إرث الرق في أمريكا

ماثيو ديزموند

يبحث مشروع 1619 في إرث الرق في أمريكا. ولإدراك مدى توحش الرأسمالية الأمريكية لابد من أن تبدأ بالمزرعة.

إن مشروع 1619 عبارة عن مبادرة كبيرة من صحيفة نيويورك تايمز للاحتفاء بالذكرى السنوية الأربعمائة لبدء الرق في أمريكا.

والهدف من هذا المشروع هو إعادة تأطير تاريخ البلاد، بحيث يتم إدراك أن عام 1619 كان العام التي تأسست فيه بلادنا، كما يتم من خلاله أيضاً وضع عواقب الرق والمساهمات التي قدمها الأمريكيون السود في المركز من القصة التي نحكيها لأنفسنا حول من نكون. 

قبل عامين من إدانته في قضية احتيال تتعلق بالسندات المالية، كان مارتين شكريلي الرئيس التنفيذي لشركة صناعات دوائية حصلت على حقوق إنتاج درابريم، وهو عقار منقذ للحياة ومضاد للطفيليات. كان العقار من قبل يكلف ثلاثة عشر دولاراً ونصف الدولار للحبة الواحدة، ثم ما لبث السعر أن تضاعف ستة وخمسين ضعفاً تحت إدارة شكريلي ليصبح سبعمائة وخمسين دولاراً للحبة الواحدة. وقف شكريلي أمام الحضور في مؤتمر للرعاية الصحية ليقول إنه كان ينبغي عليه أن يرفع السعر أكثر فأكثر. ومضى موضحاً: "لا يريد أحد أن يبوح به، فلا أحد يفتخر به، ولكننا نعيش في مجتمع رأسمالي، نظام رأسمالي وقواعد رأسمالية".

عبارة "هذا مجتمع رأسمالي" باتت تعويذة قدرية تلقى على مسامع أي شخص يتساءل "لماذا ليس بإمكان أمريكا أن تتحرى الإنصاف والمساواة؟". ولكن العالم يعج بالكثير من أنماط المجتمعات الرأسمالية، والتي تتراوح ما بين التحرري والانتهازي وما بين الموفر للحماية والمتسبب بالضرر وما بين الديمقراطي وغير المنظم. وعندما يقول الأمريكيون "إننا نعيش في مجتمع رأسمالي" – كما قال تاجر عقارات في تصريح لصحيفة ذي ميامي هيرالد في العام الماضي حين كان يشرح مشاعره حول أصحاب المشاريع التجارية الصغيرة الذين طردوا من محلاتهم في ليتل هايتي – فما يدافعون عنه إنما هو اقتصاد بلدنا المتفرد بقسوته، أو ما أطلق عليه جويل روجرز، أستاذ علم الاجتماع في جامعة ويسكونسن ماديسون، "رأسمالية الطريق الهابط".

في المجتمع الرأسمالي الذي يتعرض للهبوط، تنخفض الرواتب بينما يتنافس أصحاب المشاريع التجارية على أسعار البضائع، وليس على جودتها، ويتم تحفيز ما يسمى بالعمالة غير الماهرة من خلال العقوبات لا المكافآت، ويسود انعدام المساواة وينتشر الفقر.

في الولايات المتحدة، يملك قطاع الواحد بالمائة الأوسع ثراء بين الأمريكيين أربعين بالمائة من ثروة البلاد، بينما يعيش القطاع الأكبر من الناس الذين تتراوح أعمارهم بين الثامنة عشرة والخامسة والستين في حالة من الفقر تتجاوز مستوى الفقر الذي تعيشه نفس الشريحة في أي من الدول الأعضاء في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (أو إي سي دي).

أو فلتأخذ بعين الاعتبار حقوق العاملين في البلدان الرأسمالية المختلفة. في آيسلندا، ينتمي تسعون بالمائة من العمال الذي يتلقون رواتب شهرية إلى نقابات مهنية مخولة بالدفاع عنهم والنضال من أجل تحسين أوضاعهم المعيشية وضمان أن تكون ظروف العمل منصفة لهم. وفي إيطاليا، ينتمي أربعة وثلاثون بالمائة من العمال إلى نقابات مهنية، وتصل النسبة في حالة العمال الكنديين إلى ستة وعشرين بالمائة. أما في الولايات المتحدة فلا تتجاوز نسبة العمال الذين يحملون بطاقات نقابية العشرة بالمائة. تمنح منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية علامات للبلدان بناء على عدد من المؤشرات، مثل كيفية تنظيم البلدان لترتيبات العمل المؤقت. تتراوح هذه العلامات بين خمسة (صارم جداً) إلى واحد (فضفاض جداً). تحصل البرازيل على 4.1 بينما تحصل تايلاند على 3.7 بما يشير إلى قواعد تنظيمية حازمة تجاه العمل المؤقت. وإذا نزلنا إلى تحت نجد أن النرويج تحصل على 3.4 والهند على 2.5 واليابان على 1.3. أما الولايات المتحدة فتحصل على 0.3 حيث تأتي في المرتبة الأخيرة بجانب ماليزيا. وإجابة على سؤال، ما مدى سهولة فصل العمال من وظائفهم، تحصل أندونيسيا على 4.1 والبرازيل على 3، بما يعكس قواعد قوية لتنظيم مبالغ التعويضات وأسباب الفصل من العمل. وتصبح هذه القواعد أكثر تساهلاً في بلدان مثل الدنمارك (2.1) والمكسيك (1.9). أما في الولايات المتحدة فتتلاشى تماماً هذه القواعد حيث تأتي البلاد في المرتبة الأخيرة من بين واحد وسبعين بلداً. علماً بأن العلامة التي تحصل عليها أمريكا في هذا المجال هي 0.5.

أولئك الذين يبحثون عن الأسباب من وراء كون الاقتصاد الأمريكي متفرداً في قسوته ولا شيء يكبح جماحه يجدون ضالتهم في كثير من الأماكن (الدين، السياسة، الثقافة). إلا أن المؤرخين أشاروا حديثاً، وبشكل مقنع إلى حقول جورجيا وألاباما التي يعيث فيها البعوض، وفي بيوت القطن، وفي مزادات بيع وشراء العبيد، باعتبارها مهد المقاربة الأمريكية، مقاربة الطريق الهابط تجاه الرأسمالية.

كان الرق بدون أدنى شك منبع الثروة الاستثنائية التي حظيت بها الولايات المتحدة. فقد كان وادي الميسيسبي عشية الحرب الأهلية موطناً للأثرياء من أصحاب الملايين يفوق عددهم بالنسبة إلى عدد السكان عدد من كان يعيش في أي مكان آخر في الولايات المتحدة. وكان القطن الذي يزرعه ويحصده العمال المسترقون هو أهم صادرات البلد، وكانت القيمة الكلية للمسترقين من البشر تفوق قيمة كل السكك الحديدية والمصانع المقامة في البلاد. وكانت نيو أورلينز تتباهي بأن لديها كثافة من رؤوس المال المصرفية تفوق تلك التي لدى مدينة نيويورك. إن الذي جعل اقتصاد القطن يزدهر في الولايات المتحدة، وليس في كل أطراف العالم الأخرى حيث يتوفر المناخ والتربة المناسبين لإنتاج المحصول، هو استعداد بلدنا الجازم لاستخدام العنف ضد غير البيض من البشر وفرض إرادتها على ما بدا موارد لا نهاية لها من الأراضي والأيدي العاملة. وعندما خيرت بين الحداثة والهمجية، وبين الرخاء والفقر، وبين التزام القانون والتوحش، وبين الديمقراطية والشمولية، اختارت أمريكا كل ما سلف.

مر ما يقرب من مائة وستين عاماً فقط على إنهاء الرق، ومع ذلك ليس مفاجئاً أننا مازلنا نشعر بوجود هذه المنظومة التي ساعدت على تحويل بلد فقير ناشئ إلى عملاق مالي. ولعل الجزء المفاجئ يتعلق بكثير من الأساليب المرعبة التي نشعر من خلالها بالعبودية في حياتنا الاقتصادية. كتب المؤرخان سفين بيكيت وسيت روكمان يقولان: "إن العبودية الأمريكية مطبوعة بالضرورة في المادة الوراثية للرأسمالية الأمريكية." ويقولان إن المهمة الآن تكمن في "إعداد جدول بالصفات السائدة والمتنحية" التي عبرت إلينا جيلاً بعد جيل، وتحري خطوط تلك السلالات المقلقة، التي يصعب في العادة تمييزها، والتي تتجلى الآن في سلوكيات الجيلين الثالث والرابع.

كانوا يقطفون في صفوف طويلة، أجساد منحنية تتمازج داخل حقول القطن البيضاء. رجال ونساء وأطفال، يقطفون مستخدمين كلتا اليدين لإنجاز العمل بسرعة. بعضهم كان يقطف وعليه قطعة قماش تعرف بزي الزنوج، إنها المادة الخام التي أنتجوها وقد عادت إليهم منسوجة في مصانع نيو إنجلاند. وبعضهم كان يقطف وهو عار تماماً، بينما الأطفال الصغار يجرون بالماء بين صفوف من الظهور المحدبة. في هذه الأثناء يراقب الحرس من فوق ظهور الخيل بأعينهم جموع القاطفين من العمال المسترقين، الذين يضعون ما جمعوه في أكياس تتدلى من أعناقهم. وما أن تغيب الشمس وتتوارى أشعتها عن الحقول، تبدأ عملية وزن ما جمعه كل منهم، وكما ذكر الرجل المعتوق تشارلز بول، ما كان بإمكانك "التمييز بين الأعشاب ونباتات القطن". ويل للعاملين إذا كان وزن ما جمعوه خفيفاً، حينها ينتظرهم الجلد بالسياط. وكما كتب بول: "ما كان ليفلت من العقاب من كان يوم عمله قصيراً".

كان القطن في القرن التاسع عشر يمثل ما مثله النفط في القرن العشرين: كان واحداً من أكثر السلع تجارة في العالم. كان القطن في كل مكان، في ملابسنا، في المستشفيات، في الصابون. قبل أن يبدأ تصنيع القطن كان الناس يرتدون ملابس ثمينة مصنوعة من الصوف أو من الكتان، وكانوا يغطون أسرتهم بالفراء أو القش. وكل من أجاد إنتاج القطن تفوق، إلا أن القطن كان بحاجة إلى الأرض. وليس بإمكان الحقل إنتاج سوى سنوات محدودة من القطن قبل أن تفقد تربته خصوبتها. كان المزارعون يشهدون كيف أن الهكتارات التي أنتجت ألف رطل من القطن لم تعد تنتج بعد مواسم قليلة سوى أربعمائة. ثم نمت بقوة الحاجة الماسة إلى أراض زراعية جديدة بعد اختراع محلاج القطن في تسعينيات القرن الثامن عشر. قبل المحلاج كان العمال المسترقون ينتجون من القطن أكثر بكثير مما كان بوسعهم تنظيفه، ثم جاء المحلاج ليكسر عنق الزجاجة، وبات بإمكان المزارعين تنظيف كل ما ينتجونه من محصول.

حلت الولايات المتحدة المشكلة الناجمة عن نقص الأراضي من خلال مصادرة ملايين الهكتارات من السكان الأصليين في البلاد، وعادة ما كان ذلك يتم من خلال استخدام القوة العسكرية، وهكذا تم الاستيلاء على أراضي جورجيا وألاباما وتينيسي وفلوريدا. ثم كانت تبيع تلك الأراضي للمستوطنين البيض بأبخس الأثمان – فقط 1.25 دولاراً للهكتار الواحد في مطلع ثلاثينيات القرن التاسع عشر (أي ما يعادل 38 دولاراً بعملة اليوم). كان طبيعياً أن يستغل ذلك المضاربون على الأراضي، فكانوا أول من أثرى من ذلك. كما أثرت من ذلك الشركات العاملة في الميسيسيبي، حيث كانت تشتري الأراضي بثمن بخس ثم تبيعها مباشرة بأضعاف مضاعفة.