التنافس بين «شرعية الشارع» والانتخابات من مصر حتى العراق

وائل عصام

يقول الفنان والمونولوجست العراقي عزيز علي في مطلع أغنية له قبل نحو قرن من اليوم: «يا سامعين الصوت صلوا عالنبي، يا ناس احنا بسنة 1900، جنا ويا الاتراك وحكومتنا تركية، حالتنا جانت فاينة سخام ودهن لية، واليوم يا إسلام تحققت الأحلام، حصلنا استقلال وحكومتنا شعبية، الحمدلله والشكر ديمقراطية، الحمدلله ديمقراطية»،

لم يكن ليخطر ببال الفنان العراقي عزيز علي، إن حلم الديمقراطية التي تغنى بقدومها للعراق بعد حقبة العثمانيين، ما زالت «حلما» رغم كل هذه السنين والعديد من الأنظمة السياسية التي مرّت على العراق في القرن المنصرم، وصولا لما بعد 2003 حيث تأسست عملية انتخابية ما زالت نتائجها خجولة لليوم، أما عن الإخفاق في تبني قيم المجتمعات الديمقراطية فهذا بحث آخر.

واكثر ما هو لافت في الآونة الأخيرة في العراق كما لبنان هو «موضة» شرعية الشارع المنقلبة على شرعية الانتخابات، ولعل هذه التقليعة بدأت في مصر قبل العراق، عندما أعلن السيسي الانقلاب على حكومة تكتسب شرعيتها من صناديق الاقتراع، وليس صناديق الرصاص، وأبدل شرعية الانتخابات بشرعية الشارع، حيث أخرج بضعة آلاف في ميدان التحرير الذي بالكاد يتسع لمئتي ألف مع الشوارع المؤدية له (حسب قياسات أجريناها عندما كنا هناك)، وأعاد استخدام اسم مليونية وهي تقليعة شعبوية سنها إعلام الربيع العربي للمفارقة، ليستلها السيسي ويكلف مخرجه الشهير بالتقاط صور من مروحية، ويعتبر مليونيته هذه، التي لا يتجاوز عددها 200 ألف، مبررا للانقلاب على انتخابات صوت فيها عشرات ملايين المصريين!

وربما اختلط على الكثير من الجمهور العربي الأمر، بسبب القياس على مظاهرات ثورات الربيع العربي، وشرعيتها في المطالبة بقلب الأنظمة وتبديلها، والفرق هو أن مظاهرات الربيع العربي كانت ضد أنظمة لا تملك شرعية شعبية، ولم تأت للحكم وفق آلية محددة توافقية، وإنما بالقوة العسكرية في أغلب الأمر، ولذلك تطلق على مظاهرات الربيع العربي «ثورات» لأنها انقلابية، وأيضا لم يستولِ متظاهرو الربيع العربي على الحكم، وأعلنوا أنفسهم ممثلين عن الشعب، بل كانت نتيجة ثوراتهم إقامة انتخابات وآلية دستورية لتداول السلطة، بغض النظر عن مآلات هذا الطريق الذي تعثر في نهاية المطاف في ساحات الربيع العربي.

وفي العراق، يسود مزاج شعبي ناقم على الأحزاب السياسية والحكومات، بسبب الفساد وتردي الخدمات في المقام الأول، وبسبب اختلافات طائفية في المقام الثاني عندما يتعلق الأمر بالنسبة للعرب السنة، وحكومة تقودها أحزاب شيعية، وعلى الرغم من كل هذا السخط العارم على الأحزاب الحاكمة التقليدية في «تشرين العراق» إلا أن الانتخابات العراقية الأخيرة عادت ومنحتها شرعية جديدة، كما حصل أيضا في «تشرين لبنان»، فالناس في بلداننا المنقسمة تنتخب وفق معايير الهوية والحماية من الآخر، وتتظاهر وفق معايير أخرى، وهذه قضية اخرى اكثر تعقيدا. لكن إن تحدثنا عن الفوضى الدائرة في بغداد هذه الايام، إذ خرج التيار الصدري ليستثمر في هذا السخط الشعبي على الأحزاب والسلطة، وهو التيار الذي يبرر كل خطواته باسم «الشعب» حسب بيانات «وزير القائد»، الذي لا يعرفه أحد حتى اليوم، سوى من توصيف السيد مقتدى له بأنه «شعبوثي»، وهكذا فإن التيار الذي استل راية المعارضة اليوم هو نفسه من شارك في كل الحكومات السابقة، ومارس أبناؤه كل ما ينتقدون به الآخرين، وبالذات العمل الميليشاوي خارج إطار الدولة، والذي كان جيش المهدي سباقا فيه، وبمجرد أنه فشل في تشكيل حكومة داخل البرلمان انسحب منه، وبمجرد انسحابه منه بات البرلمان غير شرعي ولا يستحق سوى أن يكون مربطا للبهائم كما حوله متظاهرو التيار.

ولو شئنا التحدث عن شرعية التحدث باسم الشعب، فسنلاحظ أن التيار الصدري انتخبه جمهوره في محافظات شيعية ولم يفز بأي نائب في محافظات سنية أو كردية، وهكذا يفقد التيار تمثيل نصف الشعب إن لم يكن أكثر، وعندما نأتي للمحافظات الشيعية سنجد أن عدد مقاعده على كثرتها لا تكاد تصل لنصف مقاعد المحافظات الشيعية، عدا عن أن كتلته الانتخابية لا تتجاوز 800 ألف عراقي، لكنها موزعة في المحافظات بشكل أفضل من منافسه الإطار التنسيقي الشيعي. هذه السنة السيئة التي باتت متفشية في العراق وبلدان عربية، تعود في عمقها لفقر الوعي العربي بالغاية من الانتخابات، التي تهدف لتنظيم التنافس حول السلطة من خلال آلية محددة، تضمن أكبر تمثيل شعبي ممكن في السلطة، وهي تعكس العجز عن الائتلاف في إدارة شؤون البلاد بطريقة منظمة.

وما لا يستوعبه الكثيرون أن أضعف انتخابات من ناحية المشاركة الشعبية تبقى أقوى شرعية وأكبر عددا من أكبر مظاهرة، وأن الطريقة الأنسب لتغيير السلطة هي من خلال النظام الانتخابي وليس بالانقلاب عليه، غير ذلك سيصبح الحال كما هو في العراق، منافسة في تحشيد الناس في المظاهرات لإظهار التأييد الشعبي، التيار يحشد جمهوره في التحرير الأقرب لمدينة الصدر والإطار التنسيقي يحشد جمهوره في معقله بالكراده، والسؤال البسيط ماذا كانت وظيفة الانتخابات إذن؟ طبعا سيجيب الكثيرون من العرب والعراقيين الساخطين على الديمقراطية، أن الحل في قدوم «المنقذ»، الذي أطلق عليه سابقا «المستبد العادل»، ومواصفاته اليوم تتراوح بين جنرال عنيد، أو شيخ عتيد، طيب إذا كان هذا الديكتاتور المنقذ كرديا، فهل سيقبله العرب، أو شيعيا فهل سيقبله السنة، الذين يحنون لصدام حسين ويغنون له لليوم «هيبة وصدر ديوان». إنه ليس الحنين للاستبداد والاستقرار تحت بسطار الديكتاتور فقط، بل هو ايضا إخفاق للمجتمع في الائتلاف على تنظيم وإدارة الحكم وتداول السلطة من خلال آليات توافقية تبعد شبح الاقتتال الدموي الذي رافق، وما يزال كل سلطة جديدة في العالم العربي منذ قرون!