مع الدكتور محمد على دبور وحديث عن مدرسة دار العلوم التايخية

أبو الحسن الجمّال

clip_image001_d3dde.jpg

clip_image002_6b9bc.jpg

clip_image003_6bbf0.jpg

يقول الإمام محمد عبده: "تموت العربية فى كل مكان وتحيا فى دار العلوم"، وسوف نلتقى فى السطور التالية مع أحد رموز مدرسة دار العلوم التاريخية التى احتلت مكاناً كبيراً فى حقل الدراسات التاريخية المعاصرة وقد أنجبت عبر تاريخها الممتد من الأعلام.. يأتى على رأسهم المؤرخ الكبير الدكتور محمد ضياء الدين الريس، ثم تبعه الأساتذة الدكاترة أحمد شلبى، وإبراهيم أحمد العدوى، ومحمد حلمى محمد أحمد، وآخرين ..نلتقى مع الدكتور محمد على دبور أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية، والأستاذ المشارك بجامعة أم القرى بمكة المكرمة الذى تخرج فى كلية دار العلوم ثم حصل منها على الماجستير بعنوان: (الدور السياسى للعلماء فى الأندلس فى عهدى المرابطين والموحدين 484-646هـ) ثم يذهب فى بعثة إلى أسبانيا للحصول على درجة الدكتوراه فى التاريخ الأندسى بعنوان: (الأسعار فى المغرب والأندلس فى القرن السابع إلى القرن التاسع)، وقد أثرى المكتبة العربية بالعديد من المؤلفات التى تدل على موسوعية جارفة فى تخصصه الرفيع مطعم بما اكتسبه من علوم ومعارف خلال سنى عمره وخلال دراسته فى كلية دار العلوم ..مهد العربية وعلومها فى العالم الإسلامى ومنها: "بنو أمية فى التاريخ .. دراسة فى التاريخ السياسى والحضارى"، و"فقه النظام السياسى فى الإسلام"، و"المماليك والعثمانيون..أصلهم وتاريخهم وحضارتهم"، و"الحروب الصليبية والمؤامرة على العالم الإسلامى"، وغيرها...

  أجرينا معه الحوار التالى وتشعبنا فى موضوعات عدة منها نشأته وكيف كان لها الأثر فى حياته العلمية، والدوافع التى جعلته يلج مجال التاريخ وأساتذته الذين تولوه بالرعاية كما تحدثنا عن مناهج كتابة التاريخ الإسلامى فى الجامعات العربية ثم للحديث عن أثر مدرسة دار العلوم فى الدراسات التاريخية وأبرز أعلامها وتقييمه لدراسات الغربيين عموما والأسبان فى مجال المكتبة الأندلسية ثم تحدثنا التاريخ الأموى والمملوكى والعثمانى والمفتريات التصقت به ظلما وعدواناً وموضوعات أخرى سوف نطالعها فى هذا الحوار:     

1-      بداية حدثنا عن النشأة وكيف كان لها أثر فى حياتك العلمية بعد ذلك؟

نشأتُ نشأةً ريفيةً متواضعةً في أسرة متوسطة متدينة، في إحدى قرى مركز ميت غمر بمحافظة الدقهلية اسمها (كَفْر سَرْنَجا)، وذلك في التاسع والعشرين من شهر مارس من عام ألف وتسعمائة وسبعين للميلاد، وتدرجت في مراحل التعليم المختلفة، بدءًا من كُتَّاب القرية حتى وصولي إلى كلية دار العلوم بجامعة القاهرة ليبدأ مشوار المنافسة ومحاولة تحقيق الذات حتى كُلِّلت جهودي- بفضل الله- بالنجاح وتخرجت من هذه القلعة العلمية العظيمة سنة 1991 م، ونظرًا لأني نشأت مرتبطًا بالمسجد، لذا فقد نشأت مرتبطًا أيضًا بالكتب الدينية، شغوفًا بالقراءة فيها والإقبال عليها، مثل تفسير ابن كثير وزاد المعاد لابن القيم والكُتيبات الصغيرة التي كانت تخرج آنذاك عن الشيخ الشعراوي رحمه الله وغيرها من الكتب التي كانت متداولة في مكتبات المساجد في ذلك الوقت، وربما كان لهذا أثر كبير في ميولي العلمية فيما بعد، فقد كنت أميل بشدة إلى التخصص في العقيدة الإسلامية والفكر الإسلامي، وعندما التحقت بكلية دار العلوم وجدت فيها ما يوافق ميولي، وما يساعد على تنمية موهبتي في حب القراءة في الكتب الإسلامية، وصقل اللغة العربية، وكان لهذا كله أثر كبير في تفوقي فيها وتعييني بها معيدًا بعد ذلك، ليبدأ بعد ذلك مشوار التخصص العلمي، لكن- للأسف- ليس في مجال العقيدة والفكر الإسلامي، وإنما في مجال التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية. 

2-      الدوافع التى جعلتك تلج مجال التاريخ الإسلامى وأهم أساتذتك فى هذا المجال في مصر وخارجها؟

دعنا نكون صرحاء في هذه النقطة على وجه الخصوص؛ لأننا كأعضاء هيئة تدريس بالجامعة لا نختار التخصص الذي نعمل فيه، وإنما يُفرض علينا فرضًا، وأنا شخصيًّا كنتُ أتمنى أن أدرس في قسم الفلسفة الإسلامية، وقد خطوت خطوات في هذا الصدد بالفعل، وقبل تعييني معيدًا التحقتُ بالسنة التمهيدية للماجستير بقسم الفلسفة الإسلامية، وقبل نهاية السنة بأشهر قليلة، ظهرت في الكلية وظيفة باحث، وتم تعييني باحثًا في قسم التاريخ الإسلامي، وبالتالي كان عليَّ أن أنتقل إلى القسم الذي عُيِّنت به، فتركت السنة التمهيدية بقسم الفلسفة مع المجهود الذي بذلته والأبحاث التي أنجزتها ومكتبة فلسفية كنتُ قد اقتنيتها ما زالت عندي حتى اللحظة، تركتُ كل ذلك، وتوجهت إلى قسم التاريخ، وطبعًا في قسم التاريخ رفضوا التحاقي بالسنة التمهيدية لأن العام الدراسي كان قد أوشك على الانتهاء، فطلبوا مني أن ألتحق بالسنة التمهيدية من العام القادم، وبالفعل التحقت في العام التالي بالسنة التمهيدية، ومرت شهور السنة حتى أوشكت على الانتهاء بعد جهد جهيد وتعب شديد في المذاكرة وإنجاز الأعمال المطلوبة من الطلاب في هذه السنة، وفجأة جاء التعيين كمعيد بالكلية ولكن فوجئت أني مرشح للتعيين بقسم الدراسات الأدبية، وكان الأوراق ما زالت في الكلية لم يُصدَّق عليها من الجامعة، فذهبت إلى عميد الكلية وقتها الأستاذ الدكتور/ محمد بلتاجي حسن رحمه الله، وشرحت له الموقف، وكان لي زميل كريم كان مرشحًا للتعيين بقسم التاريخ بينما هو يرغب في قسم الدراسات الأدبية، فتفهَّم سعادة العميد وقتها هذا الظرف والمجهود الذي بذله كل واحد منا في قسمه، فقام بتبديل الترشيح، فرشحني للتعيين بقسم التاريخ الإسلامي، ورشح زميلي للتعيين بقسم الدراسات الأدبية، وصرت معيدًا بقسم التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية، وعندها نصحنى أساتذة كرام بالقسم بأن أترك حلم الفلسفة والتخصص وأجعلها هواية أمارسها بعد ذلك، وأن أركز في تخصصي في التاريخ، وبالفعل عملت بالنصيحة وركزت في تخصص التاريخ الإسلامي حتى حصلت على الماجستير عن (الدور السياسي والاجتماعي للعلماء في الأندلس في عهدي المرابطين والموحدين) سنة 1999 م، ثم تم إيفادي في بعثة حكومية للحصول على الدكتوراه من إسبانيا، وحصلت عليها سنة 2004 م عن (الأسعار في المغرب والأندلس من القرن السابع الهجري حتى نهاية القرن التاسع الهجري دراسة تحليلية في المصادر)

أما أهم أساتذتي في هذا التخصص، فهناك كوكبة من العظماء في هذا المجال كان لهم أكبر الأثر في مسيرتي العلمية بقسم التاريخ، منهم: الأستاذ الدكتور/ أحمد شلبي وكان مشرفي في الماجستير، ومعه الأستاذ الدكتور/ عبد الرحمن سالم الذي ساعدني كثيرًا، وكان نعم الأستاذ للطالب.

ومنهم أيضًا: الأستاذ الدكتور/ عبد الله محمد جمال الدين، وهو متخصص في تاريخ الأندلس وحاصل على الدكتوراه أيضًا من إسبانيا، وأمدني بالكثير من الكتب الإسبانية وغيرها، حيث كنت قد التحقت بالمركز الثقافي الإسباني بالعجوزة لأتعلم اللغة الإسبانية أثناء فترة الماجستير قبل أن أعرف أني سأسافر في بعثة إلى إسبانيا بسنتين على الأقل.

ومنهم أيضًا: أستاذي الكريم الأستاذ الدكتور/ طاهر راغب حسين، وهو متخصص في تاريخ المغرب والأندلس، وكان دائم الدفع بي إلى الأمام وتشجيعي منذ أن ناقشني في الماجستير، والحق أن كلماته لي كان لها أثر كبير جدًّا في حياتي العلمية، ولم أنسها يومًا ما.

وكل أساتذتي بالقسم لهم عليَّ أيادٍ بيضاء لا تُنْكر، والله وحده هو الذي يجزيهم عن ذلك خير الجزاء.        

3-      كيف ترى مناهج ومدارس كتابة التاريخ الإسلامى فى الجامعات المصرية والعربية اليوم ولماذا يتجنب الرؤية الإسلامية؟

لعلك تقصد مناهج ومدارس كتابة التاريخ بصفة عامة وليس التاريخ الإسلامي، أما عن مناهج ومدارس كتابة التاريخ فهي كثيرة ومنتشرة في الجامعات المصرية والعربية، ومنها المدرسة المادية أو الاشتراكية التي تجعل من الصراع على المادة أساسًا لتفسير كل أحداث التاريخ، فقد فرضت الشيوعية منظورًا جديدًا لكتابة التاريخ، وتبنى بعض المؤرخين داخل ذلك الإطار الأيديولوجي موضوع إعادة كتابة التاريخ بما يتفق مع خيوط الشيوعية الفكرية وحتى منظورها الاشتراكي الذي يركز على تفسير حركة التاريخ من منطلق مادي بحت، ونتج عن هذا المنظور أن تم قراءة أحداث التاريخ بشكل تعسفي وإعادة صياغة بعض أحداثه وفق مصطلحات ذلك المنهج الفكري المنحرفة من أجل الوصول إلى الاطار الأيديولوجي الشيوعي والزج بحركة التاريخ نحو مفاهيم خاطئة وبعيدة عن المسار الصحيح.

ومنها أيضًا المدرسة الوثائقية التي تعتبر الوثيقة أساس التاريخ، وترى أنه لا كتابة للتاريخ بدون الوثائق؛ لأن الوثيقة هي مادته وعموده الفقري، وبالطبع نحن لا ننكر أهمية الوثيقة في كتابة التاريخ، لكني لا أتفق مع المبالغة في أهميتها وأن حركة التاريخ يجب أن تتوقف في حالة عدم وجود الوثيقة التاريخية، وإنما يجب أن نضع كل شيء في نصابه الصحيح ونعطيه أهميته المعقولة دون مبالغة، فكتابة التاريخ تعتمد على التسجيل والرصد والتحليل والتعليل وغيرها من الوسائل الأخرى وليس على الوثيقة التاريخية وحدها، فإذا ما وجدت الوثيقة فإنها تدعم النص التاريخي وتؤكده، بل ربما تبعث فيه الحياة من جديد.

ومنها المدرسة الاجتماعية التي تجعل من الصراع الطبقي بين طبقات المجتمع المختلفة أساسًا لتفسير أحداث التاريخ، ولا يخفى ما في منهج هذه المدرسة من التعسف أيضًا في التعامل مع النصوص التاريخية ولي عنقها واستنطاقها بما لا تنطق به، فضلاً عن إهمالها لجانب القيم والأخلاق والمبادئ عند التعرض لتدوين الحدث التاريخي.

أما عن التاريخ الإسلامي بصفة خاصة فليس هناك حتى يومنا هذا –على المستوى الأكاديمي- مدارس لكتابة التاريخ الإسلامي، بل من المؤكد أن هناك محاولات فردية مشكورة تتبنى هذا المنهج وهذه الفكرة وتحاول الترويج والدعوة إليها، ففي عالمنا العربي والإسلامي نادى العديد من المؤرخين العرب والمسلمين بإعادة كتابة التاريخ الإسلامي وتنقيحه مما تضمنه من أخطاء وتزوير وغير ذلك، وظهرت بعض المؤلفات التي تصحح الأخطاء في التاريخ الإسلامي وتبين مواطن التزوير والتجني على جوانب كثيرة من تاريخنا الإسلامي، ولم يقتصر البعض على مسلك التصحيح الذي قام به البعض وإنما طالبوا بإعادة كتابة التاريخ في رأيهم كي يبقى للأجيال اللاحقة فخرًا وذخرًا.   

ومن العلماء الكبار الذين تبنوا هذا المنهج الأستاذ الدكتور عماد الدين خليل، وله عدة كتب في هذا الصدد مما يؤكد إلحاحه على هذا المنهج وتبنيه له والاستماتة في الدفاع عنه، ومن هذه الكتب: (في التفسير الإسلامي للتاريخ)، و(حول إعادة كتابة التاريخ الإسلامي)، و(في التاريخ الإسلامي، فصول في المنهج والتحليل)، كما أن للأستاذ محمد قطب كتابًا مهمًّا في هذا الناحية وهو كتاب (كيف نكتب التاريخ الإسلامي)، وكتاب (منهج كتابة التاريخ الإسلامي لماذا وكيف؟) للدكتور جمال عبد الهادي والدكتورة وفاء محمد رفعت، بالإضافة إلى الجهود التي بذلها في سلسلته (أخطاء يجب أن تصحح في التاريخ)، وكذلك كتاب (المنهج الإسلامي لدراسة التاريخ وتفسيره) للدكتور محمد رشاد خليل، وكتاب (نحو رؤية جديدة للتاريخ الإسلامي، نظرات و تصويبات) للدكتور عبد العظيم محمود الديب، وأخيرًا كتاب (قضايا كتابة التاريخ الإسلامي وحلولها) للدكتور محمد ياسين مظهر الصديقي.

ومن المؤكد أن من أهم أسباب عدم تبني الرؤية الإسلامية في كتابة التاريخ الإسلامي حتى يومنا هذا- على المستوى الأكاديمي- هو سيطرة الاتجاه العلماني على كل مقدرات الثقافة والفكر والتعليم في بلادنا والحيلولة دون ظهور الاتجاه الإسلامي في كثير من النواحي العلمية والفكرية.

إن موضوع كتابه التاريخ الإسلامي موضوع كبير ومتشعب ويحتاج إلى نقاش واسع وتحليلات أعمق، وربما لا يكون هذا الحوار المحدود مناسبًا للدخول فيها، ولعلنا نطرحه في مناسبات أخرى تعطينا الوقت والمساحة الكافية لعرضه والوقوف على أبعاده المختلفة.

4-      تعلمتم فى دار العلوم فى قسم درس به الأعلام كيف نقيم دور مدرسة دار العلوم التاريخية وما هي أهم نتاجها؟

مدرسة دار العلوم التاريخية مدرسة كبيرة ورائدة، قدمت الكثير والكثير في مجال الدراسات التاريخية والحضارية، وأنجزت نتاجًا علميًّا متميزًا وفريدًا، ومن أهم أعلام هذه المدرسة الكبيرة الأستاذ الدكتور محمد ضياء الدين الريس (ت 1977 م) الذي يعد بحق أحد العلماء العاملين المتميزين، وقد قم نتاجًا علميًّا لم يُسبق إليه، وكان من أهم إنجازاته: "كتاب النظريات السياسية الإسلامية"، و"عبد الملك ابن مروان موحد الدول العربية"، و"في التاريخ الإسلامي الحديث"، و"الخراج والنظم المالية للدولة الإسلامية"، و"الإسلام والخلافة في العصر الحديث"، و"الدستور والاستقلال والثورة الوطنية 1935"، و"ثلاث شعراء مصريون" وغيرها كثير.

وكذلك الأستاذ الدكتور محمد حلمي محمد أحمد (ت 1984 م)، وهو من المؤرخين الكبار، وحاصل على الدكتوراه من انجلترا، وله العديد من الإنجازات العلمية الرائعة، منها: كتاب "مصر والشام والصليبيون"، والخلافة والدولة في العصر الأموي، وكذلك الخلافة والدولة في العصر العباسي، بالإضافة غلى ذلك فله جهد كبير ومشكور في تحقيق كتاب "اتعاظ الحنفا بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفا" حيث حقق منه الجزءين الثاني والثالث بعد أن حقق الأستاذ الدكتور جمال الدين الشيال الجزء الأول منه، ونشرته كاملاً لجنة إحياء التراث الإسلامي بالمجلس الأعلى للشئون الإسلامية بالقاهرة.

ومن الأعمدة الأساسية للمدرسة التاريخية بكلية دار العلوم- جامعة القاهرة الأستاذ الدكتور أحمد جاب الله شلبي (ت 2000 م)، وهو عَلَم كبير غني عن التعريف، وحاصل على الدكتوراه من جامعة كامبردج بانجلترا، وهو أول مَن أدخل تدريس الحضارة الإسلامية إلى الجامعات المصرية، وقدم نتاجًا علميًّا واسعًا ومتميزًا وراقيًا في آن واحد، وكان من أبرز ما قدمه: موسوعة التاريخ الإسلامي في عشرة أجزاء، وكذلك موسوعة الحضارة والنظم الإسلامية في عشرة أجزاء، وموسوعة مقارنة الأديان في أربعة أجزاء، وسلسلة المكتبة الإسلامية لكل الأعمار، وكيف تكتب بحثًا أو رسالة، ورحلة حياة.

ويجب أن نلاحظ أنه-رحمه الله- كان يحرص على أن يخاطب بهذا الإنتاج كل المثقفين وليس الأكاديميين فقط، فضلاً عن براعته في الكتابة بأسلوب سلس سهل يستوعبه بيسر كل مَن يطالع مؤلفاته.

ومن مؤلفاته الأكاديمية المتميزة: كتاب "تاريخ التربية الإسلامية" ، وكذلك كتاب "صراع الحضارات في القرن الحادي والعشرين ودور الحضارة الإسلامية في هذا الصراع"، و"السخاوي والسيوطي وصراع المنافسة بين الأقران".

هذا فضلاً عن مقالاته وأحاديثه الإذاعية التي أماطت اللثام عن كثير من القضايا المعاصرة التي تهم المثقف المسلم وتثري الفكر وتنير العقل، وقد تُرجم الكثير من مؤلفاته إلى العديد من اللغات كالإنجليزية والفرنسية والإندونيسية وغيرها.   

وكذلك الأستاذ الدكتور إبراهيم أحمد العدوي (ت 2004 م)، وهو قامة سامقة من قامات قسم التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية بكلية دار العلوم– جامعة القاهرة، وحاصل على الدكتوراه أيضًا من انجلترا، وقد رحل عن دنيانا بعد أن ترك بصمات غائرة في جدار العلم تستعصي على النسيان، وقد اجتهدتُ في جمع عناوين مؤلفاته التي أثرت المكتبة التاريخية، وانتفع بها القاصي والداني، فبلغت أكثر من ثلاثين كتابًا، فضلاً عن الكتب المترجمة من الإنجليزية إلى العربية، ومن أبرز مؤلفاته: كتاب "نهر التاريخ الإسلامي: منابعه العليا وفروعه العظمى"، وتاريخ العالم الإسلامي- الجزء الأول: عصر البناء والانطلاق، والجزء الثاني: عصر التنمية والعطاء، و الدولة الأموية: مقوماتها ورسالتها، والدولة الإسلامية وامبراطورية الروم، والأمويون والبيزنطيون: البحر الأبيض المتوسط بحيرة إسلامية، والمسلمون والجرمان: الإسلام في غرب البحر المتوسط، والمجتمع العربي: مقوماته ورسالته العالمية، ومصر الإسلامية: مقوماتها العربية ورسالتها الحضارية، وقادة التحرير العربي في العصر الحديث.

كما كتب عن عدد من الشخصيات الإسلامية البارزة والمؤثرة في تاريخ الأمة، مثل: ابن عبد الحكم: رائد المؤرخين العرب، وابن بطوطة في العالم الإسلامي، وموسى بن نصير مؤسس المغرب العربي، ورشيد رضا الإمام المجاهد.

وكانت له أيضًا جهود في الترجمة، ومن أبرز ما ترجمه: كتاب الحضارة العربية تأليف: ي. هل، والإدارة العربية- بقلم مولوي س . ا. ق. حسيني، ولو ذهبنا نستقصى ما خطه قلمه-رحمه الله- لضاق بنا المقام.

ومدرسة دار العلوم التاريخية مدرسة ممتدة الجذور والفروع، متواصلة العطاء، لا ينضب معينها، ومن أعلامها أيضًا: الأستاذ الدكتور على حسن حبيبة رحمه الله، وكان من أبرز مؤلفاته: كتاب "مع المسلمين في الأندلس، وكذلك كتاب "الحملات الصليبية".

وهناك أعلام كبار ما زالوا يواصلون هذا العطاء العلمي المتدفق، محافظين على راية مدرسة دار العلوم التاريخية شامخة تطاول عنان السماء، أمد الله في أعمارهم وبارك جهودهم، ومنهم: الأستاذ الدكتور حسن على حسن، والأستاذ الدكتور عبد الله محمد جمال الدين والأستاذ الدكتور طاهر راغب حسين والأستاذ الدكتور عبد الرحمن أحمد سالم والأستاذ الدكتور يسري أحمد زيدان وأخيرًا الأستاذ الدكتور عبد الفتاح فتحي عبد الفتاح رئيس قسم التاريخ الإسلامي حاليًّا، وكلٌّ منهم له بصمات علمية متميزة في حقلي الدراسات التاريخية والحضارية معًا. 

5-      تخصصتم في التاريخ الأندلسي وحصلتم على شهادة "الدكتوراه" من أرض الأندلس، ما تقييمك لدراسات الغربيين عموماً والأسبان خصوصاً في مجال المكتبة الأندلسية؟

الأندلس الإسلامية بتراثها الحفيل كانت وما زالت موضع اهتمام القريب والبعيد، باعتبارها تجربة إسلامية فريدة وجاذبة للباحثين والمتخصصين والمهتمين بتاريخ المسلمين في الأندلس وحضارتهم، مع تباين بين الغربيين في وجهات النظر حول الوجود الإسلامي في الأندلس ما بين منصف لهذا الوجود وما حققه من إنجازات علمية وحضارية وما أضافه لهذه البقعة من الغرب الأوربي من بصمات اجتماعية ما زلنا نجد صداها في إسبانيا حتى اليوم.

ولا شك أن اهتمام الإسبان بالأندلس وتراثها أكثر من غيرهم باعتبارها جزءًا من وطنهم، ولحسن الحظ فقد قمت منذ عدة سنوات بإنجاز بحث عن (مدرسة الاستشراق الإسبانية الحديثة وجهودها في دراسة التراث التاريخي الأندلسي: أمبروسيو أويثي ميراندا (1880-1973 م) أنموذجًا)، ورغم أن البحث يقتصر على الإنجازات التاريخية بحكم التخصص إلا أن لهذه المدرسة إنجازات أخرى كثيرة ومتميزة في مجالات أخرى، وبخاصة مجال الأدب والشعر.

وتعتبر مدرسة الاستشراق الإسبانية من أقدم الحركات الاستشراقية في أوربا، ويرجع تاريخها إلى بداية انتشار الإسلام في الأندلس، حيث شهدت هذه الفترة بدايات اهتمام الإسبان باللغة العربية والتراث العربي الأندلسي، ولكن لم يصلنا من إنتاجهم الفكري والأدبي الشيء الكثير بسبب ما قامت به حركة التعصب المسيحي من تعقب للعرب وإحراق الكتب العربية وتحريم قراءة اللغة العربية، خاصة بعد سقوط غرناطة سنة 897 هـ/ 1492 م.

ولهذه المدرسة أعلام كبار أنجزوا أعمالاً علمية متميزة يأتي على رأسهم العلاَّمة وهاوى الكتب النادرة بسكوال دى جاينجوس أول من أسس مدرسة للاستشراق الإسباني، بمعنى أنه أول من وضع منهجًا وطريقة للتعامل مع التراث الإسلامي في الأندلس، ومحاولة إخراج كنوزه إلى الوجود، مع دراستها دراسة تحليلية موضوعية مفصلة، وترجمتها في أحيان كثيرة إلى اللغة الإسبانية، ويأتي من بعده العلامة فرانثيسكو كوديرا إى زَيْدِين التلميذ الأكثر تألقًا وتميُّزًا للعلامة جاينجوس، وخليفته في رئاسة كرسي اللغة العربية في جامعة مدريد منذ سنة 1874م، ويرجع إليه الفضل في ابتداء العمل لتنفيذ المشروع العلمي الرائع لنشر المكتبة العربية الإسبانية التي بدأها بنشر الجزأين الأول والثاني من كتاب الصلة لابن بشكوال، ثم بغية الملتمس للضبي، والمعجم في أصحاب القاضي أبي علي الصدفي لابن الأبار وغيرها من مؤلفات المكتبة التي بلغت آنذاك عشرة مجلدات.

وتتابع أفراد هذه المدرسة واحدًا تلو الآخر وتواصلوا في العطاء العلمي، فكان منهم: خوليان ريبيرا إى ترَّاجو وميجيل آسين بلاثيوس وخايمى أوليفر آسين ولويس سيكو دى لوثينا باريديس وخاثينتو بوسك بيلا ومَرْيَانو جاسبار رِيميرو، ثم أخيرًا أمبروسيو أويثى ميراندا، ولا شك أن هناك غيرهم كثير، ولو ذهبنا لإحصائهم والكلام عن إنجازاتهم لضاق بنا المقام، وما ذكرناه يكفي للتدليل على مدى فاعلية هذه المدرسة وإنجازاتها العظيمة التي بعثت التراث الأندلسي للحياة ليكون موضع فخر المسلمين واعتزازهم.

والحقيقة أن دراسات المستشرقين الإسبان للتراث العربي الإسلامي كانت أكثر عمقًا وتأثيرًا من دراسات بقية المستشرقين الغربيين للعالمين العربي والإسلامي بحكم معايشتهم لهذا التراث واعتباره جزءًا لا يتجزأ من تاريخهم وحضارتهم.

6-      تعرضت الدولة الأموية قديمًا وحديثًا لافتراءات ومظالم؟ كيف نقدم التاريخ الأموى فى ميزانه الصحيح؟

إن تاريخ بني أمية يمثل حقبة مهمة من تاريخنا الإسلامي، حقبة ربما اختلفت وجهات نظر الكثيرين من المختصين في التاريخ الإسلامي حول تقييمها، ولكن المتأمل في تاريخ الدول والممالك يدرك بما لا يدع مجالاً للشك أنه لا يوجد تاريخ أمة من الأمم، أو أسرة من الأسر الحاكمة، أو دولة من الدول المسيطرة إلا وله جوانب إيجابية وأخرى سلبية، فالجميع بشر يصيبون ويخطئون، وأحيانًا نصدر أحكامًا غير موضوعية وبدافع العاطفة فقط على مجموعة من التصرفات والإجراءات التي يتخذها حاكم ما أو والٍ ما دون أن نحلل الأحداث والوقائع التي دفعته إلى هذه التصرفات أو تلك الإجراءات، وإذا أردنا أن يكون حكمنا موضوعيًّا منصفًا فلا بد من مراعاة كل تلك الظروف عند الحكم على واقعة تاريخية بعينها.

ونحن ندرك الصعوبات التي تقابل الباحث وهو مقدم على دراسة تاريخ تلك الحقبة، فلقد تحالفت ظروف كثيرة على الحط من شأن الأمويين بقصد أو بدون قصد، وتكاد المراجع التي بين أيدينا تخلو خلوًا تامًّا من كلمة مدح أو ثناء على أكثر خلفاء هذه الدولة، أما عبارات القذف والطعن فقد أسهبت فيها كتب كثيرة، واقتصدت كتب أخرى، وكان أيسرها ما اكتفى باللوم والتقريع.

والسبب الأساسي في هذا التجني يعود إلى الظروف السياسية التي مر بها بنو أمية، فقد وقفوا وجهًا لوجه أمام بني هاشم: وقف معاوية في وجه علي بن أبي طالب، وصارعه وكُتب له النصر، ووقف يزيد بن معاوية في وجه الحسين بن علي، وسقط الحسين شهيدًا بسيوف رجال يزيد، وسقط زيد بن علي بن الحسين وابنه يحيي في معارك ضد جيوش بني أمية، وكان لهذه الدماء أثرها لدى الرواة والكُتَّاب، فأما رواة الشيعة وكُتَّابهم فقد وقفوا يعلنون سخطهم على بني أمية، ويصفونهم بالقسوة والوحشية، ويدسون عليهم الكثير من الروايات التي تشوه سيرتهم وصورتهم أمام أجيال المسلمين، وأما غير هؤلاء من الرواة والكُتَّاب فربما لم يروا هذا الرأي، ولكنهم خافوا شعور الجماهير فآثروا السلامة وأغفلوا الموضوع كله، أو لم يتعمقوا فيه ويصدروا حكمًا بشأنه.

ولا نزاع أن الأمر كان سيختلف اختلافًا كبيرًا لو هبَّ معاوية يتهم رجلاً غير عليٍّ بأنه آوى قتلة عثمان وكوَّن منهم جيشه، ولو نشط يزيد في وجه ثائر آخر غير الحسين فهزمه، وهكذا...، فالمسألة في الحقيقة ليست إلا استغلالاً لدماء القتلى باعتبارهم من آل البيت، فكانت هذه العواطف فرصة للدس والتحريف والكذب على بني أمية.

وقد سقطت الدولة الأموية قبل عهد التدوين، وقامت على أثرها دولة بني العباس التي تم التدوين في عهدها، فحرصت على مسح ومحو كل ما يمكن أن يكون قد بقي حيًّا من مفاخر بني أمية، ولم تكتف بذلك فقط، بل أضفت على تاريخ الأمويين ألوانًا من الظلام وصنوفًا من التشويه.

لهذه الظروف وغيرها ظُلم تاريخ بني أمية، وأصبح من الواجب علينا أن ندقق ونتمهل في عرض تاريخ هذه الأسرة العظيمة من الأسر الحاكمة في تاريخ الإسلام، وألا نتسرع في إصدار الأحكام الظالمة عليها، وأن نستقي معلوماتنا عنها من المصادر والمراجع الموضوعية المنصفة، وألا ننساق وراء الروايات المختلقة والمكذوبة التي عُرف أصحابها بعدائهم لبني أمية، فإذا راعينا ذلك فلا شك أننا سنصل إلى تاريخ صحيح نفاخر به، وفي ضوئه نستطيع أن نرفع بعض أسماء خلفاء بني أمية إلى أسمى طبقة بين ساسة العالم كله في مختلف عصوره، ونضع دون تردد بين هؤلاء أسماء: معاوية بن أبي سفيان، وعبد الملك بن مروان، والوليد بن عبد الملك، وعمر بن عبد العزيز وغيرهم.    

ولا أنسى في هذا المقام أن أذكر أن هناك جهودًا مشكورة بذلت في سبيل إنصاف تاريخ الدولة الأموية منها كتاب للعلامة الراحل الأستاذ الدكتور عبد الحليم عويس بعنوان: "بنو أمية في التاريخ بين الضربات الخارجية والانهيار الداخلي، دراسة حول سقوط دولة بني أمية في المشرق"، وكذلك كتاب: "الدولة الأموية عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار" للدكتور علي محمد الصلابي، ثم يأتي العمل الأهم حول إنصاف بني أمية وهو رسالة ماجستير لزميلي الأستاذ الدكتور حمدي مصطفى خليل شاهين بعنوان: تاريخ الدولة الأموية بين التحريف والإنصاف وكانت بإشراف الأستاذ الدكتور أحمد جاب الله شلبي، وقد طُبعت هذه الرسالة في كتاب بعنوان: "الدولة الأموية المفترى عليها، دراسة الشبهات ورد المفتريات"، كما أن لي كتابًا متواضعًا بعنوان: "بنو أمية في التاريخ، دراسة في التاريخ السياسي والحضاري"، حاولت فيه– قدر المستطاع- إنصاف التاريخ الأموي ورد الاعتبار لخلفاء بني أمية، وكانت كلمة الإهداء لهذا الكتاب: (إلى خلفاء بني أمية...لعل فيه ردًّا لاعتبارهم وإنصافًا لأشخاصهم).

7-      تعرض التاريخ العثماني لافتراءات ومظالم كيف السبيل إلى تصحيح هذا التاريخ وتقديمه للناس؟

في أخريات النصف الأول من القرن السابع الهجري/ الثالث عشر الميلادي كان ميلاد دولة الأتراك العثمانيين، وهي تعد من أطول الإمبراطوريات الإسلامية عمرًا، وأوسعها أرضًا، وأكثرها قوة وطموحًا، وتكاد تكون القوة الإسلامية الوحيدة التي تمكنت - منذ المحاولات الأولى للقائد المسلم الشهير عبد الرحمن الغافقي - من اختراق الحدود الأوربية لتجعل للإسلام والمسلمين مستقرًّا في قلب أوربا، كما استطاعت أن تحوِّل حلم المسلمين بفتح القسطنطينية إلى واقع ملموس، ولكن طبقًا لسنة الله في الخلق - بعد جهاد طويل وجهود مضنية في سبيل نشر الإسلام وحفظ بيضته والدفاع عنه - دب الضعف في أوصال الإمبراطورية العثمانية، وتآمر عليها العدو والصديق، لأنها كانت تمثل في ذلك الوقت رمزًا للإسلام ووحدة للمسلمين، وانتهى أمرها - بعد سلسلة من المؤامرات والدسائس - إلى السقوط، وإلغاء الخلافة الإسلامية سنة 1924 م.

وإن واقع الأمة المرير الذي تعيشه الآن هو أحد إفرازات التآمر على الدولة العثمانية وضياع الخلافة من أيدي المسلمين، فقد آل أمرهم بعدها إلى التشرذم والتفرق وتباين الآراء وتعارض المصالح واختلاف وجهات النظر، وهذا هو ما كان يهدف إليه العدو في المقام الأول، أن يتحول المسلمون من أمة واحدة إلى دول متفرقة، ومن هدف واحد إلى أهداف ومصالح متعارضة، ولن تجتمع كلمة المسلمين وتتفق آراؤهم إلا بعودة هذه الوحدة مرة أخرى.

وكان الأوروبيون ينظرون إلى فتوحات العثمانيين على أنها فتوحات إسلامية، وأنهم الرمز الحي المجسد للإسلام، وهذا أوجد كراهية شديدة من الغرب المتعصب نحوها، هذه الكراهية تشبع بها مؤرخوهم الذين لم تنفعهم موضوعيتهم في التغلب عليها، فدفعتهم لأن يبذلوا جهدهم في تشويه تاريخ تلك الدولة ومحو فضلها على البشرية والافتراء عليها ورميها بكل منقصة ـ اللهم إلا القليل منهم ـ ثم أورثوا تلك الكراهية لمن تتلمذ على أيديهم من مؤرخي الشرق، وخاصة العلمانيين كارهي الإسلام وشرعه منهم، فدونوا ذلك في مؤلفاتهم ودرسوه لتلاميذهم في المدارس والجامعات؛ حتى أقنعوا النشء بأن ضم البلاد الإسلامية للدولة العثمانية- الذي قصد من ورائه توحيد العالم الإسلامي ودفع صولة البرتغال وقتها عن البلاد العربية- أقنعوهم بأنه كان احتلالاً، وأن هذا الاحتلال نجم عنه تخلف وجمود العالم العربي وتراجعه .

وقد زاد الهجوم على تلك الدولة وتاريخها بعد تفككها وزوال قيادتها وحكمها كي تمحى صورتها من ذهن النشء، ووضعت لذلك خطة محكمة ممن سعى لهدم مجد العثمانيين، ومن استفاد من عزلهم، سواء أكان ذلك داخل تركيا مركز تلك الدولة أو خارجها داخل العالم العربي وخارجه.

وقد بذل المخلصون من العلماء والمؤرخين جهودًا محمودة ردًّا على الكارهين لها ومحاولة منهم في إعادة تصويب الصورة لدى الشباب المسلم، ومن أهم ما صدر في هذا الصدد كتاب: "الدولة العثمانية دولة إسلامية مفترى عليها للدكتور عبد العزيز محمد الشناوي، وكتاب "الدولة العثمانية عوامل النهوض وأسباب السقوط" للدكتور علي محمد الصلابي، وسلسلة أخطاء يجب أن تصحح في التاريخ عن الدولة العثمانية للدكتور جمال عبد الهادي، ولي كتاب: "المماليك والعثمانيون: أصلهم- تاريخهم- حضارتهم" قدمتُ فيه محاولة متواضعة لإنصاف تاريخ هاتين الدولتين الكبريين في تاريخ الإسلام.

والحقيقة أن إنصاف التاريخ العثماني وإزالة الغبش الذي أحاط به والرد على الافتراءات التي ألصقت به- ظلمًا وزورًا- يحتاج إلى جهود كبيرة ومضنية تقوم به مؤسسة- بل مؤسسات- علمية لإعادة تدوينه بصورة علمية موضوعية متزنة تذكر الإيجابيات للإفادة منها والسلبيات لتجنبها والابتعاد عنها.

إن أمتنا - لاشك- في حاجة شديدة إلى الوعي بهذا التاريخ التليد في هذه المرحلة؛ ليتكون عندها الحافز للنهوض مرة أخرى، وتسلُّم راية الصدارة بعد أن تخلت عنها لقرون طويلة، ولم تجن من الابتعاد عن هذه الراية سوى التفرق والتناحر والتخلف.    

8-      شاركتم في تحقيق مجموعة من الكتب التراثية التي خرجت عن دار هجر في طبعات منقطعة النظير حدثنا عن هذه التجربة وهل من سبيل إلى إعادة تحقيق كتب التاريخ والتراجم بنفس المنهج ونفس الآلية؟

الحقيقة أن تجربة تحقيق التراث تجربة ممتعة وشاقة في آن واحد، ومنذ اليوم الأول لخوض هذه التجربة تعلمنا منها الدقة والصبر والتحري والقراءة المتأنية والأمانة العلمية وغيرها من الأدوات المهمة التي يجب أن يتحلى بها مَن يتعرضون لتحقيق التراث ويخوضون غماره، فضلاً عن روح التعاون والتكامل بين فرق العمل المختلفة بدءًا من مقابلة المخطوط إلى نسخه إلى تحقيقه وتقويم نصه حتى الانتهاء منه وإقامته نصًّا مستويًا على سوقه يُعجب القراء بصفة عامة والمتخصصين بصفة خاصة، ويكون نافعًا ومفيدًا وجاذبًا في آن واحد.

وبالطبع نحن بحاجة ماسة إلى تحقيق كتب التاريخ والتراجم على وجه الخصوص بنفس المنهج من الدقة والتحري والأمانة العلمية؛ لتكون أكثر إفادة ونفعًا لنا ولأجيالنا، وليخرج النص التاريخي مستقيمًا بعيدًا عن التشويه والبتر والطمس والغموض وغيرها من أساليب التحقيق المقلوبة التي تخرج علينا بين الحين والآخر تجعلنا نكره التراث بدلاً من حبه والإقبال عليه.

9-      كيف نستفيد من تراثنا العظيم؟

التراث هو النتاج المادي والفكري الذي تركه السلف للخلف، والذي يؤدي دورًا أساسيًّا في تكوين شخصية الخلف، في عقله الباطن (نمط التفكير) وسلوكه الظاهر، هكذا يجب أن يُفهم التراث على أنه من صنع الإنسان ونتاج النشاط الإنساني الواعي، في مراحل تاريخية متعاقبة.

إن تراثنا الإسلامي تراث واسع وخصيب، سواء ما كان منه مطبوعًا أو مخطوطًا، وإن علينا- نحن المسلمين- واجبًا كبيرًا تجاه هذا التراث المشرف من ناحيتين؛ من ناحية المحافظة عليه وإعادة طباعته بما يليق به، ومن ناحية إحياء الجزء الأكبر منه الذي ما زال مخطوطًا وإخراجه إلى النور.

ثم تأتي خطوة أخرى لا تقل أهمية عما سبق، ألا وهي قراءة هذا التراث قراءة موضوعية تحليلية متأنية فاحصة دون أحكام مسبقة لاستخلاص العبر والفوائد والإيجابيات التي تقفز بنا إلى الأمام خطوات واسعة نحو الرقي والتقدم والنهوض، وكذلك الوقوف على السلبيات ومعرفة أسبابها وأضرارها لمحاولة تجنبها والحذر منها في المستقبل.

وهذا يسوقنا إلى ما عُرف في الأوساط العلمية باسم (نقد التراث)، وهنا لابد من التحفظ على من يتهم التراث بالرجعية والتخلف والخلو من الفائدة، وفى الوقت نفسه لا نتفق مع من يعتبره كله مليئًا بالفوائد، فكلا الموقفين تطرف: موقف الذين يصفون التراث بالجمود، ومن ثم يهملونه، وموقف الذين يضفون عليه القداسة، ويرفضون كل ما سواه، فالتراث محصلة عمل إنساني خالص، ومعنى هذا أنه قابل دائمًا للصواب والخطأ.

لكن نقد التراث لا يعنى بأية حالة التجرؤ على أعلامه، أو الاستهانة بإنجازاته، وإنما تناول كل رأى بالفحص والتحليل، ومحاولة الإلمام بالظروف الاجتماعية والثقافية التي أحاطت به، مع الاستعانة بكل ما أتاحه التقدم العلمي في الوقت الحاضر من وسائل السبر وأدوات المقارنة للوقوف على مدى ما في هذه الآراء من جوانب الضعف والقوة، وما تحتوى عليه من قدرة على الإنتاج والاستمرار، وطالما أن الهدف هو الرغبة في الاستفادة من التراث، فلن يكون هناك رفض بدون مبرر، أو استبعاد بدون سبب.

وعلى أنصار التراث ألا يخشوا عليه من مثل هذه الحركة النقدية مهما كانت صارمة، فإن هذا هو السبيل الوحيد لجعل التراث ينطق بما في داخله من مكنونات وإيجابيات وسلبيات والاستفادة منه قدر الإمكان، والتمييز بين ما يحويه في طياته من الجواهر أو الحصى.

10-       نظر الغرب إلى التاريخ المملوكى نظرة خاطئة على أنه عصر مظالم وجور كيف نصحح هذا الصورة التى استقرت في أذهان الناس لعقود؟

كانت بدايات النصف الثاني من القرن السابع الهجري/ الثالث عشر الميلادي نقطة تحول في تاريخ العالم الإسلامي، إذ شهدت هذه الفترة مجموعة من الأحداث الكبرى والتحديات الخطيرة، كان في مقدمتها ظهور دولة المماليك، وقد مثلت هذه الدولة في هذه المرحلة حاجز أمان للعالم الإسلامي بعد تمكنها من التصدي للزحف المغولي المدمر، وتحقيق أعظم انتصار شهده النصف الثاني من القرن السابع الهجري في "عين جالوت"، فقد كان هذا الانتصار نقطة تحول ليس فقط في تاريخ الدولة المملوكية، بل في توجهات المغول أيضًا، فقد تمكن المماليك بعد هذا الانتصار الكبير من فرض سيطرتهم على مصر والشام وتحقيق الوحدة بين هذين الإقليمين، وبالتالي أصبحت الفرصة مهيأة أمامها لتحقيق الاستقرار السياسي والتقدم الحضاري حتى بدايات الربع الأول من القرن العاشر الهجري/ السادس عشر الميلادي.

وكالعادة مع الفترات القوية والطويلة في تاريخ الإسلام دائمًا ما نجدها موضع غمز ولمز وإثارة للشبهات من الحاقدين على الإسلام وأهله سواء من الغربيين أو ممن لبس عباءتهم من المشرقيين، ويجب أن تكون هناك جهود كبيرة وجادة لتصحيح الصورة المغلوطة التي بثها المغرضون عن العصر المملوكي وغيرة من فترات تاريخ الإسلام.

وإن اتهام العصر المملوكي بأنه عصر مظالم وجور هو اتهام باطل لا يستند على أدلة منطقية، فالنظم التي أحياها المماليك وطوروها كان الغرض منها إشاعة العدل وإنصاف المظلومين، وعلى رأس هذه النظم الاعتناء بديوان المظالم واختيار أكفأ الشخصيات للقيام عليه؛ ضمانًا للعدل والحق والحرية.

كما حاول البعض وصفه بأنه عصر انحطاط وتخلف أدبي وفكري، وهذه أيضًا فرية تنضم إلى أخواتها المختلقات، فقد حفل ذلك العصر بالعديد من الأسماء السامقة من أمثال شيخ الإسلام ابن حجر، والبلقيني، وابن خلدون والمقريزي، والعيني والسخاوي، والسيوطي، والدواداري، والأدفوي، وابن طولون، وابن إياس، وغيرهم كثر، كل فيما نبغ فيه وبرع، ومن شعراء هذا العصر جمال الدين بن مطروح وبهاء الدين زهير وأبو الحسن الجزار والبوصيري وابن نباتة المصري وغيرهم.

ولا نكون مبالغين إذا قلنا إن العصر المملوكي كان أزهى عصورنا في إنتاج الموسوعات العلمية والأدبية والشرعية والتاريخية وغيرها.