الترجمة .. فن البراعة البيانية والثقافة اللغوية

حماد صبح

احتفلت الأمم المتحدة وبعض البلدان في 30 سبتمبر المنصرم باليوم العالمي للترجمة . وتحديد هذا اليوم للاحتفال بالترجمة إقرار بما لها من فاعلية عظمى في نقل الأفكار والمعارف والعلوم وصنوف الثقافات والخبرات والفنون . وفي العصر الحديث ، عصر الصحافة والإعلام ، أضيف إلى الفاعلية التاريخية للترجمة فاعلية نقل الأخبار وما يتصل بها من تقارير في مختلف أنحاء العالم من مختلف اللغات فور حدوثها . والترجمة في جوهرها شاهد على وئام الحضارات لا على صراعها مثلما يشيع الفكر العدواني الذي روجه بعض ساسة الغرب ومفكريه مثل الأميركي هتنجتون . وظهر مفهوم الوئام في الحضارة الإسلامية حين شرع العرب بعد دخول كثير من الشعوب في الإسلام ؛ في الاستعانة بأبناء هذه الشعوب في ترجمة ما في بلادهم من كتب إلى العربية ، فترجم عبد الله بن المقفع نظام الحكم الفارسي ، وكتاب " كليلة ودمنة " القصصي الهندي الأصل . كما استعانوا بالسريان في ترجمة بعض الكتب اليونانية ، وتجنبوا ترجمة القصص المسرحي لما فيه من تناقض وتنافر مع عقيدة التوحيد الإسلامية .ويخصنا هنا أن نتحدث عن الترجمة بصفتها فنا للبراعة البيانية والثقافة اللغوية . وهذه الصفة مصدرها أن المترجم لا ياتي بأفكار من ذاته ، وإنما ينقل أفكار الآخرين ، وتلقائيا يُختزَل دوره في براعة نقله بيانيا لهذه الأفكار أو للمحتوى المترجم أيا كانت  نوعيته إلى لغته الأم . ولا تتوفر له هذه البراعة إلا إن كان حاذقا حذقا عاليا للغتين ، المترجم منها والمترجم إليها . ويتحتم عليه أن يكون مطلعا اطلاعا أصيلا على ثقافة أهل اللغة التي يترجم منها ، فليست تكفيه معرفة دلالات الكلمات لكون الترجمة حتى في صفتها البيانية أو الأسلوبية ذات بعد ثقافي عميق مؤثر يحدد دلالات الكلمات في السياق البياني أو الأسلوبي الذي ترد فيه . ويتجلى هذا البعد الثقافي في الاستعمال المجازي للغة ، وفي دلالاتها التي تكون لها في مراحل تاريخية معينة ، ثم تفقدها في مراحل لاحقة أو يعتريها بعض التغيير . ويفضي نقص المعرفة الثقافية باللغة المترجم منها إلى أغاليط ونوادر مضحكة صُنِفت فيها كتب خاصة . ولكون القرآن معجزة بيانية متفردة فإن ترجمة معانيه ، ولا نقول ترجمته ، ابتليت بهذه الأغاليط والنوادر ، ومن طرائفها ترجمة " ...هن لباس لكم وأنتم لباس لهن " إلى " هن سروال لكم وأنتم سروال لهن " ؛  ذلك أن المترجم جهل المعنى المجازي في النص القرآني الجليل الذي يراد منه أن النساء للرجال والرجال للنساء وقاء من الوقوع في المعاصي والمآثم مثلما أن اللباس وقاء للأبدان من برد الشتاء وحر الصيف . وقاد وصف الإسرائيليين في الحرب الأخيرة أنفاق المقاومة ب " مترو حماس " إلى كارثة إعلامية انقضت على رؤوسهم الكريهة في وطأة ثقل صخرة ، فالترجمة أفهمت الناس في العالم أن إسرائيل قصفت مترو ينقل الركاب ما أهاج استهجانهم واستنكارهم وإدانتهم . والمحبذ أن يكون المترجم من أهل الأدب أو الفكر أو العلم الذي يترجمه . مترجم القصص والشعر والنقد الأدبي ستكون ترجمته أجود وأجمل لو كان من أهل هذه الفنون الثلاثة ، ومترجم الموضوعات السياسية والاقتصادية وسواها يحبذ أن يكون من أهل الباع المديد فيها ، ولا ينفي هذا وجود مترجمين ليس لهم إبداع ذاتي في مجال ترجمتهم . منير بعلبكي ليس من كتاب القصص والروايات ، وهو من أروع مترجميها وأغزرهم ترجمة لها . ومن أهم  صفات الترجمة الحسنة الوضوح ، والتوجيه المفاد من هذه الصفة أننا لا يجب أن نترجم شيئا لا نفهمه ، فليس له داعٍ ولا قيمة . إنك تترجم للناس ما تحب أن يفهموه ، وإن كنت أنت لا تفهمه فلا مسوغ لتوقعك أن يفهموه . ولتصنيف الترجمة فن البراعة البيانية والثقافة اللغوية شاع بين كتاب النصف الأول من القرن العشرين العرب خاصة في مصر أن الكاتب الطالع يستحسن له أن يستهل حياته الكتابية بالترجمة دُربةً على سبيل فن الكتابة . والمترجم إما أن يعادل صاحب النص الأصلي في حسن الأسلوب وقوة اللغة ـ أو ينقص عنه ، أو يتجاوزه ، والحالة الثالثة علة إيثار بعض أهل الكتابة مصطلح " النص العربي بقلم ... " عوض " ترجمة ... " . وكلمة " ترجمة " فارسية استدخلتها العربية في متن معجمها . وربما يستعمل بعض المترجمين عوضا منها كلمة " تعريب " إلا أن بعضا آخر يميز بين الترجمة والتعريب ، ويذهب إلى أن التعريب يعني إخضاع الكلمة الأجنبية إلى البناء الصرفي العربي مع استبقاء حروفها الأصلية أو جزء منها على حالها مثل كلمة تليفزيون التي صارت في الاستعمال العربي تلفاز . ورأينا أن " تعريب " تغني غَناء  ترجمة ، وأولى منها بحكم عروبتها ، فما التعريب في دلالته الصرفية سوى جعل الشيء عربيا ، وهذه هي الترجمة . ويؤسف له أن بعض دور النشر العربية تطبع كتبا ، ومنها دواوين شعر ، اعتمادا على ترجمة جوجل الآلية التي لا صلة بينها وبين الترجمة البشرية الصحيحة . ترجمة جوجل معجمية حرفية ، كلمة مقابل كلمة ، فيجىء النص مضطربا لا صلة بين أجزاء سياقه . هي ليست ترجمة بتاتا ، ولو شهدها المترجمون العرب العظام الذين رحلوا عن دنيا الناس مثل منير بعلبكي وسامي الدروبي وثروت عكاشة وسواهم لجنوا استنكارا لها . وعلى عظم أهمية الترجمة في نقل صنوف المعرفة الإنسانية ، والتخاصب الحضاري والثقافي والإنساني ، وكونها فن البراعة البيانية والثقافة اللغوية  فإن حظ عرب اليوم منها قليل ، وفي الإحصاء أن أسبانيا واليونان يترجمان ، كل بلد على حدة ، أكثر من العرب مجتمعين .