الاتفاق الإطاري في السودان: المجرَّب والمخرَّب

صبحي حديدي

في وسع مراقب محايد أن يتلمس، وربما بسهولة نسبية، حفنة من المعطيات التي تكتنف توقيع الاتفاق الإطاري بين جنرالات الجيش السوداني من جانب أوّل، و«قوى إعلان الحرية والتغيير» – مجموعة المجلس المركزي والفئات السياسية والنقابات المتحالفة معها من جانب ثان. وفي وسع المراقب ذاته، إزاء وضع تلك المعطيات ضمن حال جدلية من تَطابق المصالح أو تناقضها، أن يستخرج ميزاناً مبسطاً يتجاوز الخطاب واللغة الوردية والآمال وإعلانات النوايا الحسنة؛ إلى الحقائق الصلبة ذات الرسوخ والصلاحية، وبالتالي إلى حصيلة المكاسب والخسائر للفريقين.

مراقب آخر، من طراز غير محايد مثلاً، سوف يتوقف أوّلاً وبصفة خاصة عند سؤال كبير مركزي: هل يمكن الوثوق بهؤلاء الجنرالات، أمثال رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان ونائبه محمد حمدان دقلو على وجه التحديد، في أنهم لن يسارعوا مجدداً إلى تنفيذ انقلاب جديد، يتابع انقلاب 25 تشرين الأول (أكتوبر) 2021، أو يستكمل أغراضه المتمحورة أساساً حول إحكام قبضة الجيش على الدولة والمجتمع؟ وهل من التعقّل السياسي تجريب المجرَّب، في مضمار شهوة العسكر إلى السلطة والتسلط، من دون الحكم على المجرِّب بأنّ عقله مخرَّب، كما تقول الحكمة العتيقة الصائبة؟

وهذا المراقب سوف يرحّل أسئلة كهذه إلى منطقة ثالثة، لا تخلو من تحكيم عقلي ذرائعي يشمل الفريقَين الموقعين على الاتفاق الإطاري، من زاوية بسيطة أو حتى تبسيطية تتساءل عن حوافز العسكر في الذهاب إلى التوقيع أصلاً: هل لأنّ الانقلاب فشل، حتى الساعة، في إنجاز أغراضه المرجوة ودخل في حال من الركود أو الجمود أو العطالة، الأمر الذي يستدعي تنازلاً هنا أو انحناءة هناك؟ أم، استطراداً، لأنّ الانقلاب أوقع قوى إقليمية ودولية، صديقة للعسكر عملياً، في حرج بيّن استوجب وقف الدعم المالي وتخفيف المساندة السياسية، والمطالبة بعودة الحكم المدني وإنْ على مستوى اللفظ والبيان فقط؟ وهل، ثالثاً، أخفق العسكر في جرّ أمثال الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي والرئيس الإماراتي محمد بن زايد إلى يقين بأنّ فضائل الانقلاب ما تزال سارية المفعول، ويمكن منحها فرصة إضافية؟

وأمّا مراقب من طراز ثالث، يميل أكثر إلى «لجان المقاومة» والحراك الشعبي وتظاهرات الاحتجاج الرافضة للاتفاق الإطاري، فإنّ ذخيرته من أسباب التشكيك والطعن والاعتراض وافرة ومتعددة، بل سوف تكون آخذة في التزايد كلما انقضى يوم شاهد على تخلّف الجنرالات عن الوفاء بما وقّعوا عليه. القضايا الخلافية، وهي التي علّقها الاتفاق الإطاري إلى أجل غير مسمى، ليست قليلة العدد ولا ضئيلة الأهمية، فضلاً عن احتوائها على الكثير من عناصر تفجير الاتفاق:

ــ متى، ومَن يضمن، دمج «قوات الدعم السريع» في الجيش السوداني، ولماذا يُقدم البرهان على خطوة كهذه كفيلة على المدى البعيد بإضعاف حليفه ونائبه دقلو؟

ــ متى، ومَن يضمن، تحريك ملفات العدالة الانتقالية، بما يؤكد محاسبة المسؤولين عن الجرائم المرتكبة ضدّ أبناء السودان؛ فما بالك بعدم عودة رموز نظام عمر حسن البشير إلى المشهد، أو إلى سدّة السلطة؟

ــ متى، ومَن يضمن، حُسْن تنفيذ اتفاق سلام جوبا، ومشكلات شرق البلاد، وأنشطة الحركات المسلحة، واستتباب الأمن في غرب السودان؟

ليس العسكر في عداد الضامنين، منطقياً، لأنّ قبضة الجنرالات على السلطة والتسلط تتغذى على مشكلات كهذه، والإبقاء عليها معلّقة وعالقة يزوّد الجيش بذرائع إضافية تسوق مخاوف انزلاق البلد إلى «الفوضى» و«الحرب الأهلية» و«التفكك». وليست الأطراف المدنية المتوافقة اليوم مع الجنرالات قادرة اصلاً على فعل الضمان، ومثلها اللجان والقوى المعترضة على الاتفاق.

وأما مفتاح فكّ الاستعصاء فإنه يبدأ أوّلاً من كلمة حقّ نطق بها البرهان (وأراد بها باطلاً، كما اتضح): «العسكر للثكنات والأحزاب للانتخابات»؛ أو الحكم المدني الديمقراطي، باختصار وافٍ وكافٍ.