خطوات في الليل(1)

محمد الحسناوي

خطوات في الليل(1)

محمد الحسناوي*

[email protected]

محضر

تنفيذاً للمهمة الموكلة إلى فرعنا ذي الرقم (1) قمت على رأس عناصرنا –حسب التعليمات المفصلة- بمداهمة البيوت الثلاثة ليلة يوم الخميس الموافق 5/6/80 واعتقال الذكور البالغين فيها، ومصادرة الوثائق والمستمسكات الموجودة، وعلى الرغم من تنفيذ المهمة في اقتحام البيوت على التوالي... لم تستغرق أكثر من ساعة واحدة أي من الساعة 2/1، 13 حتى الساعة 2/1، 14، ولم تكن هناك ضجة تذكر، بحيث لم يكد الجيران يشعرون إلا كما يشعر الجار برحيل جيرانه مع بعض أمتعتهم. وقد كانت الحصيلة على الشكل التالي:

في البيت الأول:

أ- اعتقال الأشخاص التالية أسماؤهم حسب ادعائهم:

- حامد أبو الفضل: في العقد الرابع من عمره.

- مجاهد الربيعي: (ابن أخت حامد أبو الفضل) فتى فوق الخامسة عشرة.

- عبد الوهاب شعار: ضيف يعمل تاجراً في العقد الثالث من عمره.

ب- الوثائق والمستمسكات:

- آلة كاتبة

- خزانة (كاصة) حديدية: أرشيف يملأ ثلاثة أدراج منها.

- مكتبة صغيرة تجدون ربطاً قائمة بمحتوياتها.

- مجموعة من المجلات والصحف السورية والعربية والأجنبية.

- مجموعات كاملة من النشرة السرية (النداء).

- محتويات سلة المهملات.

- جوازات سفر وهويات للأشخاص المعتقلين ولبقية سكان البيت الأول، وهم:

سعاد أبو الفضل (في العقد الرابع)، ميساء الربيعي 11 سنة، حذيفة 5 سنوات.

- متفرقات.

ج- ملاحظات لم تحصل مقاومة، ولحسن تصرف حامد أبو الفضل وتنفيذاً لتعليماتكم تم فك القيد عن يديه، ولم يعرف بأنه قيادي.

في البيت الثاني:

أ- اعتقال المدعو جميل بستاني: في العقد الرابع من عمره.

ب- الوثائق والمستمسكات:

- دفاتر محاضر جلسات التنظيم السري.

- مجموعة من الكتب والصحف.

- أعداد متفرقة من النشرة (النداء)

- جوازات سفر وهويات للمدعو جميل بستاني وأخته خديجة (في العقد الثالث) وأولادها 3 ذكور و7 بنات ولامرأة ضيفة سورية أيضاً اسمها رتيبة (في العقد الثالث) مع أربعة أولاد: صبيين وبنتين.

- متفرقات

ج- ملاحظة: لم نعثر على مفتاح السيارة التي يستخدمها جميل البستاني.

في البيت الثالث:

أ- اعتقال كل من المدعوين: -عبد الحكيم السيد: في العقد الثالث.

- إبراهيم ماضي: في العقد الثالث.

ب- الوثائق والمستمسكات:

- كمية وافرة من المجلات والصحف السورية والعربية الأجنبية.

- مذكرات وكتابات جاهزة للنشر.

- أعداد متفرقة من نشرة (النداء)

- جوازات سفر وهويات للمدعوين: عبد الحكيم السيد وإبراهيم ماضي، ولزوجة إبراهيم المدعوة سمية الشاش (في العقد الثالث) وابنته الطفلة نجاح.

- مكتبة صغيرة، تجدون ربطاً قائمة بمحتوياتها.

- متفرقات.

ج- ملاحظات: تغيب أحد سكان البيت المدعو فارس سلمان عن المبيت ليلة المداهمة ولم نحصل له على عنوان. وهو الآن طليق. مواصفاته: في العقد الثالث –شعره أسود- عينان سودوان- أبيض البشرة- غير ملتح- طوله فوق/170/سم يميل إلى النحافة –سريع التنقل اسمه الحركي (أبو عبد الله).

حرر في 5/6/1980.

الليلة الأولى:

مساء يوم الأربعاء 4 حزيران 1980

أغلق باب الزنزانة رقم 13 على المعتقل الجديد حسان الربيعي (واسمه الحركي حامد أبو الفضل).

جال حسان بنظره في ظلام الزنزانة الذي لا تؤثر فيه أشعة متلصصة من تحت الباب الحديدي المحكم، ولا ارتجاف النجوم في سماء الأفق البعيد عبر الكوة المرتفعة في صدر الزنزانة. خلال ثوان أحس الضيف الجديد بأن هناك شريكاً له في الزنزانة، وهو الآن يغط في نوم عميق.

- أهو سجين مثلي أم فخ؟ فلأكن حذراً على كل حال.

مما يرهق حسان أن عملية المداهمة فالاعتقال وقعت بعد يوم عمل شاق، وقبل أن ينال جرعة من نوم يؤهله لتلقي الصدمات، والتعامل مع المفاجآت بطمأنينة كافية.

فتح باب الزنزانة فجأة. أطل الحارس الأسود الضخم. قذف للضيف الجديد بفراش اسفنجي عسكري ضيق وببطانيتين. ثم أغلق الباب، وأعاد المزلاج، وأحكم القفل بسرعة.

- يبدو أن الفجر لم يطلع بعد. فلأدرك صلاة الصبح قبل فوات الأوان. بسط حسان البطانية. بدأ يخمن جهة القبلة. تنحنح الشريك النائم وسأل: ماذا تصنع؟

- عفواً. أريد أن أصلي. أين القبلة؟

- نحو الزاوية البعيدة (أجاب بصوت أجش).

طوال صلاته كان حسان يستبعد في ذهنه أحداث هذه الليلة. كان كل جهده مركزاً على استحضار خشوع القلب، والتماس العون من الله تعالى. حرص على أن يتلو أوراده كاملة بعد الصلاة. حين وصل إلى مقطع هام أخذ يتلوه بهدوء وإمعان وتدبر:

"اللهم إنك تعلم أن هذه القلوب قد اجتمعت على محبتك، والتقت على طاعتك، وتوحدت على دعوتك، وتعاهدت على نصرة شريعتك. فوثق اللهم رابطتها، وأدم ودها، وأهدها سبلها، واملأها بنورك الذي لا يخبو، واشرح صدورها بفيض الإيمان بك، وجميل التوكل عليك، وأحيها بمعرفتك، وأمتها على الشهادة في سبيلك...

حين تلا هذه العبارة (وأمتها على الشهادة في سبيلك) تسارعت دقات قلبه. شعر بخوف حقيقي. تردد: هل يرفض ذلك؟ تذكر أنه حين أدى فريضة الحج تعمد أن يدعو الله تعالى في ظل الكعبة المشرفة بأن يرزقه الشهادة في سبيل الله، فما باله الآن يتردد؟!

أخيراً حمل نفسه وتابع:

"إنك نعم المولى ونعم النصير"

في هذه الأثناء كان شريك الزنزانة قد استيقظ وتنحنح وسعل بشدة أكثر من مرة، وأشعل أكثر من لفافة تبغ، عطر بدخانها جو الزنزانة العفن إلى أن أتيحت لحسان الفرصة كي يخرج من الزنزانة للوضوء. ثم العودة واستدراك الصلاة.

بين النائم والمستيقظ كان حسان يتردد في تصديق ما وقع له في هذه الليلة:

إنه الآن يحس بعينيه ظلام الزنزانة ويسمع بأذنيه اصطكاك الأبواب الحديدية والأقفال. ونحنحات السجناء وسعالهم استعداداً للاستيقاظ. مع ذلك لا يصدق بأنه فوجئ بعد ساعة من نومه بقرع شديد على باب بيته وجرس بابه وأصوات جمع تنادي: (افتح. افتح)

- هل أطبقت السماوات على الأرض. ما هذه الضجة الرهيبة. أين أنا؟

أضاء حسان مصباح الكهرباء بلا تفكير. اندفع إلى الباب يفتحه مرغماً، ليزيل وطأة الكابوس العنيف الذي سطا عليه. اندفع من الباب حشد من الرجال المسلحين. صوبوا إليه وإلى أفراد أسرته المذعورين فوهات البنادق الرشاشة. قالوا بأصوات منكرة: ارفعوا أيديكم جميعاً. لا تتحركوا.

- ماذا تريدون؟ من أنتم؟

تطلع حسان يتفرس في وجوههم، يتفحص لهجتهم، أهم من المخابرات السورية، أم من رجال الأمن المحليين؟

خلال دقائق انتشر المسلحون في أرجاء البيت يضعون القيود في أيدي الرجال، ويفتشون عن كل شيء وفي كل شيء.

توقفت ذاكرة حسان المتعبة عند مشهدين، الأول حين رأى ابنته المذعورة حاسرة الشعر والذراعين في ثياب النوم الصيفية، فنبهها قائلاً:

- يا بنتي لا تخافي، البسي حجابك يا ميساء.

والمشهد الثاني حين دخل قائد المجموعة المسلحة، وكلهم بلباس مدني وانتحى به ناحية، وطلب فك القيد عن يديه، وسأله بلطف:

- هل أنت قيادي؟

- لا!

- أين اللاسلكي؟

- لا يوجد

- على كل حال أحب أن اطمئنك. نحن جئنا لحمايتكم لا أكثر.

- هل هذه الخبطات على الأبواب، وهذه الرشاشات المصوبة علي وعلى العيال والأطفال تعتبرها حماية، وبعد منتصف الليل؟!

- المعذرة تفضل معنا.

  *    *

قال شريك الزنزانة.

 أهلاً وسهلاً. أنا همام الحجيلات. اسمك؟-

- حامد أبو الفضل.

- يبدو أنك جديد. أنا جندي أول محكوم بالحبس عشرة أيام لأنني تغيبت يوماً واحداً في آخر الإجازة.

- ....

- قضيت خمسة أيام. أنا من حراس هذه الدائرة. ماذا تعمل؟

- تاجر كتب.

بدأت أشعة الشمس تغزو الفضاء الخارجي، وأخذت تتسلل ببطء إلى الزنزانة. وكما تخيل حسان شكل شريكه في الظلام وجده أمامه متكوماً على فراشه. كما يتكوم فيل عجوز: أنف أفطس على بطيخة سوداء، على جوالق تبن أو لفت يرتج كرشه المنفوخ ارتجاجات متناسقة مع كل نحنحة أو سعلة. أما يداه ورجلاه، فلا تكاد تميزها لولا كثرة استعانته بها للتعبير عما يريد وتمثيلاً للأشياء التي يتحدث عنها، مما يذكرك بحركات أطراف الدمى على مسرح الأطفال.

قال حسان لنفسه:

- لا شك أنه فخ منصوب لي! من أين لمخلوق أن يظهر بكل هذه البلادة والسطحية لو لم يكن مدرباً ومجرباً!؟

   *    *

تذكر حسان مشهداً ثالثاً، وهو يغادر الباب الخارجي لبيته حين اقترب الضيف منه ومن ولده، وقال لهما هما:

- تذكروا. أنا عبد الوهاب شعار. أبو سمير لا أبو طلال (يقصد الاسم الحركي) فجذبه العنصر المسلح بقوة إلى سيارة التاكسي من قيوده.

قدم شريك الزنزانة علبة سجائره للمرة الثالثة، فاعتذر حسان بأدب، وتظاهر بسماع حديث صاحبه همام، ولكنه كان شارد اللب، مشتت الخواطر، يرغم نفسه على اليقظة أو النسيان فلا يستطيع.

فتح باب الزنزانة. واستضاءت جدرانها الصفر، وألقى إليهما الحارس الأسود طعام الإفطار.

قال حسان: لست جائعاً.

نظر إليه الحارس نظرة تحذير:

همس همام الحجيلات.

- لا تعترض. أنا آكل عنك كل ما يزيد.

أتيح لحسان هذه المرة أن يميز ملامح الحارس الأسود. أنه شبيه بالغوريلا، ولا يختلف عن همام الحجيلات إلا في طول الأطراف وامتداد القامة، أما الضخامة والأنف الأفطس والرقبة القصيرة (مثل رقبة القطرميز) فصفات مشتركة بينهما.

لكن من الواضح أن همام أكبر سناً من الحارس، (لعله أبوه؟!)

طعام الفطور: قطعتان كبيرتان من خبز الصمون. قطعة جبن، بيضة، دجاج مسلوق، بضع حبات من الزيتون في صحن (بلاستيك) صغير.

قال همام:

- حين تحضر الشاي اطلب لنفسك كوب (بلاستيك) واحتفظ به. أنت من الشام؟!

تذكر حسان مشهداً آخر. حين وصل رتل السيارات التي حملتهم إلى مفترق طريق يؤدي إلى العاصمة أو إلى سورية، قال في سره:

- الآن نعلم مصيرنا. هل يذهبون بنا إلى مشانق دمشق، أم إلى سجون هذا القطر المحلية؟!

إن السلطات المحلية لم تسلمنا أخيراً للسلطات السورية، ولم تعبر الحدود بل اتجهت بنا إلى العاصمة، ولكن هل يكفي هذا للاطمئنان؟!

أخيراً أضرب حسان عن التفكير والذكريات والأحلام، وحصر جهده كله في أن ينال قسطاً من النوم، فتمدد على فراشه الأصفر، وأرغم نفسه على تخيل قطيع من الأغنام تأوي إلى الحظيرة واحدة واحدة حتى ينام!

كانت تنتاب حسان حالة غريبة من تداخل الأحاسيس والذكريات، فلا هو بالنائم ولا هو باليقظان، فقد تذكر أو استعاد في الحلم شريط هجرته من سورية ووصوله إلى هذا القطر العربي المجاور منذ سنة كاملة، ففي يوم الاثنين من منتصف شهر نيسان عام 1979 استطاع أن يزور المدرسة الثانوية التي كان يعمل فيها. وأن يوقع على دفاتر الدوام. وأن ينصرف تحت أعين الرقباء والمتربصين بحركاته وسكناته. وفي مساء ذلك اليوم وبالضبط وقت أذان المغرب تناول العشاء مع أسرته الصغيرة. وقد كان صائماً-وتبادل مع زوجته وأولاده.. خبر الاعتقالات التي تناولت عدداً من إخوانه، وقال:

- إنها ليست المرة الأولى، لكننا نرجو من الله تعالى أن تكون الأخيرة.

حدق حسان في وجوه زوجته وولديه مجاهد وميساء وشد حذيفة إلى صدره وقبله من رأسه وأردف:

- عهدت فيكم الشجاعة والصبر والتوكل على الله. ربما لا أعود إليكم بعد اليوم. تذكروا العلامة التي بيننا إذا دوهم البيت في غيابي.

وخرج حسان لينام على فراش  ضيق لدى صديقه عبد الحكيم، وليكتشف في الصباح أن بيته قد دوهم فعلاً وأن مجموعة أخرى من أحب إخوانه قد اعتقلوا في تلك الليلة: أبو محمد وأبو غياث وأبو بكر وعبد الرؤوف. وأنه لو نام في بيته لاعتقل هو أيضاً. نقل هذه الوقائع لصديقه عابد الشامي المتواري معه فلم يكد يصدق حتى تأكد الخبر من أخ آخر. وبعد مضي عشرين يوماً من التنقل والتخفي وتسيير أعمال (التنظيم) سراً خرج حسان مع عابد في سيارة خاصة، يقودها صديق عسكري من أحد أبواب مدينة حلب الرئيسة، حيث كان حاجز أمني يدقق في هويات العابرين، ويتفرس في وجوههم وأمتعتهم بحثاً عن الملاحقين.

ها هو الآن يحلم بآخر ليلة قضاها في إحدى القرى السورية المجاورة للحدود التركية بانتظار الرحيل مع الشمس.

كان صباحاً مشرقاً ذلك اليوم وهو السادس من شهر مايس، وكانت سنابل القمح تتماوج مع هبات النسيم تماوج بساط سندسي يملأ فضاء الأفق خارج القرية الهادئة الغافية. ولما وصل حسان وعابد وصديقهما إلى خارج القرية تلقاهما الدليل بتحية عاجلة وأشار لهما باللحاق به فوراً.

خلال نصف ساعة كان الرجال الثلاثة قد عبروا السهل وألقوا تحية الصباح على الفلاحين والفلاحات الخارجين إلى العمل، وشرعوا في تسلق التلال الصخرية بعد أن لف حسان وعابد أطراف السراويلات، وأدخلوها في الجوارب لتسهيل انتقال الأرجل وعدم اشتباكها بأشواك الجبل الربيعية.

كان هدف الثلاثة أن يعبروا الحدود بسلام ونجاح. أما الدليل فهو يعرف منطقة العبور معرفة دقيقة لا تقل عن معرفته لدروب قريته، ولم يكن يشغل باله وهو يمضي صامتاً إلا أن يفي بوعده الذي قطعه لصديقه الذي نزل عنده هذان الرجلان ضيفين، وطلبا منه أن يساعدهما على مغادرة البلاد بأقرب فرصة ومن غير الطريق الرسمي.

- أنا لم أتعود في حياتي على القيام بمثل هذه المخاطرة، تهريب الأشخاص، ومع ذلك أشعر بحماسة لتنفيذ هذه المخاطرة. ما الذي حملني على هذا العمل الغريب؟ لقد عرض علي صديقي الوسيط المبلغ الذي أطلبه فما قبضت قرشاً واحداً، ولن أقبض في المستقبل، وإن كنت قطعت إلحاحه علي بالعودة إلى الموضوع مرة ثانية بعد إتمام العملية. إن صديقي الذي استقبلهما من أحب أبناء القرية إلى نفسي، وإن لم تجمعني معه مصلحة أو حرفة، لكن سيرته المستقيمة، وجرأته في قول الحق، ومحاربته للظلم، ولعملاء الحكومة كلها أمور جعلتني أحبه يوماً بعد يوم، وجعلتني أقترب منه أكثر، ولا بد أن هذين الرجلين من هذا النوع، وإلا ما الذي حملهما على ترك البلاد؟!

أحس الدليل أنه سبق صاحبيه بخطوات قليلة انسياقاً مع تفكيره الخاص، فانتهزها فرصة ليتأمل ملامحها ريثما يلحقان به.

كان عابد اللاحق الأول به، فتفرس في ملامحه:

رجل تجاوز سن الأربعين منذ سنوات، يميل إلى الطول، عيناه زرقاوان، والشعر الكثيف على حاجبيه وشاربيه قد وخطه الشيب. تبدو على حركاته قوة أبناء الريف الذين تمرسوا بالمشي والأعمال الشاقة. لكن تصرفاته لا توحي بأنه صاحب سوابق، بل لا بد أنه من أهل الخير، فما الذي حمله على مثل هذه المغامرة وترك البلاد.

الرجل الثاني أصغر سناً بقليل وأضأل حجماً. هو في الأربعين عيناه سوداوان وأنفه دقيق، لم يحسن لف منديله الأبيض على رأسه مثل زميله الأول الذي لفه بإحكام واضح. يتأمل كل شيء يمر به: من طير وصخر ونباتات. كثير الإطراق، ينظر ما بين قدميه، لكنه بين الحين والآخر ينظر إلى السماء والأفق البعيد نظرات عميقة.

هو الآخر لا يبدو عليه أنه من أهل السوابق بالتأكيد، فما الذي جاء به إلى هنا؟!

( أصبحت أعيش في زمن غريب يسرح فيه اللصوص والمهربون وتجار المخدرات، ويبنون القصور، ويمتلكون السيارات الفخمة، ويلاحق مثل هؤلاء الذين يرفضون الانغماس في الغش والنفاق والسلب والنهب).

وقف الثلاثة في أعلى المنحدر الصخري المعشوشب. الدليل يتأمل صاحبيه بنظرات مختلسة. والآخران ينتهزان فرصة الاستراحة القصيرة لاسترداد الأنفاس، والاستمتاع بمناظر الصباح الجميل.

لقد أمضى عابد وحسان ثلاثة أسابيع في غرفة جانبية من دار عربية صغيرة في حي من أحياء حلب القديمة بعيداً عن الشمس والأنظار والجواسيس، وكانا قد أمضيا قبل ذلك شهراً كاملاً ينامان فيه خارج بيتيهما. خلال شهور سابقة كانا في عمل متواصل ليل نهار حرما فيه من الراحة والتأمل والتعامل مع الناس والأشياء بشكل طبيعي. ها هما اليوم في أحضان الطبيعة الريفية بلا جدران ولا سقف ولا رقباء: الهواء نقي ندي. السماء صافية زرقاء واسعة مديدة وعميقة. الشمس مشرقة دافئة. الأرض بكر تتململ نباتاتها البرية تحت نسمات الصباح.

فكر حسان: لقد ولدت في بلدة ريفية، ولم أغادر تلك المنطقة إلا للدراسة العليا، وكنت أقضي  معظم الإجازات والعطل الصيفية في بلدتي، وها أنذا أشعر كأنني لم أحس بجمال الريف وروعة الطبيعة كما أحس الآن. ما الجديد علي؟!

فكر عابد: هل هذه هي المرة الأخيرة التي أرى فيها أرض بلادي وسماءها؟ هل يمكنني أن أختزن أكبر قدر ممكن من هذا النسيم العليل البليل ومن أصوات العصافير والبلابل؟!

 فكر الدليل: الأول أبيض البشرة. الثاني: حنطي البشرة، شعره خرنوبي. هل رأيتهما من قبل؟!

فكر حسان: لماذا يختلف الناس ويقتتلون، ولديهم كل هذا الجمال وهذه الخيرات والأرض والأفق الرحب؟

أجفل حسان حين خطرت له خاطرة الاقتتال حول الأرض والخيرات، ولاحت له مأساة فلسطين، واحتلال الصهاينة لها، وطرد أهليها منها، فلم يصدق أو يقبل أن يكون مطروداً ولا مهاجراً.

- إنها الشام أرضي وأرض آبائي وأجدادي، إنها جولة للباطل ينتفش فيها ويصول ويجول حتى يلقى حتفه. أين الروم والصليبيون والتتار والفرنسيون؟ ذهبوا جميعاً، وبقيت هذه الجبال وهذا التراب الأحمر القاني، وهذه الشمس الذهبية، وهذا الشعب الوادع الطيب: يفلح ويزرع، ويوحد الحي القيوم، كما توحده السماوات والأرضون ليل نهار: هل يعلم هذا الدليل لماذا نحن نلاحق، ولماذا نهاجر؟

استدعى انتباه حسان عدد من البقع الحمر ظهرت على شكل مبعثر حول رسغي قدميه فوق الجراب الرمادي اللون. ولما فحص مواضع البقع اكتشف أن أشواك الطريق قد تعلقت بجرابه وبأطراف حذائه، وتركت آثاراً مخضبة بخضرة الحشائش وحمرة دمائه، فراقَ له هذا المنظر الذي ضم لفيفاً متناسقاً من الألوان الطبيعية والصناعية، وصار يحك رأسه مفكراً، كما يحك مواضع التخريش التي عضت عليها الأشواك البرية، وتساءل:

- هل هي مصادفة أن يتماثل لون التراب الأحمر ولون دمائي النافرة، وهل هي مصادفة أيضاً أن تعضني أشواك بلادي، وأنا أحاول هجرانها والابتعاد عنها؟ إن الصخور نفسها تكاد تصدمني وأنا أترنح بين جدرانها وأخاديدها، أهي تحس وتعقل، فتغضب وتعاتب؟!

يا أشواك بلادي. يا صخور بلادي، لن أخرج من جلدي، لن أغير دمي. من صلابتك التي قهرت العواصف والغزاة ينبعث أملي بقوة شعبي، من ثباتك تتجدد أمنياتي بثبات تاريخي وخلود قيمي.

إن حبيبات دمي النافرة في هذا الصباح الجميل لتؤكد الأخوة بيننا، وتشعرني بعمق الصلة الكونية فضلاً عن صلة المواطنة والسكن والجوار، فهل يعق الجار جاره، وهل يفارق الألف أهله وأحبائه؟! لكن ما العمل إذا كان المراد أن تسلم هذه الأرض المباركة للأعداء، وأن تمحى معالم العقيدة والتاريخ، وأن تستأصل شأفة من يقف في وجه هذه المخططات الجهنمية الملفعة بأقنعة خادعة لا يعرف ما وراءها إلا القليلون، وإن كان الشعب يحس بمقدماتها وبانعكاساتها بين حين وآخر؟

يا أشواك بلادي، يا أزهار بلادي: لأجلك ولأجل أطفال بلادي أجر نفسي جراً بعيداً عنك على أمل العودة العاجلة إليك.. كان الأولى لي أن أقضي عمري في التغني بجمالك، وإنشاد الأشعار لأطفالك، لكن ما العمل إذا صودرت أشعاري، وأحصيت أنفاسي، وكتب علي أن أكسر القلم، وأن أفطم المشاعر، وأن أبحث عن سبيل آخر لإسعادك وحمايتك، وأن أتعلم حرفاً أخرى لا أحسنها، ولا أطيقها مثل اعتزال الأهل والغربة عن الأوطان؟

لكم أود أن أقيم هنا أقتات بالأعشاب وليكن ما يكون، لكن هل ترضين أنت يا ثغور "الرشيد" و "المعتصم"؟!

حينما وصلوا إلى القمم قال الدليل:

- أمامنا قرية حدودية. هل ندخلها ونختصر المسافة، أم نتجاوزها من باب الحيطة؟!

لم يكن حسان وعابد بحاجة إلى الحيطة هنا لأنهما لا يخشيان أفراد الشعب، وهما بعد وقت قليل سيعبران الحدود. كانت الحيطة لحماية الدليل فيما لو سئل في المستقبل عن هذين الرجلين الغريبين، فتم اتفاق الثلاثة على أن هذين الرجلين من تجار الصوف والسمن.

دخلوا القرية، ومروا بمجموعات من الفلاحين منتشرة في الحقول القريبة، أشبه بأزهار مبعثرة في تلك الحقول الفياضة بالخضرة وبألوان الطبيعة الربيعية. كان ذلك المنظر يلوح من بعيد، أما حينما توسط الثلاثة دروب القرية الداخلية فقد استوقفهم منظر بضعة أطفال يخرجون من أحد المنعطفات وينظرون إليهم نظرات ملؤها البراءة والاستغراب، ووراءهم رجل مسن يرتدي زي العلماء. وقف حسان لدى مروره بجوارهم، فوقف عابد والدليل. ألقى حسان السلام عليهم.

- السلام عليكم.

رد الشيخ والأطفال السلام:

- وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.

فيما كان عابد والدليل يمازحان الأطفال ويتجنبان الاسترسال بالحديث مع الشيخ كان حسان يتأمل الموقف بصمت.

- ما أجمل هؤلاء الأطفال، كلهم زرق العيون، وشعورهم شقراء، الذكور يعتمرون القبعات، والبنات يلبسن الحجاب الريفي البسيط، لكن لماذا تعلو الأوساخ بشرتهم البيضاء الضاربة إلى الحمرة ولماذا كانوا حفاة بثياب مرقعة أو ممزقة.

مد عابد يده إلى جيبه، وأخرج حفنة من حبات (الملبس) وقطع الحلواء التي يحملها نوعاً من أنواع الدواء لمعدته التي يعاني منها الأمرين، وأخذ يوزع كل ما يحمله على هؤلاء الأطفال بالتساوي. وطلب لنفسه شيئاً من الماء يعوضه عن تناول دوائه من حبات الحلوى.

جيء بالماء في وعاء (بلاستيكي) قذر، ومر الدور على حسان ليشرب. تناول حسان الوعاء، تفحص الماء فوجد فيه كائنات حية تسبح هبوطاً وصعوداً، وأخرى تتنقل يميناً ويساراً وبالعكس. كانت رائحة الماء على غير ما يرام. أغمض عينيه وشرب لأنه يريد أن يداوي أمعاءه من نويات الجفاف والقبض. تساءل!

- إذا لم يوجد في مثل هذا الريف الجميل ماء عذب نقي فأين يوجد؟ لقد فسدت مياه المدن لإهمال السلطات والفساد الإداري، فما بال الريف يعاني من هذه المأساة؟ لو جمع الفلاحون حبيبات الماء من على أوراق الأشجار والنباتات لكان خيراً لهم من هذا الماء. لقد تعودت في طفولتي وفي شبابي أن لا أجد أعذب من مياه الريف في (اشتبرق) و(بداما) و(العدوسية) و(القسطل)، فماذا جرى؟!

تطلع عابد وحسان إلى أبنية القرية، فلفت نظرهم علو الجدران، وضخامة الأحجار، مما يدل على أنها قديمة العهد، ترجع إلى العهد الروماني، كما لفت نظرهم آثار واضحة للأقنية الرومانية التي كانت تحمل المياه العذبة أو مياه الطواحين إلى هذه القرية الحدودية، ومع ذلك تعيش القرية في عطش وحرمان لا ماء ولا كهرباء ولا طرقات معبدة، بل لا مدرسة ولا مستوصف ولا حد أدني من العيش النظيف. سأل عابد عن أسماء الأطفال، فأجابوه بأصوات ملائكية برئية:

- أحمد

- خديجة.

- خالد.

- عمر.

- عبد اللطيف.

- فاطمة.

- موسى.

سألهم هل تعرفون القراءة والكتابة:

- أنا أحفظ جزء (عم)

- أنا أحفظ حتى جزء (تبارك)

مد بعضهم يده إلى جانبه، وأخرج أوراقاً صفراء من محفظة قماش معلقة بحبل على عاتقه، وأراه كتابته التي لا مثيل لها في مخطوطات أوراق البردي، وهي تحاكي كتابة القرآن الكريم، جاء في إحداها: بسم الله الرحمن الرحيم (إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين).

فكر حسان: هذه الأرض التي عربها القرآن لا خوف على شعبها من الجوع والعطش، فسوف تكتشف يوماً ما حقوقها، وتزيل المظالم النازلة بها، لأن التاريخ لا يرجع إلى وراء، ولأن عبر التاريخ لا تتخلف، وسنن الله في خلقه ماضية. ففي سورة القصص التي نقل عنها هذا الفتى كتابته، ورد قوله تعالى: (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين. ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون).

حسان – أين موسى؟

- أنا!

- هل تحب فرعون؟

- كلا!

حسان...

موسى – ظالم. يقتل الأطفال. يحارب المؤمنين. جبار في الأرض.

حسان: وأبو جهل؟

طفل 1- أبو جهل وأبو لهب وأبرهة.

طفل 2- وأبو رغال

طفلة- وهامان.

موسى- كلهم ظلاَّم. نكرههم. لعنهم الله.

تنحنح الدليل بصوت مسموع وأشار لحسان وعابد إشارة خاصة فهما منها ضرورة الانطلاق. خلال دقائق كان الثلاثة يسيرون متقاربين في منحدر شديد الوعورة. الدليل في الأمام يليه عابد فحسان. لأول مرة ينشرح صدر الدليل للكلام، فيقول، كمن يحدث نفسه بصوت يسمعه الغريبان:

هذه القرية محظوظة بهذا الشيخ. القرى الأخرى المجاورة محرومة حتى من مثل هذا الشيخ الذي يعلم الأطفال القراءة والكتابة، ويعلم أهل القرية أمور دينهم وأموراً أخرى في الفلاحة والزراعة والتداوي بالأعشاب.

قال عابد: هذا شيخ فلتة.

قال حسان: يا سلام.

تابع الدليل كأنه لم يسمع التعليقات:

- لو سمعتم كلام الشيخ لعلمتم من لهجته أنه من أصل تركي. ترك أهله وأمواله وأراضيه في تركية، وهاجر إلى هذا المكان المنقطع عن الدنيا. قد تستغربون هذه القصة، لكنكم تعلمون أن كثيراً من أهل تركيا هاجروا إلى سورية في أيام حكم كمال أتاتورك الذي حارب اللغة العربية ومزق القرآن الكريم وسجن رجال العلم وأجبر الأتراك على استبدال (البرنيطة) بالطربوش، فهاجر الذين استطاعوا الهجرة مثل هذا الشيخ.

لم تكن هذه المعلومات جديدة على كل من حسان وعابد، فقد سمعاها من سكان المناطق الشمالية التي ينتميان إليها، كما عرفاها عيانا بالتعرف إلى عدد من العلماء والمواطنين الأتراك الذين هاجروا إلى سورية، وأصبحوا من مواطنيها، ففي بعض المدن والقرى أحياء خاصة من هؤلاء المهاجرين.

إن حسان يكنُّ احتراماً خاصاً لسكان حي التركمان في مسقط رأسه جسر الشغور، لأن هؤلاء السكان يعيشون متضامنين، ويأنفون من العيش على حساب الآخرين، ويحافظون على شعائر الدين، ويسارعون في عمل البر والخير. وما يدري حسان بالضبط تعليل هذه التقاليد الراسخة:

- هل ذلك يرجع لأملهم القوي في العودة إلى وطنهم؟ أم هي تلك العقيدة التي يستمسكون بها وقد هاجروا من أجلها؟

قال عابد مخاطباً حسان وهما يتفحصان مواضع الأقدام خشية الانزلاق والتعثر:

- هل تذكر الشيخ عبد الله؟!

- الله يذكرك بالخير يا أبا أحمد.

الشيخ عبد الله هو واحد من ذلك الجيل التركي الذي هاجر بدينه إلى الأراضي السورية: إنه من أسرة علم وأدب وجاه عريض، هاجر هو وإخوته العلماء صغاراً وكباراً ونساءً ورجالاً. ميزة الشيخ عبد الله هي تعدد المواهب. فهو عالم بالنحو والفقه والحديث الشريف، وهو في الوقت نفسه صياد ماهر، لا ينافس في تسديد الرماية وفي صناعة السلاح وفكه وتركيبه، وفي صناعة الساعات والآلات الدقيقة. وهو على شدة تواضعه التي تضرب بها الأمثال روى لأصدقائه المقربين الحكاية التالية من باب المسامرة:

في أواخر عهد الوحدة بين سورية ومصر طرق بابي مواطنان سوريان، وهما يحملان جهازاً آلياً من الآلات الدقيقة (الكومبيوتر) ومعهما ضابط مصري برتبة عالية. قال أحد المواطنين: يا شيخنا هذا الجهاز معطل. يئسنا من تصليحه بعد عرضه على مختلف المختصين في بلدنا، وقد خصصت له طائرة لنقله إلى البلدة الأوروبية التي صنع فيها، وسنحمله إلى الطائرة بعد ثلاث ساعات إن لم تستطع إصلاحه. فما رأيك؟

سألت عن مكان العطل، وأخرجت أدوات العمل، أدوات لتصليح الساعات في الأصل، وشرعت بالعمل، والضابط المصري يتمشى في ردهة الممر ذهاباًَ وإياباً، يدخن لفائف التبغ الواحدة تلو الأخرى، ويتابع الوقت من خلال ساعة يده بين الفينة والفينة، وهو لا يخفي يأسه من إصلاح الجهاز.

قبل أن تنتهي المدة وضعت قطعة الآلة بعد إصلاحها في مكانها، طلبت إدارة الجهاز الذي لا أعلم اسمه ولا طريقة إدارته. لفرط عجبنا جميعاً استجاب الجهاز، ودارت أجزاؤه بالشكل المنتظم المطلوب، فانتفض الضابط عجباً ودهشة وهو يصيح بصوت عال:

- حيجنني. حيجنني! (باللهجة المصرية)

سمع عابد هاتين الكلمتين يكررهما حسان بعد فترة وجيزة، فتذكر القصة فأخذ يضحك معه. انتبه حسان فقال عابد:

- هل تدري أن الشيخ مريض ليس لديه المال الكافي للمعالجة، وأن سلم الرواتب في وزارة الأوقاف قد جعل أجره تافهاً لا يليق بموظف مبتدئ.

- المشكلة ليست بمأساة هذا الشيخ وأمثاله وحسب! ولكن المشكلة في الخبرات النادرة التي خسرتها الأمة في تضييع مثل هذا العبقري!

عندما هبطوا المنحدرات لم تبق إلا مسافة قصيرة حتى تنتهي مهمة "الدليل"، فيتقدم حسان وعابد من مخفر الحدود التركي بجوازي سفرهما.

جلس "الدليل" على صخرة رمادية للاستراحة. جلس قبالته كل من حسان وعابد يبتسمان شاكرين. وهما يلحان عليه بقبول أجرة نقلهما من منطقة الخطر إلى شاطئ السلامة.

قال الدليل وهو يتناول سيجارة:

- لا مؤاخذة. لا أعرفكم ولا تعرفونني. لا أعطيكم اسمي ولا تعطوني أسماءكم. (غمز بعينه اليمنى موضحاً مراده)

- شكراً.

- لا تذكروا الرجل الذي كان وسيطاً بيننا، أنا أحبه وأحترمه، وإن كان عدد من رجال الحزب لا يحبونه.

- هذا من لطفك.

- تريدون الصحيح. أنا مواطن مثلكم أكره الظلم، وأكره الحكومة. لكن ماذا يمكنني أن أصنع. وأنتم ماذا يمكنكم أن تصنعوا؟

- الله كريم.

- لا شك. الله كريم. الله يوفقكم ويحفظكم. لكل شيء نهاية.

رغب حسان يومذاك بأن يسافر إلى "أنقرة" بالقطار لأن صديقه عابداً لم يُتَح له أن يزور تركية من قبل. وبدلاً من أن يقضيا عشر ساعات سفر في السيارة اضطرا إلى قضاء يومين كاملين في الطريق. انتقلا فيها بين أكثر من قطار. زارا بعض المدن التركية الصغيرة. أرسلا بطاقات بريدية لأهلهما، علَّما بعض الحروف والكلمات العربية للصبيان الأتراك في محطات القطار. كاد صبرهما ينفد من بطء القطارات وتأرجحها في المرتفعات والطرق الجبلية، لدرجة أحسا معهما بأن القطار يمشي إلى الوراء لا إلى الأمام.

لعل أمتع ما شاهداه في تلك الرحلة الشاقة منظر المساجد على الطراز العثماني: مآذن عالية رشيقة القوام. قباب صقيلة أقواسها مدورة بإحكام ودقة متناهية. اللون الأزرق السماوي يضفي على المآذن والقباب والجدران سحراً خاصاً من الصفاء والجلال والامتداد غير النهائي.

كما استرعى انتباههما بشكل خاص لباس الفلاحات التركيات الذي جمع بين البساطة الملائمة للحركة والعمل، وبين المواصفات الشرعية للحجاب الساتر للجسم ما عد الوجه واليدين بالإضافة إلى النظافة والألوان المتناسقة.

مالت الشمس إلى الغروب حينما نزل حسان وعابد من القطار في إحدى محطات الضواحي في أنقرة، فشرعا بأداء صلاة العصر قبل فوات الأوان، ثم حملا أمتعتهما القليلة، وقصدا منزلاً كان يسكنه في العام الماضي بعض الطلبة العرب، كما يذكر حسان، ولكن لم يجدا أحداً في هذا المنزل. حين حانت صلاة المغرب توجها إلى المسجد القريب، وتفحصا وجوه المصلين عسى أن يتعرفا إلى وجه عربي يفهم عليهما ويوصلهما إلى أحد معارفهما، وبعد الصلاة تكلم حسان مع أحد الشباب المصلين بالعربية، فرد عليه السلام، وعرفه بأنه طالب تركي يجيد العربي، وبوسعه أن يوصله إلى مكان فيه طلبة عرب.

شهر كامل قضاه حسان وعابد في تركية، وهما يتابعان أخبار سورية ومدينتهم حلب، كما أرسلا أحد الطلبة العرب يستطلع الأخبار ويحمل الرسائل إلى بعض أعضاء (التنظيم) وحينما عاد هذا الرسول كانت العمليات الجهادية قد بدأت في حلب، والسلطة تتكتم عليها، وتنسبها إلى جهات مشبوهة.

في أوائل شهر حزيران عام 1979 توجه حسان وعابد وأمتعتهما القليلة جواً إلى قطر عربي مجاور لسورية ليستأنفا عملهما في (التنظيم) من وراء الحدود. وها هما اليوم بعد مضي سنة من العمل المتواصل ينتقلان من بيوت الهجرة إلى أعماق السجن.

    *     *

علت ضجة الحركة خارج الزنزانة. فتح أبواب. إغلاق أبواب. نداءات. إحضار طعام وتوزيعه.

وبين النوم واليقظة تذكر حسان أن فراشه الاسفنجي –علي ضيقه- أكثر طراوة من فراش السجن العسكري الذي نام عليه عام 1967م. لكن الذي أدهشه أن يكون اعتقاله الجديد في صباح اليوم الخامس من حزيران، وأن الإفراج عنه في سورية كان بعد هزيمة حزيران المشهورة بأيام قليلة. ثم قال في نفسه:

- إذا كان الإفراج عن مئات المعتقلين في سورية آنذاك نتيجة الهزيمة العسكرية المنكرة للنظام، فما سر توقيت اعتقالنا ها هنا خارج سورية! هل هناك تواطؤ مع نظام سوريا؟!

أم هل هناك حرب جديدة تستدعي اعتقال المعارضة خلافاً للعدو اليهودي الذي يلغي الخلافات الداخلية لمواجهة الحروب الخارجية؟!

لم يفهم حسان السر في اعتقاله واعتقال إخوانه في صباح الخامس من حزيران. خطرت له نكتة ضحك لها ضحكاً عالياً. سمعه همام شريك الزنزانة الذي أخذ يضحك معه، وهو لا يدري ما السبب. تقول النكتة: إن رجال السياسة في الدول العظمى (أمريكا وروسيا) تعودوا أن يستطلعوا أحوال المستقبل السياسي بالاعتماد على الكومبيوتر والعقول الإلكترونية، كما يستطلعون أحوال الطقس والجو، وفي إحدى المرات سئل العقل الإلكتروني:

- كيف حال الأجواء العربية؟!

فسكت العقل الإلكتروني طويلاً خلافاً لعادته، ثم أخذ الدخان يتصاعد من جنباته نتيجة عجزه عن فهم ما يجري في الأجواء العربية.

قال همام وهو ما يزال غارقاً في الضحك:

- يا أستاذ، يا أستاذ حامد. ما الذي يضحكك؟ هل رأيت زوجتك في المنام؟!

لم يرد عليه حسان، بل تابع نومه، وتذكر أنه يرغم نفسه على تخيل قطيع من الأغنام تأوي إلى الحظيرة واحدة واحدة حتى يستغرق في النوم.

مع ذلك لم يستغرق في النوم، بل انقدحت في مخيلته المتعبة ذكرى الساعات الأخيرة التي قضاها مع زوجته قبل العبور عن طريق الحدود التركية بيوم واحد، فقد استطاع عن طريق بعض الأقارب حينذاك أن يجتمع بزوجته تحت وطأة الاحتياطات الأمنية ليودعها، وليسمع منها أخبار الأولاد وتفاصيل مداهمة (المخابرات) للمنزل في غيابه. قالت له زوجته أم مجاهد وهي في أوج الغبطة والحيوية:

حوالي الساعة الواحدة والنصف من بعد منتصف الليل قرع جرس الباب، ولدى استفساري أجابوا:

- شرطة.

- انتظروا ريثما أرتدي حجابي.

ثم اندفع خمسة رجال مسلحين بقيادة أحدهم، ووقف اثنان آخران خارج الباب. قال قائدهم:

- أين زوجك أبو مجاهد؟

- غير موجود.

- أين هو بالضبط؟

- ما أدري.

- كيف لا تدرين وأنت زوجته؟!

- ما أدري وهذا كل ما عندي.

- فتشوا البيت.

- أحذركم أنا مريضة، وهذا ولدي الصغير أيضاً مريض ولم ينم إلا منذ قليل فلا تقلقوه.

انطلق العناصر يجولون في أرجاء البيت، وقد جعلوا أمامهم ولدك مجاهد يفتح لهم أبواب الغرف خشية المفاجآت. قال أحدهم، وهو طويل القامة، ضخم الجثة، خشن الملامح والصوت والحركات:

- أنا أعرف زوجك، أنا كنت أحد العناصر الذين اعتقلوه عام 1967.

- زوجي رجل شريف، وكلكم تعرفون استقامته وجهوده ومؤلفاته.

- لكن زوجك معارض للحكومة.

- زوجي يقول الحق، ولا يعمل إلا للمصلحة العامة، وأنتم تقلقون الناس، وتداهمون البيوت في ظلمات الليل، وترعبون الأطفال.

حين خابت عمليات التفتيش احتجزوا الفتى مجاهد، حملوه معهم للطواف على بيوت الأقارب بحثاً عن أبيه، على حين كمن في البيت ثلاثة عناصر مسلحة تنتظر قدوم الأب ليلقوا القبض عليه. من جهة ثانية جمعت العناصر المسلحة وهي تعد "50" عنصراً من الشوارع المحيطة بالمنزل ومن أسطحة الأبنية المجاورة، وكلفت عناصر محدودة للتجول في المنطقة بشكل خفي.

وهكذا استمر احتلال البيت ثلاثة أيام بلياليها، يمنعون خروج سكانه حتى الأطفال، منعوهم من الذهاب إلى المدرسة. حين حضر بعض الرجال مثل الحاج محمد أخي الزوجة سعاد تم استجوابه في المنزل وفي مركز المخابرات وسئل عن سبب حضوره، وعن المكان الذي يتوارى فيه أبو مجاهد.

قال حسان لزوجته:

- كيف كان شعورك حين احتجزوا مجاهد، وطلبوا منه أن يرشدهم إلى بيوت الأقارب للبحث عني؟!

- على الرغم من المرض كنت مطمئنة كل الاطمئنان إلى قضاء الله وقدره، وقد قلت له: سلمتك لله. سلمتك لله يا ولدي. سلمتك لله يا أبا مجاهد. الله الذي خلقكم يحفظكم ويحميكم. حسبي الله ونعم الوكيل. حسبي الله ونعم الوكيل.

- ماذا حصل مع مجاهد في عملية الاحتجاز؟!

- صحيح أتعبوه في مداهمة بيت أختي وأخي وبيت أخويك في حلب، لكن الذي آلمه أكثر هو رؤيته آباء الملاحقين، وهم يعذبون، ويهانون في مركز المخابرات بسبب غياب أبنائهم أو إخوانهم. تصور والد الأستاذ عادل، وهو رجل مسن في الثمانين يده ورجله مشلولتان كيف يساق إلى التحقيق، ويتعرض للصفع والشتم. تصور مداهمة بيت أبي عمار وزوجته في حالة الطلق والولادة، ثم لا يمهلونه ولا يسمحون له بإحضار القابلة. تصور دخولهم على الشيخ عثمان وهو ما يزال في فراش النوم مع زوجته، وأعطوه الثياب ليلبسها أمام أعينهم في الفراش.

- هل أحس الجيران بالمداهمة؟

- لقد انتشر الخبر في أرجاء المدينة لا في حي الأنصاري وحده، كما وصل الخبر إلى والدك في جسر الثغور وإلى أقربائك في جبل الزاوية في صباح اليوم نفسه.

- كيف؟!

وهنا ضحكت أم مجاهد ضحكة ملؤها الشعور بالانتقام والتحدي.

- لقد أوحيت إليهم بأن يذهبوا إلى هناك للبحث عنك وأنا أعلم أنك لست موجوداً هناك، وبذلك انتشر الخبر، وزدت في متاعبهم.

وفي الصباح الباكر اتصل والدك بالهاتف ليطمئن عنك، فألقيت عبر الهاتف محاضرة على رجال المخابرات في النقد واللوم، وما كدت انتهي من الكلام، حتى قرع الباب وألقى أخوك القادم على عجل من الجسر بأكوام الهدايا: جبن ولحم وفواكه وخضروات، وانصرف قبل أن يلقي الحراس عليه القبض.

- كم أنا فخورٌ بك يا أم مجاهد؟

قال همام الحجيلات باسماً:

- ألم أقل لك إنك تحلم بزوجتك منذ أول يوم من اعتقالك يا أستاذ؟

- وأنت ماذا رأيت من أحلام هذه الليلة؟

قال حسان ذلك، وقد اضطر للجلوس تجاه شريك الزنزانة الذي اتضحت ملامح وجهه وجسمه بعد أن انتشر ضوء النهار في أرجاء الزنزانة عبر النافذة الخلفية.

- رأيت نفسي حينما كنت صغيراً أرعى الإبل عند عمي بعد وفاة والدي. وتذوقت طعم كأس الشاي الذي لم أكن أعرفه من قبل. كان ذلك بمناسبة زيارة ضيف. سألت عمي: ما هذا الشراب؟ قال: اشرب وستعرف ما هو. شعرت بطعم لذيذ زاكي. جعلني أفضله على حليب الإبل الذي لم أعرف غيره في ذلك الوقت.

بينما كان همام يقص على حسان ذكريات طفولته وحياة البادية أحس حسان بشيء من هدوء الأعصاب، فاستغل ذلك باستيعاب الوقائع والحقائق الملموسة التي تحيط به من كل جانب، وهو لا يكاد يصدق: أهو في يقظة أم حلم؟

تأمل حسان جدران الزنزانة وأرضها وسقفها، ولولا الخشية من أن يظن همام بعقله الظنون لمد يده، وتلمس أجزاءها، وعد بلاطات الأرض، وقاس طول الجدران وعرضها بالقدم أو بالشبر، ليتأكد من واقعية المشاهدات، وليتأمل المعاني الخفية ونوايا الجهات التي ألقته في هذا المكان.

بعد التأمل وتقليب البصر والبصيرة تبين حسان أن الزنزانة ذات شكل طولاني، لها باب حديدي محكم الإغلاق بأكثر من قفل، وفي أعلى الباب ووسطه كوة حديدية أيضاً يفتحها الحارس ويغلقها حين يريد، وإذا أغلقها لم يعد بوسع السجين أن يفتحها لأن مربطها من الجهة الخارجية المطلة على رواق طويل ضيق، تصطف عليه ثلاث عشرة زنزانة، كما علم حسان من رقم زنزانته التي تقع في نهاية الرواق الضيق الطويل، أما جدار الزنزانة الخلفي فهو أعرض من جدار الباب. وفي أعلاه كوة مدورة عالية لا تصل إليها يد السجين مهما كان طويلاً إلا بالقفز، وهي محكمة الإغلاق بقضبان حديدية، وبدائرة زجاجية مثبتة من وسطها لتحرك إلى أعلى وأسفل، حسب الحاجة للهواء والحرارة. ويمكن تقدير حجم الزنزانة كما يلي: طولها "4 متر" وعرضها "2 متر" وارتفاع جدرانها "3 متر" لكن هناك زيادة أكثر من نصف متر في عرض الجدار الخلفي، وذلك لوقوع الزنزانة في نهاية البناء الخاص بالزنزانات.

على الرغم من نظافة الجدران المطلية بدهان أصفر زيتي، ونظافة أرض الزنزانة كانت رائحة العفن سيدة الجو، لعل المصدر الذي يشع تلك الرائحة هو الفراش الاسفنجي، وتلك البطانيات السود القذرة.

في وسط السقف مصباح كهربائي ضعيف لا ينطفئ ليلاً ولا نهاراً. أما الرواق الضيق الطويل ففيه إنارة شديدة، لأنه مغلق من جوانبه كلها، ما عدا باباً واحداًَ يقع في الوسط، وعبره يتم الدخول والخروج والحراسة الشديدة الدائمة ليل نهار أيضاً.

قال همام وقد آنس من شريكه حسان إقبالاً ويقظة:

- لم تذكر لي سبب اعتقالك.

- لا أعلم.

- غريب هل يمكن أن تعتقل وأنت لا تعلم السبب؟

- فعلاً أنا لا أعلم؟

- قلت لي إنك تبيع الكتب. فهل وجدوا بين الكتب التي تبيعها نسخاً من القرآن الكريم التي يطبعها الأعداء، ويتعمدون فيها التحريف والتغيير؟

- ما أدري!

أجاب حسان بهذه العبارة تخلصاً من موقف لم يكن يخطر على باله، وغرق في لجة من التأملات فيما توحيه كلمات همام.

- إن هذا السجين ليس فخاً بل هو سجين عادي ساذج حقاً، وإن كل ما يخطر له من أنواع التهم في تجارة الكتب هو تحريف القرآن الكريم لا غير. ثم تساءل حسان:

- لماذا لا يخطر على بال همام إلا مثل هذا الخاطر؟!

إن الإسلام عميق الجذور في نفوس المسلمين، كما أن القرآن الكريم رمز للقداسة والحفظ. قال الله تعالى: "لا يمسه إلا المطهرون" وقال أيضاً: "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون" وإن أعظم جريمة تنسب لمسلم أن يمس هذا الكتاب بإهانة أو تغيير، وهذا التعظيم للقرآن هو لدى المسلم العادي والمسلم العالم. لكن ألا يخطر على بال المسلم العادي مثل همام أن هناك أنواعاً من التحريف والإهانة لهذا الكتاب غير التحريف اللفظي. وهي تحريفات لا تقل أهمية وخطورة عن التحريف اللفظي؟! هناك مثلاً تعطيل العمل بهذا الكتاب كله. وهناك تعطيل العمل بجزء أو بأجزاء مهمة منه، وهناك استبدال كتب بشرية به. فما موقف همام وأمثاله من عامة المسلمين؟

لم تكن هذه المعاني طارئة على تفكير حسان، بل تذكر أنه تناولها في دروسه ومحاوراته مع الآخرين منذ زمن طويل، تذكر دروس النصوص في مادة اللغة العربية للصف الأول الثانوي التي ألقاها في ثانوية (عفرين) شمال مدينة حلب عام 1963، وفي تلك الدروس عدد من نصوص القرآن الكريم، وتذكر أن تناوله لتلك المعاني بهذه الصراحة والوضوح لفت إليه أنظار المتربصين المغرضين، فاستدعي إلى فرع المخابرات، وقال له المحقق آنذاك:

- أنت مدرس لغة عربية، أم مدرس تربية إسلامية؟

- متى انفصلت العروبة عن الإسلام؟

- أنا أسألك وأنت تجيب!

- وأنا أسألك أيضاً؟

- اسمع. أنا لا أسمح لك بأي نشاط سياسي في المدرسة أو في هذه المنطقة منطقة الأكراد، وأنا على استعداد لأن أشحطك أمام طلابك وأمام الناس هل فهمت؟

كانت هذه كلمات رئيس شعبة المخابرات في عفرين آنذاك وهو الملازم ممدوح، وهو نفسه الضابط الذي قال لزوجة حسان بعد ذلك حينما كان معتقلاً في فتنة إبراهيم خلاص عام 1967. قال لها حين طلبت إذناً بمقابلة زوجها حسان:

- اذهبي وبلغي زميلاتك بأن أزواجكم دخلوا السجن ولن يخرجوا منه حتى الموت، فابحثوا عن أزواج آخرين.

ولم تمضِ الأيام حتى وقعت حرب حزيران وكانت هزيمة السلطة المنكرة، فاستدعي المعتقلون بعد منتصف الليل من يوم "11" حزيران، وهم بالعشرات من المدرسين والأطباء والقضاة والعلماء والمحامين، لمقابلة المحافظ قبل الإفراج عنهم والاعتذار الكاذب لهم، في ذلك اللقاء بين الظالم والمظلوم؟ كان الملازم أول ممدوح وراء المحافظ فحياه السجين حسان بهزة رأسه، فأجابه ممدوح بمثل ما حياه به، وكانت تحية ذات معنى غير عادي.

خطر على بال حسان أن يضحك عالياً، فأمسك نفسه لئلا يستغرب همام، فيسأله  عن السبب. ومع ذلك لاحظ همام ابتسامة عريضة على وجه حسان. فابتسم لابتسامه.

لاحظ حسان أن هناك شبهاً كبيراً في شكل شريكه همام والمحقق الملازم أول ممدوح من حيث السمن، وضخامة الكرش، وقصر الأطراف والرقبة، لكن همام ذو بشرة سوداء وذاك أبيض البشرة، (شتان بين قلب هذا وقلب ذاك؟!)

في ذلك التحقيق قال الملازم ممدوح:

لا تظن أنك وحدك مسلم، فأنا والدي شيخ. وأصلي. –

- اتفقنا إذن!

ولأمر ما أحب حسان أن يحرج المحقق، ويوحي إليه بأنه كاذب في دعواه، فقال له:

- هل أنت من آل خليل؟

-  لا.

- ملامحك تشبه ملامحهم إلى حد كبير. وعلى الأقل... اللهجة متشابهة.

 النهار الأول

الخميس 5 حزيران 1980

- جاء دوري لأحكي لك عملية اعتقالي أنا.

كان الشاب مجاهد الربيعي مشغولاً بعملية اعتقاله هو، لكنه لم يجد بداً من مجاملة شريك غرفته ذات الرقم (6) الذي عرف نفسه بأنه (شيوعي) قد مضى على اعتقاله شهر كامل. وهو يتوقع أن يحكم عليه بالحبس لمدة خمس عشرة سنة، لأنه لم يعترف على أسماء رفاقه. تأمل مجاهد محدثه:

شاب أسمر البشرة، نحيل الجسم، قصير القامة، لم يجاوز الخامسة والعشرين، أضلاعه بارزة من تحت ثيابه، حديثه متدفق. لعله من أثر انقطاعه عن الكلام طوال هذه الفترة لم يعد يكف عن الثرثرة.

- داهموا البيت الذي نسكنه خفية في وقت العصر. ناداني العقيد من وراء الباب باسمي الصريح: (سليم. يا سليم. افتح الباب). كان العقيد يبتسم. هرعت إلى الصور المعلقة على النافذة الخارجية. مزقتها تنبيهاً للرفيق أحمد وزوجته خديجة الغائبين لكيلا يقعا في الفخ. حين باشرنا بإحراق الوثائق والمنشورات كانت عناصر المخابرات قد أحاطت بنا، وشرعت في وضع أيدينا أنا ورفيقي عمر بالقيود بعد أن كسروا الباب، وأوسعونا ضرباً.

- هل أنت تحريري؟ لا يدخل السجن إلا شيوعي أو تحريري.

- أنا مسلم.

- انتقمنا من اعتقالنا علناً وقت العصر بأن هتفت ضد الحكومة، وهتف معي رفيقي، وما انقطعنا عن الهتاف حتى أدخلونا الزنزانة. أنت سوري؟

- نعم. من مدينة حلب.

- أرجوك صف لي حلب. أنا لا أعرفها، ولا أعرف سورية.

- لكنك تعرف كوبا!

- طبعاً، لأنني زرتها بمهمة حزبية.

- واحتفظت بـ (السيكار) الكوبي لتزهو به أمام صاحب البيت والتجار والغرباء!

- لا تسخر مني. أنا الذي اعترفت لك بهذه الأمور.

- كيف تتذوق (السيكار) وجسمك شديد الهزال؟

- الفقير لا يدخن؟! هل الدخان حلال على الأغنياء والرأسماليين فقط؟

- أقصد الدخان ضار بالصحة.

- هل تريد أن تقنعني بتحريمكم للتدخين؟ لم تحدثني عن حلب. حدثني عن قلعتها عن الحدائق. نفسي مشتاقة للهواء الطلق. لرؤية الأشجار والأزهار.

ابتسم مجاهد، ووجدها فرصة مناسبة:

- الله يرحم مدينة حلب. الله يرحم حدائقها وأشجارها وأزهارها.

فوجئ سليم، فتوتر جسمه، وانتصب نصفه الأعلى وهو جالس:

- ماذا تقول؟ (حدق في عيني مجاهد السوداوين يستطنقهما).

- أنت يا رجل لم تسمع بأحداث حلب وحمص وحماة وبقية المدن السورية؟

استعاد سليم انتباهه، وشرع يدافع عن معلوماته:

- بل سمعت بحادث (مدرسة المدفعية) وإعلان الحكومة السورية التصدي للجماعة التي تعارض حكومة وطنية تناصب أمريكا وإسرائيل العداء.

- أنت مناضل شيوعي وتفوت عليك مثل هذه الدعاوى؟

- على كل حال ليس الآن وقت الصدام مع الحكومة.

- حتى تمدد للقوات الدولية على الجبهة، أو حتى تعطي الصهاينة جولاناً آخر أم حتى ينضب النفط السوري الذي تعاقدت مع أمريكا للتنقيب عنه وتسويقه؟!

- نحن هنا في سجن يوحدنا الألم، فلماذا لا نتصافى، حدثني عن طفولتك عن ذكرياتك. (خاطب نفسه: ليتني بطوله ورشاقته. آه ما أجمل كتفيه العريضتين!)

لم ينتبه نزيلا الغرفة إلى أن حوارهما قد اشتد خلافاً لتحذيرات الحارس الذي منعهما ممن الكلام أكثر من مرة. فتح الحارس كوة الباب الحديدية. أطل برأسه الذي ينتفض من الغضب. قال:

- اطلبوا من مدير السجن أن يحضر لكم راديو وتلفزيون، يفتح لكم هنا مقهى، فيه قهوة وشاي، أنا لا أسمح أن تتكلموا بلا إذن. مفهوم!

حين انصرف الحارس، نظر كل من السجينين إلى صاحبه واندفعا في ضحك مكتوم، وسمعاه يردد وراء الباب:

- أنا أسمع دبيب النملة من تحت سابع أرض!

رق مجاهد لشريكه سليم، وأحس بتعاطف معه، حدث نفسه قائلاً:

- ألم يطلب لي الفراش والأغطية وأوعية الشاي من الحارس؟ ألم يستقبلني بحفاوة، كأنني ملاك نزلت عليه من السماء. ألم يشرح لي قواعد السجن ويحذرني من أفخاخ التحقيق:

( هل معك رفاق، قد يحاولون الإيقاع بينكم. احذر هذه فقط، وكذب كل ما ينقل عن صديقك، وإن كان صادقاً. وإذا واجهوكم... عليك بصفعه عقاباً له على كذبه.) أرجح أنه سجين حقيقي وليس جاسوساً.

كان النهار قد انتصف، واستنارت الغرفة (رقم 6) بعد أن كان مصباحها الشحيح يضفي عليها شحوباً. السجينان يجلسان متقابلين، كل منهما على فراشه الاسفنجي الضيق، مسنداًَ ظهره إلى الجدار. لم يبق من أرض الغرفة مكشوفاً سوى ممر ضيق بين الفراشين ومساحة تقدر بمتر مربع بجوار الباب. بدأت الاستعدادات لإحضار الغداء. الحراس ذاهبون عائدون. الأبواب الحديدية تفتح وتغلق.

قال مجاهد:

- لم أجع بعد. لا أجد شهية للطعام.

- لا بد أن تأكل لتتقوى على التحقيق. التحقيق لا يجري إلا في الليل. أنت لم تأكل من طعام الإفطار شيئاً يذكر. لن تذوق طعاماً حتى العشاء الساعة السابعة مساءً.

- والفطور في الساعة السابعة صباحاً!!

- نعم يجب أن تتعود. ألا تراني أستمتع بالطعام، وآكل حصتك بالإضافة إلى حصتي؟

- إلى هنا وبس!! (يبتسم).

ضحك الاثنان. عادت النقرات التحذيرية على الباب من جديد.

اضطجع مجاهد على شقه الأيمن، معتمداً على مرفق يده وذراعه، مقترباً من جهة شريكه سليم ليسمعه ما يريد بلا ضجة. أدرك سليم مراده، فاستجاب له بأن اقترب منه مضطجعاً قبالته.

- سوف أحدثك عن قلعة حلب.

- أشكرك.

- في وسط المدينة القديمة ترتفع هضبة صناعية كبيرة، شيدت عليها القلعة التاريخية، ذات الأسوار العالية، يحيط بها خندق عميق. ليس للقلعة إلا مدخل واحد. إنه جسر حجري مرتفع على قناطر طولانية رشيقة. في مدخل هذا الجسر باب أو بابان متعاقبان حديديان ضخمان، وفي نهاية الأبواب الداخلية المتتالية للقلعة. كل باب يؤدي إلى الآخر بانعطاف على اليمين أو اليسار، بشكل يمنع تدفق الغزاة إذا استطاعوا الاقتحام أو فك الاعتصام للمتحصنين بالقلعة. على ظهر الباب الخارجي أو مدخل الجسر أبراج دفاعية، ومثل ذلك على زوايا الأسوار العالية للقلعة. أذكر أنني سهرت مع والدي وأصدقائه على ظهر البرج الخارجي في إحدى ليالي الصيف. ما أحلى ليالي الصيف في حلب! أحسست في تلك السهرة أنني أشد قرباً من النجوم المتلألئة، بل تصورتني لو مددت يدي للامستها. هدوء عام. نسيم لطيف. عذوبة في برودة معتدلة، كأنها عصارة التين والعنب، وعبير الفستق الحلبي في الليالي المقمرة.

- هل صحيح أن الفستق الحلبي لا يتفتح إلا في ضوء القمر، وأن الناس يسمعون ذلك التفتح طقطقة واضحة في آذانهم؟!

- هكذا يقال.

- هل عندكم أراضٍ زراعية؟

- لا. نحن (بروليتاريا). والدي لا يملك إلا راتبه الشهري ونصف البيت الذي نسكنه، وتملك أمي نصفه الثاني. بالمناسبة للدروس الخصوصية التي يعطيها والدي فضل في شراء نصف البيت.

- أنتم (برجوازية صغيرة) إذاً.

- سمنا ما شئت. نحن الآن سجناء مشردون، لا نملك من شيئاً هذه الدنيا إلا ثيابنا التي على أجسامنا.

- أنتم أصحاب قضية على كل حال.

- شكراً.

تساءل مجاهد:

- هل يتملقني هذا العفريت. أم أنه يعترف بأمر واقع؟ لا يهم!

- هل بقي أحد من أسرتكم في البيت؟

- لم يبق أحد. صودر البيت، وصودر كل ما فيه، لكن أهم ما فيه غرفة المكتبة. إنها غرفة كبيرة مملوءة بأنواع الكتب على رفوف، تشغل معظم الجدران من الأرض إلى السقف.

- واأسفاه!

- تأسف على ماذا؟ على المكتبة، أم على أننا ما زلنا رجعيين لم ننتفع بالثقافة؟!

- أعترف أنك تستفزني بسخريتك، لكنني أحببتك. لن أرد على سخريتك.

- وأنا لا أسخر بعد الآن.

- لا تستطيع لأن سخريتك جزء من شخصيتك.

- أنا بدأت أحبك أيضاً.

ضحك السجينان.

فتح باب الزنزانة- انقطع السجينان عن الضحك مباشرة، لكن السبب كان إحضار الطعام. دخل حارسان شابان يحملان أوعية الطعام، على حين وقف الحارس الضخم الأسود ممسكاً بطرف الباب الحديدي، وهو يحدق بالسجينين: نظراته لا توحي بالارتياح. إنه ما زال غاضباً منهما.

هب سليم لاستقبال طعام الغداء. بسط على الأرض المكشوفة قطعة من (النايلون) وردية اللون. أخذ يرتب حصص الطعام بعناية: صحن رز، صحن فاصوليا (حب) فيه قطعة لحم كبيرة. قطعة خبز (صمون) في صف واحد، يقابله صف آخر من صحون الرز والفاصوليا والخبز والماء والبطيخ.

حين انتهى استلام الطعام لم ينصرف الحارس الضخم بسرعة كعادته ويغلق الباب، بل تابع تحديقه في عيون السجينين لفترة وجيزة، ثم انصرف.

قال سليم مبتسماً:

- أنا أسمع دبيب النمل...

- من تحت سابع أرض.

ثم وضع كل منهم أصبعة السبابة على فمه للتحذير من الضحك.وشرعا بتناول الغداء.

- هل دخلت إلى القلعة.

- أكثر من مرة. المرة الأولى في آخر المرحلة الابتدائية بصحبة مدرس الجغرافية. داخل القلعة عدة تلال ترابية وجدران، بعضها متهدم، وبعضها ما زال سليماً. هناك غرف وقاعات ما تزال متماسكة. منها القاعة التي اعتنت بها وزارة السياحة والآثار وجددت زخارفها وطلاءها الداخلي وسميت (قاعة سيف الدولة).

- ألا تأكل؟

- وهناك مسجد في الناحية الثانية المواجهة لأبواب القلعة، وهي الناحية التي دخل منها الفاتحون المسلمون. الغريب أن هناك جداراً عالياً شديد الانحدار لا يمكن تسلقه، مما يوحي باحتمال انتهاز فرصة للاقتحام، مثل انشغال الرومان باحتفالات أحد الأعياد، وبتأثير الخمرة على رجال الحرس وبقية المحاصرين.

- تابع. تابع. أنا معك. (لم يكف عن تناول الطعام).

- معي في الطعام أم الكلام.

- في الاثنين.

يضحكان. يضع كل منهما إصبعه على فمه.

- بجوار المسجد أو في حرم المسجد بالذات- لم أعد أذكر بالضبط- يوجد تصميم خشبي يجسم شكل القلعة بدقة. يتأمله الزوار والسائحون باهتمام. تذكرت. نسيت أن أحدثك عن "حبس الدم".

- اللهم عافنا!

- أنت تؤمن بالله؟ (يبتسم)

- أفزعتني بالحبس والدم. (يهز يده اليمنى وفيها قطعة خبز).

- حبس الدم قاعة مظلمة تؤدي عبر حفرة في وسطها إلى قاعة أخرى تحتها عميقة، أشد ظلمة ووحشة، يلقى فيها المحكومون بالإعدام حتى يموتوا جوعاً.

- يا لطيف! أرجوك غيِّر الحديث. حدثني عن المدرس الذي صحبكم لزيارة القلعة. صفه لي.

- كان الوقت ربيعاً في أواخر العام الدراسي، مع احتفالات المدارس بعيد الجلاء في 17 نيسان قمنا بزيارة القلعة. اسم المدرس عدنان الأبيض. كان أستاذي في المرحلة الابتدائية وصديقي في المرحلتين الإعدادية والثانوية.

- إذن تعرف عنه أشياء كثيرة؟

- نعم. كانت تلال القلعة الترابية مكسوة بأثواب خضر، منقطة بنقاط وبقع صفراء وحمراء من أزهار الربيع. شقائق النعمان تتمايل بخدودها الحمر الفاقعة، بسيقانها الرشيقة، على حين كانت أزهار الأقحوان والبابونج تفترش مساحات واسعة. الأستاذ عدنان علمنا أسماء الأزهار، وسمح لنا بأن نقطف بعضها لنحملها هدايا لأهلنا. ليتك ترانا أطفالاً ملتفين حول المعلم في أعلى ربوة من تلك الربى الضاحكة. يمزح معنا. يراقبنا جميعاً لئلا يضيع أحدنا، أو يؤذى من الحجارة الضخمة المبعثرة.

- هل له أولاد؟

- لم يكن متزوجاً في ذلك الوقت، وإن كنا نناديه (أبو خالد). كان طالباً في الجامعة يدرس ليلاً ويعلمنا نهاراً. شاب معتدل القامة، حلو الطلعة، شعره خرنوبي يميل إلى الشقرة، في خده الأيمن (حبة حلب) كالخال تزينه، دائم الابتسام. ما أذكر أنه ضرب طالباً من طلابه. إنه لا يحتاج للضرب. نحن ننفذ أوامره وتعليماته قبل أن ينتهي من إصدارها.

- أنت معجب به.

- قلت لك أصبح صديقي.

- أنا معجب به أيضاً. أحببته. (ينظر نظرات حالمة)

- كيف لو علمت أنه إنسان كادح يعيل والديه وإخوته الصغار؟

- مثلي أنا! (تختلج عيناه ببريق خاص)

- ربما كان مثلك، لكنه بالتأكيد أجمل. (يبتسم)

- ليس بالجمال بمئزر.

- فكيف إذا وجد مع جمال الخلق جمال الخلقة؟!

- هل تزوج؟ هل اشترى بيتاً؟ هل تخرج من الجامعة؟

- نعم تخرج من الجامعة، وتزوج ورزق بأولاد. لم يشتر بيتاً. قضى حياته في بيوت مستأجرة.

- ألم يستعن بشهادته الجامعية؟

- هناك جيل من أصحاب الشهادات الجامعية الذين لا تسمح لهم الحكومة بتسوية أوضاعهم أو تعيينهم.

- فهمت. فهمت. ماذا يعمل الآن؟

- آخر أخباره أنه في سجن كفرسوسة وقد ينقل إلى سجن تدمر العسكري الصحراوي.

- يعني هو معتقل؟

- نعم؟

صمت السجينان. طالت فترة الصمت. أخذا ينتظران دورهما للخروج إلى المغاسل بعد تناولهما الطعام. أيديهما معلقات في الفراغ لئلا تصيبهما بالدسم أو الدهن.

حين عاد السجينان من المغاسل انصرف مجاهد لأداء صلاة الظهر، على حين استلقى سليم على فراشه، ينظر في سقف الغرفة الأصفر الأملس، وهو يستعيد شريط الحديث الذي سمعه من شريكه مجاهد:

- ما أجمل قلعة حلب في الربيع. إنها ترتفع على هضبة وسط المدينة. في وسطها ترتفع تلال مخضوضرة مزهوة، على إحدى تلك التلال يرتفع طلاب المدارس. يرتفع بينهم المعلم. المعلم ملاك جميل يحمل الأزهار وهو يبتسم. نسيم الربيع يداعب خصلات شعره الخرنوبي. عيناه تطوفان بحنان وتحومان حول الأطفال. الأطفال يلبسون ثياباً نظيفة ويقطفون الأزهار. أحد هؤلاء الأطفال صار شاباً في الحادي عشر الثانوي ودخل السجن. إنه عندي الآن. المعلم أيضاً دخل السجن. قد ينقل إلى سجن تدمر الصحراوي العسكري. هل ما زال الأطفال والسياح يزورون قلعة حلب؟ هل سيتاح لي يوماً أن أزورها أنا؟ وهل سيكون بصحبتي مجاهد؟!

فرغ مجاهد من أداء الصلاة. التفت إلى شريكه وهو جالس.

- ما رأيك بأن نجعل حصة للنوم بعد الغداء؟

- أنت تستطيع أن تنام، بل يجب عليك أن تنام، لأن من المتوقع أن تدعى للتحقيق معك هذه الليلة.

- وأنت؟

- أنا مشغول بذكرياتك. بصاحبك.

- أبي خالد؟

- نعم.

- كيف لو علمت أن هناك مئات مثل أبي خالد؟

- إذا لم يكن عندك مانع، فالرجاء أن توضح لي سبب حبك وحب هؤلاء الصغار له.

استلقى مجاهد على فراشه مثل شريكه وتابع حديثه:

في هذا الرجل مزايا كثيرة، لكن أهمها بالنسبة إلي طريقته في التفكير. إحساسه العميق بالقضايا العامة.

- مثلاً؟

- حين كنا تلاميذه في المرحلة الابتدائية قال: هل تعلمون فائدة القلاع في عصرنا على الرغم من أنها بنيت للحاجة إليها في المعارك الماضية؟ بعد تفكير اكتشفنا أن لها فوائد كثيرة، منها تذكيرنا بعظمة الآباء والأجداد، وحرصهم الشديد على مقاومة الغزاة وحماية الأوطان والمقدسات. في أواخر المرحلة الإعدادية شبه لي القلعة بأمتنا التي تحاصرها المدنية الغريبة والنوايا العدوانية. كما شبه مدخل القلعة الوحيد والجسر العالي الطويل بعملية الرقابة والغربلة المطلوبة تجاه المدنية الغريبة خيرها وشرها. ومثل ذلك نوافذ الحراسة ورماة السهام المنتشرة في جدران الأبراج العالية وحول الأبواب الداخلية: فتحاتها الخارجية ضيقة جداً ثم تتسع شيئاًَ فشيئاً نحو الداخل.

- اسمح لي أن أقول لك إن الأفكار لا تصد بالأسوار. (مغير لهجته)

- تقصد أسوار "الستار الحديدي"!؟

- لن تستفزني بسخريتك. (عاد إلى لهجته الودية)

- عفواً لم تفهم مراد الأستاذ (الأبيض).

- كيف؟!

- أولاً: الرقابة والحراسة لا تعنيان الطرد أو المصادرة. ثانياً: هل حال أمتنا تجاه الترجمة والثقافات الأجنبية في عصرنا هذا، كما هي الحال في أوج العصر العباسي؟ ألا توافق على أن الأمة السيدة تختار الأفكار من مواقع الصحة والقوة والقدرة على التمييز، وليست حالنا اليوم كذلك؟

- هل هذه أفكار أستاذك؟

- وهل في ذلك عيب؟

لوح سليم بيديه في الهواء:

- لا. لا. طبعاً. لكنني أستفسر.

- أحكي لك حكاية؟

- تفضل.

- في صيف عام 1977 قررت الحكومة إحياء حفلات فنية في قلعة حلب. حفلة الافتتاح كانت للمطربة فيروز اللبنانية. قبل بدء الحفلة بدقائق تم تعطيل الشبكة الكهربائية التي تغذي الإنارة وأجهزة الصوت. تعطلت الحفلة. تكرر التعطيل في عدة حفلات، فصرف النظر عن ذلك البرنامج الفني نهائياً.

- وخسرت البلاد موسماً سياحياً يدر موارد مالياً خصباً.

- هذا هو التفسير المادي للتاريخ بصورته الممسوخة.

- عدت إلى الاستفزاز؟

- لأنني حرمتك من حديث شهي عن الهنود والسيقان التي كانت سوف تظهر في تلك الحفلات الخلاعية الماجنة.

- ومن أشياء أخرى.

ضحك الاثنان. سمعا نقرات تحذيرية على الباب.

- يا سيد سليم، هل يليق ببلدنا الذي خسر جبهة الجولان وخسر في عدة حروب فلسطينية من جهة، ويعاني من انهيار اقتصادي لعدم ترشيد الإنفاق وغلبة الهدر على التوفير من جهة ثانية، ثم تراخي العزائم والنفوس عن روح الجد والقتال اللازمين لتحرير فلسطين أو التصدي للنوايا العدوانية، وما أكثرها. هل يليق بهذا البلد أن يرقص ويغني ويلهو ويبذر نقوده؟!

- بالتأكيد هذه من تعاليم صديقك وأستاذك.

جلس مجاهد بعد أن كان مستلقياً:

- نعم إنها من المسائل التي كان يناقشها صديقي وأستاذي، وإن لم تكن من اختراعه وحده. أذكر أنه أسمعني قصيدة لشاعر سوري معاصر يصور هذه القضية بشكل فني. فأعجبت بها حتى حفظتها.

- ما أروعك؟ هل تحفظ الشعر أيضاً؟! من أين جئتني؟

-  نهض سليم. جلس قباله مجاهد. اقترب منه مجاهد.

القصيدة تحكي هموم شاعر قلق على مصير أمته، يريد أن ينقذها أو أن يساعد في إنقاذها، لكن عقبات تقف في طريقه، منها: مشاغل الطعام والشراب التي تأكل أيام عمره، ومنها انخداع أبناء جلدته بالسموم الوافدة المبهرجة، فلا هو قادر على إيقاظهم، ولا هم راغبون بسماع صوته. يقول الشاعر:

"يا همومَ الحياة.. فكّي iiأساري
"اتـركيـني لـواغـلٍ iiغداِر
"اتـركيـني  لقـاعدٍ مهـذارِ


"واتـركيني  لحومتي iiونِفاري
"أحرقَ الدارَ، واصطلى iiبالنارِ
"أطـربتْه  معـازفُ  التـيارِ

وقف مجاهد على قدميه وسار فوق فراشه نحو الجدار الخلفي للزنزانة وهو يخاطب شيئاً ما في الفراغ الممتد بعيداً بعيداً عبر الجدران والأبنية. وقف سليم ولحق بشريكه بهدوء يتابع كلامه باهتمام وتأثر.

"اتركيني لسالكينَ استعاروا أعيـنَ البومِ، أو قـلوب الفار

"اتركيني،  فـما لِخلع iiالعذارِ
"وأنا لو تسبرينَ غورَ قراري
"لفـككت  الإسار بعدَ iiالإسار


"أتـصـبّى ولا لِكرعِ iiالعُقار
"أو تـشيمين بارقاً من iiثاري
"وطـلبتَ  النجاةَ قبلَ iiالبوارِ

جلس مجاهد في زاوية الزنزانة وهو يتابع الإنشاد، فجلس سليم في الزاوية المقابلة، يميل برأسه كما تميل يدا شريكه في الإنشاد.

"رب غيظٍ وأدتُـه يتلظّى مـن فُضولٍ تعـلقتْ iiبإزاري
"أنا كالنسرِ أرقبُ الجُرذَ تلهو بِفراخي تعضُّ من أَظفاري
"تبتني حجرَها بِمفرِقِ رأسي ، وتذودُ الهواءُ عن مِنقاري

كانت عينا مجاهد تنظران من الأعلى إلى الأرض نظرات استهجان، ويداه تلوحان في الهواء تلويحات تقزز وقرف.

"أطمعْتها سكينتي ووَقاري    "فاستحمَّتْ بِدمعيَ المدرارِ

لم يكد يصدق سليم ما رأت عيناه: عينا مجاهد تحتقن. الدمع يترقرق فيها.

"أتلفتْ مـا ابتنيتُه مـن فَخـارِ "ورمتني بأخبثِ iiالأوزارِ
"زيَّنتْ لي الحياةَ خفضَ جناحٍ للثعابين، للذئابِ iiالضوراي
"تستبيحُ العرينَ بيضاًَ وحمراً واللئيمُ، اللئيمُ.. حامي الذِمار

تهدج صوت مجاهد. بدأت درجة صوته بالارتفاع.

"وأخٍ سادرٍ يعدُّ الدراري "فـيِ عيون المَها وحَبّ iiالنُضار
"خلبتْه بـهارجُ الأنوارِ "عـن سرابِ المنى وراءَ iiالخمارِ
"أشرع السور للضيوف ألوفاً. كرماً سابغاً، وحسنَ iiجِوارِ!
"ورفوفَ  العلوِم صارتْ دفوفاً، أين منها عِرائسُ الأفكارِ!
"رقصـتْ أختَه ، وطـافَ بنـوه بشرابٍ مصفَّقٍ iiبالعارِ
"لـو بـكى (خـالدٌ) و(صلاحٌ) أخرسوه بضجةِ iiالمِزمار
"فغـدا السوُر يلفظُ الجرذَ خـزياً بعدَ حفزِ الأباةِ والأبرار

حينما وصل مجاهد إلى نهاية هذه الأبيات سكتَ قليلاً وزفر عدة زفرات. ثم قال موحياً بالختام من خلال انخفاض درجة صوته ولهجته:

"يـا  هـمومَ الحياةِ شدّي إساري
"لستُ أرجو، ولا عليكَ انتصاري
"إن قـلـبـاً سـمـا إلى الجبارِ
"لـمـطـيـحُ  بـغارةِ iiالأقدارِ"

سكت مجاهد. سكنت حركاته. لما طال سكوته لم يشأ شريكه أن يكلمه. خيل إليه أنه في حلم. ما لبث أخيراً أن عاد مجاهد إلى وضعه العادي ثم قال:

- لا مؤاخذة كنت مستغرقاً في ذكريات حميمة. لعلني أسرفت في الكلام والإنشاد. كنت في الحقيقة أجد عزاء في هذه الغيبوبة التي تنسيني ما أنا فيه.

- أبداً. أبداًَ. خذ حريتك.

- هل بقيت لنا حرية؟

يضحكان.

- أعني فيما يتعلق بي.

- شكراً.

- صدقني كنت معك على الخط. وبودي لو أعرف معاني بعض الكلمات الغريبة.

- مصفق بالعار. المها. فضول؟

- مثلاً. مثلاً...

- ألست تحمل شهادة جامعية؟

- نعم. لكن اختصاص تجارة واقتصاد. وهذا لم يمنعني من استيعاب الجو العام، والتأثر بتجربة الشاعر، وبطريقتك في الإنشاد. وأخشى أن تقول لي إن صاحب الأبيات صار في سجن تدمر!

يضحكان.

- لا. لكنه معنا في هذا السجن على بعد خطوات في زنزانة أخرى.

أطرق سليم مذهولاً يفكر:

- هل هذه مصادفات، أم أنا في كابوس؟!

- ما بالك؟!

- في الحقيقة أراني أمام عجائب أحاول تفسيرها لنفسي، مثل الأعجوبة التي حصلت لي وتفسيرها سهل جداً. في إحدى المرات أحسست بحر شديد.

قررت أن أوجه فتحة النافذة الدائرية في الجدار الخلفي لكي أتغلب على ارتفاعها الذي يزيد على مترين.

- وأنت غير طويل.

- لا تفخر بطولك. هي ممتدة إلى الخارج بعمق نصف متر بسبب تحصين الجدار.. أخذت قطعة (النايلون) التي أستخدمها للطعام، لففتها على شكل إصبع طويل أو عصا. نخست النافذة برأسها، فإذا الزجاج ينفصل عن إطاره الحديدي ويهوي مرتطماً بأرض الحديقة فوق ممر حجري خاص بالحرس، محدثاً ضجة وبلبلة. تدافع العساكر. هاجوا وماجوا. ضربوني عدة كفوف قبل أن يسألوني عن السبب. لما سألوني عن السبب لم أعترف. قلت: لا أدري. لهذا هم ما زالوا في حيرة من هذه القصة.

- أفراد عاديون، عساكر لا يؤمنون بالمصادفة.. بزجاج يسقط ينكسر بلا سبب!

- وأنا المثقف أعتقد بأن الطبيعة وجدت بالمصادفة (بلهجة معاندة)

- لا أرغمك على قناعة ما، لكنك تتحمل نتيجة اختيارك.

وجد السجينان نفسيهما يميلان إلى الصمت والنوم. انقطعا عن الحوار. اتخذ كل منهما وضع النوم بلا غطاء. الوقت صيف. انتقلت بقعة الشمس المستديرة مع انتقال الشعاع عبر النافذة من أعلى الباب الحديدي إلى أعلى الطرف الأقصى من الجدار الجانبي إيذاناًَ باقتراب وقت الغروب. سمعت نقرات على باب إحدى الزنزانات. سمع السجناء صوت الحارس يخاطب صاحب النقرات. أغلقت الكوى الحديدية في الأبواب كي يمر صاحب النقرات ذاهباً إلى دورة المياه. استيقظ السجينان في الغرفة (6). أشار سليم بإصبعه لمجاهد (أن اتبعني). قام سليم على أطراف قدميه. اقترب من كوة الزنزانة. أراه في أسفل الكوة ثقباً صغيراً جداًَ لا تكاد تمر منه شعرة، ناشئة عن التحام جوانب الكوة بالإطار. اقترب مجاهد من الثقب ونظر. شعاع بصره اتسع بعد خروجه من عينه والثقب. استطاع أن يرى وجه الحارس الضخم بوضوح. رأى المعتقل الذاهب إلى دورة المياه. همس مجاهد قائلاً:

- يا سليم رأيت المعتقل.

- ما هو شكله؟ (أجابه هامساً)

- طويل. شعره مجعد. في وجهه شارب كث على شكل (8). لا بد أنه طالب جامعي.

- هل وجنتاه بارزتان مثل حبة الكرز تحت العين؟

- نعم.

- آه. إنه الرفيق عمر. اسمح لي أنظر أنا.

حينما عاد السجين عبر الممر رآه سليم.

- فعلاً. إنه عمر!

استلقى سليم على فراشه قبل أن يعاد فتح النوافذ الصغيرة.

- إنه منهار. يبدو على عينيه الحزن. هل اعترف؟

يتبع إن شاء الله

         

* أديب سوري يعيش في المنفى