الخاطرة ٢٢٦ : ابن رشد الفيلسوف المظلوم الجزء ٢٧

ز. سانا

خواطر من الكون المجاور الخاطرة 

في المقالات الماضية الأخيرة تكلمنا بشكل عام عن الأسباب والأحداث التي أدت إلى ظهور الطوائف والمذاهب الدينية في الاسلام . واليوم سنشرح الأسباب التي أدت إلى ظهور التيارات الفكرية الإسلامية .

أكبر مشكلة يعاني منها عصرنا الحديث هي أن جميع الأبحاث العلمية في جميع المواضيع تعتمد الرؤية الماركسية ، فحتى علماء الدين بمختلف دياناتهم ورغم أنهم يهاجمون آراء ماركس نجدهم هم أيضا في أبحاثهم الدينية يعتمدون الرؤية الماركسية ، والتي تعتمد على المبدأ الأول ( حدث بالصدفة) . لهذا كانت جميع الأبحاث الحديثة التي تتعلق بأمور الإنسان كوجود ومصير من نوعية (العلم للعلم والفن للفن والدين للدين وليس لخدمة الإنسان) . لهذا كانت نتائج أبحاث العلماء المسلمين حتى الآن في موضوع ظهور المذاهب والفرق الاسلامية بلا أي فائدة واقعية على الأمة الإسلامية . القانون الكوني يقول " النتيجة هي أقوى إثبات علمي" ، وهذا يعني أنه طالما أن حال الأمة الإسلامية اليوم يسير من السيء إلى الأسوأ من ناحية ترابط أجزاءها ، فهذا يعني أن أبحاث العلماء المسلمين في موضوع ظهور الفرق والمذاهب الإسلامية تبحث في قشور الموضوع وليس في مضمونه ، ولهذا كان من الطبيعي أن تفشل جميع هذه الأبحاث في تقديم شيء مفيد يساهم في حل تلك الاسباب التي مزقت ولا تزال تمزق الأمة الإسلامية . 

ما ذكرته قبل قليل هو شيء بديهي لا يعارضه أي إنسان عاقل ، فالدواء الذي يأخذه المريض بشكل منتظم لفترة طويلة ولكنه بدلا من أن يشفي المريض يزيده مرضا ، هو حتما دواء فاشل ويجب تبديله بدواء جديد وإلا سيكون مصير المريض الموت ، وهذا ما يحدث تماما بوضع الأمة الإسلامية نتيجة تلك الإجتهادات والأبحاث السطحية التي ينشرها العلماء المسلمين . ولهذا في أبحاثي في هذا الموضوع أحاول أن أسلك طريقا آخر في البحث أعتمد فيه على رؤية شاملة مختلفة تماما عن الرؤية الماركسية التي يستخدمها معظم العلماء المسلمين ، فأهم شيء بالنسبة لي في البحث العلمي هو توضيح علاقة الشيء أو الحدث بالمخطط الإلهي الذي وضعه الله لتسير عليه جميع التطورات الروحية والمادية ، فجميعها حسب أبحاثي تنصب في مركز واحد وهو وجود الإنسان ومصيره .

إذا تمعنا جيدا في جميع الأبحاث التي تم نشرها في الكتب والإنترنت بخصوص موضوع ظهور التيارات الفكرية الإسلامية ، سنجد معظمها تبدأ بذكر الحديث الشريف "افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين ... " . لا يوجد أي شك في صحة هذا الحديث فجميع المذاهب تعترف بصحته . ولكن إذا أراد شخص ملحد أو شخص غير مسلم أن يطعن بصحة هذا الحديث حسب مفهومه الظاهري كما فهمه العلماء المسلمين ، فيمكن للملحد بسهولة أن يطعن بصحته ، فعدد الفرق الإسلامية يختلف من عالم مسلم إلى عالم مسلم أخر ، وحتى الآن لا نجد اي عالم مسلم إستطاع تحديد (٧٣) فرقة مسلمة بشكل علمي يوافقه عليه جميع العلماء المسلمين ، فهناك علماء يذكرون عدد فرق أقل من هذا الرقم وآخرون يذكرون رقم أكبر ، لهذا بعض العلماء يعللون سبب عدم تطابق الرقم المذكور في الحديث الشريف مع ما هو في الواقع بأنه ربما تظهر فرق أخرى في المستقبل .

ولكن أيضا الرقم (٧١) أو (٧٢) هما أيضا لا ينطبقان لا على عدد الفرق المسيحية ولا اليهودية . فماذا يحدث هنا ؟ هل من المعقول أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم قد أخطأ ؟ حاشا الله فهو معصوم عن الخطأ "وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ (٣) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ (٤) النجم " . إذن فما هي حقيقة الإختلاف بين الرقم (٧٣) وما يحدث في الواقع ؟ 

جميع العلماء يذكرون الرقم (٧٣) ولكنهم لا يعطون أهمية له في دراستهم لأنه لا يوافق مع ما يحدث في الواقع ، لهذا ينصب إهتمامهم على الشطر الثاني من الحديث الشريف عن تفريق الأمة " كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلا وَاحِدَةً، وَهِيَ الْجَمَاعَةُ" هذا القسم من الحديث فيه بعض الإختلافات في روايته ، فبعضها تذكر (كلها في الجنة إلا واحدة) وهناك إختلاف آخر في تحديد الفرقة الناجية ، فبعضها تذكر أن الفرقة الناجية هي (الجماعة) وأخرى تذكر (أنا وأصحابي) ، وأخرى تذكر (أنا وأهل بيتي) . ولهذا نجد أن إهتمام العلماء يدور حول تحديد صفات الفرقة الناجية ، بعض العلماء وبسبب تعصبهم المذهبي يقرب هذه الصفات إلى عقائد مذهبهم ، بينما العلماء الذين يبحثون بنية صافية بعيدة عن أي تعصب يحاولون ذكر صفات الفرقة الناجية بانها تلك التي تعتمد بشكل عام على قواعد الإيمان وأركان الإسلام .

المشكلة هنا أن العلماء اهتموا بالمفهوم السطحي للحديث الشريف وليس مضمونه ، فجميع العلماء لم يعطوا أي أهمية للرقم (٧٣) ، والذي هو في الأصل مضمون الحديث ، فهذا الرقم ليس صدفة ولكن حكمة إلهية فهو في لغة الأرقام هو رمز روحي . فالرقم (٧٣) هو القيمة الرقمية لكلمة (الله) في النظام البسيط للغة العربية (مجموع أرقام تراتيب أحرف الكلمة في الأبجدية العربية) الذي تحدثنا عنه بشيء من التفصيل في مقالات ماضية عديدة ويمكننا حسابها :

فالمقصود بالرقم ٧٣ هو تعاليم الله ، وتعاليم الله هي واحدة متكاملة ، فكل فرقة ستحاول أن تتمسك بجزء واحد من تعاليم الله وتهمل بقية الأجزاء ، فتعتقد نفسها أنها هي الفرقة الصحيحة فقط وأن بقية الفرق الأخرى على خطأ ، سيكون مصيرها النار ، بمعنى أنها وبسبب خروجها من بقية تعاليم الله سيكون بمثابة خروجها عن الصراط المستقيم الذي وضعه الله للمؤمنين . 

فمضمون الحديث الشريف هنا لا يتعلق بعدد الفرق كرقم ولكن يتعلق بالمعنى الروحي للرقم والذي يعني تعاليم الله ، لهذا نجد الحديث يبدأ بكلمة (أفترقت) مصدر هذه الكلمة هو فعل فرَقَ ، ومعناه فصل بين الشَّيئين وعكسه فعل جمع ، فكما يقول الله تعالى (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَىٰ رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ٧ سبأ)، لهذا كانت الفرقة الناجية هي ( الجماعة) فالمقصود من الجماعة ليس فرقة واحدة من الفرق التي عددها (٧٣) ولكن هي تلك التي توحد جميع الفرق ، أي أنها تلك التي تتبع جميع التعاليم الإلهية الموجودة في جميع الفرق . فظهور مذهب عقائدي ، أو تيار فكري ، ليس هدفه تفريق الأمة الإسلامية ولكن توضيح بشكل مفصل لأحد أجزاء تعاليم الله لتعتمد عليه الأمة في تطوير نفسها ، ومع إتحاد جميع المذاهب والفرق تصبح تعاليم الإسلام بأكملها واضحة للمسلمين ليتبعوها في تحسين أنفسهم ومجتمعاتهم . لهذا يجب أن ننظر إلى موضوع ظهور المذاهب والتيارات الفكرية نظرة تعاون وليس نظرة عداوة ، فقط بهذه الرؤية الشاملة نستطيع فهم ما يقدمه من فائدة كل مذهب أو كل تيار فكري للأمة الاسلامية وللإنسانية . فكما ذكرنا في مقالات ماضية أن أول اختلاف رأي أدى إلى ظهور المذاهب الدينية كانت سببه فاطمة الزهراء عليها السلام، فما فعلته فاطمة الزهراء عليها السلام لم يكن تفريق ولكن توضيح وجود زوايا عديدة لرؤية الحدث وليس زاوية واحدة فقط ، فما فعلته فاطمة الزهراء عليها السلام بشرح مبسط وكأنها بينت للمسلمين بأن الضوء الأبيض ليس لونا واحد ولكنه يتألف من إتحاد جميع ألوان قوس قزح ، فألوان قوس قزح هي في الحقيقة تنتج من ثلاثة ألوان رئيسية ولكن هذه الألوان الرئيسية غير منفصلة ولكنها ترتبط ببعضها البعض وتشكل ألوان أخرى ، فالفرقة الناجية ليست لونا واحدا من ألوان قوس قزح ولكنها هي تلك التي تملك اللون الأبيض الذي يحتوي على جميع ألوان قوس قزح ، لأن اللون الأبيض كرمز هنا وهو رمز تعاليم الله ، فسلوك الزهراء لم يكن هدفه تفريق الأمة الإسلامية ولكن كان هدفه توضيح وجود فئات مختلفة من الناس لهم زوايا النظر مختلفة ، وأنه لكل فئة دور في توضيح زاوية معينة في فهم المخطط الإلهي ، وأنه يجب التعاون فيما بينهم ليحصلوا على الرؤية الشاملة للحدث ، ولكن الذي حصل أن أتباع روح السوء استغلوا الإختلافات بين الفئات وحولوها إلى نوع من التفريق بين المسلمين .

أما بالنسبة للرقمين (٧١ - ٧٢) بخصوص اليهودية والمسيحية في الحديث الشريف ، فهنا نستطيع أن نقول باختصار أن كل دين يضيف فرقة جديدة ، وإن سبب تحول الرقم من (٧٢) في المسيحية إلى الرقم (٧٣) في الإسلام ، فهذه الإضافة هي التي يشير إليها الحديث الشريف "إنَّما بُعثت لأتمِّم مكارم الأخلاق" ، فالإسلام أضاف الجزء الأخير من تعاليم الله إلى الإنسانية ، أي أن الأجزاء الأخرى والتي عددها (٧٢) ظهرت قبل الإسلام على مراحل مختلفة منذ بداية ظهور الإنسان على سطح الأرض ، وأنه يجب على المسلم أن يأخذ تعاليم الله في الحضارات التي ظهرت قبله . ولهذا في سلسلة "ابن رشد الفيلسوف المظلوم" عرضت مواضيع عديدة عن تطور معتقدات الشعوب القديمة ، فتعاليم الله التي رمزها الرقم (٧٣) تم توزيعه على جميع الأمم ، ولهذا يقول الله عز وجل (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ١٣ الحجرات) .

حسب رأي العلماء المسلمين أن من أهم أسباب ظهور الفرق هو دخول أمم عديدة وشعوب كثيرة في الإسلام ، فلعبت السياسة دورها وحدثت مؤامرات خارجية بهدف تشويه الإسلام وتمزيق الأمة الإسلامية مما أدى إلى ظهور الفرق الإسلامية . إن رأي العلماء هذا في أسباب ظهور الفرق الإسلامية هو رأي سطحي لا يعبر عن مضمون الموضوع ولا يساعد أيضا في فهم مضمون معتقدات كل فرقة وسبب ظهورها . فظهور المذاهب والتيارات الفكرية في الأمة الاسلامية نتيجة دخول ثقافات وتقاليد من الشعوب المجاورة لم يكن تفريق ولكن كان حكمة إلهية يساعد على ظهور جميع زوايا الرؤية ليستخدمها العلماء المسلمين في فهم المخطط الإلهي في تطور التكوين الروحي والمادي للإنسانية . أما محاولة تفريق زوايا الرؤية فهو من روح السوء ، فالله عز وجل يقول (قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ ٢٤ الأعراف) .

كما ذكرنا في مقالات ماضية أنه بعد إغتيال الخليفة الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه ، أستغل معاوية بن أبي سفيان هذه الحادثة ليحافظ على منصبه ومصالحه الشخصية فحدثت معركة صفين وقبول علي عليه السلام التحكيم بين الطرفين ، أدى إلى ظهور فئتين وهما فرقة الخوارج ، ومذهب الإباضية . فرقة الخوارج التي أتبعت روح السوء إعتمدت المغالاة في معتقداتها الدينية وبتكفير عموم المسلمين واستحلال دمائهم وأموالهم ، فأرادت أن تحدث فوضى عقائدية في الأمة الإسلامية ولكن الخليفة علي عليه السلام استطاع القضاء على معظم أتباعها . اما مذهب الإباضية فكان ظهوره هو حكمة إلهية لتبقى كدليل إلهي يؤكد على أن معاوية لم يكن من المؤمنين ولكن من أتباع روح السوء (روح الكلب) . وقد تكلمنا عن هذا الموضوع بشيء من التفصيل في الجزء (٢٣) .

ربما بعض القراء حتى الآن وبعد العديد من الإثباتات التي ذكرناها في المقالات الماضية لم يقتنعوا بأن معاوية كان من أتباع روح السوء ، ولكن الله عز وجل وضع علامات كثيرة تؤكد ذلك فكلما تابعنا بحثنا في تاريخ تكوين الأمة الإسلامية ستظهر أمامنا أدلة جديدة تكشف حقيقته . فبعد استلام معاوية الخلافة وتعيين نفسه كحاكم ملكي على الأمة الاسلامية، وكونه كان يعلم تماما بأن معظم المسلمين كانوا يعلمون أن أفعاله كانت تعارض تعاليم الإسلام و أن أسلوبه في الوصول إلى السلطة قد تم بأسلوب الخداع والمكر ، لذلك حاول هو وأعوانه من الشيوخ المزيفين أن يروجوا أفكار دينية تقنع المسلمين بأن خلافة معاوية لا تعارض القرآن والأحاديث الشريفة ،وفي الوقت نفسه تمنعهم من القيام بالثورة عليه ، فظهرت من أتباع معاوية فرقتين وهما : الفرقة الجبرية والفرقة المرجئة. 

- الفرقة الجبرية : أو المجبرة هي فرقة تؤمن بأن الإنسان مسيّر لا قدرة له على اختيار أعماله ، أي أن العبد مسيَّر، لا خيار له أبدًا ، وعلى هذا فإنه يكفيه في يوم القيامة أن يؤمن بالله تعالى بقلبه فقط، مهما فعل من الكفر والمعاصي ، ويستدل الجَبريَّة على عقيدتهم بأن الله تعالى يقول: ( وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى ١٧ الأنفال) ، والآية (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ ۚ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ٦ آل عمران) وغيرها من الآيات . أتباع معاوية روجوا لهذا النوع من العقائد ليمنعوا المسلمين من الخروج عليه وليقنعوهم أن أفعال معاوية لم تكن منه ولكن كان مجبرا عليها من الله ، وأنه على المسلمين عدم التذمر ولكن الرضوخ لأمر الله في حكمه فالله هو الأعلم بما يريد . 

عقيدة الفرقة الجبرية ليست جديدة في منطقة بلاد الشام ، فمثل هذه الفرقة ظهرت أيضا في المسيحية كان لها إنجيل خاص بها وهو (إنجيل يهوذا)، حيث كانت تؤمن بأن يهوذا - تلميذ يسوع - عندما خانه وساعد الكهنة اليهود في القبض على يسوع لمحاكمته، لم يفعلها من نفسه ولكن كان مجبرا على ذلك لتسير الأمور كما خطط لها الله عز وجل . هذه الفرقة مع الزمن إنقرضت ولم يعد لهم أتباع في المسيحية . 

- الفرقة المرجئة :العقيدة الأساسية عند أتباع هذه الفرقة هي عدم تكفير أي إنسان، أيا كان ، ومهما إرتكب من المعاصي ، فما دام قد اعتنق الإسلام ونطق بالشهادتين، يجب أن يُترك أمره إلى الله تعالى وحده فهو أعلم بحقيقة إيمانه أو كفره ، لذلك كانوا يقولون: لا تضر مع الإيمان معصية، كما لا ينفع مع الكفر طاعة. ويستندون في اعتقادهم هذا إلى قوله تعالى (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ١٠٦ التوبة) .

إذا تمعنا جيدا في آيات القرآن الكريم سنجد أنها تذكر أن الإنسان يختلف عن بقية الكائنات الحية بأنه مسير ومخير في نفس الوقت ، ولكن معاوية وخلفاء بني أمية وأتباعهم حذفوا القسم الثاني وروجوا لمثل هذه العقائد الجبرية والمرجئة ليحافظوا على السلطة وعلى مصالحهم عن طريق إقناع المسلمين بهذه العقائد ليُسلموا أمرهم وأمر الظروف التي حولهم لله ، وكذلك لكي يمتنعوا عن التفكير بما تفعله السلطة الحاكمة فيما إذا كان يتوافق مع تعاليم الاسلام أو تعارضه . فحتى ذلك الوقت كان المستوى العلمي عند المسلمين بشكله البدائي فمنطقة مكة لم تشهد أي حضارة من قبل ، لهذا لم يكن يعلم المسلمون أن آيات القرآن الكريم والأحاديث الشريفة تخفي في داخلها معلومات غنية جدا تتعلق بأمور كل ما يحتويه الكون ومراحل تطوره ، وفي العصر الأموي وخاصة في بدايته كانت علوم المسلمين في أبسط أشكالها لأنها كانت تعتمد فقط على علم اللغة العربية ، فكان المسلمون يأخذون تفسير الآيات والآحاديث على ما فهمه الصحابة والتابعين ، فكان النص الديني التقليدي ينتقل من جيل إلى جيل دون إجتهادات شخصية خوفا من تحريف معاني الآيات والأحاديث الشريفة . لهذا استطاع شيوخ معاوية وخلفاء بني أمية أن يأخذوا بعض الآيات من القرآن ويدسوا بعض الأحاديث الباطلة ليستخدموها في ترويج مثل هذه العقائد التي تعطي حق بني أمية في السلطة واستمرارها .

ولكن جهة المخطط الإلهي في تطور الإنسانية يحددها الله وليس غيره ، وحتى تسير الأمور كما هي في المخطط الإلهي لا كما أراد معاوية وأتباعه ، ظهر شخص مسيحي معروف بأسم يوحنا الدمشقي ( اسمه الحقيقي منصور بن سركون) ، كان جده ومن ثم والده مسؤولا عن الضرائب في بلاط الخلفاء الأمويين ، وبعد وفاة والده تابع يوحنا نفس عمل أبيه وجده . عندما كان يوحنا طفلا صغير شاءت الحكمة الإلهية أن تدخل الجيوش الإسلامية جزيرة صقلية وأن تأتي ببعض الأسرى من هناك إلى بلاط الخليفة في دمشق ، من بين هؤلاء الأسرى كان هناك راهب يدعى كوزما ، عندما رآه والد يوحنا أعجب بكثرة علومه فاشتراه من الخليفة بمبلغ طائل ، وعينه معلما لأولاده ، الراهب كوزما أشرف على تعليم يوحنا الدمشقي منذ صغره . فتلقى يوحنا من معلمه كوزما تربية وثقافة عالية في علوم الفلك والموسيقى واللاهوت والحساب والهندسة وفلسفة فيثاغوراس وأفلاطون وأتقن كذلك اللغة اليونانية التي كانت تعتبر لغة الثقافة في ذلك الوقت . 

كثير من العلماء المسلمين بسبب نظرتهم السطحية للأحداث التاريخية يعتقدون أن يوحنا الدمشقي كان من أعداء الإسلام وأنه أراد تشتيت الفكر الإسلامي وأنه لعب دور كبير في ظهور الفرق الاسلامية ، ولكن الحقيقة عكس ذلك تماما فالقديس يوحنا الدمشقي كان مسيحي مؤمن وكان دوره الحقيقي هو كشف حقيقة الإسلام السياسي الذي صنعه معاوية وأتباعه . وسنحاول ذكر وتوضيح تلك الرموز التي وضعها الله في أحداث حياة القديس يوحنا الدمشقي :

كما ذكرنا أن يوحنا ووالده وجده كان عملهم في بلاط خلفاء بني أمية ، فرغم الفترة الطويلة التي عملت بها عائلة يوحنا في بلاط الخلفاء الأمويين ، نجد أن عائلة يوحنا بقيت على دينها المسيحي ، أو بمعنى آخر رفضت أن تعتنق الاسلام والسبب هو أن عائلة يوحنا رأت وشعرت من أعماقها أن دين معاوية وخلفاء بني أمية كان خاليا من نور الله ، فهم طوال سنوات عملهم في بلاط بني امية لم يروا دين محمد صلى الله عليه وسلم ولكن رأوا الإسلام السياسي الذي صنعه معاوية والذي أتى من روح السوء (التي رمزها روح الكلب) لهذا كان اسلام معاوية مختلف تماما عن دين محمد صلى الله عليه وسلم. ولهذا أرسل الله لعائلة يوحنا -التي رفضت هذا الدين - الراهب كوزما من جزيرة صقلية ليكون هو المعلم الروحي ليوحنا وليس شيوخ بني أمية ، فقدوم هذا الراهب من جزيرة صقلية بالتحديد لم يكن صدفة ولكن علامة إلهية ، فكما ذكرنا في الجزئين (٤ - ١٠) من المقالات الماضية ، أن جزيرة صقلية لها شكل رأس كلب ، وان اسم صقليا كلفظ ، مشابه تماما لفظ كلمة (كلبة) في اللغة اليونانية وهو مشابه لمعنى أسم معاوية (الكلبة العاوية) ، وذكرنا أيضا أن الفيلسوف اليوناني بيثاغوراس قد أنشأ مدرسته في تلك المنطقة كعلامة إلهية لها معنى أن علوم مدرسته كان هدفها الإنتصار على روح الكلب . أيضا اسم هذا الراهب (كوزما) لم يكن صدفة ولكن علامة إلهية ، فهذا الأسم مشتق من الكلمة اليونانية (ΚΟΣΜΟΣ كوزموس) وتعني (عالَم ، كون) ، فاختيار هذا المعلم الذي يعني أسمه مشتق من كلمة (عالم ، كون) ليشرف على تعليم يوحنا ، له معنى أن دور القديس يوحنا الدمشقي كان تحويل الأمة الإسلامية - التي كانت تقع تحت سيطرة اسلام معاوية الذي جعلها تتقوقع على نفسها فكريا - إلى أمة تقع تحت سيطرة اسلام محمد صلى الله عليه وسلم لتقوم بصنع حضارة اسلامية تلعب دورا هاما في تطوير الإنسانية بأكملها . فقدوم الراهب كوزما كان له معنى بأن الحضارة الإسلامية لم تأتي من العدم ولكنها أخذت من شعوب العالم لتعيدها إلى شعوب العالم ولكن بشكل أكثر تطورا وخاصة في الناحية الروحية .

لهذا نجد أن والد يوحنا يرسل أبنه -أخو يوحنا - إلى دير سابا في منطقة قريبة من القدس ليصبح كاهنا هناك ، هذا الحدث سيمهد مكانا لأخيه يوحنا ليؤلف فيه كتبه . ونجد أن يوحنا بعد وفاة أبيه يستلم عمل أبيه في بلاط الخليفة ويستمر في عمله بضع سنوات ليس حبا بخلفاء بني أمية ولا براتبه العالي ، ولكن كان من أجل ان يدرس دين أتباع معاوية ليستطيع كشف جميع نقاط ضعفه لينقضه ، وعندما بلغ عمر يوحنا حوالي الثلاثين عاما نجده يترك عمله في دمشق ويتجه إلى فلسطين ليصبح راهبا في دير القديس سابا ، وهناك نجده يتخذ لنفسه اسم يوحنا (يحيى بالعربية) كاسم رهباني بدلا من أسمه الحقيق منصور ، في سنة ٧٣٥ وبعد إلحاح أخيه تحول من راهب إلى كاهنً .

في دير سابا بدأ يوحنا يؤلف كتب يوضح بها حسنات الدين المسيحي ليمنع المسيحيين من الدخول في الاسلام لأنه كان مقتنع تماما أن الدين الذي أتبعه معاوية وبني أمية كان خاليا من نور الله ، وحتى يقتنع المسيحيون والمسلمون أيضا بآراءه ألف كتاب يحمل عنوان "المناظرة" حيث يعرض فيه مجادلة بين شخصين: أحدهما مسيحي والآخر مسلم ، تشتمل هذه المجادلة على مسائل كلامية وفلسفية، حاول فيها يوحنا أن ينتقد فيها بعض العقائد الأساسية في الاسلام ليبين الخلاف العقائدي بين المسيحيين والمسلمين حول عدة قضايا أساسية ، وسنعرض هنا قضيتين رئيسيتين:

١ - قضية قدرة الإنسان وحرية الاختيار : تدور هذه المسألة عند يوحنا الدمشقي حول عقيدة الجبرية التي كان يُروج لها أتباع معاوية وبني أمية ، فيقول أنّه إذا كان الله خالق الأشياء جميعاً فإنّ للإنسان قدرته ، وتقع عليه وحده المسؤولية المطلقة لمعرفة الخير من الشر؛ فيوحنا ينفي مسؤولية الله عن أفعال البشر لأن الله أعطى الإنسان عقلا ويجب عليه التمييز ما بين الخير والشر . في الوقت نفسه يؤكد يوحنا أنّ القدرة لدى الإنسان ينبغي أن يغلب عليها الجانب الأخلاقي أكثر منه العقلاني.

٢ - قضية طبيعة القرآن الكريم (كلام الله) وعلاقته بطبيعة المسيح : في هذه المسألة اعتمد يوحنا الدمشقي على منهج ميز فيه بين "كلمة الله ـ المسيح " غير المخلوقة، وبين "كلام الله" - الخطاب - المخلوق، ليثبت في النهاية قِدم المسيح وعلاقته بالإلوهية. فهو يستند على الآية القرآنية (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ... ١٧١ النساء) ، فطالما أن القرآن يؤكد أن المسيح هو كلمة الله وروح منه ، وحسب إعتقاد المسلمين بأن القرآن هو كلام الله وهو غير مخلوق ، هذا يعني أن عيسى عليه السلام الذي هو كلمة الله هو أيضا غير مخلوق لأنه من روح الله وهذا يعني أن المسيحيين غير مشركين ، لأن الكلمة والروح غير منفصلتان من أي شئ موجود بشكل طبيعي، لذلك إن كانت كلمة الله هي في الله "فإن كلمة الله التي هي المسيح " هي كلمةً أزليةً قديمةً موجودة مع الله قبل خلق الكون ، فيستنتج من هذا التحليل أن المسيح هو إله ولكن ذو طبيعتين : لاهوتية وبشرية في أصل واحد ، الطبيعة اللاهوتية أخذها من الله، والطبيعة البشرية (لحم ودم) أخذها من أمه مريم . ويتابع تحليله فيقول أما إذا كانت الكلمة والروح خارج الله ، فحسب الإعتقاد الإسلامي ، سيكون الله بدون كلمة وبدون روح ، عندها سيكون الإسلام قد شوه حقيقة الله .

القديس يوحنا من خلال هذه القضية الحساسة أشار إلى شيء مهم جدا لم يتحدث عنه أحد حتى الآن ، فهو من خلال طرحه لهذه القضية الحساسة يوضح أن زاوية الرؤية التي يستخدمها المسيحيين ، تختلف عن زاوية الرؤية التي يستخدمها المسلمين . فهناك اختلاف بين كلمة (إله - رب) المستخدمة في الدين المسيحي والتي تتكلم عن الروح العالمية التي قامت بخلق ما هو داخل الكون ، مع كلمة (الله) المستخدمة في الدين الإسلامي والتي أحيانا تعني الله الذي هو خارج الكون خالق كل شيء ، وأحيانا تعني الروح العالمية التي هي داخل الكون ، هذا الموضوع شرحناه بشيء من التفصيل في الجزء (٨) . 

حياة القديس يوحنا الدمشقي كانت حافلة بالنشط الفكري ومؤلفاته لعبت دور كبير في التأثير على فكر الأمة الإسلامية و فكر الأمة المسيحية . فكتاب (المناظرة) في ذلك الوقت أحدث زلزال في عقول المسلمين ، وجعلهم يدركون بأن العقائد الدينية ليست بسيطة تتعلق فقط في موضوع العبادة كما كانوا يعتقدون ، وجعلهم أيضا يدركون أن نظرتهم للقرآن والآحاديث الشريفة كانت نظرة فقيرة لا تكفي لفهمها وأنهم بالإضافة إلى علم اللغة بحاجة إلى علوم أخرى لم تكن موجودة في مكة والمدينة ولكن في حضارات الشعوب المجاورة لتساعدهم في البحث بشكل أعمق في مفهوم معاني الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة لتتحول معارفهم عن الإسلام التي كانت تتعلق فقط في العبادة (فقه إسلامي) إلى معارف شاملة تدرس الوجود الإنساني وعلاقته الروحية والمادية بالكون والطبيعة ولكن بنظرة إسلامية جديدة تسمح للمسلم أن يأخذ صورة شاملة عن ماهية وجود الإنسان ودوره في هذا الكون .

إن مضمون ما فعله القديس يوحنا لم يكن مؤامرة خارجية للطعن في الإسلام كما يظن العلماء المسلمين ، فالقضايا التي طرحها في كتابه ( المناظرة) كشفت للمسلمين أن التكوين الكوني معقد جدا وليس بتلك البساطة التي ظنها المسلمين ، وهذا الواقع الجديد الذي أحدثه القديس في فكر المسلمين ساهم في ظهور زوايا رؤية عديدة في الإسلام ، فهذه الزوايا في الرؤية كانت موجودة من قبل عند المسلمين ولكن لم يحاولوا استخدامها بسبب غياب العلوم ، فمع ظهور هذه الزوايا الجديدة في الرؤية ظهرت حاجة المسلمين للعلوم والفلسفة ، فظهرت معها تيارات فكرية إسلامية عديدة ، كل تيار كان دوره البحث بزاوية خاصة به . وهذا ما كانت تحتاج إليه الأمة الإسلامية لتستطيع تكوين حضارة جديدة تضيف إلى علوم بقية الحضارات القديمة رؤية روحية جديدة . 

الدور الحقيقي للقديس يوحنا الدمشقي على الأمة الإسلامية والذي حتى الآن لم يتكلم عنه العلماء المسلمين، كان أن يوقف سيطرة الإسلام السياسي على فكر المسلمين ليحل محله الاسلام الديني ليأخذ دوره في تطوير الإنسانية ، ولقد ترك الله عز وجل علامة إلهية لتؤكد للمسلمين صحة هذا الإعتقاد ، ففي نفس العام (١٣٢ هجري)الذي بدأت تسقط فيه الدولة الأموية التي أسسها معاوية بن أبي سفيان ، توفي أيضا القديس يوحنا. وكأن روحه عندما رأت سقوط الدولة الأموية ، علمت بأنها قد حققت دورها في الحياة فتركت جسدها وصعدت إلى خالقها . الله عز وجل وضع رموز تؤكد صحة هذه الفكرة ، فالأسم الحقيقي ليوحنا هو (منصور بن سركون) ومعنى (سركون) باللغة الأكادية (الملك الأسد) ، فمعنى رمز الأسم الحقيقي للقديس يوحنا الذي أخذ هنا دور رمز روح الأسد ، أن الله سيساعده في الإنتصار على روح الكلب لهذا كان معنى أسمه الكامل (المنصور بن الملك الأسد) ، وقد تكلمنا في المقالات الماضية (الجزء ١٦) عن رمز روح الأسد ودورها في القضاء على روح الكلب التي يُمثلها معاوية الذي عين نفسه ملكا (الملك الكلب) والذي أشار إليه الحديث الشريف بعبارة (الملك العضوض) ، ولهذا كانت الحكمة الإلهية أن يُسمى اولئك الذين قضوا على الدولة الأموية ب(العباسيين) ، فهذا الأسم هو اسم رمزي فمعنى (عباس) هو (الأسد الذي تخافه الأسود أي زعيم الأسود) . لا شيء يحدث صدفة ولكن كل شيء يحدث حسب المخطط الإلهي .

المخطط الإلهي الذي وضعه الله لتكوين الحضارة الإسلامية ، كان يعتمد على أمرين : الأول هو تحرير فكر المسلمين من سيطرة الاسلام السياسي الذي صنعه معاوية ، هذا الأمر - كما ذكرنا - قام به القديس يوحنا الدمشقي ، أما الأمر الثاني فكان تكوين قاعدة علمية صحيحة تضمن الاختيار الصحيح للمنهج العلمي الذي يجب أن يتبعه العلماء المسلمين ، وهذا الأمر سيقوم به الإمام السادس جعفر الصادق عليه السلام الذي عاش في زمن القديس يوحنا الدمشقي ولكن في منطقة بعيدة عنه . فلولا الإمام جعفر الصادق ربما لكانت آراء القديس يوحنا الدمشقي قد أحدثت فقط فوضى فكرية في عقول علماء المسلمين لا يعلم نتيجتها على الأمة الإسلامية إلا الله ، ولكن وجود الإمام جعفر الصادق عليه السلام جعل آراء القديس يوحنا الدمشقي تأخذ دورها الصحيح بدون ان تخلق أي فوضى فكرية. في المقالة القادمة إن شاء الله سنشرح دور الإمام جعفر الصادق عليه السلام ودوره الكبير في تكوين الحضارة الأسلامية .