العالم الجليل الداعية الدكتور محمد حميد الله الحيدر آبادي الهندي

عمر العبسو

( 1326- 1424ه /  1908- 2002م )

clip_image002_420c0.jpg

هو العالم الجليل الداعية د. محمد حميد الله الحيدر آبادي الهندي، الذي عاش راهباً في صومعة العلم ومحراب الدعوة، يؤلف، ويحقق، وينشر العلم، ويحاضر، فمن هو ؟ وما هي سيرته؟ ومساهماته ...كل ذلك وغيره نجده في الصفحات التالية.

المولد والنشأة:

       ولد محمد حميد الله في حيدر آباد الهند يوم 16 محرم 1326 هـ/ المصادف 1908 م. ويقال إنه من أسرة النوائط، ومن مواليد عام 1918م .

دراسته ومراحل حياته:

تلقّى العلوم الإسلامية، واللغة العربية من المدرسة النظامية «بحيدر آباد»، ودرس اللغة الإنجليزية بجهوده الذاتية.

ودخل قسم الدراسات الإسلامية بـ«الجامعة العثمانية»، وأنهى البكالوريا بتقدير ممتاز.

وواصل دراساته في القانون، وحصل على الماجستير عام 1930.

ثم نال منحة التحقيقات العلمية من «الجامعة العثمانية»

أعماله والوظائف التي تقلدها :

وبدأ يعمل في التحقيق في موضوع القانون الإسلامي العالمي.

ولم يلبث أن اُنتخب سكرتيرًا لجمعية القانون في الجامعة، وقد حالفه الحظ لمنحة من «جامعة بون» بألمانيا، لمواصلة دراساته هناك. كما أن الجامعة العثمانية تفضلت باستمرار منحتها إياه لدراساته التحقيقية في «ألمانيا». وفي خلال دراسته هناك نال الدكتوراه من جامعة «بون» لرسالة أعدها بعنوان «العلاقات الدولية في الإسلام» ولما انتهت مدة منحته الجامعية سافر إلى «بريطانيا» ومنها إلى «باريس»، وحصل على شهادة دكتوراه ثانيةً من جامعة السوربون بمقالة قدمها بعنوان «مجموعة الوثائق السياسية في العهد النبوي وفي الخلافة الراشدة».

ثم رجع إلى «حيدر آباد» والتحق «بالجامعة العثمانية» أستاذًا في «قسم الدين»، ثم عُيّن في «قسم القانون الدولي».

وظل يخدم فيها حتى اُختير عضوًا في وفد رسمي يمثل حكومة «حيدر آباد» إلى الأمم المتحدة سنة 1948. وذلك لعرض قضية استقلال «حيدر آباد» وعدم رغبتها بالانضمام إلى الكيان الهندي؛ ولكن الحكومة الهندية المستقلة ضمتها قسرًا إلى جمهورية الهند قبل أن تتم مفاوضة أعضاء الوفد.

ثم رجع جميع أعضاء الوفد إلى الهند، وبقي هو هناك وآثر الإقامة في «باريس».

وقد استقى الدكتور «حميد الله» العلوم من الأساتذة الكبار في أيامه من أمثال «مناظر أحسن» الكيلاني، والمولوي «عبد الحق»، والأستاذ «عبد القدير» الصديقي،  والأستاذ «عبد المجيد» الصديقي، والمفتي «عبد اللطيف»، والمولوي «صبغة الله»، والدكتور سيد «عبد اللطيف»، و«حسين علي» ميرزا، مما ساعده على تكوين عقلية واعية وشخصية علمية عالية. ولما استقر رأيه على البقاء في «باريس» التحق بالمعهد القومي للأبحاث العلمية، وبقي هناك على منحة مركز أبحاث الدراسات الشرقية (Oriental studies research centre) ولم يلبث أن حصل على منحة أخرى من المركز الوطني للتحقيق العلمي (National centre for scientific research) استمرت لعشرين سنةً .

وفي خلال هذه الفترة ألقى محاضرات في مختلف الجامعات في العالم، وأسهم في وضع القوانين وخطة التعليم لحكومة «باكستان».

وقد ظل طوال عمره المديد معطاءً غزير التأليف، ولم يتوقف عن العمل إلا بعد أن صار طريحًا للفراش لسنتين قبل وفاته، حيث كان مع ابنة أخته في الولايات المتحدة .

ولم يتزوج رحمه الله، بل تفرغ للعلم والبحث والتأليف . وعندما استقر في «باريس» لم يكن فيها أحد ممن يتحدث عن الإسلام سوى زمرة من المستشرقين.     ولما كثرت وفود الطلبة من البلاد العربية إلى «باريس» بادر إلى تأسيس جمعية الطلبة المسلمين، حفظاً لكيانهم الإسلامي وحمايةً لهم من الذوبان في ثقافة البلاد المضيفة .

ومن أبرز إسهامات «حميد الله» تأسيسه مبدأ الحياد في القانون الدولي الإسلامي. كما أن له الفضل في إدخال مصطلحات جديدة في القاموس الإسلامي مثل دولة المدينة ودستور المدينة، ونال أعلى جائزة من جمهورية «باكستان» لأعماله المميزة في السيرة.

وعمل أستاذًا زائرًا في كلية الإلــهيات بجامعة «إستنبول»، وكان يعرف باثنتين وعشرين لغةً، درس الأخيرة منها ، وهو في الثانية والثمانين من عمره.

وكان له قدرة فائقة في التأليف في سبع لغات - في «العربية» و «الألمانية» و«الأردية» و«الفرنسية» و«التركية» و«الفارسية» و«الإنجليزية».

ونظرًا لبحوثه القيمة وإسهاماته الجليلة في الدراسات الإسلامية المقارنة رشح اسمه لجائزة الملك فيصل عام 1994م؛ ولكنه اعتذر إليهم عن قبولها .

ودعاه الرئيس الباكستاني السابق الجنرل «محمد ضياء الحق» إلى إلقاء سلسلة من المحاضرات في جامعة «بهاولفور» في سيرة النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - بمناسبة مرور 1400 عام بعد الهجرة .

وقام بها حق قيام. كما أنه ألقى المحاضرات في جامعة «باريس» وجامعات «ألمانيا» وجامعات «استنبول» و«أنقرة» و«كوالالمبور» و« باكستان ».

أعماله العربية :

تتميز أعماله العلمية وأبحاثه بالأصالة ودقة العرض والشمولية، وكان موضوعه المحبب إليه السيرة النبوية، وقد طبع له أكثر من ألف مقال، كما طبع أكثر من مائة وخمسة وسبعين من كتبه ورسائله. ومعظم كتاباته حول الإسلام والقانون الإسلامي، والسيرة النبوية والرد على الشبهات حول الإسلام.

ومن أهم أعماله ترجمة القرآن إلى اللغة الفرنسية .

وفي السيرة نشر «صحيفة همام بن منبه» عن مخطوطة برلين بعد أن حققها وعلق عليها مع مقدمة في تاريخ تدوين الحديث وطُبعت في «بيروت».

وتحتوي هذه الصحيفة على أحاديث كتبها أبو هريرة الصحابي الشهير عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وتعرف بالصحيفة الصحيحة، ثم نقلها عنه تلميذه «همام بن منبه».    وهذا أقدم ما وصل إلينا كتابةً عن النبي. وقد عثر الدكتور «حميد الله» على مخطوطاتها ببرلين في أثناء دراسته في «ألمانيا».

ثم دله الدكتور «زبير أحمد» الصديقي على نسخة أخرى للصحيفة في المكتبة الظاهرية «بدمشق»، فحقق الدكتور هذه الصحيفة وقارن بين نسختيها، وكتب مقدمةً ضافيةً في تدوين الحديث وكتابته في العهد النبوي، وأثبت بالبراهين الساطعة والحجج القاطعة أن الحديث كان يُكتب في أيام الرسول، كما أن النبي كتب كتابًا للمهاجرين والأنصار واليهود للتعامل بينهم.

وهو يعتبر أول وثيقة دستورية للدولة الإسلامية التي كان رئيسها النبي صلى الله عليه وسلم .

هكذا فند الدكتور حميد الله المزاعم الباطلة التي ينشرها أعداء الدين، إذ يقولون: إن الأحاديث لم تُكتب إلا بعد القرن الثالث الهجري. وخرج أحاديثها التي يبلغ عددها / 138 / حديثًا.

وهذه الصحيفة ترجمت إلى «الأردية» و«الفرنسية» و«الإنجليزية» و«التركية» .

كتاب السرد والفرد :

وهو في صحائف الأخبار ونسخها المنقولة عن سيد المرسلين.

جمع هذا الكتاب الشيخ أبو الخير أحمد بن إسماعيل بن يوسف الطالقاني القزويني.

يقول المؤلف في تسمية كتابه: هذا الكتاب يتضمّن صحائف ونسخًا تلقيناها، تحوي أخبارًا كثيرةً عن سيدنا المصطفى - صلى الله عليه وسلم - بإسنادها الوحيد تسهيلاً لحفظها على طلاب علم الحديث. وسميته كتاب السرد والفرد، يعني به سرد الأحاديث المتعددة بالأسانيد المنقولة المتفقة.

والكتاب يحتوي على أهم الصحائف مثل «صحيفة همام بن منبه عن أبي هريرة»، و«صحيفة كلثوم بن محمد عن أبي هريرة»، و«صحيفة عبد الرزاق عن أبي هريرة» و«صحيفة حميد الطويل عن أنس بن مالك» و «صحيفة عن طريق أهل البيت عن علي بن أبي طالب» و«صحيفة إلياس والخضر عن النبي صلى الله عليه وسلم»، و«صحيفة جعفر بن نسطور الرومي» و«صحيفة خراش عن أنس بن مالك».

نشر الدكتور الكتاب عن النسخة الخطية التي كُتبت سنة 599هـ . كما قام بتحقيقه وترقيم أحاديثه في كل مخطوط، ورقّم جميع أحاديث الكتاب بالتسلسل، ثم ترجمها إلى الإنجليزية وحلاه بمقدمة ضافية عرف فيها بجميع الصحائف وألقى الضوء على تاريخ تدوين الحديث. وتم نشر هذا الكتاب في المجلس الوطني للهجرة بـ «إسلام آباد» سنة 1990، وفي الكتاب تقريظ لشريف الدين بيرزاده، وتعريف الدكتور محمد حميد الله لأصحاب الصحائف .

الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة:

هذا الكتاب روائع أعماله، وهو في الحقيقة رسالة قدّمها في «جامعة السوربون» للحصول على شهادة الدكتوراه. وقد طُبع بالعربية بالإضافات والتنقيحات.

جمع فيه الوثائق السياسية الخاصة بعهد الرسول وفي أيام الخلافة الراشدة. وعدد الوثائق التي جمعها الدكتور «حميد الله»373 وثيقة .

والكتاب ينقسم على أربعة أقسام:

- القسم الأول يشتمل على وثائق الرسول قبل الهجرة.

- والقسم الثاني يحتوي على الوثائق التي كُتبت بعد الهجرة، يبدأ هذا القسم بالوثيقة المكتوبة في تحديد الواجبات والحقوق بين المهاجرين والأنصار واليهود، وتُعتبر هذه الوثيقة أول دستور للإسلام. ثم ذكر الوثائق الخاصة بالعلاقات مع الروم والفرس وبين القبائل العربية.

-ويحتوي القسم الثالث على الوثائق التي كُتِبَت في عهد الخلافة الراشدة، سجل فيها وثائق خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي - رضي الله عنهم - على الترتيب.

- ويشتمل القسم الرابع على ملحقات ذُكر فيها العهود مع اليهود والنصارى والمجوس، ثم ألحق به الوثائق التي عثر عليها فيما بعد.

وفي آخر الكتاب فهارس تشمل الصور والخرائط والجداول.

وطُبع الكتاب في اللغة الفرنسية سنة 1935 ثم نقله إلى العربية، وطُبع في القاهرة سنة 1941. ثم أعيدت طباعته عدة مرات.

كتاب السيرة لابن إسحق:

هذا الكتاب هو المصدر الأول الأصلي للسيرة النبوية. وهو الذي اعتمد عليه صاحب سيرة ابن هشام. و«محمد بن إسحق» هو تلميذ محمد بن شهاب الزهري الذي بدأ تدوين الحديث أولاً بإيعاز من الخليفة الصالح «عمر بن عبد العزيز». وكان الكتاب مفقودًا.

وعثر الدكتور «حميد الله» على نسخة خطّية منه في المكتبة الظاهرية بـ«دمشق»، كما وجد نسخةً خطيةً أخرى في مكتبة جامع القرويين «بفاس».   فأعدّ الدكتور الكتاب بالمقابلة بين النسختين، وطبع في الرباط في معهد الدراسات والأبحاث للتعريب.

وله كتب أخرى في مختلف فنون التحقيقات. منها:

-«المعتمد في أصول الفقه لأبي الحسين البصري» قام بتحقيقه مع «محمد بكير» و«حسن حنفي»، وطبعه المعهد الفرنسي «بدمشق».

-ومنها «أنساب الأشراف لأحمد بن يحيى المعروف بالبلاذري»، حقّقه الدكتور حميد الله، وطبعه «معهد المخطوطات» بجامعة الدول العربية.

- ومنها «معدن الجواهر بتاريخ البصرة والجزائر لابن العراق»، وصدر ذلك عن مجمع البحوث الإسلامية «بإسلام آباد» مع تحقيق الدكتور «حميد الله».

-بجانب هذا له أعمال في اللغة والأدب مثل «كتاب الأنواء في مواسم العرب لابن قتيبة». قام بتحقيقه بالاشتراك مع «شارل بلا»، وصدر عن دائرة المعارف العثمانية.

- و«كتاب الذخائر والتحف للقاضي رشيد بن الزبير» الصادر عن دائرة المطبوعات والنشر «بالكويت».

- و«كتاب النبات لأبي حنيفة الدنيوري».

- وتاريخ تطور الدستور عند المسلمين : الذي يبحث فيه عن الوثائق الدستورية في مكة قبل الإسلام ومن العهد النبوي إلى نهاية العصر الأموي، و«كتاب أديان العالم ومقارنتها».

قضى ما يقرب من نصف عمره بالبحث والتحقيق في أوروبا ودول الشرق الأوسط. له تبحر باللغة العربية والإنجليزية والفرنسية والألمانية والأردية والتركية الإستانبولية، وله مؤلفات قيمة بهذه اللغات يبلغ عددها / 175 / كتاباً.

وله مئات المقالات في القرآن والسيرة النبوية والفقه والتاريخ والحقوق والمكاتيب وغيرها.

توفي (محمد حميد الله) في الولايات المتحدة الأمريكية سنة 2002 م في الأربعة والتسعين من عمره.

من مؤلفاته:

الوثائق السياسية للعهد النبوي.

مساهمات الدكتور محمد حميد اللّه الحيدر آبادي في التحقيق العلمي                                                                                            بقلم : د . جمال الدين الفاروقي : الأستاذ المشارك، كلية WMO ، ويناد، كيرالا :

ساهمت بلادنا الهند في ماضيها الغابر وحاضرها الزاهر بشخصيات بارزة خدموا العلومَ واللغة والآداب، وخدمتهم لا تقل عن خدمات العلماء العرب، بل تفوقها في بعض المجالات، مثل خدمات الدكتور محمد حميد الله في التحقيق العلمي والبحوث.

وهو من أسرة النوائط ومن مواليد عام 1918، تلقّى العلوم الإسلامية واللغة العربية من المدرسة النظامية "بحيدر آباد"، ودرس اللغة الإنجليزية بجهوده الذاتية. ودخل قسم الدراسات الإسلامية بـ"الجامعة العثمانية" وأنهى البكالوريا بتقدير ممتاز.     وواصل دراساته في القانون وحصل على الماجستير عام 1930. ثم نال منحة التحقيقات العلمية من "الجامعة العثمانية" وبدأ يعمل في التحقيق في موضوع القانون الإسلامي العالمي. ولم يلبث أن اُنتخب سكرتيرًا لجمعية القانون في الجامعة وقد حالفه الحظ لمنحة من "جامعة بون" بألمانيا، لمواصلة دراساته هناك. كما أن الجامعة العثمانية تفضلت باستمرار منحتها إياه لدراساته التحقيقية في "ألمانيا". وفي خلال دراسته هناك نال الدكتوراه من جامعة "بون" لرسالة أعدها بعنوان "العلاقات الدولية في الإسلام" ولما انتهت مدة منحته الجامعية سافر إلى "بريطانيا" ومنها إلى "باريس"، وحصل على شهادة دكتوراه ثانيةً من جامعة السوربون بمقالة قدمها بعنوان "مجموعة الوثائق السياسية في العهد النبوي وفي الخلافة الراشدة". ثم رجع إلى "حيدر آباد" والتحق "بالجامعة العثمانية" أستاذًا في "قسم الدين"، ثم عُيّن في "قسم القانون الدولي". وظل يخدم فيها حتى اُختير عضوًا في وفد رسمي يمثل حكومة "حيدر آباد" إلى الأمم المتحدة سنة 1948. وذلك لعرض قضية استقلال "حيدر آباد" وعدم رغبتها بالانضمام إلى الكيان الهندي؛ ولكن الحكومة الهندية المستقلة ضمتها قسرًا إلى جمهورية الهند قبل أن تتم مفاوضة أعضاء الوفد. ثم رجع جميع أعضاء الوفد إلى الهند وبقي هو هناك وآثر الإقامة في "باريس".

وقد استقى الدكتور "حميد الله" العلوم من الأساتذة الكبار في أيامه من أمثال "مناظر أحسن" الكيلاني والمولوي "عبد الحق" والأستاذ "عبد القدير" الصديقي والأستاذ "عبد المجيد" الصديقي والمفتي "عبد اللطيف" والمولوي "صبغة الله" والدكتور سيد "عبد اللطيف" و"حسين علي" ميرزا، مما ساعده على تكوين عقلية واعية وشخصية علمية عالية. ولما استقر رأيه على البقاء في "باريس" التحق بالمعهد القومي للأبحاث العلمية وبقي هناك على منحة مركز أبحاث الدراسات الشرقية (Oriental studies research centre) ولم يلبث أن حصل على منحة أخرى من المركز الوطني للتحقيق العلمي (National centre for scientific research) استمرت لعشرين سنةً . وفي خلال هذه الفترة ألقى محاضرات في مختلف الجامعات في العالم وأسهم في وضع القوانين وخطة التعليم لحكومة "باكستان". وقد ظل طوال عمره المديد معطاءً غزير التأليف، ولم يتوقف عن العمل إلا بعد أن صار طريحًا للفراش لسنتين قبل وفاته، حيث كان مع ابنة أخته في الولايات المتحدة . ولم يتزوج رحمه الله، بل تفرغ للعلم والبحث والتأليف.   وعندما استقر في "باريس" لم يكن فيها أحد ممن يتحدث عن الإسلام سوى زمرة من المستشرقين. ولما كثرت وفود الطلبة من البلاد العربية إلى "باريس" بادر إلى تأسيس جمعية الطلبة المسلمين، حفظاً لكيانهم الإسلامي وحمايةً لهم من الذوبان في ثقافة البلاد المضيفة.

ومن أبرز إسهامات "حميد الله" تأسيسه مبدأ الحياد في القانون الدولي الإسلامي. كما أن له الفضل في إدخال مصطلحات جديدة في القاموس الإسلامي مثل دولة المدينة ودستور المدينة، ونال أعلى جائزة من جمهورية "باكستان" لأعماله المميزة في السيرة. وعمل أستاذًا زائرًا في كلية الإلـٰـهيات بجامعة "إستنبول"، وكان يعرف باثنتين وعشرين لغةً، درس الأخيرة منها وهو في الثانية والثمانين من عمره. وكان له قدرة فائقة في التأليف في سبع لغات – في "العربية" و "الألمانية" و "الأردية" و"الفرنسية" و"التركية" و"الفارسية" و"الإنجليزية". ونظرًا لبحوثه القيمة وإسهاماته الجليلة في الدراسات الإسلامية المقارنة رشح اسمه لجائزة الملك فيصل عام 1994م؛ ولكنه اعتذر إليهم عن قبولها .

ودعاه الرئيس الباكستاني السابق الجنرل "محمد ضياء الحق" إلى إلقاء سلسلة من المحاضرات في جامعة "بهاولفور" في سيرة النبي محمد – صلى الله عليه وسلم – بمناسبة مرور 1400 عام بعد الهجرة . وقام بها حق قيام. كما أنه ألقى المحاضرات في جامعة "باريس" وجامعات "ألمانيا"  وجامعات "استنبول" و"أنقرة" و"كوالالمبور" و"باكتسان".

أعماله العربية:

تتميز أعماله العلمية وأبحاثه بالأصالة ودقة العرض والشمولية، وكان موضوعه المحبب إليه السيرة النبوية، وقد طبع له أكثر من ألف مقال، كما طبع أكثر من مائة وخمسة وسبعين من كتبه ورسائله. ومعظم كتاباته حول الإسلام والقانون الإسلامي، والسيرة النبوية والرد على الشبهات حول الإسلام. ومن أهم أعماله ترجمة القرآن إلى اللغة الفرنسية .

وفي السيرة نشر "صحيفة همام بن منبه" عن مخطوطة برلين بعد أن حققها وعلق عليها مع مقدمة في تاريخ تدوين الحديث وطُبعت في "بيروت". وتحتوي هذه الصحيفة على أحاديث كتبها أبو هريرة الصحابي الشهير عن النبي – صلى الله عليه وسلم – وتعرف بالصحيفة الصحيحة، ثم نقلها عنه تلميذه "همام بن منبه". وهذا أقدم ما وصل إلينا كتابةً عن النبي. وقد عثر الدكتور "حميد الله" على مخطوطاتها ببرلين في أثناء دراسته في "ألمانيا". ثم دله الدكتور "زبير أحمد" الصديقي على نسخة أخرى للصحيفة في المكتبة الظاهرية "بدمشق"، فحقق الدكتور هذه الصحيفة وقارن بين نسختيها، وكتب مقدمةً ضافيةً في تدوين الحديث وكتابته في العهد النبوي وأثبت بالبراهين الساطعة والحجج القاطعة أن الحديث كان يُكتب في أيام الرسول، كما أن النبي كتب كتابًا للمهاجرين والأنصار واليهود للتعامل بينهم. وهو يعتبر أول وثيقة دستورية للدولة الإسلامية التي كان رئيسها النبي صلى الله عليه وسلم . هكذا فند الدكتور حميد الله المزاعم الباطلة التي ينشرها أعداء الدين، إذ يقولون: إن الأحاديث لم تُكتب إلا بعد القرن الثالث الهجري. وخرج أحاديثها التي يبلغ عددها 138 حديثًا. وهذه الصحيفة ترجمت إلى "الأردية" و"الفرنسية" و"الإنجليزية" و"التركية" .

كتاب السرد والفرد:

وهو في صحائف الأخبار ونسخها المنقولة عن سيد المرسلين. جمع هذا الكتاب الشيخ أبو الخير أحمد بن إسماعيل بن يوسف الطالقاني القزويني. يقول المؤلف في تسمية كتابه: هذا الكتاب يتضمّن صحائف ونسخًا تلقيناها، تحوي أخبارًا كثيرةً عن سيدنا المصطفى – صلى الله عليه وسلم – بإسنادها الوحيد تسهيلاً لحفظها على طلاب علم الحديث. وسميته كتاب السرد والفرد، يعني به سرد الأحاديث المتعددة بالأسانيد المنقولة المتفقة. والكتاب يحتوي على أهم الصحائف مثل "صحيفة همام بن منبه عن أبي هريرة"، و"صحيفة كلثوم بن محمد عن أبي هريرة، و"صحيفة عبد الرزاق عن أبي هريرة" و"صحيفة حميد الطويل عن أنس بن مالك" و"صحيفة عن طريق أهل البيت عن علي بن أبي طالب" و"صحيفة إلياس والخضر عن النبي صلى الله عليه وسلم "، و"صحيفة جعفر بن نسطور الرومي" و"صحيفة خراش عن أنس بن مالك".

نشر الدكتور الكتاب عن النسخة الخطية التي كُتبت سنة 599هـ . كما قام بتحقيقه وترقيم أحاديثه في كل مخطوط ورقّم جميع أحاديث الكتاب بالتسلسل، ثم ترجمها إلى الإنجليزية وحلاه بمقدمة ضافية عرف فيها بجميع الصحائف وألقى الضوء على تاريخ تدوين الحديث. وتم نشر هذا الكتاب في المجلس الوطني للهجرة بـ"إسلام آباد" سنة 1990، وفي الكتاب تقريظ لشريف الدين بيرزاده وتعريف الدكتور محمد حميد الله لأصحاب الصحائف .

الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة:

هذا الكتاب روائع أعماله، وهو في الحقيقة رسالة قدّمها في "جامعة السوربون" للحصول على شهادة الدكتوراه. وقد طُبع بالعربية بالإضافات والتنقيحات. جمع فيه الوثائق السياسية الخاصة بعهد الرسول وفي أيام الخلافة الراشدة. وعدد الوثائق التي جمعها الدكتور "حميد الله" 373 وثيقة . والكتاب ينقسم على أربعة أقسام: القسم الأول يشتمل على وثائق الرسول قبل الهجرة، والقسم الثاني يحتوي على الوثائق التي كُتبت بعد الهجرة، يبدأ هذا القسم بالوثيقة المكتوبة في تحديد الواجبات والحقوق بين المهاجرين والأنصار واليهود، وتُعتبر هذه الوثيقة أول دستور للإسلام. ثم ذكر الوثائق الخاصة بالعلاقات مع الروم والفرس وبين القبائل العربية. ويحتوي القسم الثالث على الوثائق التي كُتِبَت في عهد الخلافة الراشدة، سجل فيها وثائق خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي – رضي الله عنهم – على الترتيب. ويشتمل القسم الرابع على ملحقات ذُكر فيها العهود مع اليهود والنصارى والمجوس، ثم ألحق به الوثائق التي عثر عليها فيما بعد. وفي آخر الكتاب فهارس تشمل الصور والخرائط والجداول. وطُبع الكتاب في اللغة الفرنسية سنة 1935 ثم نقله إلى العربية وطُبع في القاهرة سنة 1941. ثم أعيدت طباعته عدة مرات.

كتاب السيرة لابن إسحق :

هذا الكتاب هو المصدر الأول الأصلي للسيرة النبوية. وهو الذي اعتمد عليه صاحب سيرة ابن هشام. و"محمد بن إسحق" هو تلميذ محمد بن شهاب الزهري الذي بدأ تدوين الحديث أولاً بإيعاز من الخليفة الصالح "عمر بن عبد العزيز". وكان الكتاب مفقودًا. وعثر الدكتور "حميد الله" على نسخة خطّية منه في المكتبة الظاهرية بـ"دمشق"، كما وجد نسخةً خطيةً أخرى في مكتبة جامع القزويين "بفارس". فأعدّ الدكتور الكتاب بالمقابلة بين النسختين، وطبع في الرباط في معهد الدراسات والأبحاث للتعريب .

وله كتب أخرى في مختلف فنون التحقيقات. منها "المعتمد في أصول الفقه لأبي الحسين البصري" قام بتحقيقه مع "محمد بكير" و"حسن حنفي"، وطبعه المعهد الفرنسي "بدمشق". ومنها "أنساب الأشراف لأحمد بن يحيى المعروف بالبلاذري"، حقّقه الدكتور حميد الله وطبعه "معهد المخطوطات" بجامعة الدول العربية. ومنها "معدن الجواهر بتاريخ البصرة والجزائر لابن العراق"، وصدر ذلك عن مجمع البحوث الإسلامية "بإسلام آباد" مع تحقيق الدكتور "حميد الله" .

بجانب هذا له أعمال في اللغة والأدب مثل "كتاب الأنواء في مواسم العرب لابن قتيبة". قام بتحقيقه بالاشتراك مع "شارل بلا"، وصدر عن دائرة المعارف العثمانية، و"كتاب الذخائر والتحف للقاضي رشيد بن الزبير" الصادر عن دائرة المطبوعات والنشر "بالكويت"، و"كتاب النبات لأبي حنيفة الدنيوري"، وتاريخ تطور الدستور عند المسلمين الذي يبحث فيه عن الوثائق الدستورية في مكة قبل الإسلام ومن العهد النبوي إلى نهاية العصر الأموي، و"كتاب أديان العالم ومقارنتها" .

الدكتور محمد حميد الله رحمه الله: مفكراً وباحثاً إسلامياً فريداً :

وكتب الأستاذ محمد ذاكر خان – الرياض:

(هو الدكتور محمد حميد الله بن حاجي أبي محمد خليل الله بن محمد صبغة الله. ولد يوم الأربعاء في 16 محرم عام 1326هـ الموافق 19 فبراير 1908م[2] في حي فيلخانه بمدينة حيدرآباد الدكن بالهند[3]. وكان ينتمي إلى سلالة النوائط[4] التي كانت تقطن الساحل الجنوبي من الهند، وتمارس التجارة والملاحة. ولها باع طويل في الدعوة والإرشاد والتأليف والتحقيق[5] . فكان جده من الأب القاضي محمد صبغة الله بدر الدولة (1211هـ/1792م - 1280هـ/1863م) عالماً متمكناً على حذو أجداده مثل شمس العلماء القاضي عبد الله (ت. 1346هـ) حيث كان يعتبر أول كاتب في النثر الأردي في جنوب ا لهند[6]. وله 14 مؤلفاً باللغة الأردية و 23 كتاباً باللغة الفارسية بالإضافة إلى 29 كتاباً باللغة العربية في التفسير والفقه، ومنها كتاب «فوائد بدرية» في موضوع السيرة وهو معروف ومتداول لدى العلماء[7]. وكان والده أبو محمد خليل (1374هـ - 1363هـ) مدير المالية في حكومة نظام الملك بحيدر آباد الدكن في عهد القاضي بدر الدولة[8]. توفي الدكتور حميد الله في 13 شوال عام 1423هـ الموافق 17 ديسمبر 2002م في مدينة جاكسلفانيا بالولايات المتحدة الأمريكية، تغمده الله برحمته وأسكنه فسيح جناته[9].

دراسته:

بدأ دراسته على يد والده، ثم التحق بكلية دار العلوم بحيدر آباد الدكن، وتخرج فيها بعد نيل شهادة « مولوي كامل»[10]، وحفظ القرآن الكريم في سن مبكر،[11] وقطع منذ ولادته جميع مراحل التعليم بدار العلوم الكلية النظامية والجامعة العثمانية، وحصل على الماجستير والبكالوريا في الحقوق، وشهادة دي فِل (جامعة بون الألمانية) ودِى لت (جامعة سوربون الفرنسية)[12]، وذلك لغاية عام 1936م وكان يومئذ ابن ثمان وعشرين فقط. ثم استهل حياته العملية بالتدريس، وعليه فقد قضى فيه مسيرة حياته الممتدة على 94 عاماً (فبراير 1908م - ديسمبر 2002م) أي زهاء ستين سنة على الأقل (1936-1996م) مشتغلاً بنشاطات علمية ودعوية، تعليمية وتصنيفية ليلَ نهارَ. فبالرغم من نحافة جسمه مضى، وقد أقام منارات شامخة في مجالات العلم والتحقيق المختلفة ترفع عمله وتبرز رسمه على مدى الأجيال القادمة. وينظر إلى عائلته كعائلة شريفة ولكنه يقول عن نفسه انه يتحدر روحياً من الدوحة النبوية.

مشايخه وأساتذته:

من أشهر أساتذته الذين أخذ عنهم:

(1) الشيخ مناظر أحسن الكيلاني

(2) عبد القدير الصديقي

(3) المفتي عبد اللطيف

(4) الشاه مصطفى القادري

(5) المولوي صبغة الله

(6) د. سيد عبد اللطيف

(7) البروفيسور حسين علي خان

(8) البروفيسور حسين علي مرزا

(9) المولوي علي موسى رضا مهاجر ..الخ..

مكانته العلمية:

لا تحتاج أوساط العلم المعاصرة ودوائر التحقيق الشرقية والغربية الجادة اليوم إلى تعريف بشخصية جامعة عملاقة كالدكتور محمد حميد الله ومآثره العلمية الجليلة وبمكانته الفكرية السامية. فكان القرن العشرون باستثناء بعض السنوات قرنه كاملاً. وقد قضى حياته الطيبة كلها بسذاجة وطهارة، فما اشتغل بالدنيا الدنينة قط إلا رسماً وتكلفاً، فلم تتح له فرصة الزواج على غرار بعض السلف في التاريخ الإسلامي، وما بنى له داراً.

غادر وطنه المألوف حيدر آباد الدكن بعد الاحتلال الهندي لها مغادرة لم تنته حتى وافته المنية عام 2002، و لم يحصل كذلك على جنسية لبلد آخر، ولم يؤسس دكاناً ولا داراً ولا ضيعة، وعاش حياته في شقة مستأجرة متواضعة، حيث لم تتوفر الأثاث الفاخر ولا أسباب الترف، يتراكم فيها الكتب والمجلدات بحيث لا تعد، ولا تحصى حتى لا تتواجد فيها دار الضيافة والرعاية التقليدية، لأنه كان يكتفي من طعام وشراب بما يسد رمقه، ويبقى على قيد الحياة.

وقد هجر أكل اللحوم منذ أزمان بعيدة، فيعيش على البقول والخضراوات ويكتفي ببعض البدلات من الملابس سائر فصول السنة طوال حياته.

كان يقوم بجميع أعماله بنفسه مستغنياً عن الخدم ، يحرر مكاتيبه بنفسه، يستخدم في الكتابة القطع الصغير من الأوراق، ويكتب بخط دقيق، ويملأ الصفحة كلها حتى لا يضيع شيء، ويستغل أقل مساحة لأطول مبحث.

وعليه فإنه يعطى للدين كله دون أن يأخذ من الدنيا شيئاً.

عاش عيشة عابر سبيل يصدق عليها قول الرسول الكريم «مالي وللدنيا، وما أنا والدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها».

عاش الدكتور محمد حميد الله حياته كلها بعد مغادرة مدينة حيدر آباد الدكن في سفر متواصل دائم، وكان يلم ويمر بكل بقعة من بقاع العالم سوى الدولة الآصفية (الدكن المحتلة) وأرض الفرنج الغاصبين، فكان يزور كل البلاد شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً. و كان يبقى مرتبطاً بخاصة برجالات العلم في العالم الإسلامي وبالمعاهد العلمية والبحثية والجامعات الهامة في تواصل دائم. وكل ما قام فردياً لتنمية العلم والتحقيق (يقتضي تفصيله بحثاً مستقلاً موسعاً) ما هو في جلالته قدره، إلا أنه من جلائل أعماله وخوالد آثاره أنه ظل طوال عمره متصلاً بالمشاريع العلمية والتعليمية والتحقيقية عبر العالم متعاوناً ومشيراً ومرشداً. وحظيت على وجه الخصوص المعاهد الإسلامية الدعوية والمساجد والجامعات التي تعنى بتدريس وتحقيق العلوم الإسلامية من القرآن والحديث وغيرهما من علوم الدين، بتعاونه العلمي الدؤوب وتقديره وتشجيعه المتواصل، لأنه كان مسلماً مؤمناً وعالماً محققاً خدم العلم طوال عمره عن طواعية ورغبة وإخلاص تام، وأنفق معظم حياته بين الباحثين الغربيين وعلماء الغرب ومستشرقيه. وكان يدرك تماماً بسوء نياتهم وبغضهم وحقدهم للإسلام وأهدافهم ومقاصدهم الدنيئة المتمثلة في أسلوب دراساتهم وأبحاثهم المنقية. وقام خير قيام بالتصدي للمستشرقين والعلماء الغربيين بنفس أسلوبهم. وبذل جهده المستطاع في إعداد مقالات وبحوث وكتابات رفيعة المستوى من ناحية التحقيق العلمي تتوافق وطرازهم البحثي ومعيارهم العلمي بل ربما تفوقه. وبذلك استطاع دحض اعتراضاتهم وتحقيقاتهم الزائفة وكشف اللثام عن المفاهيم الخاطئة التي روجوها عن الإسلام ورسول الإسلام (صلى الله عليه وسلم) وهجومهم على مصادره حتى تجلت المآثر الإسلامية وثبت تفوق المدنية الإسلامية على الغرب وحضارته واعترفت الدنيا كلها بهذه الحقيقة الناصعة.

وكان يتكلم مع علماء الغرب وباحثيه الأدعياء والمستشرقين العنيدين بلغتهم وأسلوبهم. وبجانب تضلعه باللغات الأردية والفارسية والعربية والإنجليزية بصفتها لغات أهلية له، كان يتقن أو يلم باللغات الفرنسية والألمانية، والأطالوية والتركية والروسية.

وقد تعلم التايلاندية قبل وفاته بعشر سنوات، وبإلمامه باللغات المتنوعة كان له شغف زايد بمجالات علمية مختلفة مثلاً اختص بدراسة القانون الإسلامي الدولي وتدوين الفقه الإسلامي، وفقه الإمام أبى حنيفة وغيرها من الموضوعات إلا أنه كانت تتمحور مساعيه وجهوده العلمية الكبيرة حول موضوعات متصلة بالقرآن والحديث والسيرة النبوية، فقد قدم في هذه المجالات وما يتعلق بها تحقيقات سامية وكتابات مبدعة باللغات العربية والأردية والإنجليزية والفرنسية، نالت قبولاً واسعاً على الصعيد العالمي.

ومن مآثره الكبيرة ترجمة معاني القرآن بالفرنسية وإعداد كتاب حافل بالفرنسية في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم في مجلدين. وكان يتصل بشخصيات ومعاهد تعمل على موضوعات القرآن والسنة والسيرة النبوية حيثما وجدت، ويمدها علمياً كأنه أوجب على نفسه تشجيع أعمال كهذه أينما وُجدت.

أسلم على يديه أكثر من ثلاثين ألف فرنسي، حتى قال بعض المترجمين له: إنه أسلم على يديه نحو خمسين ألفًا من الفرنسيين، من بينهم بعض المفكرين والمثقفين الذين لمعت أسماؤهم على المستوى العالمي، ومن الذين ألّفوا في موضوع الكتاب المقدس والقرآن الكريم والعلم ما أقنع الإنسان العصري بأن أياً من مقولات القرآن لا يتصادم مع أي نظرية علمية حديثة.[13]

كان الدكتور محمد حميد الله الحيدرآبادي الهندي باحثًا إسلاميًا متعمقًا ومتوسّعا في دراسة التاريخ الإسلامي والقانون الإسلامي.

وقد أمضى معظم حياته العلمية في باريس: عاصمة فرنسا.

وأثرى المكتبة الإسلامية بمؤلفاته الفريدة في الموضوعات التي تعرض لها والأسلوب الذي عالجها به.

وقال بعض من تحدثوا عنه أنه ألف نحو 350 كتاباً؛ ولكن قال بعضهم: إن مؤلفاته تربو على 165 مؤلفًا، كما أنه دبج أكثر من 937 مقالاً في مختلف اللغات العالمية.

وإلى جانب علمه الغزير، ومجده المؤثـل، ومكانته الكبيرة، وتفانيه في خدمة الثقافة الإسلامية بالمستوى العلمي العصري اللائق، كان مثالاً في التواضع وإنكار الذات والبساطة في المأكل والملبس، وفي جميع شؤون الحياة، فظل يخدم نفسه بنفسه لآخر لحظة من حياته، وكان يخدم الجميع بيده ولسانه ومكانته وماله و وجاهته، ويسعى لتفريج الكربة عن كل يتيم وأرملة وبائس ومحتاج للمعونة، وكان يقوم بجميع شؤونه بنفسه، فيغسل ثيابه، ويرتب أموره، ويكنس بيته، ويتكفل بتأمين حاجياته إلى أواخر سني حياته.

وكان أزهد الناس في حب الظهور واللمعان والشهرة، حتى أنه لما رُشح لجائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام لعام 1414هـ / 1994م - وقد كان أحق الناس بأن ينالها ويُكْرَم بها - رفض هذا الترشيح مع احترامه لمشاعر من رشحوه لها، زهدًا منه في الشهرة والظهور والذكر الزائد، وإيثارًا منه جزاءَ الله على جزاء عباده، لأنه كان يؤمن الإيمانَ كله أن الآخرة خير له وللمؤمنين كلهم مـن الأولى وأن الآجلة أبقى من العاجلة.

وعمل الدكتور محمد حميد الله لأكثر من عشرين عامًا في باريس، محاضرًا وأستاذًا وباحثًا في كل من «المركز الوطني للبحوث العلمية» (National Centre of Scientific Research) و «ذي فرانس كوليدج» (The France College). وتنقل بين فرنسا وتركيا محاضرًا في الجامعات التركية ومؤسساتها الثقافية، كما تنقّل في أنحاء فرنسا وإلى خارجها، مشاركاً في المؤتمرات والندوات الثقافية والفكرية، ومتجولاً في الشرق والغرب ليحاضر في مئات من المدارس والجامعات والتجمعات الثقافية والملتقيات الدعوية والفكرية، معمقًا مفهوم الإسلام بأسلوب عصري متطور، فجذب به إليه كثيرًا من أبناء الغرب، ولاسيما أهل فرنسا.

عكف الدكتور محمد حميد الله رحمه الله طوال سبعين عامًا على التأليف والكتابة، مدافعًا عن قضايا الإسلام، ومُبْرِزًا النفائس العلميةَ والكنوزَ الفكريةَ، التي ظلت مختفية عن الأنظار عبر قرون طويلة. كما حقق عددًا من المؤلفات الثمينة للعلماء القدامى، وعرضها على أبناء العصر سهلة سائغة ليستفيدوا منها دونما عناء.

مؤلفاته الشهيرة:

ومن مؤلفاته الشهيرة ما يلي:

1- القرآن الكريم وترجمة معانيه بالفرنسية، صدرت له أكثر من عشرين طبعة.

2- نبيّ الإسلام صلى الله عليه وسلم وحياته وأعماله، بالفرنسية في جزئين، صدرت له طبعات، آخرها طبعة 1989م.

3- التعريف بالإسلام، بالفرنسية، صدرت له طبعات، ونقل إلى 23 لغة عالمية.

4- ست رسائل دبلوماسية لنبي الإسلام صلى الله عليه وسلم، بالفرنسية، صدرت بباريس عام 1986م.

5- لماذا نصوم؟ بالفرنسية، صدر عام 1983م، و 1988م.

6- فهرس ترجمات معاني القرآن الكريم، ألَّفه مستفيدًا من مائة وعشرين لغة، صدر بإستانبول بتركيا.

7- تصحيح ترجمة بوسكاي لصحيح البخاري، بالفرنسية، صدر بباريس.

8- مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة بالعربية، صدر ببيروت.

تحقيق كتب التراث:

من جملة كتب التراث التي قام بتحقيقها وإخراجها للمهتمين بالعلم هي كما يلي:

1- كتاب الأنوار لابن قتيبة، صدر بحيدر آباد بالهند، عام 1956م.

2- أنساب الأشراف للبلاذري، صدر عام 1959م بمصر.

3- الذخائر والتحف للقاضي الرشيد بن الزبير، طبع بالكويت عام 1959م.

4- مقدمة في علم السير أو حقوق الدول في الإسلام في أحكام أهل الذمة لابن القيم، صدر بدمشق عام 1961م.

5- كتاب النبات للدينوري، صدر عام 1973م.

6- سيرة ابن إسحاق المسماة بكتاب المبتدأ والمبعث والمغــازي، صدر بالرباط بالمغرب عام 1976م.

7- صحيفة همام بن منبه، صدرت الطبعة الأولى منه عام 1979م ببيروت، ثم صدرت له طبعات أخرى.

8- كتاب الردة ونبذة من فتوح العراق للواقدي، صدر بباريس وبيروت عام 1989م.

9- كتاب السير الكبير للإمام محمد بن الحسن الشيباني، صدر بحيدر آباد عام 1989م.

كما شارك في إعداد دائرة المعارف الإسلامية باللغة الأردية عام 1965م وذلك بتحرير 32 مادة، وقد صدرت في جامعة بنجاب بباكستان، وشارك في موسوعة الأطلس الكبير للأديان بالفرنسية عام 1988م بتحرير مادة «الإسلام» بالإضافة إلى مشاركته في تحرير مادة «الإسلام» أيضًا في كتاب «الدليل الديني لفرنسا» بالفرنسية، ط: هاشيت، بباريس عام 1961م.[14]

ولكن كيف مضت الخمسون عاماً ونيف التي قضاها في باريس في جامعة السوربون؟ لقد استنفدها في سبيل الله، حيث ترجم فيها معاني القرآن الكريم إلى الفرنسية وطبع من هذه الترجمة مئات الآلاف من النسخ، وقيل انه كان يدخل على يديه في المتوسط يوميا ثلاثة أشخاص طالبين الهداية بإعلان إسلامهم على يديه.

ومن كراماته في أواخر أيامه، وتحديداً بتاريخ 20 يناير 1966م حين كان عمره 88 عاماً، دخل في غيبوبة، وأصيب بشلل تام، وطلبت الجهات المشرفة على علاجه من أسرته الأذن بسحب أجهزة الإنعاش ليموت بهدوء، ورفضت الأسرة إعطاء ذلك الإذن. ولدهشة الأطباء فإنه استعاد نشاطه في اليوم الرابع وتناول إفطاره. ولما كان الزمان رمضان، فقد واصل صومه قائلاً إنه لم يفته يوم من أيام رمضان منذ أن كان في التاسعة من عمره.

ومن شقته الصغيرة في باريس واصل إنتاج مقالاته وكتبه في شتى المعارف الإسلامية. ومن مثابرته أنه صعد جبل أحد مرتين ليحدد المكان الذي استراح فيه الرسول الكريم حينما جرح في المعركة وخلص إليه فيه أنصاره، كما أنه سار من مكة المكرمة إلى حنين على قدميه مرة، وامتطى مرة أخرى ظهر حمار حتى يستوعب تجربة الصحابة في الحرب ويكتب من خلال التجربة والمعاناة.[15]

ومن أبرز إسهامات الدكتور حميد الله تأسيسه لمبدأ الحياد في القانون الدولي الإسلامي كما أنه كان على قناعة بأن فكرة القانون الدولي مستمدة أساساً من إسهام إسلامي، كما أن له الفضل في إدخال مصطلحات جديدة في القاموس الإسلامي مثل دولة المدينة، ودستور المدينة.

ومن الدول التي كان يزورها دوماً تركيا والباكستان وماليزيا.

وجمعته صداقة مودة مع الزعيم الباكستاني الراحل محمد ضياء الحق ونال أعلى جائزة ووسام من الجمهورية الباكستانية لأعماله المميزة في السيرة. وقبل بالوسام ولكنه تبرع بقيمة الجائزة وهي مليون روبية لمعهد الدراسات الإسلامية في إسلام آباد قائلا: «لو قبلت الجائزة في هذه الدنيا الفانية فماذا سأنال هناك في الدار الباقية؟» كما أنه اعتذر عن قبول عرض من رئاسة الجمهورية الباكستانية ليتفرغ للعمل كأستاذ فوق العادة في إحدى جامعاتها. وكان الدكتور حميد الله متشددا في بعض المسائل حيث كان يرفض ان تلتقط له صورة إلا لضرورة مثل إكمال الإجراءات الرسمية مثلاً، وإن كانت لديه كاميرا يصور بها المساجد والمشاهد الأثرية.

كان الدكتور حميد الله غير مسكون بالعواطف الطائفية أو المذهبية أو العرقية أو القومية، حيث أن جنسيته إسلامه.

وعلى رغم أنه ولد في وسط شافعي، وعاش في بيئة مالكية إلا أنه مضت أكثر انجازاته العلمية في اتجاه الفقه الحنفي حيث حقق ما حقق من مخطوطات الفقهاء الأحناف، حيث أبرز كيف قنن أبو حنيفة رحمه الله الأحكام الشرعية.  وأبرز أيضاً إبداعات ابن قيم الجوزية رحمه الله في القانون الدولي. وأتيح له اطلاع واسع على كتب المعتزلة أيضاً.[16]

وظل الدكتور حميد الله مناصراً ومؤيداً لحركات التحرر الإسلامية في الجزائر، وفلسطين، وتونس،.. وكذلك بالطبع لأهله في حيدرآباد.

وكان يفتي بجواز استخدام بعض الأسماء باللغات المحلية للدلالة على اسم الذات الإلهية مثل (خدا) في الأردية كما أنه كان يعتقد أن اسم الحاكم في الثقافة الإسلامية غير وقفي، وإنما هو اصطلاحي يصطلح عليه الناس كالخليفة، الملك، السلطان، أمير المؤمنين، رئيس الجمهورية .. الخ. وكانت له صلات متينة بأفريقيا حيث عمل في جنوب أفريقيا رئيساً لقسم الدراسات الإسلامية في جامعة درم في ويست فالي بجنوب أفريقيا، وأسس فيها مجلة «العلم» الناطقة بالإنجليزية.

عاش الدكتور حميد الله في شقته دون خادم أو تلفون أو حتى راديو أو تلفاز، ولم يسعد بشريكة حياة حيث عاش أعزب، وعزا ذلك إلى أنه كان يسعى في المرحلة الأولى من حياته لإعالة أسرته الكبيرة ولمتابعة شئونه العلمية، ثم وجد نفسه لاجئاً، وبينما هو في هذا الخضم فاته قطار الزواج، فآثر أن يشق طريقه كواحد من العزاب الذين خدموا الثقافة الإسلامية ابتداء من الغزالي، وابن تيمية، ومروراً بسيد قطب.   وعاش الدكتور حميد الله زاهداً متنسكا مثل الصحابي الجليل أبي ذر رضي الله عنه، ... يسير وحده ويموت وحده! ومات الدكتور حميد الله، ولم يخلف إلا مكتبته. ومن المفارقة الغريبة أنه سطا محتال قبل مماته بسنوات على دريهمات له كانت بحسابه[17] في البنك. وانتهى به الحال ضيفاً على أبناء إخوانه الذين كان تولى الإنفاق على تعليمهم وتربيتهم. وحينما لفظ أنفاسه الأخيرة لم يتجاوز عدد مشيعيه الذين انزلوه إلى قبره الستين صلوا عليه ودفنوه وهو الذي ملأ الدنيا بعلمه وخدمته للملة الإسلامية. ولكنه سيظل بعد مماته يحكم العقول والقلوب بما تركه من مؤلفات ومخطوطات. وونتطلع إلى أن تصبح مكتبته العامرة وقفاً الإسلام والمسلمين.

وداعاً أيها الدكتور محمد حميد الله ... وداعاً أيها الإنسانِ العظيم ... أيها العالمِ الفذ ... يا من عرف ربه فأفني حياته في خدمة دينه ... ويا من آثر الباقي على الفاني.

وداعاً لرجل ارتفع بإيمانه الصادق فوق هذه الدنيا حقيقةً لا كلاماً، فكان منذ عرفنَاه أكبر من هذه الدنيا، وأزهد الناس بها، في طعامه وشرابه ولباسه ومسكنه، وفي تواضعه، ونأيه بنفسه عما يتهافت عليه الناس، من الشهرةِ والتكريم والمكاسبِ والمناصب والمتعِ والملذات. ولو أراد شيئاً من ذلك لبلغ إلى الكثير منه دون عناء ..

وداعاً لرجل عاش في الغرب فلم يفتنه الغرب، ولم يخلف عليه لوثته، وحيثما حل وأقام أصبح منارة هادية، ودعوَة دائبة، وتعريفاً حياً بالإسلام، وفضائل ، بلسان حاله، ليس بمجرد مقاله، تعريفاً رائعاً ما يزال له في كثير من النفوسِ أجمل الآثار، وما يزال يفتح القلوب لدعوةِ الله عز وجل، ويولد لها عند المنصفين المحبةَ والإعجاب والإكبار.

مقال بعنوان: (الدكتور محمد حميد الله، ومنهجه في كتابة السيرة النبوية):

وكتب الدكتور محمد شهاب الدين السبيلي، يقول:

( الدكتور محمد حميد الله (رحمه الله) قام بأبرز الخدمات في مختلف شُعَب العلوم الإسلامية؛ ولكن موضوع كتابة السيرة النبوية، يُعْتَبَرُ من خواصّ موضوعه، والمجالُ الذي خاض فيه العلماء وبالغوا في الاعتناء به ولعبوا فيه دورًا ملموسًا، قد فاق الدكتور في نفس المجال وامتاز به على الأقران. وحينما يرى العلماء أن هذا الموضوعَ «موضوع السيرة النبوية» لا يحتاج إلى الزيادة فيه بالنظر إلى وجود الكتب الضخمة القيمة كأمثال «السيرة النبوية» للعلامة شبلي النعماني والسيد سليمان الندوي - رحمهما الله - في اللغة الأرودية قد أثبت الدكتور من منهج تحقيقاته بأن هذا الموضوعَ ومجالَه واسعٌ مرتدح، وله عمق وأبعاد تحتاج إلى السير في أغواره؛ من أجل ذلك قد اعتبره العلماء المعاصرون من روّاد الكتابة في السيرة ــــــ ولماذا يُعطى لكتابته في السيرة هذا القدرُ من الأهميّة والاهتمام؟ ولماذا نشأت الحركة الجديدة بكتابته في الساحة العلمية و أوساط العلماء؟ اُحاول في السطور الآتية الإجابةَ عن هذه التساؤلات، وأتناول بعض مزاياه في الكتابة في هذا الموضوع.

النظر إلى السيرة النبوية بمنظار مقتضى العصر

لم ينظر الدكتور إلى السيرة النبوية بمنظارها العادي المعهود، وإنما رأى أن السيرة هذه، هي ثروة إنسانية عالمية فيها الرسالةُ للبشرية جمعاء، مُنطلِقـة من قيود الأمكنة، ولا يصح ربطها بقوم أو عصر، ولا ينبغي تأطيرها بحدود جغرافية أو إسنادها إلى ساحة سياسية، ولا ينبغي النظرُ إليها برؤية عنصرية أو قومية أو وطنية؛ لأن فيها الموهبة الكاملة والكفاءة التامة لحل جميع المسائل ومقتضيات العصر؛ فالحاجة ماسة لأَنْ تُطَالَع السيرةُ ويُنْظَر إليها بمنظار متناسق مع مقتضيات العصر الراهن.

ولو سرحنا الأنظارَ إلى مؤلَّفات الدكتور محمد حميد الله لوجدنا عناوين معظمها مبتكرة.

ولقد حاول الدكتور أن يزيد في ذخائر السيرة النبوية، ويضيف إليها الجوانب الغريبة كأمثال «الرسول وحياته السياسية» و «نظام الحكم في العهد النبوي» و «تراتيب الدراسة والتعليم في العهد النبوي» و «ساحة القتال في العهد النبوي» و «الرسول وثائقه السياسية» و «رسالة السيرة النبوية إلى العصر الراهن».

ولا يرتاب أحد في أن مثلَ هذه المواضيع والعناوين تطابق حاجةَ العصر الراهن ومتطلباته. والدكتور لم يتناول هذا الموضوع مجردَ التناول، وإنما قام بالبحث المُشْبِع فيه، ويبدو كلُّ مُؤَلّف من مؤلَّفاته من البدائع في التأليف من جميع الجهات من المحتويات والمواد والأساليب والمستوى .

يُرى عامة أن مؤلِّفًا لو شحذ القلمَ وأطلق عنانَه وبدأ يكتب في موضوع جديد فلا يَقدِّم أمام الناظرين والقراء إلا النقاط الأساسية والمبدئية؛ ولكن يتبلور من مؤلَّفاته أنه لم يتناول الموضوعَ هكذا. وإنما حاول الوفاء بحقه، وتناول جميع جوانبه بشكل قد يخفى عن الأعين، أو لا يتطرق إليه الذهن، وينطبع على الذهن بقراءَتها أنه جاء بكتابه جامع محتوٍ لا يسع الزيادة فيه .

أسلوبه الاستنتاجي :

أسلوب كتابته يتناسق مع أساليب الاجتهاد والاستنباط، إنّه عرض موضوعَ السيرة في قالب يمكن لـدارسي السيــرة والمطالعين إيّاها أن يجدوا فيها الدروس والعِبَر، وتَنَبَّط فيها جوانبَ العلم والاكتشاف، مُعرِضًا عن أسلوب سرد الوقائع والقصص. ونجد أنه يستنتج النقاط ويأتي بالاكتشافـــات من كل واقعـــة وحادثـــة؛ لأنه يرى أن حياته وسيـــرتـــه صلى الله عليه وسلم تحتل المكانةَ القانونيــة أكثرَ من أن تكــون مجردَّ بيان الأيام والليالي ووقائع الحياة، ولا شك أن هذا الأسلوب لا يتخذ الصبغةَ الجديدة المتناسقـــة من الأسلوب العلمي المعاصر وإنما يشير إلى طبيعتــه الأخّاذة ومذاقه الموفور بموهبة الإبداع والاستنتاج، فنرى أنه قد يسرد واقعة من الوقائع العادية بأسلوبه المميز البديع، لا يترك القارئَ إلا أنّه يجد فيه نوعًا من الاكتشاف والابتكار.

ولو أخذنا مؤلَّفة من مؤلَّفاته، وسرحنا الأنظار على محتوياتها، نجد المعارفَ الجديدة والنِكاتَ العلمية مبعثرة فيها، ولو قُمنا بجمعها وتدوينها بين الدفتين لظهر مجلَّد ضخم يُروي غليل الباحثين، ونجد في كتاباته مالا نجد في كتب غيره. انتشل الدكتور - رحمه الله - من الوقائع مالم يلتفت إليه الآخرون .

الاستفادة من المخطوطات والمصادر القديمة

نجد مستوى كتابته في السيرة يرتفع جدًا ويتألّق، لا يكتب واقعة إلاّ ويبحث فيها بحثًا دقيقًا وينخلها نخلاً، ولا يتقاصر في البحث عن المصادر وتحقيق الواقعة بدقة؛ لذا يُوجَد الإكثارُ من الإحالة إلى المصادر القديمة في كتابته، فقد عثر على ذخائر نادرة منقطعة عند مساس الحاجة مالم يعثر عليها الغيرُ، وتقاصرت هممُ عامَّة أهل العلم دون الوصول إليها .

وكتاب «سيرة ابن إسحاق» الذي يُعْتَبر من أوثق المصادر الثابتة وأهمها وأقدمها وأغناها في السيرة النبوية، وكانت الإحالات والمقتطفات تُوجد في المؤلَّفات إلا أن الكتاب نفسَه كان منقرضًا؛ لكنه قد عثر عليه بجده واجتهاده المتواصل، وقام بنشره وطبعه بعد تحقيقه والتعليق عليه. وهكذا يسّر لأهل العلم الاستفادة من كتاب «أنساب الأشراف» للمؤرخ العالمي المعروف العلامة البلاذري بمساعيه الجادة وعمله الدؤوب، وكتاب «المحبر» لابن حبيب البغدادي الذي كان نادرًا مخَفيًّا عن أعين الناس، قد قام بطباعته وساعدَ أهلَ العلم في الانتفاع به بإخراجه إلى حيز الظهور. ولاشك أن مثلَ هذه الخدمات العلمية والمآثر الثقافية أبرزُ دليل وأزكى شهادة على حسن مذاقه في التحقيق، وأجلُّ برهان على مستواه الرفيع في مجال التأليف والتحرير.

والدكتور محمد حميد الله باعتباره الكاتبَ التحرير في «السيرة النبوية» يتمتع بميزة يمتاز بها عن الآخرين حيث أنه لم يكتف عند تدوين وقائع السيرة بالمواد الموجودة في الكتب والمراجع والمصادر، وإنما بحث فيه عمليًا، وتمتّع بالمعاينة والمشاهدة الشخصية عندما مسّت إليها الحاجة.

وعند تأليف كتاب «ساحة القتال في العهد النبوي» لم يتمكن من معرفة الوجوه والأسباب التي دفعت إلى إقامة القتال بمناسبة غزوة أُحد عقب عمران المدينة، ولم يجد نكتةً تُوحِيه سرَّ ذلك، فترك تأليف الكتاب وتوقف عن إتمامه. ولما تشرّف بالحج بعد عشرين سنة وحظي بسعادة زيارة المدينة المنورة وعاين الأماكنَ ومَرَافقها استعدّ لإنهاء تأليفه؛ ولكنه لم يقم بإكماله إلا بعد ما ارتفع الظلام وانجلت الغيام وزال التوتر والارتباك، وظل خائضًا في التحقيق والبحث ردحًا من الزمن حتى انكشف السر واطمئن القلب، ولا شك أن هذا المستوى الرفيع للبحث والتحقيق لا يوجد لدى معظم الكُتّاب في السيرة النبوية .

والدكتور طبيعته التحقيقية هذه إنما هي فطرته التي فطره الله عليها، فينظر إلى مساري الحياة ومجرياتها بمنظاره العلمي والتحقيقي فلا يتكل على مجرد الشهادة التاريخية وإنما يتناول حقائق العلوم الطبيعية أيضًا، ولا يصرف النظر عن الاكتشافات العلمية .

أسلوبه الواقعي والعلمي:

وهكذا يبدو في كتاباته أنه يتحاشى عن الإسهاب بإيراد العبارات الفارغة، وطرح المزاعم والمظنونات البعيدة، وبالمبالغة بلا جدوى، وإنما يساير مع الواقعية والجديدة، فيذكر كل جانب من جوانب السيرة دون زيادة أو تقصير، ولا يهتم بما إذا رأى القارئ غير المتعمق أسلوبَه هذا غيرَ جميل؛ لأنه يرى وجوب التأكيد على هذه الجوانب من السيرة بطريق يطمئن به القلب ويعترف به العقل ويقع في الخاطر؛ لأن حياته صلى الله عليه وسلم أسوة يجب تقليدها واتباعها للبشرية جمعاء، فنرى أنه حينما يذكر المهاجرين، يذكر أولاً كيفية حل قضاياهم المعيشية ومشاكلهم الاقتصادية عقب وصولهم إلى المدينة ويقول إن النبي صلى الله عليه وسلم قد قضى على هذه المشكلة مؤقتًا بالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار ثم يأتي بالتفاصيل ويشير إلى أن معيشة النبي صلى الله عليه وسلم نفسه كيف تم تدبيرها وانتظامها، ويحاول بسرد التفاصيل لإثبات كيفية حل قضيته المعيشية منذ قدومه إلى المدينة حتى غزوة بدر الكبرى، ولاشك أن معظم الكُتّاب في السيرة النبوية لم يدرسوا هذا الجانب دراسة متأنية جدية وواقعية ولعلهم صرفوا النظر وأعرضوا عنها خشية أن يجعلوا هذه القضية موضوع بحث ونقاش.

أسلوبه في الرد على المستشرقين:

وهكذا من أسلوب كتابته في السيرة، أنّه إذا يمرُّ بواقعة من وقائع السيرة جعلها الأغيار هدفًا للانتقاد بدافع المعاداة مع الإسلام ورسوله، يرد عليهم بكامل الشكيمة والشهامة والوقار العلمي بالاستناد إلى الأدلة والبراهين، وإلى الاكتشافات الجديدة. وعلى سبيل المثال أنه قام بالرد على المستشرقين في قولهم بعدم تغطية النبي صلى الله عليه وسلم الوجهَ عند نزول الوحي كعامة الكهنة، ردًا مُقنِّعًا شافيًا، وهكذا أثيرت الشبهات والتساؤلات منهم حول تدوين الحديث، فرد عليهم الردود الوافية وأثبت صحةَ الأحاديث ومعيار تفحصها.

هذا: وقد اجتهد في العثور على «صحيفة همام بن منبه» حتى توصل إليها، وقام بطبعها ونشرها، وهكذا أثبت أن الأحاديث لم يتم تدوينها في القرون المتأخرة بعد عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما بدأ عمله في عهده صلى الله عليه وسلم.

وقد تجاوزت مؤلَّفاته من (150) مائة وخمسين مؤلفًا، ونجد أسلوبه الإبداعي الفريد في جميع هذه المؤلَّفات.

قال الشيخ عبد الفتاح أبو غدة في مقدمة تحقيق (الموقظة) للإمام الذهبي رحمهما الله:

( وكنت رجوت من الصديق المفضال العلامة الدكتور محمد حميد الله المقيم في باريس حفظه الله ورعاه أن يتكرم فيصورها لي [أي المخطوطة] فوجد أمر التصوير يتأخر طويلاً، فتفضل بنسخها لي بقلمه وخطه، ثم قابلها بالأصل وأثبت ما على حواشي الأصل من تعليقات...) - ص:12

يقول الشيخ (إسماعيل الأكوع):

وكان عالماً زاهداً، أسلم على يده الكثير من الفرنسيين، وله الكثير من المؤلفات، ويتقن أكثر من عشر لغات قراءة وكتابة ومحادثة، وكان يسكن في غرفة متواضعة جدا فوق سطح إحدى البنايات العالية في باريس. وقد رشحته لنيل جائزة الملك فيصل العالمية، وذلك حينما عرضت الأمر على الدكتور شكري فيصل، الذي كان أحد أعضاء لجنة الجائزة، فرحب بذلك، وطلب بعض مؤلفات الدكتور حميد الله، فأرسلت في طلبها منه، ولكنه رد علي برسالة يقول فيها: أنا لم أكتب ما كتبت إلا من أجل الله عز وجل، فلا تفسدوا علي ديني! ).

هذا العالم الذي أسلم على يديه أكثر من ثلاثين ألف فرنسي.

عندما نال أرفع وسام من رئيس الباكستان الراحل محمد ضياء الحق لأعماله المميزة في السيرة

تبرع بقيمة الجائزة، وهي مليون روبية لمعهد الدراسات الإسلامية في إسلام آباد قائلاً:

لو قبلت الجائزة في هذه الدنيا الفانية، فماذا سأنال هناك في الدار الباقية ؟

ورشح لنيل جائزة الملك فيصل العالمية، ولكنه رد قائلاً: أنا لم أكتب ما كتبت إلا من أجل الله عز وجل، فلا تفسدوا علي ديني! ).

حين كان عمره 88 عاماً، دخل في غيبوبة، وأصيب بشلل تام، وطلبت الجهات المشرفة على علاجه من أسرته الإذن بسحب أجهزة الإنعاش ليموت بهدوء، ورفضت الأسرة إعطاء ذلك الإذن. ولدهشة الأطباء فإنه استعاد نشاطه في اليوم الرابع، وتناول إفطاره. ولما كان الزمان رمضان، فقد واصل صومه قائلاً انه لم يفته يوم من أيام رمضان منذ أن كان في التاسعة من عمره.

-مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة

25-12-2010

مع الدكتور محمد حميد الله:

وكتب د. مولود عويمر أستاذ بجامعة الجزائر يقول:

غادر الدكتور محمد حميد الله حياة الدنيا في 17 ديسمبر 2002 بفلوريدا بالولايات المتحدة الأمريكية لكنه بقي حيا في عالم الفكر والعلم بفضل أعماله المتعددة وجهود تلاميذه ومحبيه (من جمعية الطلبة المسلمين بفرنسا ومؤسسة البروفسور حميد الله) العاملين على جمع تراثه ودراسته، وإعادة نشر أعماله المطبوعة، وإحياء ذكراه كل عام في شهر ديسمبر.

لقد ساهم الدكتور حميد الله في تأسيس هذه الجمعية الطلابية في سنة 1965، واشترى بأمواله الخاصة مقراً لها في باريس (23 rue Boyer-Barret Paris 14e). وقد قامت هذه الجمعية بنشاط كبير في الوسط الجامعي منذ تأسيسها، وكان من أهم أعضائها: مروان قنواتي من سوريا وحسن الترابي من السودان، ومن أشهر  المثقفين المتعاونين معها: حسن بني صدر من إيران، راشد الغنوشي من تونس، ومالك بن نبي رحمه الله.

تعرفت على بعض أعضائها الطلبة بعد المحاضرة التي ألقيتها بجامع باريس الكبير يوم 30 مارس 2001 عن «المفكرون والعلماء المسلمون في فرنسا خلال القرن العشرين»[1]. تحدثت في مداخلتي عن مجموعة من المفكرين المسلمين المعاصرين الذين درسوا أو عاشوا في فرنسا (رفاعة الطهطاوي، جمال الدين الأفغاني، محمد عبده، طه حسين، مالك بن نبي، محمد عبد الله دراز، محمد المبارك، علي شريعتي، محمد أركون...). وبالطبع تكلمت خلالها عن دور الدكتور محمد حميد الله في نشر الثقافة الإسلامية والتعريف بقيم الإسلام السمحاء في أوروبا لمدة نصف قرن.

ولما نظم تلاميذه ومحبوه الندوة الدولية الأولى عن حياته وعطائه الفكري في أبريل 2003 قدموا لي دعوة للمشاركة في فعالياتها إلى جانب مجموعة من الأساتذة من فرنسا وألمانيا وبلجيكا وبريطانيا وايرلندا والمغرب.[2]

وجرت أشغالها يوم 26 أبريل 2003 بدار الشباب بسان دوني بضاحية باريس. كانت قاعة المحاضرات الكبرى مكتظة بالطلبة القادمين من عدة مدن فرنسية وأوروبية. وكان أبرز المحاضرين بلا منازع هو الأستاذ عصام العطار المفكر السوري المعروف والمقيم منذ سنوات في مدينة آشان بألمانيا، فقد تحدث بأسلوب جذاب وبصوت جهوري عن علاقاته القديمة بالمحتفى به.

وقدم كاتب هذه السطور محاضرة في هذه الندوة عن إسهام الدكتور حميد الله في مجال كتابة السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي من خلال مقاربة تحليلية لكتاباته التاريخية من مؤلفات وبحوث منشورة في مجلات عربية وغربية.

ويكفي أن أشير هنا بسرعة إلى كتابه الضخم عن السيرة النبوية: « رسول الإسلام: سيرته وأعماله» الذي أصدره بباريس عام 1958 في جزأين يحتويان في المجموع على 1067 صفحة. وقد طبع الكتاب عدة مرات. واعتمد هذا البحاثة في تأليفه على مصادر ومراجع عربية وأخرى مكتوبة باللغات التي يعرفها: التركية واللاتينية والفرنسية والإنجليزية والألمانية والإيطالية والروسية والبولونية والدانمركية والسويدية والفنلندية.[3]

وقام ببحوث ميدانية بالتنقيب الأثري وتصوير أهم الأمكنة الإسلامية الثقيلة بالذاكرة كمواقع الغزوات والمعارك التي صوّرها وضمّها في بحث نشره في المجلة الإستشراقية الفرنسية: " revue des études islamiques " في عام 1939.[4]

ومباشرة بعد هذه الندوة نشرت تقريرا عن أشغالها في مجلة "المجتمع" الكويتية التي كنت أراسلها من باريس، فجاءتني رسائل إلكترونية من القراء من أستراليا والهند والسعودية ... يطلبون مني المزيد عن حياة هذا المفكر العملاق المغمور وتراثه العلمي. ومن بين هؤلاء القراء: باحث سعودي اسمه أنور مباركي قال أنه سيجمع أثاره وسينشرها، وراسلني من أجل ذلك عدة مرات لأقدم له قائمة كتبه ومقالاته (بيبليوغرافية). كما اتصل بي الإعلامي المعد لبرنامج "الأعلام" على قناة المجد الفضائية لأساعده على إعداد حصة في برنامجه المعروف فطلب مني المعلومات والصور.

وفي عام 2008 قدمت لي جمعية الباحثين في الفكر الإسلامي ومؤسسة محمد حميد الله دعوة للمشاركة في مؤتمر دولي عن موضوع: «المثقف الملتزم في التراث الإسلامي في أوروبا». وطلب مني الحديث عن تجربة الدكتور حميد الله.

وشاركت فعلا في هذا المؤتمر، وألقيت محاضرة يوم 14 جوان 2008 بعنوان: « من أجل كتابة تاريخ الإسلام في فرنسا: مسار وفكر الأستاذ محمد حميد الله »[5]. وأجبت عن أربع إشكاليات أساسية: ما هي أبرز معالم حياته؟ ما هي القضايا الكبرى التي شغلت اهتماماته؟ ماذا قدم للجالية الإسلامية في الجانبين الثقافي والاجتماعي؟ ما هو واجب المسلمين الأوروبيين تجاهه؟

وأقدم في السطور الآتية إجابة ملخصة عن هذه التساؤلات. فالأستاذ محمد حميد الله ولد في سلطنة حيدر آباد بالهند في 19 فبراير 1908. تعلم في عدة مدارس محلية ثم واصل دراسته في أوروبا. فحصل على الدكتوراه في القانون من جامعة بون الألمانية في عام 1932 حول مبدأ الحياد في الفقه الإسلامي؛ ثم نال شهادة دكتوراه أخرى في التاريخ من جامعة باريس في سنة 1935 حول الدبلوماسية في عهد الرسول (ص) والخلفاء الراشدين. وعاد بعد ذلك إلى بلده ليدرّس في جامعة العثمانية بحيدر آباد لعدة سنوات. ومنها كان يراسل المجلة الإستشراقية الفرنسية : " revue des études islamiques " -لصاحبها المستشرق المعروف لويس ماسينيون – بمقالات عن النشاط العلمي والفكري في شبه القارة الهندية تنشرها له هذه المجلة في ركنه الخاص : "رسالة الهند". وفي عام 1947 لجأ إلى فرنسا بسبب إنهاء النظام الإسلامي في هذه السلطنة التي ضمتها إليها الهند عنوة ومات خلال المعارك معظم أفراد عائلته.

واشتغل الدكتور حميد الله منذ 1950 باحثا بالمركز الوطني للبحث العلمي بباريس فقام بفهرسة المخطوطات العربية المحفوظة في أكبر المكتبات العالمية. وحقق بعضا منها. ودرّس أيضا في بعض الجامعات العربية والإسلامية.

وألَّف 165 كتابا (بين التأليف والتحقيق والترجمة) أذكر منها: المدخل إلى الإسلام، السيرة النبوية في مجلدين، الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدةـ، ... كما قام بترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغة الفرنسية وطبع هذا الكتاب لأول مرة في باريس في عام 1959.

وقد اعتمدت إدارة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بالسعودية هذه الترجمة وطبعها مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة. وقد عرف هذا الكتاب رواجا كبيرا كما بدا لي ذلك خلال زياراتي للعديد من المساجد الفرنسية والسويسرية. وقد طبعت منه لحد الآن أكثر من عشرين طبعة.

كما تشير أوراقه إلى أنه نشر 977 مقالا وبحثا في المجلات الاستشراقية المختصة والمجلات العربية منها: المجلة العربية (الرياض) والمنهل (جدة) والحج (مكة) مجلة المخطوطات العربية (القاهرة)، والمسلمون ومجلة مجمع اللغة العربية (دمشق)، والوعي الإسلامي (الكويت)، والعرفان والشهاب والفكر الإسلامي (بيروت)، جوهر الإسلام والهداية الإسلامية والعلم والإيمان (تونس)، واليقظة (بغداد)، والإيمان (المغرب).

وشارك الأستاذ محمد حميد الله في عدد من المؤتمرات الدولية حول الإسلام وحوار الأديان. وفي هذا السياق زار الجزائر عدة مرات للمشاركة في أشغال ملتقى الفكر الإسلامي.

وفي المجال الدعوي ساهم الدكتور حميد الله في تأسيس العديد من الجمعيات، أشهرها "المركز الثقافي الإسلامي" بالحي اللاتيني عام 1952 والذي استقطب العديد من الطلبة والمثقفين العرب والمسلمين الذين سيكون لهم شأن عظيم فيما بعد، منهم: مالك بن نبي، محمود بوزوزو، وأحمد طالب الإبراهيمي من الجزائر، محمد عزيز الحبابي من المغرب، حيدر ونجم الدين بامات من القوقاز، عبد الغفور فرهادي من أفغانستان.

كما ساهم في تأسيس "المركز الإسلامي" بجنيف سنة 1964 مع الدكتور سعيد رمضان، و أبي الحسن الندوي، ومحمود بوزوزو... الخ. وتعتبر هذه المؤسسة من أنشط المراكز الإسلامية الرائدة في نشر الثقافة الإسلامية في أوروبا والدفاع عن قضايا المسلمين.

ويشرف عليه اليوم الأخوان الأستاذ هاني رمضان، والدكتور طارق رمضان. وقد زرت هذا المركز في ربيع عام 2000 وعثرت في مخزنها على بعض الأعداد من مجلة "الأصالة" الجزائرية مع كلمة الإهداء وقعها مديرها المسؤول وزير الشؤون الدينية آنذاك الأستاذ مولود قاسم رحمه الله. وهي دلالة على التواصل الثقافي بين هذا المثقف الجزائري الكبير وصديقه القديم الدكتور سعيد رمضان مدير المركز وصاحب المجلة الإسلامية الشهيرة: "المسلمون" المدافعة عن القضية الجزائرية والمساندة للثورة التحريرية المباركة.

ودأبت مؤسسة البروفسور حميد الله على تنظيم الندوات والملتقيات لدراسة أعمال هذا العالم المتميّز ونشرها على موقعها الالكتروني تنفيذا لتوصيات الندوة الدولية الأولى التي ذكرناها في بداية هذا المقال. واتجهت كذلك نحو إحياء التراث الإسلامي الأوروبي بالتعريف بأكبر المفكرين والعلماء الأوروبيين المسلمين أمثال: رنيه قينون، فانسون مونتاي، رجاء غارودي، محمد أسد... وفي هذا السياق خصصت مؤتمرها الأخير منذ أيام قليلة لدراسة حياة وتراث الباحثة المختصة في الدراسات الصوفية الدكتورة إيفا دو فتري مييروروفتش رحمها الله.

في الأخير، ندعو المؤسسات الثقافية والعلمية إلى إصدار الأعمال الكاملة للدكتور حميد الله وتوزيعها من أجل التعريف بأعماله العلمية الرصينة، وإبراز جهوده في الدعوة وتقديم الثقافة الإسلامية إلى العالم الغربي. في صور بديعة.

[1]نشرت نص محاضرتي المقدمة والمكتوبة باللغة الفرنسية في مجلة:  Islam, n°4, Paris, 2002.          

[2]شارك في أعمال هذا الملتقى مجموعة من الباحثين والمفكرين من ألمانيا وايرلندا وبريطانيا وبلجيكا وفرنسا والمغرب. أذكرهم على بالتوالي حسب تدخلهم. الدكتور محمد جاموشي أستاذ فلسفة العلوم بجامعة جن البلجيكية، الدكتور محمد الرفقي أستاذ بجامعة أغادير، والدكتور يحي ميشو، أستاذ بجامعة أكسفورد، والدكتور محمد المستيري، مدير مكتب المعهد العالمي للفكر الإسلامي بفرنسا والدكتور مولود عويمر الباحث بمركز الدراسات الحضارية بباريس، الدكتور عبد الحليم هربير أستاذ علم الأنتروبولوجية بجامعة سانت إيتيان الفرنسية والأستاذ عصام العطار عميد مسجد بلال بآشان بألمانيا حاليا والدكتور العربي كشاط عميد مسجد الدعوة بباريس، القس ميشال لولونغ، وهو من أبرز رجال الكنيسة الفرنسية المتعاطفين مع المسلمين، والدكتورة ماري حسين، أستاذة بجامعة بلفاست بإيرلندا، وطارق أوبرو عميد مسجد بوردو، عمارة بومبا وليلى وسلاتي مسؤولين سابقين في جمعية الطلبة المسلمين بفرنسا. واعتذر عن الحضور كل من الدكتور طارق رمضان من جامعة فريبورغ بسويسرا والدكتور مصطفى المرابط من جامعة وجدة بالمغرب الأقصى والدكتور محمد الهواري رئيس اللجنة الدينية للمجلس الأعلى لمسلمي ألمانيا.

أصداء الرحيل :

-في ذكرى وفاة الدكتور محمد حميد الله :

جاءت مقالة بقلم الأستاذ عصام العطار تفيض بالمشاعر حيث يقول فيها:

« في السابع عشر من هذا الشهر : كانون الأول/ ديسمبر 2004م يمر عامان على وفاة الدكتور محمد حميد الله تغمده الله برحمته ، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء

و” الرائد “ التي ربطها بهذا الإنسان المسلم العظيم – الذي لم يؤدّ له المسلمون في حياته وفي مماته أيسر اليسير من حقه – أوثقُ الروابط ، والتي عرفت الكثير الكثير من علمه وخلقه وفضله ، لَتُحَيّي ذكراه العطرة في هذا العدد ، بإعادة نشر مقال حيّاه به صديقُه الأستاذ عصام العطار قبل عشرين سنة من هذا التاريخ ، ففي هذا المقال لمحات من فضله ، ووفاء بشيء من حقه »

الـرائــد

تحيّة إلى الدكتور محمد حميد الله :

تحيةٌ إلى الإنسانِ العظيم ، والعالمِ العظيم ، والمسلمِ العظيم الدكتور محمد حميد الله ..

تحيةٌ إلى الرجل الذي ارتفع بإيمانه الصادق فوق هذه الدنيا حقيقةًً لا كلاماً ، فكان مُذْ عرفنَاه أكبرَ من هذه الدنيا ، وأزهد الناس بها ، في طعامه وشرابه ولباسه ومسكنه ، وفي تواضعه ، ونأيه بنفسه عما يتهافت عليه الناسُ ، من المتعِ والملذّات ، والمكاسبِ والمناصب ، والشهرةِ والتكريم ؛ وهو لو أراد شيئاً من ذلك لبلغَ منه الكثيرَ دونَ عناء ..

تحيةٌ إلى الرجل الذي وسعَ بقلبه الكبير ، وعقلِه الرشيد ، وخلقِه الرفيع ، وأفقِه الواسع ، سائرَ الناس ، وأحبَّ لهم ما أحبّه لنفسه من الهدايةِ والخير ، وبذلَ في إرشادِهم وخدمتهم ، من قلبِه وفكره وعلمه وجهده ، ما تَنُوءُ بمثلهِ العصبةُ أولوا القوة ، فثبَّتَ الله به من ثَبَّت على الهدى ودين الحقّ ، وأخرجَ به من أخرج من الملحدين والكافرين والضائعين ، من الظلمات إلى النور ، ومن الضلالة المهلكة إلى صراطِهِ المستقيم .

تحيةٌ إلى الرجل الذي عاش في الغرب فلم يفتنه الغرب ، ولم يلوِّثه الغرب، وكان حيثما وُجِد منارةً هادية ، ودعوَةً دائبة ، وتعريفاً حيّاً بالإسلام ، وفضائل الإسلام ، بلسان الحال ، لا بمجرد المقال : تعريفاً رائعاً ما يزالُ له في كثيرٍ من النفوسِ أجملُ الآثار ، وما يزالُ يفتحُ القلوبَ لدعوةِ الله عزَّ وجلَّ ، ويُوَلّد لها عند المنصفين المحبةَ والإعجاب والإكبار .

تحيةٌ إلى الرجل الذي استنفدَ عمرَهُ وقواه في خدمة الإسلام والمسلمين والإنسان ، ووهبَ حياته لخدمة دينه وأمّته بقلمه ولسانه وعمله ، في كلّ مكان ، وعلى كل صعيدٍ يراهُ أَولى بالجهد ، أو يرى نفسَه أقدرَ على الإفادَةِ فيه ؛ مُسَلّحاً في ذلك كلّه بالإيمان والإخلاص ، والعلم والوعي ، والإرادة والدأب ، والتضحية والصبر ، وعددٍ من اللغات الحيّة منها العربيّةُ والأرديةُ والفارسية والتركية والفرنسية والإنجليزية والألمانية .. يَفْهَمُ بها العالم ، ويُخَاطِبُ بها العالم ، ويخدم بها دعوة الله أجلّ الخدمات

تحيةٌ من أعمقِ أعماق القلبِ والحبِّ والعرفانِ إلى محمد حميد الله ، وهو يحملُ الآنَ على كاهِلِهِ المكدودِ ، وهيكلهِ العظميِّ الناحل ، أعباءَ سِنِيه الثمانيةِ والسبعين ، ويفتِّشُ حيثُ يعيشُ من عشراتِ السنين في باريس ، عن ” مأوى عجزة “ متواضعٍ ، يقضي فيه ما بقي من أيّامِ شيخوخته ، بعد أن أعطى صِباهُ وشبابَهُ وكهولتَه وخيرَ أيّامِ الشيخوخة والحياة للإسلام والمسلمين : فلا يجدُ ” مأوى عجزة “ يقبلُه براتبهِ التقاعديّ الضئيل .

لا أكتبُ هذا الكلام – كما قد يتبادرُ لبعضِ الأذهان – لأستثيرَ شعورَ المسلمينَ بالمسؤولية عن هذا الرجلِ العظيم ، ولأدفعَهم إلى الوقوفِ معه في هذه المرحلةِ من شيخوخته ، ومساعدتِه على توفيرِ الشروطِ الملائمة لوضعه الصّحيّ ، ولاستمرارِ إنتاجِه وعطائِه الجليلِ الذي لا يُعَوِّضُه في مجاله سواه ؛ فالأستاذُ الدكتور محمد حميد الله لا يقبلُ مساعدةَ أحدٍ مهما اشتدّتْ به الحال ؛ بل لقد كان – وما يزال – يقتطع من ضروراتِ حياتِه الأساسية ما يساعدُ به الناس ، ويُحَوِّلُ رَيْعَ كتبِهِ – إن قَبِلَ أن يأخذ لكتبه ريعاً – إلى الجهات التي تخدم الإسلام والمسلمين ..

إنما أكتبُ لأُسجِّلَ واقعاً مأساوياً ، ما أَمَرَّه وما آلَمَه منْ واقع ، وما أَدْمَاهُ للنفوسِ التي لم يمتْ فيها كلُّ إحساس ، ولم ينعدمْ فيها كلُّ وفاء ، ولم تفقدْ كلَّ الفقدِ أدنى شعورٍ بالمسؤوليةِ والواجب .

أَيْ محمد حميد الله! أيّها الشمسُ التي أنارتْ طويلاً ، وبدأت تَجْنَحُ الآنَ للغروب ..

أيّها الشَّفَقُ الملتهبُ على الأُفُقِ بالإيمانِ والمحبّةِ والإخلاص والذي يَتَهَيَّأُ الآنَ للمغيب ..

أيّها الفارسُ القديمُ الذي حملَ رايةَ الإسلامِ في بلاده التي حُرِمَ منها ( حيدر آباد ) وفي ديار الغرب ، وفي بقاعٍ أخرى متباينةٍ من الأرض ، بثباتٍ وصبر ، وتواضع وصمت ؛ والذي يوشِكُ ضعفُ الجَسَدِ أن يَنْزِلَ بِهِ الآنَ قسراً عن جوادِه العتيد ..

أيّها الخُلُق الرفيع ، أيّها الزُّهد الصادق ، أيّها التواضعُ النادِر ، أيُّها العمل الدائب ، والعطاءُ القلبيُّ المتواصل ، على صعيد البحث والتأليف ، والتوجيهِ والتعليم ، وخدمةِ كلِّ محتاجٍ بما تستطيع ؛ من مالٍ أو جاه ، أو مشاركةٍ عاطفيّةٍ فكريّةٍ أخوّية ، تَأْسُو الجراحَ وتُسَدِّدُ الخُطى ، وتُعِينُ على متابعةِ الطريق .

أيْ محمد حميد الله

إن كانَ قد عقَّك المسلمون ، وقصَّرَ في حقّك المقصّرون ، ولم ترَ أقلَّ القليلِ مما تستأهلُهُ من العرفانِ والتكريم ، والمساعدةِ على القيامِ بالواجب ؛ فإنَّ الأجيالَ الإسلاميةَ الجديدة ، والطلائع الإسلاميةَ الأصيلة ، لتُعَبِّرُ لك في هذه المرحلة المتقدّمة من مراحل حياتِك وجهادِك الطويلِ النبيل ، عن أعمقِ مشاعرِ المحبّةِ والعرفانِ والشكرِ والتقدير ، وتُرْسِلُ إليكَ – عبر الرائد – بهذهِ التحيّةِ الصّادقةِ الخالصةِ المنبعثةِ من أعماقِ القلوب ، وإنْ كنتَ قد عملتَ ما عملتَ في حياتك المباركةِ كلِّها ، وأنتَ لا تنظر إلاّ إلى الله ومرضاةِ الله ، ولا تريدُ من أحدٍ من النّاس جزاءً ولا شكورا

فجزاكَ الله عنّا وعن الإسلامِ والمسلمينَ خيرَ الجزاء .

ومدَّ الله في حياتِك الغاليَة ، ومتَّعَكَ بالصّحةِ والعافية ، وأبقاكَ بيننا ، وحفظكَ فينا، أخاً حبيباً كبيراً ، وقُدْوَةً عزيزةً وذُخْراً ، ولا حَرَمَنا منْ ثَمَرَاتِ علمِكَ وفكرِكَ وعملكَ النافع .

والسلامُ عليكَ حيثما كنتَ ورحمةُ اللهِ والبركات .

مع البروفيسور محمد حميد الله :

وكتب الأستاذ د. مصطفى الطحان (لبنان ) يقول :

( كنا نهرع لحضور محاضرات السيرة والتاريخ الإسلامي يلقيها في كلية الآداب في جامعة استانبول البروفيسور محمد حميد الله ، وحميد الله عالم زاهد عابد فاضل من الهند .

كان يلقي محاضراته ستة أشهر في جامعة السوربون في باريس وستة أشهر أخرى في كلية الآداب في جامعة استانبول كل عام، كان يحضر عنده النفر القليل وكنا وإخواننا ذلك النفر ..صبر الرجل وبعد سنتين من بدء محاضراته صارت المدرجات الكبرى لا تتسع للحاضرين ، إذا ذكرنا بدايات البعث الإسلامي في تركيا وأحببنا أن نذكر طليعة العاملين الصامتين فلا بدّ من ذكر البروفيسور محمد حميد الله.

زرناه في الفندق مع الدكتور مصطفى الأعظمي عالم الحديث الهندي الأصل، كان يتحدث قليلاً وبصوت خافت ولكن كلماته كانت عميقة ومؤثرة . حدثنا عن الحركات الإسلامية وعن أولئك النفر من حزب التحرير الذين يأخذون وقته ويقرضون أنفسهم عليه فرضاً ينتقدون ويشككون يحاسبونه على الكلمة يفسرونها على هواهم ..أنهم قوم جدليون وما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل .

في إحدى هذه المحاضرات حاضرنا الأستاذ جاويد إقبال وتكلم عن العلامة والده إقبال صاحب فكرة باكستان الذي رأى أن تعايش الهندوس مع المسلمين في ظل حراب الانكليز أمر مستحيل ..وأن الآلام التي يتعرض لها المسلمون هناك لا علاج لها غير إيجاد دولة مستقلة للمسلمين .هكذا تصورها بخيال شاعر ..حتى جاء محمد علي جناح وقاد العمل السياسي من خلال حزب الرابطة الإسلامية وحقق استقلال باكستان  ...

ما زال منظر الأستاذ محمد حميد الله يشدني ..وهو ينتظر الآذان في مسجد بيازيت يفطر على حبات من الزيتون الأسود ..ويصلي المغرب ثم يذهب للفطور ..الصمت والسلوك القويم أرقى من كل كلام ..والعلم والتواضع أرقى من كل فلسفة.

كتب الدكتور سعيد رمضان عن محمد حميد الله ، إحدى خواطره في مجلة (المسلمون) بعنوان : بقية من السلف الصالح ..وصف غرفته الصغيرة في باريس التي تملأها الكتب والمراجع ..والحياة المتواضعة التي يعيشها ..والزهد البين في كلماته ولباسه وطعامه ومعالم حجرته ..كتب عن علم الرجل وفقهه وكتبه .

وكم سررت مؤخراً يوم قرأت أن اتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا ..قد أحيوا ذكرى الرجل الذي كان له دور في رئيس في تأسيس اتحاد الطلبة المسلمين في فرنسا)[1] .

وكتب الأستاذ الدكتور محمد محمود الهواري يقول :

( في الثامن عشر من شهر تشرين الأول لعام 1958 وصلتُ إلى مدينة بروكسل في بلجيكا لمتابعة دراستي العليا في العلوم الصيدلانية والكيميائية ، وبعد أسبوعين لحق بي أخي عدنان لابتداء دراسته الجامعية . ولم يكن في ذلك الوقت أي مؤسسة إسلامية في بلجيكا يمكن الرجوع إليها في ما يتعلق بشؤون المسلمين . لذا كان من أول ما قمنا به الاتصال بمسجد ومعهد باريس، وهو المؤسسة الكبرى التي كانت تشتهر في ذلك الوقت . طلبنا من إدارة المسجد أن تزودنا ببعض المراجع الإسلامية باللغة الفرنسية للاستعانة بها خلال إقامتنا في ديار الغرب .تلقينا بفرح كبير نسخةً من ترجمة معاني القرآن الكريم إلى الفرنسية وكتابا من جزأين عن الرسول، وترجمة لكتاب الرسالة في الفقه المالكي .كانت ترجمة معاني القرآن الكريم والكتاب عن الرسول، من عمل الأستاذ الدكتور محمد حميد اللَّه .

سمعنا باسم هذا الكاتب الجليل ونحن في بلاد الشام من خلال كتابه : “ الوثائق السياسية في عهد النبوة ” . بيد أن مطالعة ترجمة معاني القرآن الكريم وكتاب حياة الرسول وضعتنا أمام شخصية علمية بحاثة نادرة المثال .

فترجمة معاني القرآن كانت متميزة بأسلوبها وطريقة إخراجها والحواشي الملونة بالأخضر والأحمر التي كتبت بين السطور وفي أسفل الصفحات، لتزيل ما غمض من ترجمة الكتاب المعجز .

وقد صدرت الترجمة بمقدمة لم أرَ لها نظيراً؛ فقد اشتملت على دراسة نادرة لترجمات معاني القرآن الكريم في اللغات المختلفة مع توصيف رائع للترجمة والمترجم من حيث اللغة والأمانة العلمية وكمال الترجمة ونقصها ، فقد كان عملاً رائعاً لم يسبقه إليه أحد ، وبدا لنا أنه أمضى في إعداده السنين الطوال اضطرته أن يتنقل بين المكتبات العالمية للاطلاع على هذه الترجمات المختلفة التي يزيد عددها على المئات .

أما كتاب رسول الإسلام فقد تحدث في الجزء الأول منه عن حياة الرسول  بأسلوب المحققين لكل شاردة وواردة في حياة المصطفى  ، ودقق في التواريخ والأحداث بدقة فائقة . ثم أتبع في الجزء الثاني دراسة تفصيلية عن أعمال الرسول  مع توثيق لكل فقرة وردت في هذه الدراسة الشاملة .

لقد جذبنا هذا إلى شد الرحال إلى باريس لزيارة المسجد والالتقاء بهذا العالم الجليل . وصلنا باريس في يوم الجمعة الأخير من شهر كانون الأول ديسمبر عام 1958فكانت فرصة لأداء صلاة الجمعة في المسجد الكبير الذي لم يكتمل فيه (3) أو (4) صفوف من المصلين على ما أذكر . وقبيل الصلاة كان في زاوية من حرم المسجد يجلس رجل نحيل القوام رمادي الشعر ذو لحية خفيفة وعلى رأسه قبعة يلبسها مسلمو الهند وباكستان .

كان الرجل يلقي درساً بلهجة متميزة واضحة ، إلا أن لغته كانت بليغة وهي أشبه ما تكون بلغة الصالونات الأدبية الراقية . انتهى الدرس مع الأذان للصلاة فذهبنا نسلم على المتحدث فكان هو محمد حميد اللَّه . تجاذبنا أطراف الحديث وتعارفنا ودعانا إلى زيارته في بيته .

كان محمد حميد اللَّه يسكن في غرفة صغيرة في شارع تورنون  4, Rue de  Tournon   في الحي اللاتيني ليس فيه إلا سرير متواضع وطاولة للكتابة ، وأينما توجهت لن تجد أمامك إلا الكتب المتناثرة هنا وهناك حتى السرير ، فقد كانت الكتب تشاركه نومه وقيامه .

لم تنقطع صلاتنا بحميد اللَّه فقد كان شخصية متواضعة محباً لجميع إخوانه لا يفتأ يتوجه إليهم بالنصح والتعاون ، فقد كان رائداً لتأسيس عدد من الهيئات الإسلامية كالمركز الثقافي الإسلامي في عام 1958، ونادي الصداقة الفرنسية الإسلامية في عام 1962م ، واتحاد الطلبة المسلمين في فرنسا في عام 1962م أيضاً، حيث كان يلقى دروسه الأسبوعية على جماهير المسلمين والمهتمين بالإسلام.

في زيارة لاحقة له أبلغني بفرح شديد أنه صار عند المسلمين الآن في باريس مسجد جديد ، ويقصد بذلك البيت الذي أهداه أحد الجزائريين للمسلمين ليتخذوه مسجداً في حي بيل فيل Belle Ville ، وكان منزلاً قديماً يعج بالمصلين من كل حدب وصوب وأصبح فيما بعد نواة لإقامة مسجد الدعوة الكبير المشهور في باريس ، والذي يديره الأخ الحبيب الداعية الدكتور العربي الكشاط .

لم يتوقف نشاط الدكتور محمد حميد اللَّه بين المسلمين وغير المسلمين، فقد اعتنق الإسلام على يديه المئات من الأوروببين الذين يفتخرون بأن حميد اللَّه كان شاهداً على إسلامهم .

وكان ينتقل بين المدن الأوروبية لإلقاء المحاضرات عن الإسلام والدفاع عنه وبيان وجهه الحضاري والإنساني العالمي .

لقد كان حميد اللَّه يمثل وجه الإسلام في الغرب بما أوتي من علم غزير وخلق متواضع رفيع وحب للآخرين ، بل كان رائداً للحوار بين الأديان في فرنسا وتربطه علاقات صداقات وطيدة بعدد من كبار المستشرقين مثل لويس ماسينيون، وجاك بيرك، ولاوست، وعمل لفترة طويلة في المركز القومي للبحوث في فرنسا وكان استاذاً في عدد من الجامعات العالمية كجامعة السوربون في باريس وجامعة بون وجامعة دوسلدورف في ألمانيا وجامعة استانبول . ويتقن حميد اللَّه عدداً من اللغات كالعربية والأردية والفارسية والتركية والفرنسية والإنكليزية والألمانية وله فيها جميعاً كتابات ومحاضرات معروفة .

كان حميد اللَّه غزير الإنتاج العلمي ، فقد ترجم معاني القرآن الكريم إلى اللغة الفرنسية ووزعت منه ملايين النسخ على البلاد الفرانكوفونية وتبنى مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف هذه الترجمة ونشرها في كل مكان . ومن مؤلفاته كتاب تعريف بالإسلام الذي ترجم إلى عدد كبير من اللغات كالفرنسية والإنكليزية وبعض اللغات المشرقية ، وقام المركز الإسلامي في آخن بطباعة الترجمة الألمانية لهذا الكتاب . ومن ومؤلفاته أيضا كتاب الوثائق السياسية في عهد النبوة ونبي الإسلام ( جزأن ) وترجمة ابن اسحاق وكتاب النباتات المستخرج من لسان العرب والبحر المحيط، ونشر صحيفة همام بن منبه، وكان من آخر مؤلفاته المترجمة كتاب سياسة الدولة على المذهب الحنفي مستخرجاً من مؤلفات الإمام السرخسي .

وله ما يزيد عن (2000) مقالة علمية مختلفة ترجم كثير منها إلى لغات متعددة .

لم يتوقف حميد اللَّه عن العمل على الرغم من تقدم سنه ونقص سمعه وضعف حركته ، وكان يرفض أن يقوم أحد إخوانه بخدمته أو أن يأوي إلى دور المسنين ، بل كان يقوم على شؤونه بنفسه ، وحينما أقعده المرض وكبرت سنه انتقل إلى أمريكا حيث يقيم بعض أفراد عائلته للاعتناء به وتولي أمره .

وفاته :

وهناك في أمريكا انتقل حميد اللَّه إلى رحمته تعالى في يوم الثلاثاء الواقع في 13 شوال 1423 هـ الموافق لـ 17 كانون الأول/ ديسمبر 2002 م عن عمر يناهز الخامسة والتسعين .

وهو من مواليد مدينة حيدر آباد في الهند ، وسليل عائلة عرفت بالعلم وحفظ القرآن صغيراً في الحجاز ، وهاجر من حيدر أباد في مطالع حياته إلى فرنسا لأسباب سياسية .لم يخلف حميد اللَّه وراءه مالاً ولا ولداً فقد عاش عازباً طيلة حياته وترك وراءه ثروة علمية تشهد له بالأمانة العلمية والصبر الدؤوب والتحقيق الدقيق .

رحم اللَّه الأستاذ الدكتور محمد حميد اللَّه، وأسكنه فسيح جناته، وجزاه اللَّه على ما قدم للمسلمين من خير كثير .

محمد حميد الله.. راهب العلم المُتبتِّل: خيرة العقول المسلمة في القرن العشرين:

كتب د. محمد بن المختار الشنقيطي يقول :

عاش الدكتور محمد حميد الله عمراً مديداً، بنفس أبيّة، وعلم غزير، وقلب واجف متبتّل. ترك الدنيا وراء ظهره، وانكبّ على العلم والتعليم وخدمة الإسلام. فكان مثالا للعالِم الموسوعي المتبحّر الذي لا يجد لفضوله المعرفي نهاية، والعابد الزاهد الذي لا تساوي الدنيا عنده نقيرا. ولد عام 1908 في حيدرآباد بجنوب الهند، وهو ينتسب إلى أسرة ترجع جذورها إلى قبيلة قريش. وقد هاجرت أسرته من الحجاز إلى البصرة خوفا من بطش الحجاج بن يوسف، ثم استقر المقام بسلالتها في الهند خلال القرن الثامن الهجري.

وتحدَّر من هذه الدوحة النبيلة قضاةٌ ورجال دولة، وعلماء أعلام ذاع صيتهم في الهند على مدى قرون من الحكم الإسلامي لها. وكان من آخرهم الشيخ حبيب الله أخو الدكتور محمد حميد الله الأكبر، وهو مترجم كتاب (أنساب الأشراف) للبلاذري إلى اللغة الأوردية، والشيخة أمَة العزيز، أخته الكبرى، ومترجِمة (شرح النووي على صحيح مسلم) إلى الأوردية.

لم يكن نهم محمد حميد الله للمعرفة يعرف حدودا، فقد حصل على شهادتيْ ليسانس، وشهادتيْ ماجستير، وشهادتيْ دكتوراه، وتعلم حوالي عشرين لغة، منها العربية والأوردية والفارسية والتركية واللاتينية والفرنسية والإنجليزية والألمانية والإيطالية والروسية والبولونية والدانمركية والسويدية والفنلندية. وكان من آخر ما تعلم من اللغات اللغة التايلندية التي درسها بعدما تجاوز عمره الثمانين. وبعد حصوله على كل هذه الشهادات العلمية سافر إلى موسكو لدراسة اللغة الروسية، وسعى إلى الحصول على شهادة الدكتوراه من جامعتها، لولا أن ظروف الحرب العالمية الثانية حرمته من ذلك. فكَـرَّ إلى المدينة المنورة ولزم شيخ قرائها حسن بن إبراهيم الشاعر حتى حصل منه على إجازة في القرآن الكريم كانت أثمن شهاداته وأحبّها إلى قلبه..

تلقى محمد حميد الله تعليمه الإسلامي الأول باللغة الأوردية في (دار العلوم الشرقية)، وفيها ألمَّ باللغات العربية والفارسية والانكليزية. ثم التحق عام 1919 بـ(المدرسة النظامية) إحدى أعرق المؤسسات العلمية الإسلامية في الهند، وحصل منها على ليسانس عام 1923. وبعد ذلك بعام التحق بـ(الجامعة العثمانية) التي أسسها الأمير عثمان علي خان في حيدرآباد عام 1918، وحصل منها على ليسانس أخرى عام 1928 وهو في العشرين من العمر. ومن نفس (الجامعة العثمانية) حصل محمد حميد الله على شهادتيْ الماجستير: الأولى في الدراسات الإسلامية، والثانية في القانون الدولي. وفي عام 1932 ابتعثت الجامعة العثمانية طالبها اللامع ليطّلع على المخطوطات الإسلامية في تركيا ومصر وسوريا والسعودية.

ومن اسطنبول استدعاه المستشرق الألماني (فريتزْ كرْنِكو) لاستكمال دراسته العليا في جامعة (بونْ)، فحصل منها على شهادة دكتوراه عن موضوع (مبدأ الحياد في القانون الدولي الإسلامي)، ودرّس فيها اللغتين العربية والأوردية لعامين. وفي العام 1934 التحق بجامعة (السوربون) الفرنسية، فحصل منها على شهادته الثانية للدكتوراه عن رسالته المعنونة: (الدبلوماسية الإسلامية في العصر النبوي والخلافة الراشدة) وهي التي أصبحتْ فيما بعد كتابَه الأشهر باللغة العربية (مجموعة الوثائق السياسية للعصر النبوي والخلافة الراشدة). وعاد محمد حميد الله إلى حيدرآباد عام 1935 حاملا معه علما واسعا، وخبرة بالعالم، وتمرسا بالحياة، على حداثة سنه يومذاك. فعمل محاضرا في قسم الدراسات الإسلامية بالجامعة العثمانية بحيدرآباد، وعميدا لكلية القانون بها إلى حدود العام 1948.

وكان محمد حميد الله من أشد المدافعين عن استقلال إمارة حيدرآباد الإسلامية عن دولة الهند، وهي إمارة لعبت دورا تاريخيا مجيدا في تاريخ المسلمين، وكانت مركزاً مزدهراً من مراكز الحضارة الإسلامية في القارة الهندية، فحريٌّ بها أن تبقى منارة إسلامية. فسافر إلى الأمم المتحدة عام 1948 ضمن وفد دبلوماسي يسعى إلى الاعتراف باستقلال الإمارة بعد استقلال الهند عن التاج البريطاني، ورفْض الإمارة الانضمام إليها. وحينما اجتاحت القوات الهندية الإمارة وفشل الوفد في الحصول على الاعتراف باستقلالها قرر محمد حميد الله بإباء أن لا تطأ قدمه أرض الهند بعدها، وهو قرار التزم به طول عمره المديد، رغم تجواله في أرجاء الأرض.

عاش العلامة حميد الله في فرنسا مدة مديدة ناهزت نصف القرن (1948-1996) احتفظ خلالها بجنسيته الحيدرآبادية، ورفض عرضا من الحكومة الفرنسية ومن حكومات دول إسلامية عدة بمنحه الجنسية، وفاءً لوطنه المغدور حيدرآباد. واكتفى بوثيقة إقامة في فرنسا حملها معه أكثر من نصف قرن.

ولم يترك حميد الله فرنسا إلا بعد أن أعياه رهَق السنين، واستنزف عمرَه البحث العلمي الدائب والعملُ الدائم لخدمة الإسلام. فقد ألحّت عليه حفيدة أخيه السيدة المفضالة (سديدة عطاء الله) المقيمة في الولايات المتحدة بمصاحبتها إلى هناك حرصا على صحته المنهَكة ورحمة بضعفه وكبره، فقبل توسُّلاتِها بعد لَأْيٍ عام 1996، وأقام معها سنوات عمره الأخيرة، حتى رحل بنفس مطمئنة عن هذه الدنيا، في مدينة جاكسونفيل بولاية فلوريدا الأميركية عام 2002، مخلفاً وراءه ذكراً عطِرا وأثرا لا يمَّحي. وقد ذكرتْ ابنة أخيه البارّة سديدة عطاء الله في عدد خاص من مجلة Impact International مخصص لرثاء محمد حميد الله، أنه كان يمازحها شفقةً بها فيقول: "سأُفاوض ملَك الموت بكل ما أستطيع من حُجّة، لكي لا يقبض روحي بحضورك".. وقد تحققتْ أمنيته، فتوفاه الله في نومه ضحًى وهي غائبة عن البيت.

كان محمد حميد الله متواضعا بَرًّا موطَّأ الأكناف، حتى إنه كان يخرج مع الشباب المسلم في المخيمات الثقافية بفرنسا –وهو أستاذ بجامعة السوربون- فيغسل آنية الطعام بيده، ويجلس معهم على الأرض كواحد منهم، على مكانته العظيمة في العلم والشهرة. وحينما دخل (دار المصنِّفين) –إحدى أشهر المؤسسات العلمية بالقارة الهندية- دخلها حافيَ القدمين، وعلَّل ذلك بأنه يكره أن يدخل منتعلا إلى دار أُلِّف فيها كتابٌ في السيرة النبوية، يقصد كتاب (سيرة النبي صلى الله عليه وسلم) للعلامة سليمان الندوي في سبعة مجلدات. وكان شديد الزهد والاحتساب، حتى إنه عندما عُرض عليه الترشح لجائزة الملك فيصل رفض بشدة، وقال: "أنا لم أكتب ما كتبت إلا من أجل الله عز وجل، فلا تفسدوا علي ديني."

يعتبر الدكتور محمد حميد الله من العلماء المكثرين من التأليف، كيف لا وقدْ أوقف حياته الطويلة العريضة على البحث العلمي والكتابة، حتى إنه عاش عزَبًا طيلة عمره، فكان حريًّا بالشيخ الحافظ عبد الفتاح أبي غُدَّة أن يترجم له في كتابه الفريد في بابه: (العلماء العُزَّاب الذين آثروا العلم على الزواج). وقد ألّف حميد الله وحقّق عشرات المجلدات، وكتب حوالي ألفِ مقال، واشترك في كتابة وتحرير عدد من الموسوعات، منها (دائرة المعارف الإسلامية) باللغة الأوردية، و(الأطلس الكبير للأديان) باللغة الفرنسية.

جمع حميد الله بين العمق والامتداد فيما كتب: فقد أعانتْه معرفته الموسوعية على الكتابة في علوم إسلامية شتى، ومكّنه دأبُه وجِدُّه العلمي من تقديم أعمال علمية تأسيسية في بابها:

- ففي خدمة القرآن الكريم أسهم بترجمته البديعة للكتاب العزيز إلى اللغة الفرنسية، وقدَّم لها بمقدمة ضافية في علوم القرآن وتاريخه. ولم تكن توجد ترجمة ذات قيمة للقرآن الكريم إلى هذه اللغة المهمة، إلا ما كان من أعمال استشراقية شابها التحيز وضعف التذوق للغة القرآن. وقد اشتهرت ْترجمة حميد الله، وانتشرتْ بين المسلمين الناطقين بالفرنسية في فرنسا وكندا وغرب إفريقيا، ثم اعتمدها مجمعُ فهد لطباعة المصحف الشريف، وطبَعها بأعداد وفيرة. كما تتبَّع حميد الله في كتابه (القرآن بكل لسان) تاريخ ترجمة القرآن الكريم، وقدّم جردا لترجمات الكتاب الكريم إلى حوالي مائة وخمسين لغة.

- وفي علوم الحديث الشريف كشف حميد الله النقاب عن أقدم نص مسند من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو صحيفة التابعي همام بن منبّه الصنعاني (ت 101 هـ)، التي رواها عن الصحابي أبي هريرة رضي الله عنه. فبرهن حميد الله بذلك - بخلاف ما هو شائع من الرأي- على أن تدوين الحديث النبوي بدأ في حياة الصحابة رضي الله عنهم، وهو ما يزيد الثقة في تاريخ السنة وإسنادها. كما ألف حميد الله كتابا عن ترجمات المستشرقين لصحيح البخاري، تتبَّع فيه الخلل في تلك الترجمات، وصححها بعقل منصف وقلب مؤمن.

- وفي السيرة النبوية حقق محمد حميد الله سيرة ابن إسحاق (ت 151 هـ)، وقد وأعاد هذا النص العتيق إلى خضم الحياة العلمية الإسلامية، بعد أن أهمله الناس اعتمادا على سيرة ابن هشام (ت 213 هـ) المتأخرة عنها. كما ألف الدكتور حميد الله كتابا من أمتع وأجمع ما كُتب في السيرة النبوية، وأحسنه حبكة وترتيبا، وهو كتابه (رسول الإسلام: حياته وآثاره) Le Prophète de l’Islam: Sa vie, son oeuvre في مجلدين، ولم يُترجم هذا الكتاب إلى الغة العربية في حدود علمي حتى الآن. ومن إسهاماته في السيرة النبوية أيضا كتاب (نظام التربية والتعليم في عصر النبي صلى الله عليه وسلم) وكتاب (ميادين الحرب في العصر النبوي).

- وفي مجال الفقه السياسي ألف حميد الله عدة كتب أهمها ثلاثة، هي كتاب (مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة) وهو مصدر قيم وكنز ثمين من الوثائق الأصلية التي لا يستغني عنه أي باحث جاد في الفقه السياسي الإسلامي والتأصيل للعلاقات السياسية بين المسلمين وغير المسلمين. ثم كتاب (أول دستور مكتوب في العالم) the First Written-Constitution in the World وهو تحقيق لوثيقة دستور المدينة في العصر النبوي، وترجمة لها إلى اللغة الإنكليزية، مع مقدمة ضافية بيَّن فيها المؤلف أسبقية الإسلام إلى فكرة العقد الاجتماعي الذي يؤسس لبناء السلطة وأدائها على أساس التعاقد والتراضي بين الحاكم والمحكوم، قبل عصر جون هوبز وجان جاك روسو بقرون متطاولة. ثم كان عمله الثالث المتميز في الفقه السياسي هو دراسته المعنونة (هل للقانون الروماني تأثير على الفقه الإسلامي)، وفيها بيَّن أصالة الفقه الإسلامي، وردَّ ردًّا مُفحِما على المستشرقين الذي زعموا استمداده من القانون الروماني.

- وفي مجال تحقيق كتب التراث العربي حقق حميد الله عددا كبيرا من النصوص التراثية القيمة منها: (السير الكبير) لمحمد الشيباني، و(كتاب الردة) للواقدي، و(أنساب الأشراف) للبلاذري، و(كتاب الأنواء) لابن قتيبية، و(كتاب الذخائر والتحف) للغساني، و(كتاب السرد والفرد) للقزويني، و(كتاب النبات) للدينوري... وغيرها كثير.

رحم الله محمد حميد الله.. راهب العلم المتبتِّل.

مراجع البحث:

1-            مجلة الرائد - مقالة عصام العطار .

2-            تركيا التي عرفت من السلطان إلى نجم الدين أربكان – مصطفى الطحان.

3-            د. أحمد عبد القدير(الدكتور محمد حميد الله وشغفه بالعلم)»، مجله عثمانية، كراتشي، ابريل-يونيو 1997م، ج. 1، عدد 4، ص. 55.

4-            شاه بليغ الدين (عالم ومحقق)»، مجلة عثمانية، كراتشي، ابريل-يونيو 1997م، ج. 1، عدد 4، ص. 23.

5-            د. محمد سعود عالم قاسمي (د. محمد حميد الله وخدماته في البحوث العلمية الإسلامية)»، مجلة تحقيقات إسلامي، علي جراه، الهند، يناير-مارس 2003م، ص. 96.

6-            ذكر ياقوت الحموي في معجم البلدان بأنه تعرف هذه القبيلة بالنوايت أو النوايط، وهي تسلك مسلك الشافعي، المرجع السابق، ص. 23.

7-            لطف الرحمن فاروقى (د. محمد حميد الله باحثاً نادراً)»، مجلة دعوة، اسلام آباد، العدد الخاص بالدكتور محمد حميد الله، مارس 2003م، ج. 9، عدد 10، ص. 45.

8-            مجلة «فكر ونظر»، العدد الخاص بالدكتور محمد حميد الله، ج. 40-41، ص. 13-14، أبريل-سبتمبر 2003م، معهد الدراسات الإسلامية بالجامعة الإسلامية، إسلام آباد، باكستان.

9-            محمد رشيد شيخ «د. محمد حميد الله»، مطابع الميزان، فيصل الآباد، باكستان، 2003م، ص.. 103-104.

10-      محمد صلاح الدين «مجلة تكبير الأسبوعية (اردو)»، يناير 1992م، ص.. 10-12.

11-      ضياء الدين إصلاحي «آه فاضل كرامي د. محمد حميد الله» نقلاً عن كتاب «محمد حميد الله» لـ محمد راشد، المرجع السابق، ص. 263.