مجزرة «التضامن» والمثقف العطّار

صبحي حديدي

كشفت الانتفاضة السورية، آذار (مارس) 2011، الكثير من سوءات المثقف السوري؛ أي سلسلة الأفعال والأقوال التي تندرج في أبواب الخيانة والانتهاز والتضليل والتواطؤ والتستر والعمالة، وغيرها كثير متعدد متشعب. وإذْ تبدأ هذه السطور من صاحب العلاقة، النموذج السوري، فلأنّ الإنصاف يقتضي الابتداء من أهل البيت أنفسهم، وليس البتة على أساس المبدأ القائل بأنّ أهل مكة أدرى بشعابها، لأنّ «الشعاب» هنا أشدّ جلاءً وبروزاً ورسوخاً من أن تخطئها أيّ عين غير متعامية. والتشوّهات، كي تستقرّ هذه السطور على توصيف الحدّ الأدنى، لحقت بالمثقف السوري على خلفية الانتفاضة، لكنها تواصلت وتكاثرت وتعاظمت؛ كلما اتضح جانب مشرق أو مظلم في سيرورة تلك الانتفاضة، وكلما اختلطت مأساة بمهزلة (في صفّ مدّعي تمثيل «المعارضة»، تحديداً)، وكلما اتضح جانب مضيء وصانع أمل في حياة السوريين أو افتُضحت مجزرة وجريمة حرب…

شاعر سوري (واجتناب الأسماء، هنا، ليس له من دافع آخر سوى التشديد على النموذج التمثيلي النمطي وليس الشخص الفرد المنفرد)، تباكى على الحرية والعذاب الإنساني والشقاء اليسوعي طوال سنوات وسنوات، ومجموعة شعرية إثر أخرى؛ لكنه أعلن اللجوء إلى مسدس كلما ذُكر له مثقف منحاز للانتفاضة، ونعى الديمقراطية بعد أن أشبعها قدحاً وذمّاً. القلّة التي لم يفاجئها موقفه هذا تذكرت أنه امتدح وجود النظام السوري العسكري في لبنان، واعتبر خروجه/ إخراجه بمثابة مهانة للكرامة الوطنية السورية؛ كما استذكرت أنه امتدح التدخّل العسكري الروسي لصالح النظام، بل أطرى شخص الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وحثّه على اعتماد قاعدة «إضربْ، لا ترحم أعداءك». القلّة إياها وجدت ما يشفع لغياب الدهشة إزاء مواقف كهذه أنّ الشاعر ذاته توجّه بالمناشدة التالية للجيش الروسي في أوكرانيا: إذا كان الإمبرياليون يتهمونكم بارتكاب المجازر، فخير لكم أن… ترتكبوا المزيد منها!

مأساوي، في جانب آخر من المشهد البائس، أن تلك التشوهات انقلبت إلى ما يشبه قواسم مشتركة تجمع شرائح واسعة من مثقفي العرب؛ من المحيط الهادر حتى الخليج الثائر، طبقاً للشعار الشهير الذي ساد خلال خمسينيات وستينيات القرن المنصرم، ثمّ باد كما يليق به وبطراز العقوبة التي ينزلها التاريخ بنماذجه. وقد يحزن المرء إزاء «ممانع» من لبنان، أو «عمّالي» من تونس، أو «نسوية» من الأردن، أو «ناصري» من مصر، أو «بوتفليقيّ» من الجزائر… يقف في صفّ النظام السوري؛ متعامياً عن كلّ مجزرة بدم بارد أو ببرميل متفجر أو بقذيفة كيميائية، بذريعة أنّ النظام «ممانع» و»مقاوم» و»أنتي إمبرالية». لكنّ الحزن إياه ينقلب إلى خيبة أمل وإحباط وفجيعة حين ينخرط في صفّ النظام هذا النموذج «اليساري» أو ذاك «الإسلامي» من أبناء فلسطين، تحت الذريعة ذاتها؛ التي تتجاسر على وقاحة نسيان جرائم آل الأسد في تل الزعتر ومخيم اليرموك.

شاعر فلسطيني (إذْ من اللافت أنهم، غالباً، شعراء!)، طليعي يكتب قصيدة النثر ولا يعجبه عجب، أقام الدنيا ولم يقعدها (محقاً، بالطبع، فهذا أمر آخر) لأنّ أجهزة السلطة الوطنية الفلسطينية اعتقلته بضع ساعات من داخل اعتصام في إحدى ساحات رام الله؛ يساري المحتد، لكنه اليوم مفتون بشخصية يحيى السنوار البطولية، مبتدئاً من مستوى خطابات الأخير التي ترعب دولة الاحتلال. لا يلوح أنّ الشاعر إياه قد سمع بمجزرة حي التضامن، أو بلغه واحد على الأقل من تفاصيلها الرهيبة يفيد بوجود فلسطينيين من مخيم اليرموك ضمن الضحايا؛ بحيث يبدي الأسف مثلاً، وليس الاستنكار أو الإدانة، لأنّ النظام «المقاوِم» الذي يشبّح له منذ 11 سنة ارتكب تلك الجريمة الوحشية البربرية النكراء.

شاعرنا السوري وشاعرنا الفلسطيني، وأشباههما في طول العالم العربي وعرضه، هما أوضح النماذج على حال قديمة، لكنها دائبة التجدد والتحديث، تختصر التنازل الطوعي (الانتهازي بالضرورة) عن واجب التمثيل بوصفه أحد أبرز مسؤوليات المثقف؛ والتحلل من عبء الالتزام بصوت مميز، يسهل ضبطه متلبساً بهذه «الجناية» الفكرية – السياسية أو تلك؛ وتسطيح الموقف بوسيلة تفتيته الى عشرات «الاجتهادات»، المشروطة بخضوعها جميعاً للدرجة صفر من التجانس الفكري والوضوح الأخلاقي. كلا الشاعرَين «عطّار» لا يبيع سوى أرباع الحقائق في هذه الضيعة – المنبر، وأنصاف الحقائق في تلك البلدة – المؤسسة؛ ولكنها في النموذجين ليست الأرباع والأنصاف المرشحة لتأسيس حقيقة واحدة من جهة، أو لتعريض العطار إلى أي مساءلة في حلّه وترحاله بين القرى والبلدات من جهة ثانية.

الحال ذاتها تفرّخ نسقاً من تمويه العطارة بحيث تبدو الخيانة مظهراً مشرّفاً للتغريد خارج السرب والانشقاق والرفض والاحتجاج؛ خاصة وأنّ الخيانة هنا ليست من طراز «شبه قسري» اعتبر ميشيل فوكو أنّ المثقف يمارسه وهو يرابط وسط شبكة معقدة من السلطات والأنظمة والقوى. إنها، في مثال شاعريَنا بصفة خاصة، «شطارة» التخفي اثناء الاصطفاف المكين على هامش قطبَيْ العزلة والانحياز، بدل انتزاع موقف نقدي وسيط بينهما، جدير بالمثقف الذي لا يليق به أن يكون واحداً من اثنين: صانع إجماع كاذب، أو بائع كليشيهات وحقائق مسبقة الصنع، حسب تعبير ادوارد سعيد.

وليس عجيباً أنّ العطّار، لغةً، ليس بائع العطر فقط، بل كذلك حوّاج التوابل، والتاجر المتاجر في كلّ ما هبّ ودبّ!