مَن خلَّف ما مات!

أيمن بن أحمد ذو الغنى

(بمناسبة صدور أعماله الكاملة)

أيمن بن أحمد ذو الغنى

عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية

لم يكن بلغ التمييزَ يوم رحل والدُه عن دار الدنيا، إذ كان في بواكير طفولته يحبو نحو عامه الثاني!

مضى الأب مخلِّفًا له سيرةً عبقة بشذا الإخلاص والجهاد والنبوغ المبكِّر، وإنجازات زاخرةً بالمآثر الخالدة، لا يتأتَّى لأفراد الرجال تحقيقُها في الزمن الذي حققها فيه!

لقد كان نمطًا صعبًا، من أفذاذ الرجال ووُحدان أولي العزم منهم.. حتى إنه ليَصدُق فيه وصف الواصف: كان أمَّة وحدَه، وكان رجالاً في رجل!

أجل والله، فقد لمع نجمُه في غير مَيدان من ميادين العطاء النافع؛ فهو العالم الفقيه، والمفكِّر الحصيف، والداعية المخلص، والخطيب المِصقَع، والأكاديميُّ الرصين، والمعلِّم المربِّي، والأديب المبدع، والسياسيُّ المحنَّك، والقائد القدوة، والمجاهد في سبيل الله..

وإن تعجَب فعَجَب أن ما حمله على عاتقه من هموم أمَّته المسلمة، وكثرةَ أعبائه وجسامةَ مسؤوليَّاته لم يحُل بينه وبين قلمه، إذ كان له نصيبٌ وافر من همَّته ودأبه!

فخلَّف لنا تراثًا علميًّا أصيلاً كتب الله له القَبول في الأرض، ونرجو له مثلَ ذلك في السماء.

تشعَّبت مسالكُ الكتابة لديه بين بحوث علميَّة جادَّة ككتابه (السنَّة ومكانتها في التشريع الإسلامي) و(المرأة بين الفقه والقانون)، ومقالات فكرية هادفة (افتتاحيَّات حضارة الإسلام)، وخواطر أدبيَّة وتربوية (هكذا علَّمتني الحياة) و(القلائد من فرائد الفوائد)..

لعلَّكم عرفتم الآن المقصود!

نعم، إنه الشيخ الألمعيُّ الذي كان نسيجَ وحدِه د. مصطفى السباعي، أول سوريٍّ يحصل على الدكتوراه بالشريعة من الأزهر عام 1949م فيما أعلم، ومؤسِّس أول كلية للشريعة في سوريا عام 1955م([1])، ومنشئ مجلَّة (حضارة الإسلام) عام 1960م([2])، ورجل البرلمان، وقائد كتائب الإخوان، في حرب فلسطين 1948م.

رحمه الله وجزاه عن أمَّته خيرًا.

ولعل العَجَب يأخذ بك أيها القارئ كلَّ مأخذ حين تعلم أن ما تراه من إنجاز ضخم وُفِّق إليه الشيخُ إنما كان في عمُر قصير؛ إذ اخترَمَت المنيَّة عالمنا الموهوبَ ولمَّا يبلغ الخمسين([3])!

 

أما الأبُ فقد عرفتموه..

وأما الابنُ فهو الأخ الأستاذ محمد السباعي أصغر أولاد أبيه الستَّة، الذي ما إن شبَّ حتى حمل همَّ إحياء أثر أبيه، فأعاد إخراجَ تراثه العلميِّ والأدبيِّ في حُلَّة بهيَّة مَرضيَّة بداره التي أسَّسها للنشر (دار الورَّاق) بالرياض. وقد أحسن كلَّ الإحسان حين أخرج بأخَرة (الأعمال الكاملة) لأبيه العظيم في خمسةَ عشرَ مجلَّدًا، ومن قبلُ أصدر كتابًا تذكاريًّا كبيرًا استكتب له أعلامَ العصر من عارفي فضل أبيه، جامعًا فيه ما انتهى إليه ممَّا قيل فيه وفي جوانب عبقريته رحمه الله([4]).

وهذا لا ريبَ من أعظم البرِّ وأجلِّ الوفاء، شكر الله له وتقبَّل عمله، وجعله في صحيفته وصحيفة أبيه، يوم لا يُغني مولًى عن مولًى شيئًا!

وبارك في ذريَّته وعقبه، وأدام الوفاء في أسرته.

والحمد لله الذي بنعمته تتمُّ الصالحات.

 

مع الأخ الأستاذ محمد بن مصطفى السباعي في جناح دار الورَّاق

بمعرض الرياض الدولي للكتاب 10/ 3/ 2015م

               

([1]) وكان أولَ عميد للكلية منذ إنشائها.

([2]) وبقي رئيسًا لتحريرها إلى وفاته، ثم نهدَ برياسة تحريرها بعده شيخنا د. محمد أديب صالح حفظه الله، واستمرَّت المجلة إلى عام 1981م. وكان قبلُ أنشأ صحيفة (المنار) عام 1946م، ثم جريدة (الشهاب) الإسلامية السياسية الأسبوعية عام 1955م، وحصل السباعي أيضًا عام 1955م على امتياز إصدار مجلة (المسلمون) في دمشق بعد احتجابها في مصر، وتولى رياسة تحريرها إلى عام 1958م.

([3]) كانت ولادة السباعي عام 1333 أو 1334هـ/ 1915م ووفاته في 27 جُمادى الأولى 1384هـ يوافقه 3/ 10/ 1964م.

([4]) يُنظر في سيرة الشيخ مصطفى السباعي ودعوته: (مصطفى السباعي صفحات من جهاد متواصل) لمحمد بسام الأسطواني، و(مصطفى السباعي الداعية المجدِّد) لعدنان محمد زرزور، و(مصطفى السباعي الداعية الرائد والعالم المجاهد) لعبد الله محمود الطنطاوي، و(مصطفى السباعي بأقلام محبِّيه وعارفيه) إعداد ولده محمد السباعي، و(رجال فقدناهم) جمع وترتيب وتقديم مجد مكي، تنظر مقدمته ومقالات فيه عن السباعي.

و(الأعلام) لخير الدين الزِّرِكْلي 7/ 231-232، و(معجم الجرائد السورية) لمهيار عدنان الملُّوحي ص143-144 و409-410 وفيه أن أطروحته للدكتوراه (العدالة في الإسلام) وهو خطأ صوابه أنها (السنَّة ومكانتها في التشريع الإسلامي)، و(من هم في العالم العربي، سورية) ص297-298، و(علماء ومفكرون عرفتهم) لمحمد المجذوب 1/ 379-411، و(علماء الشام في القرن العشرين وجهودهم في إيقاظ الأمَّة والتصدي للتيارات الوافدة) لمحمد حامد الناصر ص255-282، و(موسوعة الأسر الدمشقية) لمحمد شريف الصوَّاف 2/ 218، و(شخصيات استوقفتني) لمحمد سعيد رمضان البوطي ص193-208، و(أعلام وعلماء قدماء ومعاصرون) لمحمد أبو زهرة، اعتنى به مجد أحمد مكي ص362-364، و(النهضة الإسلامية في سير أعلامها المعاصرين) لمحمد رجب البيومي 3/ 467-480، و(من أعلام الدعوة والحركة الإسلامية المعاصرة) لعبد الله العقيل ص537-553، و(من أعلام المسلمين ومشاهيرهم) لأبي الحسن النَّدْوي، إعداد سيِّد عبد الماجد الغوري ص316-323، و(معجم الأدباء الإسلاميين المعاصرين) لأحمد الجدع 3/ 1347-1351، و(معجم المؤلفين المعاصرين في آثارهم المخطوطة والمفقودة وما طُبع منها أو حُقِّق بعد وفاتهم) لمحمد خير رمضان يوسف 2/773-774، و(العلماء العرب المعاصرون ومآل مكتباتهم) لأحمد العلاونة ص232، و(معجم العلماء والمشاهير الذين أفردوا بتراجم خاصَّة) لعبد الله محمد الحبشي ص885-886.

ملاحظة: وهم الزركلي في ذكر تاريخ وفاة السباعي وفق التاريخ الميلادي فجعله عام 1967م! وتابعه على ذلك محمد شريف الصواف، ومحمد خير رمضان يوسف، وأحمد العلاونة. وزاد الأخ العلاونة بأن غيَّر التاريخ الهجري لما يوافق 1967م! علمًا أنه نبَّه في كتابه (نظرات في كتاب الأعلام) ص150 على خطأ الزركلي، ثم سها وتابعه في (العلماء العرب المعاصرون ومآل مكتباتهم) وجلَّ من لا يسهو!