الموصل الحدباء

عبد الحكيم الأنيس

الموصل الحدباء

عبد الحكيم الأنيس

ذُكر عددٌ من المدن بالبخل، ونبز أهلها بالبخلاء، وفي العراق تُذْكَرُ مدينة الموصل بذلك، ويتداولُ العراقيون نكتاً عن أهلها، فهل لذلك حقيقة؟

الواقع أني أقمتُ في العراق سنين، ودخلتُ الموصل مراراً، وعرفتُ كثيراً من أهلها، فما رأيتُ إلا خيراً، ولا شاهدتُ إلا إكراماً للزائر، وحسنَ ضيافة، ولطفاً، وبشاشةً، وسخاءَ نفس، وكذلك كانتْ في ماضيها، وإليكم أدلتي على ذلك:

1-    هذا كتاب "البخلاء" للجاحظ (المتوفى سنة 255هـ)، لا نجدُ فيه ذكراً للموصل.

2-    وقال المقدسيُّ: (المتوفى نحو سنة380هـ)عن الموصل: ((بلدٌ جميلٌ، حسن البناء، طيب الهواء، صحيح الماء، كبير الاسم، قديم الرسم، حسن الأسواق والفنادق، كثير الملوك والمشايخ، لا يخلو من إسنادٍ عالٍ، وفقيهٍ مذكورٍ))[1] . ولم يذكر البخل.

3-    وقال ياقوت الحموي(ت:626هـ):  ((الموصل: المدينة المشهورة العظيمة، إحدى قواعد بلاد الإسلام، قليلة النظير كِبَراً وعِظَماً، وكثرةَ خلق، وسعةَ رقعة، فيها محط رحال الركبان، ومنها يُقصد إلى جميع البلدان... وأما ما يُنسَبُ إلى أهل الموصل من أهل العلم فأكثر مِن أن يحصوا...))[2] . ولم يَذكر شيئاً مما يُقال الآن.

4-    وقد زار الرحالةُ ابنُ جبير ( المتوفى سنة 614هـ) مدينة الموصل سنة 580، وأثنى عليها فقال: ((هذه المدينة عتيقة ضخمة، حصينة فخمة)) إلى أن قال: ( وأهل هذه البلدة على طريقة حسنة، يَستعملون أعمال البر، فلا تلقى منهم إلا ذا وجهٍ طلق، وكلمة ليّنة، ولهم كرامةٌ للغرباء، وإقبالٌ عليهم، وعندهم اعتدالٌ في جميع معاملاتهم))[3]  وهذا – كما ترى- شهادة من محايد، وهي على عكس ما يُقال.

5-    ويَذكر ابنُ بطوطة(المتوفى سنة779هـ) أنه خرَجَ من مكة صحبة أمير الركب العراقي البهلوان محمد الحويح، وهو من أهل الموصل، وقد قال عنه: ((اكترى لي شقة محارة إلى بغداد، ودفع إجارتها من ماله، وأنزلني في جواره))[4].

وقد دخلَ الموصل، وقال عن أهلها: (( وأهل الموصل لهم مكارمُ أخلاق، ولينُ كلام، وفضيلة، ومحبة في الغريب، وإقبالٌ عليه.

وكان أميرها حين قدومي عليها السيد الشريف الفاضل علاء الدين علي بن شمس الدين محمد الملقب بحيدر، وهو من الكرماء الفضلاء، أنزلني بداره، وأجرى علي الإنفاقَ مدة مقامي عنده، وله الصدقات والإيثار المعروف))[5]. وهذه شهادة من محايد أيضاً، وهي تثبتُ عكس المدعى.

6- وقد زار الشيخُ عبد الله بن حسين السويدي البغدادي(1104-1174هـ) مدينةَ الموصل في رحلته إلى الحج، وكان ذلك سنة 1157هـ ، وقال عنها: (( نزلتُ الخان المعروف بخان الأغوات، فما مكثتُ فيه ساعة حتى جاء الأمجد بلا التباس: عثمان آغا بن درباس، وهو من ذوي أرحامنا، فأخذني إلى بيته فجعلتُ أبات في داره المعمورة، وفي النهار أخلى لي حجرةً من حجر الخان الذي هو تحت إجارته، وفرشها وعيّن لي مَنْ يخدمني.

وهذا الخان على يسار الجسر مشرفٌ عليه، والحجرة فوقانية لها شباكٌ يطل على الجسر وعلى نينوى قريةِ سيدنا يونس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وترى قبته الشريفة، وكذا البر الشرقي، فبقيتُ ضيفاً عنده مدة إقامتي يزيدُ في إكرامي كلَّ يوم جزاه الله عني خيراً.

واجتمعتُ بواليها الوزير المكرم، والدستور المفخم، مولانا حسين باشا عبد الجليل زاده - وفقه الله بالحسنى وزيادة – فأكرمني وأعزَّني ، وبقيتُ معه من العصر إلى المغرب، ونقلتُ له قصة مباحثتي مع العجم، ونقلَ لي هو قصة حصار نادر شاه للمحروسة الموصل.

ورأيتُ في دار الحكم تلاً عظيماً كله قلل القنابر والأطواب التي رماهم بها، فالحمد لله الذي ردَّ كيده في نحره، ومنحَ الإسلام منحة نصره))[6] .

وكلامُ السويدي واضحٌ فيما تلقاه مِن إكرام الموصليين: أهلها وحكامها، والوالي من أسرة موصلية عريقة تعرف بأسرة (( الجليلي )).

نعم إنَّ السويدي انتقدَ مفتيَ الشافعية آنذاك لكونه لم يزره، وقد وصفه بالجهل، ووصف مفتيين للحنيفة بذلك،  ولكنه لم يَذكر عنهم البخل.

8- ومما يُذكرُ أنَّ الشيخ محمود شكري الآلوسي(المتوفى سنة 1342هـ) واثنين معه صدر قرار بنفيهم من بغداد إلى الأناضول سنة هـ1320، ولكنهم أُرجعوا من الموصل:

يقولُ الشيخُ محمد بهجة الأثري عن شيخه محمود شكري: ((نُفي هو وابن عمه السيد ثابت بن السيد نعمان الألوسي، والحاج حمد العسّافي النجدي من التجار الأتقياء مخفورين، وما كادوا يصلون (الموصل) حتى قام أعيانُهم لهذا الإحجاف وقعدوا، وسعوا إلى {السلطان} عبد الحميد فأقنعوه بعد لأيٍ ببراءته، فأُعيد هو وصاحباه إلى بغداد، بعد أنْ قضوا في الموصل شهرين لاقوا فيها من الحفاوة ما يعجز عن شرحه اللسان، ويكل دون تحبيره البيان[7])). فانظر إلى هذه الحفاوة، وانظر إلى هذا الإكرام.

وقد يُعترض فيقال:

-         إنَّ الجاحظ  قال وهو يَذكر أنواع البخلاء: ( والكعبي، أضيف إلى أبي كعب الموصلي، وكان عريفهم بعد خالويه سنة على ماء)[8].

فأقول:

هذه واقعةُ عين، وهي لا تعمُّ كما يقول الأصوليون.

وقد يقال:

قال ابنُ خلكان في ترجمة البحتري (المتوفى سنة 284هـ): (وكان البحتري  قد اجتاز بالموصل، وقيل: برأس عين، ومرضَ بها مرضاً شديداً، وكان الطبيب يختلف إليه ويداويه، فوصف له يوماً مزورة  ، ولم يكن عنده مَنْ يخدمه سوى غلامه، فقال للغلام: اصنع هذه المزورة، وكان بعضُ رؤساء البلد عنده حاضراً، وقد جاء يعوده، فقال ذاك الرئيس: هذا الغلام ما يُحسن طبخها، وعندي طبّاخٌ من صفته وصفته، وبالغ في حسن صنعته، فترك الغلامُ عملها اعتماداً على ذلك الرئيس، وقعد البحتري ينتظرُها، واشتغل الرئيسُ عنها ونسي أمرَها، فلما أبطأتْ عنه وفاتَ وقتُ وصولها إليه، كتب إلى الرئيس:

وجدتُ وعدَك زوراً في مُزَوَّرَةٍ ... حلفتَ مجتهداً إحكامَ طاهيها

فلا شفى اللهُ من يرجو الشفاء بها ... ولا علتْ كفُّ ملقٍ كفَّهُ فيها

فاحبسْ رسولك عنّي أن يجيء بها ... فقد حبستُ رسولي عن تقاضيها)[9]  

فأقول: وهذا – كما ترى- مرويٌّ على الشك، فلا نستطيعُ الجزم أن ذلك كان في الموصل، فربما كان في رأس عين، وقد روى ابنُ عساكر الخبرَ ولم يعيِّنْ مكاناً[10] ،وحتى لو كان ذلك في الموصل فإنَّ الخبر يقول:إن ذلك الرئيس نسي الوعدَ، لا أنّه بخل بالموعود. وقد غضب البحتريُّ من إخلاف وعده، لا من بخله.

وقد يقال:

قال ابنُ الشعار في "عقود الجمان" في ترجمة العلامة البارع الأوحد البليغ مجد الدين أبي السعادات المبارك بن محمد ابن الأيثر الموصلي صاحب " جامع الأصول" و"النهاية"(544-606هـ):  ((وكان مِن أشدِّ الناس بخلاً)).

فأقول:

لقد دافع عنه الإمامُ الذهبي فقال: ((مَنْ وقف عقاره لله فليس ببخيل، فما هو ببخيل، ولا بجواد، بل صاحب حزم واقتصاد رحمه الله))[11].

وكان قد قال: (( عرض له فالجٌ في أطرافه، وعجز عن الكتابة، ولزم داره، وأنشأ رباطاً في قريةٍ وقف عليه أملاكه)).[12]

وقد شهد آخرون للموصل بالكرم :

قال السري الرفاء ( المتوفى سنة 362) فيها يمدُحها – ولعله قال هذا وهو مغتربٌ عنها في حلب ما بين سنتي 339-349هـ- :

سقى ربا الموصل الزهراءِ من بلدٍ     جودٌ من الغيث يحكي جودَ أهليها

أأندبُ العيشَ فيها أم أنوحُ  على        أيامها   أم   أُعزّى   عن     لياليها

أرضٌ  يحنُّ   إليها   مَنْ   يفارقها     ويحمدُ العيشَ فيها مَنْ    يدانيها

لا أملكُ الصبرَ عنها إنْ  نأيت ُولو     عُوِّضتُ مِن ظلها الدنيا وما فيها

محلُّ قومٍ ينوبُ الدهرَ جودُهم    عن السحائب إن ضنَّت هواميها[13]

وقد يُقال: إنه من أهلها، ولا تُقبل شهادته فيها لمظنة حب الوطن و الانحياز إليه.

فأقول: قد شهد لها بالجود شخصٌ ليس من أهلها – ودعك ممّا أفسدَ به شهادته – ذلك هو الشيخ محمود بن أحمد العينتابي (المتوفى سنة 903هـ)فقد قال عن أهل الموصل: )) وعندهم سماحةٌ وجود، لكن يُفسدها الأذى والمنة))[14] .

ولا بد من الإشارة هنا إلى أنَّ التعميم في الأحكام خطأ، ووجود أفراد بخلاء   – ولا يخلو مكانٌ منهم –   لا يجوِّز ظلم الآخرين.

وقد يَكون ما يُسمّى بخلأً عند أناس حزماً واقتصاداً عند آخرين.

وكانت البلادُ تتعرض لمجاعاتٍ بسبب الحروب، وما يُضرب عليها من حصار، وقد يترك هذا أثرَه لدى بعض الناس فيأخذون أنفسهم بالتدبير، أو التقصير في بعض الأحيان.

والموصلُ – مثلاً – تعرَّضت لحصارٍ قاس من المغول انتهى باستلام المدينة جوعاً لا جبناً [15]

وقد ألمتْ بالموصل محنةٌ جوع سنة 1170، وكان من محاسن واليها الجليلي – الذي أكرم السويدي – أنه أمر َأن تُطبخ في "جامعه" شوربة كل يوم، وتطعم للفقراء [16]

فيا أيتها الموصل الحدباء – يا شبيهة حلب الشهباء- ما عليك ممّا يُقال، واقبلي مني هذه الشهادة، وحسبُك بها مِنْ شاهدٍ محايدٍ معاصرٍ.

               

[1] أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم ص 130

[2] معجم البلدان(5/223)

[3] رحلة ابن جبير

[4] رحلة ابن بطوطة ص186.

[5] رحلة ابن بطوطة ص250.

[6] النفحة المسكية في الرحلة المكية ص 101- 102

[7] أعلام العراق ص 104

[8] البخلاء (1/100)

[9] وفيات الأعيان(6/27-28)

[10] انظر : تاريخ دمشق (63 / 202)

[11] سير أعلام النبلاء ( 21/ 491)

[12] السابق (21 / 490)

[13] ديوان السري الرفاء

14-  القول السديد في إختيار الإماء والعبيد ص 68

[15] موسوعة أعلام الموصل (1 /55 )

[16] موسوعة أعلام الموصل ( 2 / 88)