السيرة النبوية في ضوء العلم والفلسفة

د . سعيد المرصفي

مع أن الإيمان بالغيب هو مفرق الطريق في ارتقاء الإنسان عن عالم البهيمة ، فإن جماعة الماديين في هذا الزمن كجماعة الماديين في كل زمان ومكان ، وجيل وقبيل ، وعصر ومصر ، يريدون أن يعودوا بالإنسان القهقري إلى عالم البهيمة الذي لا وجود فيه لغير المحسوس ، ويسمون هذا " تقدمية " .

وهو النكسة التي وقى الله المؤمنين إيّاها ، فجعل صفتهم الأولى المميزة صفة : " الذين يؤمنون بالغيب " ، والحمد لله على نعمائه ، والنكسة للمنتكسين والمرتكسين .

ومن ثم بدأت تظهر كتابات في السيرة النبوية ، يستبعد أصحابها كل ما يدخل في باب المعجزات ـ وهو من المصادر المعلومة عند المسلمين ـ وأخذوا يروجون للرسول صلى الله عليه وسلم صفة العبقرية ، والعظمة ، والبطولة ، وما شاكلها .

وانطلق محمد فريد وجدي ينشر سلسلة مقالاته في مصر تحت عنوان : " السيرة النبوية تحت ضوء العلم والفلسفة " ، داعياً إلى فهم الإسلام ، والسيرة النبوية ، عن هذا الطريق .. طريق ألا يستسلم العقل للغيبيات ولا للخوارق والمعجزات .

ولقد كان كتاب " حياة محمد " للدكتور هيكل التجربة الرائدة في هذا المضمار ، أعلن فيه أنه لا يريد أن يفهم حياة الرسول صلى الله عليه وسلم إلا على هذه الطريقة الحديثة ، فقال : إنني لم آخذ بما سجلته كتب السيرة ، وكتب الحديث ، ولم أنهج في التعبير عن مختلف الحوادث نهجها .. وإنني أفعل ذلك ، لأنه الوسيلة الصالحة في نظر المعاصرين .. وما كان لي ، وذلك شأني ، أن أتقيد بنهج الكتب القديمة وأساليبها .. وإن كثرة الكتب القديمة كانت تكتب لغاية دينية تعبدية ، على حين يتقيّد كتاب العصر الحاضر بالنهج العلمي ، والنقد العلمي .. لكتتي رأيت من الخير أن أنبسط بعض الشيء في بيان الأسباب التي دعت المفكرين من أئمة المسلمين فيما مضى ، وتدعوهم اليوم ، كما تدعو كل باحث مدقق إلى عدم الأخذ جزافاً بكل ما ورد في كتب السيرة ، وفي كتب الحديث ، وإلى التقيد بقواعد النقد العلمي تقيّد العصم من الزلل .

ولسنا في مجال نقد هذا الكتاب ، فالمقياس الصحيح للحديث عنده حديث موضوع ، وموقفه من حديث شق الصدر معروف ، وفي الكتاب ـ أيضاً ـ حديث آخر موضوع ، وفيه قوله في الإسراء ووحدة الوجود .

وفي الكتاب إيجابيات في مناقشة المستشرقين بمنطقهم في كثير مما ذهبوا إليه ، مثل أسباب خطأ المستشرقين ، وفرية الصرع ، والطعن في محمد عجز عن الطعن في رسالته ، وتهافت حديث الغرانيق ، والمسيحية والقتال ، وصيحة المستشرقين في مسألة أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها ، والمستشرقين والحضارة الإسلامية .

وهكذا وجد أصحاب هذه المدرسة في اتباع " المذهب الذاتي " في كتابة التاريخ ، الميدان الفسيح الذي يمكنهم من نبذ كل ما يقول د . البوطي ـ مهما جاءت مدعمة بدلائل العلم واليقين ، متخذين ميولهم ، ورغباتهم الشخصية ، وأهدافهم البعيدة ، حاكماً مطلقاً على حقائق التاريخ ، وتحليل ما وراءه من العوامل ، وحكماً مطلقاً لقبول ما ينبغي قبوله ، ورفض ما يجب رفضه .

وآخر الضحكات العجيبة التي جاءت عن هذا الطريق ، تفسير النبوة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وإيمان الصحابة رضي الله عنهم ، وعموم الفتح الإسلامي ، بإن جميعه لم يكن إلا ثورة يسار ضد يمين ـ أثارتها النوازع الاقتصادية ، انتجاعاً للرزق ، وطلباً للتوسع ، وألهبتها ردود الفعل لدى الفقراء ضد الأغنياء وأصحاب الإقطاع .

كانت هذه الطريقة في دراسة السيرة النبوية خصوصاً ، والتاريخ عموماً ، مكيدة خطيرة غشيت من رؤيتها أعين البسطاء من بعض المسلمين ، وصادفت هوى وقبولاً حسناً عند طائفة أخرى من المنافقين وأصحاب الأهواء .

لقد غاب عن أعين أولئك البسطاء ، أن ذلك الهمس الاستعماري الذي يدعو المسلمين إلى ما أسموه بثورة إصلاحية في شؤون العقيدة الإسلامية ، إنما استهدف في الحقيقة نسف هذه العقيدة من جذورها .

وغاب عنهم أن تفريغ الإسلام من حقائقه الغيبية ـ كما أسلفنا ـ إنما يعني حشوه بمنجزات ناسفة ، تحيله أثراً بعد عين ، ذلك لأن الوحي الإلهي ـ وهو ينبوع الإسلام ومصدره ـ يعد قمة الخوارق والحقائق الغيبية كلها ، ولا ريب أن الذي يسرع إلى رفض ما جاء في السنة النبوية من خوارق العادات ، بحجة اختلافها عن مقتضى سنن الطبيعة ومدارك العلم الحديث ، يكون أسرع إلى رفض الوحي الإلهي كله بما يتبعه ويتضمنه من أخباره عن النشور والحساب ، والجنة أو النار ، بالحجّة الطبيعيّة ذاتها .

كما غاب عنهم أن الدين الصالح في ذاته لا يحتاج في عصر ما إلى مصلح يتدارك شأنه ، أو إصلاح يغير من جوهره .

غاب عن هؤلاء الناس هذا كله ، مع أن إدراكهم له كان من أبسط مقتضيات العلم ، لو كانوا يتمتعون بحقيقته ، وينسجمون مع منطقيته ، ولكن عيونهم غشيت في غمرة انبهارها بالنهضة الأوروبية الحديثة ، وما قد حفّ بها من شعارات العلم وألفاظه ، فلم تبصر من حقائق المنطق والعلم إلا عناوينها وشعاراتها ، وقد كانوا في أمس الحاجة إلى فهم كامل لما وراء تلك العناوين ، وإلى فهم صحيح لمضمون تلك الشعارات ، فلم يعد يستأثر بتفكيرهم إلا خيال نهضة إصلاحية تطور العقيدة الإسلامية هنا ، كما تطورت عقيدة الأوروبيين هناك .

وهكذا ، فقد كان عماد هذه المدرسة الحديثة هياجاً في النفس ، أكثر من أن يكون حقيقة علمية مدروسة استحوذت على العقل ، والحقيقة أن الاهتمام بهذه المدرسة في كتابة السيرة النبوية وفهمها ، والحماسة التي ظهرت يوماً ما لدى البعض في الأخذ بها .. إنما كان منعطفاً تاريخياً ومرَّ .