مصالحة بين نظام الأسد والمعارضة السورية؟

بكر صدقي

كان لتصريحات وزير الخارجية التركي شاويش أوغلو التي أثارت موجة غضب في أوساط السوريين في مناطق سيطرة القوات التركية في الشمال، تمثلت في مظاهرات في عدد من المدن، وأحرق في إحداها العلم التركي، شقان: الكشف عن محادثة قصيرة «على الواقف» جرت بينه وبين وزير خارجية النظام فيصل المقداد، خريف العام الماضي؛ والكلام عن الحاجة إلى إجراء مصالحة بين النظام والمعارضة السورية بهدف الوصول إلى سلام مستدام. وفهمت هذه التصريحات على أنها إشارة إضافية إلى نوايا أنقرة في فتح صفحة جديدة مع نظام الأسد بعد عشر سنوات من القطيعة التامة والعداء المتبادل، سبقته إشارات أخرى منذ عودة أردوغان من محادثاته في سوتشي مع بوتين.

وإذا اعتبرت أوساط المعارضة المحادثة المذكورة بين الوزيرين شأناً يخص الحكومة التركية، فحديث شاويش أوغلو عن المصالحة بين النظام والمعارضة هو ما استقطب أشد الانتقادات وأثار غضب الشارع المعارض.

وأصدرت وزارة الخارجية توضيحاً لتصريحات الوزير بهدف التخفيف من أثرها الصادم. وكشف مؤخراً عن اجتماع عقد في 21 آب بين ممثلين عن الائتلاف وحكومتها المؤقتة وهيئة التفاوض واللجنة الدستورية من جهة، وممثلين عن الاستخبارات والخارجية التركيتين. ونفهم من محضر الاجتماع الذي يتم تداوله أن الطرف التركي وبّخ السوريين في الاجتماع وحملهم مسؤولية خروج المظاهرات وبعض التصريحات «السلبية» بحق السياسة التركية الجديدة.

ردود الطرف السوري في هذا الاجتماع تشير إلى مدى تذلل هؤلاء المعارضين أمام نصيرهم المفترض، واستعدادهم لتسويق ما يملى عليهم بلا نقاش. فقد اتهموا زملاء لهم في الائتلاف بأنهم أطلقوا تصريحات تحريضية، إضافة إلى تحميلهم مسؤولية التحريض على المظاهرات لخصوم لهم كقوات سوريا الديمقراطية وهيئة تحرير الشام. بل وصل بهم الأمر إلى لعب دور المخبر الرخيص حين قالوا إن هناك أفراداً في الهيئة السياسية للائتلاف قاموا بالتحريض أيضاً، فسألهم ممثل الاستخبارات التركية عن أسماء هؤلاء الأشخاص! لنضف في هذا السياق أيضاً أن الطرف التركي أعلم محاوريه السوريين ان رواتبهم سوف تخفض بدءًا من شهر أيلول! نعم، بهذه المناسبة عرفنا أيضاً أن قادة المعارضة السورية يتلقون رواتبهم من الظهير التركي، فلا عجب إذن إذا لعبوا دور الأداة والمخبر للحكومة التركية وأجهزتها.

الغريب، والحال هذه، أن ترفض معارضة هذه مواصفاتها المصالحة مع نظام الأسد، مع العلم أنها منخرطة في «التفاوض» معه منذ سنوات في إطار هيئة التفاوض واللجنة الدستورية. وقد طالبوا الطرف التركي بدعم معنوي يقوي موقفهم من أجل تسويق (هكذا حرفياً) السياسة التركية الجديدة، من خلال لقاءات مع رئيس الجمهورية ووزير الخارجية التركيين، وقد لبى الأتراك هذا الطلب فرتبوا لقاء لهم مع وزير الخارجية بعد بضعة أيام على الاجتماع. جاء الدور الآن على الائتلاف ليقوم بما وعد به من تسويق التوجه التركي إلى تطبيع العلاقات مع نظام الأسد.

ولكن ما هو التصور التركي للمصالحة بين النظام والمعارضة، بصرف النظر عن الموقف منها؟ تصريحات المسؤولين الأتراك تؤكد على أن المصالحة أو التوافق المذكور هو في إطار تنفيذ قرار مجلس الأمن 2254 الذي يدعو إلى تشكيل هيئة حكم انتقالي كامل الصلاحيات بالتشارك بين النظام والمعارضة. فما الذي تغير حتى يقبل النظام بذلك بعدما واظب على رفضه منذ بيان جنيف 2012 وقرار مجلس الأمن المذكور الذي صدر في العام 2015؟ فالمقصود بالمصالحة، وفقاً لذلك، هو هذا التشارك في تأليف حكومة انتقالية أو «هيئة حكم انتقالي». وهو ما لا ترفضه المعارضة وإن كانت على قناعة باستحالة تشكيل أي إطار سياسي مشترك مع النظام، على الأقل ضمن الشروط القائمة والمنظورة. ولكن النظام يرفض أي حل سياسي يتضمن بعض الإصلاحات في النظام، فما بالكم بمشاركة المعارضة التي يصفها بالإرهاب والعمالة وغيرها من المواصفات التي تضعها خارج السياسة، تماماً كما ترى المعارضة في النظام كياناً إجرامياً تجب محاسبته على جرائمه وليس المشاركة معه في الحكم.

فكيف يمكن لتركيا التي تتنطح، من خلال تصريح وزير خارجيتها، لمهمة الوساطة بين النظام والمعارضة، أن تنجز المصالحة المفترضة، على فرض قبول النظام بهذه الوساطة؟

من وجهة نظر النظام تعني المصالحة أن يصدر عفواً عن المعارضين على «خيانتهم» كحال المصالحات المحلية التي جرت بإشراف روسي بينه وبين فصائل عسكرية معارضة. حتى هذه «المصالحات» نكث بها النظام وقام باغتيال أولئك الذين تابوا وانضموا إلى قوات النظام مثبتاً بذلك أنه لا ينسى ولا يسامح. فهل يريد الأتراك أن يتوسطوا للمعارضة عند نظام الأسد ليعفو عنهم فرداً فرداً ويعلنوا التوبة؟ المرجح أنهم عادوا إلى تصورهم الأولي في الأشهر الأولى لاندلاع الثورة، حين عرضوا على النظام ضم عدد من المعارضين إلى الحكومة وإجراء بعض الإصلاحات في النظام السياسي. وحينها رفض النظام ذلك وقام ببعض «الإصلاحات» على طريقته كإلغاء المادة الثامنة من الدستور وإلغاء محكمة امن الدولة (واستبدالها بمحكمة الإرهاب في المبنى نفسه وبالقضاة أنفسهم) وإلغاء حال الطوارئ والاعتراف اللفظي بحق التظاهر وغيرها. كذلك رفض النظام اقتراحاً إيرانياً بضم عدد محدود من شخصيات جماعة الإخوان المسلمين إلى الحكومة، باعتبار ذلك حلاً للصراع الذي أطلقته الثورة.

نعم، تغير الكثير منذ ذلك الوقت، ولكن ليس في الوجهة التي قد ترغم النظام على تقديم تنازلات والانخراط في حل سياسي مهما كان بعيداً عن طموحات السوريين، بل في الوجهة المعاكسة تماماً التي جعلت النظام يتوهم أنه انتصر في الحرب ويستطيع التمسك بموقفه الأصلي المتمثل في شعار «الأسد أو لا أحد». صحيح أنه لا ينعم بالاستقرار وعاجز عن توفير متطلبات الحد الأدنى للحياة في مناطق سيطرته التي يحكمها أمراء الحرب والعصابات. وصحيح أنه مرتهن للإرادتين الروسية والإيرانية، ويعاني من عزلة دولية كبيرة وعقوبات اقتصادية، لكنه ما زال في الحكم، وأسقطت معظم الدول المناوئة شرط تنحيه من أجنداتها، بل إن عدداً من الدول العربية عاد لتطبيع العلاقات معه، وثمة دول تريد مشاركته في مؤتمر القمة القادم الذي من المفترض ان يعقد بعد أشهر قليلة في الجزائر. هذا إضافة إلى أن التدخل العسكري الروسي قد أعاد له مساحات واسعة من الأراضي التي كانت خارج سيطرته قبل أيلول 2015. ثم إنه تمكن من تجديد رئاسته مرتين من خلال «انتخابات تعددية» في 2014 و2021.

وهكذا يبدو حديث الوزير التركي عن المصالحة مجرد إشارة موجهة للنظام، وللرأي العام الداخلي، بصدد استعداد تركيا للتطبيع معه.