حرية الدين والعقيدة والعبادة لغير المسلمين في الدولة الاسلامية

دندل جبر

الإسلام الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم هو خاتمة الرسالات السماوية، ونبيه خاتم الأنبياء والمرسلين، ولهذا جاء للإنسانية جمعاء يعالج أمور حياتها في كل جوانبها مقراً بوجود الديانات السماوية التي سبقته، وديانات أخرى تعتنقها مجموعات بشرية منتشرة على وجه الكرة الأرضية.

والتشريع الإسلامي المعروف بعموميته لكل الناس وشموليته في كل نواحي الحياة جاء تشريعاُ للبشرية جمعاء مؤمنها وكافرها ضمن بوتقة عقيدته السمحاء التي ما عرفت الإنسانية سماحةً مثلها منذ بزوغ التاريخ البشري.

ولأن البشرية تختلف بإمكانيات أفرادها وخاصةً منها العقلية فالإسلام يقر بأن للإيمان نصيباً من البشر يلتزمونها، وللكفر نصيباً من البشر يلتزمونه.

لذلك استبعد الإسلام من تشريعاته وتعاليمه ما يمكن اعتباره إكراه غير المسلمين على تغيير عقائدهم ودياناتهم، وهذا ما أكده القرآن الكريم في آياته وسنة الرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه الكرام في القول والعمل:

أ – الكتاب :

- يقول جل شأنه : (ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين). (السجدة – 13)

- وقال تعالى : (اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين، ولو شاء الله ما أشركوا وما جعلناك عليهم حفيظا وما أنت عليهم بوكيل). (الأنعام 106_107).

وهذا تأكيد منه تعالى أن الإسلام يقر بوجود ديانات أخرى غير ديانة الإسلام وعقائد غير عقيدة الإسلام.

وقد جزم القرآن الكريم جزماُ قاطعاً لا لبس فيه بعدم إكراه الناس على تغير دينهم وعقائدهم بالقوة والتسلط.

يقول سبحانه وتعالى : (لاإكره في الدين قد تبين الرشد من الغي). (البقرة 256).

وقال أيضاً مخاطباً رسوله الكريم : (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاُ أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين).(يونس – 99).

وبعد أن يبلغ الرسول صلى الله عليه وسلم ما أنزل إليه من ربه إلى الناس ويبين لهم أياته ، ويحاورهم فيما يعتقدون من دون الله بالحكمة والموعظة الحسنة يترك لهم حرية الإختيار في أن يؤمنوا بالله ورسالته أو أن يبقوا على دينهم وعقيدتهم التي هم عليها، ولسان القرآن الكريم في هذا يقول: (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر). (الكهف – 29).

بل إن الإسلام طلب من أتباعه حكاماً ورعاية أن يعاملوا من خالفهم في دينهم وعقيدتهم بالبر والإحسان إليهم وإقامة العدل فيما بينهم وبين المسلمين يقول تعالى : (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين). ( الممتحنة – 8).

بل ذهب لأكثر من هذا حين طلب عدم سب آلهة الذين يخالفونهم في الدين حفاظاُ على مشاعرهم ولئلا يسبوا الله جل شأنه عدواً بغير حق، يقول جل شأنه : (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسب الله عدواً بغير علم). (الأنعام – 108).

_ وقد أنزل الله سبحانه وتعالى سورة في القرآن يخاطب فيها رسوله الكريم ومن تبعه وآمن برسالته إلى يوم الدين يبين فيها إقرار الإسلام بوجود أديان غير دينه وأن لكل منهم منهجاً وعبادةً تختلف عن منهج وعبادة الآخرين، وأنهم أحرار في أن يبقوا على دينهم لا يكرهون على تبديله وتغييره مهما بلغت قوة المسلمين وضعفت قوة المخالفين له، يقول تعالى : (قل يا أيها الكافرون ،لا أعبد ما تعبدون، ولا أنتم عابدون ما أعبد، ولا أنا عابد ما عبدتم، ولا أنتم عابدون ما أعبد، لكم دينكم ولي دين). (سورة الكافرون).

والمقصود بالكافر من لا يؤمن برسالة الإسلام التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم غير مجزوئة ولا منقوصة.

ب – السنة النبوية:

ورد في السنة النبوية ما يؤكد النهج القرآني في عدم إكراه غير المسلمين على تغيير دينهم وأن العهود والمواثيق النبوية تؤكد التزام المسلمين بحرية عقيدتهم وعباداتهم وعدم الإساءة لهم فيما يعتقدون وفيما يدينون.

وفيما يلي بعض ما ورد في السنة النبوية بهذا الصدد :

_ ورد في البند (25) من صحيفة المدينة (دستور المدينة) التي كتبها رسول الله صلى الله عليه وسلم ميثاقأ بين المسلمين وبين اليهود وما يتبع كلأً من الفريقين من غيرهما : "لليهود دينهم وللمسلمين دينهم مواليهم وأنفسهم". (الدكتور محمد حميد الله – مجموعة الوثائق السياسية – ص 39 – 47).

_ وفي عهده صلى الله عليه وسلم لأهل نجران: " ولنجران وحاشيتها جوار الله وذمة محمد النبي صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أموالهم وأنفسهم، وأرضهم وملتهم وغائبهم وشاهدهم وعشرتهم وبيعهم، وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير، لا يغير أسقف من أسقفيته ولا راهب من رهبانيته ولا كاهن من كهانته "(الإمام أبو يوسف – الخراج – ص 72).

_ وفي كتابه لأهل اليمن: ( إنه من كان على يهوديته أو نصرانيته فإنه لا يفتن عنها، وعليه الجزية). (أبو عبيد – الأموال – ص 35).

جـ - أقوال الصحابة وأفعالهم :

وقد سار على النهج القرآني والسنة النبوية أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في أقوالهم وأفعالهم، ومن ذلك :

_ كتاب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب إلى نصارى بني تغلب، ومما ورد فيه:

"... ألا يكرهوا على دين غير دينهم" (المصدر السابق – ص36).

_ جاء في العهد الذي أعطاه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأهل القدس: "هذا ما أعطى عبدالله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان : أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم وكنائسهم، وصلبانهم سقيمها وبريئها، وسائر ملتها، أن لا تسكن كنائسهم ولا تهدم ولا ينقض منها ولا من حيزها، ولا من صليبهم، ولا من شيء من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم ولا يضار أحد منهم" ( الطبري – تاريخ الأمم والملوك – جـ 3 ص 609).

_ كتاب خالد بن الوليد إلى أهل دمشق تأميناً على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم وكتاب حبيب بن مسلمة لأهل تفليس من أرض الهرمز أماناً لهخم ولأولادهم ولأهليهم وأموالهم وصوامعهم وبيعهم ودينهم وصلواتهم، وكان ذلك في زمن عثمان رضي الله عنه. (أبو عبيد – الأموال – ص 267- 268).

د – ومن أقوال الفقهاء والعلماء المفكرين :

لقد فهم فقهاء هذه الأمة وعلماؤها ومفكروها ما جاء به القرآن الكريم، كما فهموا نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام في هذا المجال، فجاءت أقوالهم منسجمة مع مقاصد الآيات الكريمة وسيرة الرسول الكريم وصحبه الكرام.

_ جاء في قول الأستاذ محمد مبارك : "وليس من الضروري - لا مكان التعاون على الخير – توحيد العقيدتين والديانتين، فلنترك لكل دين عقيدته، دون أن نكره الآخر عليها، فلا إكراه في الدين، وليكن موقف كل واحد من الآخر على حد قول الآية: (لكم دينكم ولي دين) (الأستاذ محمد المبارك – نحو إنسانية سعيدة – ص 130).

_ ويقول الدكتور أحمد محمد الحوفي في هذا الصدد : "الإسلام كفل الحرية الدينية لأهل الكتاب، فهم أحرار في عقيدتهم وعبادتهم وإقامة شعائرهم في كنائسهم، ولهم أن يجددوا ما تهدم منها، وأن يبنوا جديداُ، ولهم دق نواقيسهم إيذاناً بصلابتهم، ولهم إخراج صلبانهم في يوم عيدهم" (الدكتور أحمد محمد الحوفي – سماحة الإسلام – القاهرة – 1958 – ص 100).

_ وقد ثار الجدل بين فقهاء المسلمين حول حق الزوج المسلم في مناقشة زوجته الكتابية في مسألة إسلامها.

وقد رأى الإمام الشافعي أنه لا يحق للرجل أن يفاتح زوجته في هذا الأمر، ولا يعرض عليها الإسلام "لأن فيه تعرضاً لهم، وقد ضمنا بعقد الذمة ألا نتعرض لهم.

أما الأحناف فيرون أن للزوج أن يعرض الإسلام على زوجته لمصلحة من غير إكراه، ويعلق الأستاذ فهمي هويدي على ذلك بقوله: " إلى هذا المدى بلغت الرقة والحساسية عند بعض أئمة الفقهاء، في إبعاد شبهة الإكراه في الدين، الأمر الذي دعا الإمام الشافعي رحمه الله إلى الإفتاء بأنه لا يجوز أن يفتح الزوج فمه بكلمة إلى زوجته في هذا الشأن، خشية وقوع الإكراه المحظور في حق الآخرين" (فهمي هويدي – ص 90 – 91). (نقلاً عن الدكتور إدوار غالي – معاملة غير المسلمين في المجتمع الإسلامي – ط 1 – 1993 – مكتب غريب – القاهرة – ص 43 – 44).

ويرى الفقهاء أنه لا يجوز للزوج أن يمنع زوجته الكتابية من أداء عباداتها وشعائرها، بل إن بعض المذاهب ترى أنه ينبغي له أن يصحبها إلى حيث تؤدي هذه العبادات في كنيستها أو بيعها إذا رغبت في ذلك. (علي عبد الواحد وافي – الحرية في الغسلام – ط 3 – 1986م – سلسلة (اقرأ) رقم 304 – ص 61).

_ شهادة :

_ يقول الدكتور إدوار غالي الذهبي :

"وفيما يتعلق بمصر، يرى بعض المؤرخين أن المصريين لم يتحولوا إلى أغلبية مسلمة إلا فيما بين القرنين الثالث عشر والخامس عشر، رغم أن الفتح العربي الإسلامي لمصر قد تم سنة 640م. (طاهر عبد الحكيم – الشخصية الوطنية المصرية – ط1 – 1986م – دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع – ص 97). وهذا دليل قاطع على تعايش الديانتين – الإسلام والمسيحية – مئات السنين داخل الاف العائلات، وأن التحول إلى الإسلام قد تم بدون إكراه من الحكام المسلمين) (معاملة غير المسلمين في المجتمع الإسلامي للدكتور إدوار غالي الذهبي – ط1 1993م – مكتبة غريب – ص 45 – 49).

_ وكتب أيضا السيرتوماس أرنولد: " لقد عامل المسلمون الظافرون العرب المسيحيين بتسامح عظيم منذ القرن الأول للهجرة، واستمر هذا التسامح في القرون المتعاقبة، ونستطيع أن نحكم بحق القبائل المسيحية التي اعتنقت الإسلام إنما اعتقنته عن اختيار وإرادة حرة، وأن العرب المسيحيين الذين يعيشون في وقتنا هذا بين جماعات المسلمين لشاهد على هذا التسامح". (سيرتوماس أرنولد – الدعوة إلى الإسلام- ترجمة الأساتذة حسن إبراهيم، عبد المجيد عابدين، إسماعيل النحراوي – ص 51).

_ وكتب الشاعر الأمريكي رونالد ركويل بعد أن أشهر إسلامه :

" لقد راعني حقاً تلك السماحة التي يعامل بها الإسلام مخالفيه ، سماحةً في السلام وسماحةً في الحرب، والجانب الإنساني في الإسلام واضح في كل وصاياه" ( انظر محمد ابراهيم – كلمات من الغرب – الأهرام – 13/ 4/ 1993م).