الخاطرة ٣٠٨ : فلسفة تطور الحياة الجزء ١٦

ز . سانا

خواطر من الكون المجاور

في المقالة الماضية تكلمنا عن قوانين العالم الكمومي التي تختلف تماما عن قوانين العالم المادي ، حيث قلنا بأن هذا العالم الكمومي هو في الحقيقة الذي يُعبر تماما عن العالم الإنساني والذي على مبادئه تم تطور الكون من بدايته وحتى اليوم . وفي هذه المقالة سنذكر مثالاً من النصوص الدينية التي توضح لنا دور قوانين هذا العالم الكمومي في تطور الكون وتطور الحياة وتطور الإنسان .

{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(٢٦٠)البقرة}

اختلف العلماء في تفسير عبارة { فصرهن إليك } , هل هي بضم الصاد أم بكسرها . فأخذت العبارة معنيين إثنين : الأول ويعني أوثقهن إليك ، اضممهن إليك ، اجمعهن إليك . أما الثاني فيعني قطعهن . ولكن بشكل عام فإن معظم علماء الدين يفسرون عبارة { فصرهن إليك } بمعنى أملهن إليك وقطعهن واخلط لحمهن وريشهن ، فيكون معنى الآية حسب هذا المفهوم الظاهري " أن الله عندما سأله إبراهيم عليه السلام أن يريه كيف يحيي الموتى أن طلب منه أن يأخذ أربعة أنواع من الطيور وأن يملهن إليه ويقطعهن ويخلط لحمهن وريشهن ثم يأخذ جزء منهن ويضعه على كل جبل من الجبال المحيطة بالمنطقة ، ثم يطلب منها أن تأتي إليه عندها سيرى إبراهيم عليه السلام أنها قد عادت إلى الحياة وأنها قد أتت مسرعة إليه .

ولكن لو تمعنا جيدا في كلمات ومعاني العبارات الموجودة في الآية جيدا سنجد أن هذا التفسير فيه الكثير من التناقض ، فالآية تنتهي بعبارة (وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) وليس عبارة (وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) . فهذا التفسير المتعارف عليه اليوم يوافق عبارة (إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) والتي تُناقض معنى بداية الآية التي تذكر عبارة (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى) فهذا التفسير يجعل معنى بداية الآية وكأن إبراهيم عليه السلام يطلب من الله أن يُريه مقدرته على إحياء الموتى وليس كيفية إحياء الموتى . فعبارة (وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) موافقة تماما لمعنى عبارة (أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى) وليس (أرني مقدرتك على إحياء الموتى) .

ثم هناك أمر آخر وهو الأهم : ما هي الحكمة من هذه الآية ؟ فمثل هذا التفسير هو ملائم لمستوى معارف الناس التي كانت تعيش في القرون الماضية أو ملائم لمستوى معارف أطفال اليوم . فما فائدة هذا التفسير لعلماء اليوم بمختلف فروع العلوم ، وخاصة الملحدين منهم الذين بالأساس لا يؤمنون بوجود الله فكيف سيؤمن هؤلاء بصحة مثل هذه القصة ، فآيات القرآن أو الكتب المقدسة بشكل عام هدفها أن تساعد العلماء في جميع العصور في فهم حقيقة ما يحدث حولهم ولهذا هي آيات مقدسة ، بينما هذا التفسير لهذه الآية لا يقدم لهم أي معلومة مفيدة لأبحاثهم فمعلومة أن الله قادر على إحياء الموتى هي معلومة خاصة بالله تعالى فقط . فهل من المعقول أن تكون معلومات آيات الكتب المقدسة عبارة عن معلومات فقيرة علميا لا تفيد في أي بحث علمي ؟ طبعا هذا غير صحيح فمثل هذا التفسير كان مناسبا للعصور القديمة وللأطفال كذلك ، ولكنه غير مناسب نهائيا للمستوى العلمي في عصرنا الحديث لأن هذه المعلومة يعرفها الأطفال الصغار أيضا .

في الحقيقة إن الإختيار الدقيق لكلمات وعبارات الآية فيه حكمة إلهية تسمح للآية بتجديد معانيها لتلائم المستوى العلمي لجميع العصور . ولكن حتى نصل للتفسير المناسب للمستوى العلمي الذي وصل إليه في عصرنا الحديث يجب أن ننظر لهذه الحادثة المذكورة في هذه الآية برؤية شاملة . فهذه الحادثة التي حدثت مع إبراهيم عليه السلام بهذا الشكل، تم ذكرها في القرآن الكريم فقط ، ولكن توجد حادثة مشابهة حصلت مع إبراهيم عليه السلام مذكورة في الإصحاح الخامس عشر من سفر التكوين ، ولكن الإختلاف بينهما أن إبراهيم عليه السلام لا يسأل الله عز وجل أن يُريه كيف يحيي الموتى ولكن يسأله أن يُريه كيف سيكون نسله بعدد نجوم السماء بينما زوجته عاقر عاجزة عن الإنجاب :

{٥ - : ثُمَّ أَخْرَجَهُ إِلَى خَارِجٍ وَقَالَ: «انْظُرْ إِلَى السَّمَاءِ وَعُدَّ النُّجُومَ إِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَعُدَّهَا». وَقَالَ لَهُ: «هكَذَا يَكُونُ نَسْلُكَ».... ٨ -: فَقَالَ: «أَيُّهَا السَّيِّدُ الرَّبُّ، بِمَاذَا أَعْلَمُ أَنِّي أَرِثُهَا؟». ٧-: فَقَالَ لَهُ: «خُذْ لِي عِجْلَةً ثُلاَثِيَّةً، وَعَنْزَةً ثُلاَثِيَّةً، وَكَبْشًا ثُلاَثِيًّا، وَيَمَامَةً وَحَمَامَةً». ٩ -: فَأَخَذَ هذِهِ كُلَّهَا وَشَقَّهَا مِنَ الْوسَطِ، وَجَعَلَ شِقَّ كُلِّ وَاحِدٍ مُقَابِلَ صَاحِبِهِ. وَأَمَّا الطَّيْرُ فَلَمْ يَشُقَّهُ.... ١٧ -: ثُمَّ غَابَتِ الشَّمْسُ فَصَارَتِ الْعَتَمَةُ، وَإِذَا تَنُّورُ دُخَانٍ وَمِصْبَاحُ نَارٍ يَجُوزُ بَيْنَ تِلْكَ الْقِطَعِ. ١٨ -: فِي ذلِكَ الْيَوْمِ قَطَعَ الرَّبُّ مَعَ أَبْرَامَ مِيثَاقًا قَائِلًا: «لِنَسْلِكَ أُعْطِي هذِهِ الأَرْضَ،.....) .

الآية القرآنية مرتبطة تماما بالآية التوراتية ، فمن سيعتمد على واحدة منهما فقط لن يفهم منهما شيئا سوى المعنى الظاهري لهما و الذي كان مناسبا للعصور القديمة فقط . ولكن بدمجهما معا يتم تجديد معنى الآيتين لنحصل على المعلومة العلمية المراد بها من الآيتين والتي تخص العلماء المتخصصين بعلوم الأحياء أو العلوم الأخرى . وهنا سنحاول شرح الرموز المستخدمة في الآيتين لفهم هذه المعلومة العلمية :

إن إختيار النبي إبراهيم وليس أحداً غيره من الأنبياء في الآيتين لم يكن صدفة ، ولكن حكمة إلهية ، فلو تم إختيار نبي آخر لكان للآيتين مفهومهما الظاهري فقط . فأسم (إبراهيم) هنا هو أسم رمزي ، فمعنى (إبراهيم) في اللغة العبرية هو (أبو الشعوب ، أبو الأمم) أي أن معناه (أبو الإنسانية) ، فأسم إبراهيم هو في الحقيقة رمز آدم أبو البشرية ، فالمقصود في الآيتين ليس النبي إبراهيم بذاته ولكن آدم . فالموضوع هنا لا يخص حادثة معينة قد حصلت في حياة إبراهيم ولكن الأمر يتعلق بالإنسانية بأكملها ، أو بشكل أدق يتعلق بتطور الكون بأكمله . فكما ذكرنا في سلسلة مقالات ( رمز الكعبة والحكمة الإلهية من الحج إليها) بأن الكعبة المكرمة التي رفع قواعدها النبي إبراهيم تمثل رمزيا الثقب الأسود البدائي والذي منه تشكل الكون بأكمله . ولهذا نجد في الآية التوراتية أن الله يُشبه نسل آدم بعدد نجوم السماء ، فجميع هذه النجوم نتجت من روح الله التي نفخها في آدم . فولادة النجوم هي مرحلة من مراحل خلق التكوين المادي لجسد الإنسان ، حيث نجد أن شق أجسام الحيوانات إلى نصفين ووضع كل نصف مقابل نصفه الآخر قد أنتج طاقة (وَإِذَا تَنُّورُ دُخَانٍ وَمِصْبَاحُ نَارٍ يَجُوزُ بَيْنَ تِلْكَ الْقِطَعِ) ، فالموضوع هنا لا علاقة له بإحياء هذه الحيوانات ولكن له علاقة بتلك الطاقة التي نتجت عن عملية التشابك بين النصفين أو بين الحمامة واليمامة . ونفس الأمر يحدث تماما في حادثة إبراهيم المذكورة في القرآن ولكن بشكل مختلف ، فالموضوع في الحالة الثانية لا علاقة له بإحياء الأنواع الأربعة من الطيور لأن الطيور أصلا لم يتم تقطيعها ، فالآية القرآنية هنا توضح لنا مبدأ التشابك الكمي الذي شرحناه في المقالة الماضية . فعبارة (فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ) لا تعني تقطيع أجسام الطيور وخلطها مع بعضها البعض ، لأن الطيور الأربعة وإبراهيم معهم أصبحوا في نفس الصرة . ولكن تعني عملية إحداث علاقة إلفة بين الطيور والنبي إبراهيم ، أو بمعنى علمي إحداث علاقة تشابك كمي بينها وبين النبي إبراهيم ، حيث من هذا التشابك الكمي سيتم تطور وظهور الأنواع المختلف من الكائنات الحية حيث كل مجموعة من الأنواع ستقوم بتنمية ذلك العضو الذي عندما سيصل إلى أرقى أشكاله سيذهب إلى تكوين جسم الإنسان ليحيى الإنسان من جديد بعد تفتته الذي حصل به بسبب طرده من الجنة . فالذي ذهب إلى إبراهيم عليه السلام ليس الطيور كجسد مادي ولكن الصفة الروحية التي تخص ذلك العضو من تكوين جسد إبراهيم . والمقصود هنا ليس جسد إبراهيم ولكن جسد نسل آدم المذكور في الآية التوراتية .

ولهذا نجد أن الآية في التوراة تذكر أن الحيوانات التي تم شقها إلى نصفين هي حيوانات تدب على الأرض ، لأن هذه الحيوانات هي رمز للقسم السفلي (المادي) لجسم الإنسان من أسفل الرقبة وحتى أخمص القدمين . أما الحمامة واليمامة (الطيور) فلم يتم شقها ، لأنها تمثل القسم العلوي (الروحي) في تكوين الإنسان . فالطيور خُلقت لتحلق في السماء ، والتحليق في السماء هو رمز القسم الروحي أي الحالة الموجية للجسيمات الأولية التي -كما ذكرنا في المقالة الماضية - تتبع قوانين خارقة للفيزياء الطبيعية التي نتعامل معها في حياتنا اليومية المادية . فالقسم السفلي في جسم الإنسان بشكل عام يتألف من قسمين متناظرين : قسم يميني وقسم يساري ، حيث كل قسم يعمل بمفرده . أما القسم العلوي فهو أيضا يتألف من قسمين متناظرين ولكن الفرق هنا أن أعضاء هذين القسمين هما أجهزة إحساس ويجب أن يعملا معا للحصول على إحساس شامل يجعل من الإنسان كائن روحي مختلف تماما في سلوكه عن بقية أنواع الكائنات الحية.

ولهذا الآية القرآنية لا تذكر حيوانات تدب على الأرض ولكن تذكر أربعة أنواع من الطيور ، لأن عملية الإحياء هدفها الحقيقي هو تنقية روح الإنسان من تلك الشوائب التي نتجت عن الخطيئة التي إرتكبها الإنسان في الجنة والتي أدت إلى طرده منها . ولهذا نجد أنه هناك آية قرآنية أخرى توضح هذه الفكرة {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ ۖ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ ۖ إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (١٦)النمل} ، أي بمعنى أوتينا من كل شيء ولكن عُلمنا منطق الطير . فمنطق الطير المقصود به هو العالم الروحي الذي يخضع لقوانين العالم الكمومي الذي يخص عالم الإنسان وليس قوانين العالم المادي الذي يخص جميع الكائنات الحية. ولهذا ذُكرت هذه الآية في سورة عنوانها (النمل) لأن مجتمع النمل هو رمز نموذجي للعالم المادي ، فالنمل هي كائنات حية وضعت كل إهتمامها في تنمية الناحية المادية فقط ، فهي تعيش في نظام إجتماعي معقد ولكن قوانين مجتمعها تعتمد فقط على حماية نفسها وتأمين طعامها ، فرغم أن الملكة وذكور النمل تستطيع الطيران ولكن عملها هو فقط التزاوج وبعد أن يتم التزاوج تفقد اجنحتها .

أيضا إذا تمعنا جيدا في الإصحاح الخامس عشر من سفر التكوين ، سنجد أن الأسم المذكور فيه هو (أبرام) وليس (إبراهيم) ، فأسم أبرام يتحول إلى إبراهيم في الإصحاح السابع عشر (٥- فلا يدعى اسمك بعد ابرام بل يكون اسمك إبراهيم لأني اجعلك ابا لجمهور من الامم ). فاسم (أبرام) يعني في اللغة العبرية (الأب العالي) ، وهو أسم رمزي يُعبر عن روح الله التي نفخها في آدم والتي تمثل روح الخير العالمية التي قامت بخلق محتويات الكون المادية. فوجود أسم (أبرام) في الآية التوراتية ، وأسم (إبراهيم) في الآية القرآنية والتي تتكلم عن نفس الحادثة ، هي حكمة إلهية حيث أنها تدمج مراحل التطور المادي التي حصلت قبل ظهور الحياة وبعد ظهور الحياة مع مراحل التطور الروحي بعد ظهور الإنسان ، ونقصد تطور الأديان والحضارات . فبدون فهم تطور الأديان والحضارات لن نفهم شيئا عن علاقة تطور المادة مع تطور الحياة والمرتبط مع تطور الإنسان . فجميع أنواع هذه التطورات تعتمد قوانين العالم الكمومي (الإنساني) والذي يختلف تماما عن قوانين العالم المادي التي تعيش به الكائنات الحية .

هناك آيات عديدة من القرآن الكريم توضح هذا الموضوع وإن شاء الله سنذكرها أثناء شرح مبادئ تطور الحياة .