتذر فيها للنعمان غدوت أميراً لفن الاعتذار ، وأصبح الذين جاؤوا من بعدك يسيرون في فن الاعتذار سيرك ، وصارت قصائدك بفنياتها هي الأصول التي يحرص من ألف في الاعتذار من بعدك على أن يسيروا سيرها .

القصائد الأساسية التي اعتذرت بها ثلاث ، وتالياً أهم الأبيات فيها :

في الاعتذارية الأولى تقول :

أتاني أبيت اللعن ، أنك لمتني   

حلفت فلم أترك لنفسك ريبةً   

لئن كنت قد بُلّغت عني خيانةً  

ولكنني كنت امرأً لي جانبٌ   

ملوكٌ وإخوانٌ إذا ما أتيتهم   

كفعلك في قومٍ أراك اصطنعتهم

فلا تتركني بالوعيد كأنني

 

وتلك التي أهتم منها وأنصبُ

وليس وراء الله للمرء مذهبُ

لمبلغك الواشي أغشُّ وأكذبُ

من الأرض فيه مسترادٌ ومذهبُ

أُحَكَّم في أموالهم وأقرَّبُ

فلم ترهم في شكر ذلك أذنبوا

إلى الناس مطليٌّ به القارُ أجربُ

وفي الاعتذارية الثانية تقول :

فلا لعمر الذي مسحت كعبته   

والمؤمن العائذات الطير تمسحها   

ما قلت من سيء مما أُتيْتَ به  

إلا مقالة أقوام شقيت بها   

إذاً فعاقبني ربي معاقبةً

أُنبئت أن أبا قابوس أوعدني   

مهلاً فداء لك الأقوام كلهم   

لا تقذفني بركن لا كفاء له

 

وما هُريق على الأنصاب من جسد

ركبان مكة بين الغيل والسند

إذاً فلا رفعت سوطي إليّ يدي

كانت مقالتهم قرعاً على كبدي

قرّت بها عينُ من يأتيك بالفند

ولا قرار على زأر من الأسد

وما أثمر من مالٍ ومن ولدِ

وإن تأثفك الأعداء بالرِّفدِ

وفي الاعتذارية الثالثة تقول :

حلفت فلم أترك لنفسك ريبة

فإن كنتُ لا ذو الضغن عني مكذَّبٌ

ولا أنا مأمونٌ بشيءٍ أقوله

فإنك كالليل الذي هو مدركي   

 

وهل يأثمن ذو أُمة وهو طائع

ولا حلفي على البراءة نافع

وأنت بأمرٍ لا محالةَ واقع

وإن خلت أن المنتأى عنك واسع