الإمام أبو ثور

م. محمد عادل فارس

أنجب الإسلام رجالاً أفذاذاً عمالقة، في ميادين الجهاد والقيادة السياسية، والعلم والفقه والتقوى والعبادة..

وحديثنا هنا عن إمام فقيه، على مستوى الأئمة أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد. لكن قلة شهرته بيننا تعود إلى أن معظم مذهبه قد انقرض، ولم يبقَ له أتباع. وهذا لا يضرّه، فهو إمام من أعظم أئمة الإسلام.

اسمه

هو الإمام إبراهيم بن خالد بن أبي اليمان الكلبي البغدادي، يكنى بأبي خالد وبأبي عبد الله وبأبي ثور، وهذه الكنية الأخيرة هي التي اشتُهر بها وصارت كاللقب له.

أما نسبته: الكلبي، فلأنه من بني كلب بن وبرة، وهي قبيلة قحطانية يمانية.

وأما نسبته: البغدادي فلأنه وُلد في بغداد، وتوفي فيها، ودُفن في مقبرة الكنّاس. رحمه الله رحمة واسعة.

ولادته ووفاته

عصره

اتّسم هذا العصر بانتشار العلوم الإنسانية ونموّها. وسنلقي نظرة سريعة على جوانب الحياة في هذا العصر:

الحياة السياسية: عاش الإمام أبو ثور في العصر العباسي الأول [يقسم العصر العباسي إلى قسمين: الأول يمتد من 132 – 232هـ، ويمتاز بقوة الدولة وازدهارها، والثاني ويمتد إلى 656هـ ويبتدئ بخلافة المتوكل، ويتصف بكثرة الفتن وتفتت الوحدة، ونشوء دول منفصلة: الدولة الأموية في الأندلس، والإدريسية، ودولة الأغالبة في تونس والدولة الفاطمية في مصر، والإمارة الظاهرية في خراسان]. وقد عاصر من الخلفاء أبا جعفر المنصور والمهدي والهادي والرشيد والأمين والمأمون والمعتصم والواثق والمتوكل.

الحياة الاجتماعية: اتصفت الحياة في ذلك العصر بالتنوع في أجناس الناس وألوانهم وعقائدهم في الدولة العباسية، وكان المسلمون هم الأكثرية وأصحاب الغَلَبة.

كان هناك عرب وفرس وأتراك وبربر.

وظهرت مجالس للغناء والترف.

وازدهر العمران، حتى سُميت بغداد مدينة القصور، وأنشئت مدن كبغداد وسامراء.

وتطورت الألبسة، فتميزت ألبسةٌ لقادة الدولة، وأخرى للعلماء، وأخرى للكتّاب وكذا للتجار...

وأنشئت المستشفيات، وكَثُر الأطباء.

كما كثرت الحمامات، حتى كان في شرق بغداد وحدها نحو خمسة آلاف حمام!.

وتفنن الناس بالطعام وألوانه، وبأنواع اللهو والتسلية، والاحتفال بالأعياد...

ورافق ذلك انتشار العلم وتشجيع العلماء، واتخاذ الخلفاء مؤدبين لأولادهم من العلماء.

كما انتشرت الفلسفة وترجمة بعض كتب العلوم والجدل والمناظرات...

وبقيت الدولة في جميع مرافقها تهتدي بالإسلام، وتعدّه مرجعاً. وأما الانحرافات فكانت جزئية.

نشأته

نشأ إمامنا أبو ثور نشأة دينية وعلمية غرست فيه اهتمامه بالعلم وطلبه منذ الصغر. لذا نجده قد سعى إلى حلقات الدروس في المساجد ليأخذ العلم عن العلماء من محدثين وفقهاء وغيرهم.

صفاته

لا شك أن الصفات التي أثبتها العلماء للإمام أبي ثور، على قلّتها، تعدّ من مكارم الأخلاق وأجلّها قدراً، تندرج تحتها جملة من الأخلاق والفضائل. فأحواله الجميلة، ومناقبه الظاهرة، وفضائله ومحاسنه... أكثر من أن تُحصى، وأشهر من أن تُنشر. وقد اتفق العلماء على توثيقه وجلالته وصدقه وبراعته وإمامته، كما قال الإمام النووي.

وكان إماماً فقيهاً وَرِعاً فاضلاً خيّراً، وهو أحد حفّاظ حديث رسول الله r، كما كان مدافعاً عن السنة، داعياً إليها، خاصة وأن المنطقة التي عاش فيها كانت قد انتشرت فيها مذاهب الشيعة والمعتزلة والمذاهب الإلحادية كالمانوية والمزدكية... لهذا كانت الوقفة العظيمة للإمام أبي ثور دفاعاً عن السنّة وتأليفاً للكتب فيها.

وظائفه

ذُكر في بعض كتب الفقهاء أنه كان مفتياً لأهل بغداد، كما كان أحد الفقهاء الأعلام، والأئمة المجتهدين.

حياته العلمية

كان قوي المدارك، سريع الحفظ، لذلك كان من كبار حفّاظ الحديث في عصره، كما كان حاضر البديهة.

ثم إن إخلاصه في طلب الحقائق لازَمَه في كل أدوار طلبه للعلم، فلم يمنعه إعجابه بالإمام الشافعي، وحبه له، وثناؤه عليه... من أن يخالفه في بعض آرائه، ويُحْدث لنفسه مذهباً جديداً استقاه من مذهب الإمام الشافعي نفسه.

وقد كان علماؤنا يتحاورون فيتفقون ويختلفون، ويبتغون في بحثهم وجه الله، فيزيدهم اتفاقهم محبة في الله، ولا يؤدي اختلافهم إلى تغير في القلوب.

ولم تذكر التراجم أنه رحل خارج العراق، سوى رحلته إلى الحجاز، ولعلّ السبب هو أن العراق كان ملتقى العلماء في كل المجالات.

أما شيوخه فمنهم: أسباط بن ميسرة وإسماعيل بن عُلَيَّة والأسود بن شاذان...

وقد تلقّى الفقه أول مرة على يدي الإمام الجليل محمد بن الحسن الشيباني، إمام المذهب الحنفي آنذاك، ثم تلقّاه على يدي الإمام الشافعي حتى صار من خاصة تلاميذه، والمعجبين به. ثم إن نشأته في بغداد كان لها أكبر الأثر في صقل المزيج الفقهي الذي تحصّل له، فقد جمع في تكوينه الفقهي بين ما يسمى بمدرسة الرأي التي يمثلها الحنفية، ومدرسة الحديث التي يمثلها الشافعية وغيرهم. مما جعله يشتق لنفسه مذهباً فقهياً مستقلاً.

قال ابن حبان: كان أحد أئمة الدنيا فقهاً وعلماً وورعاً وفضلاً، صنف الكتب، وفرّع على السنن، وذبَّ عنه. يتكلم في الرأي فيخطئ ويصيب.

وقال ابن عبد البر: له مصنفات كثيرة، منها كتاب ذكر فيه اختلاف مالك والشافعي في كتابه هذا وفي كتبه كلها.