مذكرات كلب (2)

عكاب يحيى

عكاب يحيى

شباب كلب

ليلة خريفية طويلة

محفورة تلك الليلة في ذاكرة وثنايا( شفق).. وكأنها كانت نذير شؤم..

رياح عاصفة تجتاح الحديقة فتعارك الأشجار، تطيح بالضعيف منها.. بينما تتطاير الأوراق أو تسقط جثة هامدة.. تتراقص موتاً (الطير يرقص مذبوحاً من الألم).. 

ويمتلئ المكان بنفايات وأشياء غريبة. أوراق وأتربة وأكياس فارغة.. بينما تطقطق العلب الفارغة محدثة أصواتاً مرعبة وكأنها انفجارات.. وتتعالى في السماء زوبعة كالبركان تلتف وتجري بسرعة مخيفة.. تنثر أحمالها بغضب ونرفزة.. لتعود من جديد لاجتياح المكان.. نوع من حرب تماوجية.. بعض غضب السماء على الأرض..

أي ليل طويل هذا.. وأمّنا ترتعد خوفاً.. ونحن نتجمع حولها، نتزاحم لاحتلال موقع دافئ، آمن تحت صدرها وبطنها وخلفها.. فما تكفي المساحة خمستنا.. فنتدافش ونتعارك.. والخوف كبير أن تحملنا العاصفة معها.. لنكون جزءاً من تشكيلها العجيب..

وتهرع أمي تمسك بنا، والقلق واضح عليها، فتدفعنا إلى زاوية (بيتنا)، عامدة إلى وضع نفسها مصدّاً يجابه العاصفة.. مضحية بحياتها إن استوجب الأمر..

يبدو أن غريزة أمي، أو معلوماتها- لا أدري- أنبأتها بقرب موعد الرحيل.. فجاءت العاصفة إنذاراَ، أو دليل شؤم.

- وجافانا النوم ونحن نصارعه.. حتى اقتراب الفجر.. والفجر جميل.. حين خمدت العاصفة فوراً، وكأنها لم تحدث.. ولولا أشلاؤها الدالة عليها في أرجاء (حديقتنا) لما عرف أحد أن عاصفة هوجاء مرّت من هنا..

ورقدنا، والتعب يهدّنا.. فما أحسسنا بشيء.. سوى جلبة غير عادية، وتجهيزات منذرة، فعلمت أنّ حدس أمي قد صدق.. وأن لحظة الوداع قد أزفت..

انتفضت مذعوراً، ودموع أمي تغلف صمتها المؤلم.. فاقتربت منها أضمها بقوة، بينما تغالبني الدموع (قيل لنا من العيب أن تبكي ذكور الكلاب) ولكن ما باليد حيلة، وما استطعت الصمود.

- إيه يا أمي.. يا من أنجبتنا بعد حمل دام شهوراً.. بكل ما في الحمل من مشقة.. يا من تحملت- وحيدة- دون أب- إطعامنا والعناية بنا، وتربيتنا، وتدريبنا.. كيف سنغادرك فراقاً طويلا؟ كيف أنساك وكنت كل دنيانا وعالمنا، ومصدر اطمئناننا وفخرنا؟..

وهل من العدل والإنسانية أن نفصل عنك بالقوة، لتشتت أسرتنا فلا تلتقي إلا صدفة؟..

لكنها- مرة أخرى- حياتنا نحن الكلاب..

        

في سوق الكلاب

وجاءت لحظة الفراق..

الأم غارقة في نحيب لا تملك سواه..

ونحن، وقد عرف الجميع أننا راحلون إلى مجهول.. انطلقنا في عواء متواصل.. مزيج من الألم والتضرع واللوعة..

حاولنا، مرات. مسك الأرض بأظافرنا، لكن هيهات..

فأيدي (صاحبنا) ومن معه من الغرباء أقوى..

كانت الأقفاص جاهزة فوضعنا فيها.. وانطلقت بنا السيارة..

هي المرة الثانية التي نركب هذه الآلة الحديدية.. فقد سبق وحملتنا إلى الطبيب لأخذ الحقنة..

وشتّان بين الرحلتين.. فرغم آلام الحقنة، وخوفنا من هيئة الطبيب.. إلا أننا كنا فرحين يومها، وحضن أمنا يحتوينا.. اليوم نحن وحيدون.. لا ندري إلى أين، وماذا سيكون مصيرنا..

تكوّرنا داخل أقفاصنا.. هو الخوف.. والانتظار.. والترقب.. الفراق.. الحزن.. الألم.. الوحدة.. المجهول.. الحقد والغضب.. أشياء كثيرة تختلط، تتمازج كالعصف.. والدمع يتجمد في المآقي..

        

وأخيراً حطّت بنا السيارة في مكان فسيح..

شيء لم نره في حياتنا.. مئات، بل آلاف الكلاب من كل نوع وشكل وطراز..

بعضها غاضب يعوي ويهاجم من يقوده، وكثير يطرق برأسه وكأن هموم الدنيا حطّت عليه.. وقلة تبدو فرحة تتراقص وتتراكض، تقفز وتلعب ومعها أطفال صغار، وشبان يراكضونها، يقفزون معها في تناغم.. بعيداً عن حالتنا، وكأنهم للفرجة والتنزّه..

ورغم أننا لا نعرف الحسد.. إلا أنني تمنيت لو أكون أحد هؤلاء.. ربما كان لي بعض حظ.. وربما.. لا أدري.. الحوانيت كثيرة.. تتناثر، أو تتعانق حول حديقة واسعة، يقطعها درب طويل.. حوانيت زاهية بأصناف شتى من عدة الكلاب: أطواق ومقاود، وخلاخيل، وأجراس صغيرة.. وكرابيج وأسواط، وعصيّ مغلفة بجلد جميل.. ألبسة متنوعة، وأغطية من أنواع شتى، ومعاطف.. ونظارات..(نعم نظارات).. فقد رأيت بعض زملائي من المرفهين يتزينون بها..

أذهلتني تلك الأطواق الجميلة.. خاصة المرصعة بحلي مدببة كالأسنة المجوهرة.. وتمنيت لو تكون لي واحدة أتبختر بها، وتحمي رقبتي من شر الكلاب وعضّاتهم..

أما أنواع الأكل.. فحدّث عنها دون ملل، معلبات متنوعة من كل حجم ولون وصنف، تغلفها صور كلاب تبدو عليها الصحة والسعادة..

مآكل رأيت بعضها، وكثير لم أشاهدها..فسال لعابي وشعرت بالجوع..ورغم أني لست دنيئاً، إلا أنه لم يكن بالإمكان المرور دون أن تجذبك وتدعوك للتوقف، وقد تنسيك الحالة الصعبة التي تعيش.

صعب على عيني، وهي تتجول في كل اتجاه، أن تحيط بهذا العالم المزدحم، المتخم بكل شيء.. وتساءلت: إذا كانت الكلاب تتمتع بهذا الفيض الاستهلاكي المغري، فما حال الإنسان؟ وأين أولئك الفقراء الذين يموتون جوعاً، وسوء التغذية من هذا الفيض؟ وأي عدل هذا بين بني البشر؟

حاولت جاهداً توسيع مداركي باستيعاب مجمل ما حولي (ولا عيب في ذلك، فأنا أحب الإطلاع والثقافة)..

وجاء وقت الجدّ.

كنا صغاراً خمسة، ولنقل فتياناً صغاراً.. جميلين.. كما أعتقد، خائفين، نرتجف فننطوي على أنفسنا ونحن نظن أن الذيل إذا ما صار تحت الفخذين يحمينا، أو يدلل على وضعيتنا.. ففعلنا جميعاً هكذا، وقد نكسنا الرأس فلاصق الأرض..

مرّ كثير من (المتفرجين).. أعتقد أنهم يستفسرون عن: فصيلتنا، نسبنا، عمرنا، هوية أبينا وأمنا، وأجدادنا، (فمعرفة تاريخ السلالة ونقائها أمر مهم على ما يظهر..)، وأكثر ما كان يثيرني فتح فمنا بقوة لرؤية أنيابنا، (يقولون إن الأنياب تكشف العمر، وتحدد قوة الكلب وصلابته.. لأنها سلاحه الأمضى.. بل سلاح سيدنا الإنسان)..

اليوم.. صار لكل كلب سجل متكامل، تدون فيه كافة التفاصيل، وأهمها: نسبه من حيث الأم والأب، حتى لا تختلط الأنساب والأعراق والدماء، وإن حدثت عمليات تهجين ما بين نوعيتين (مختلفتين)، يجب، حكماً، ذكر هذه الواقعة.. كما لابد من تحديد مالكي الكلب، وهل عاش عند واحد، أم تنقّل إلى أمكنة أخرى، ومن هم.. ومن المفضل لو يتضمن السجل شهاداتهم عن سيرة الكلب و(إنجازاته)، وهل حقق انتصارات ما، فأحرز أوسمة ونياشين عنها، والأمراض التي أصابته، ورأي الأطباء.. الخ..

الحمد لله.. لا توجد بيننا أجهزة مخابرات وشرطة ومخبرون، ومع ذلك فبعض الكلاب ضعيفة النفوس، وتتعمد الإساءة لزملائها بإخبار المالك عن أي حركة، أو خطيئة تحصل كي ينزل (سيدنا) بنا أشد العقاب..

المهم أن المفاوضات حولنا طالت..إلى أن جاء أحدهم.. الذي يبدو أنه أعجب بأختي، فاتفق مع مالكنا على شرائها.. كانت الأجمل، والأظرف فينا: شعر أشقر غامق.. ترصعه رقبة سوداء، وذيل يتماوج بين لون الذهب والغسق، وأذنان واقفتان كالشراع.. سوداوان، في نهايتهما خطوط بيضاء رفيعة.. وعيون تقدح ذكاءً وتحفزاً، تحيطهما هالة أميل إلى لون الكحل.. تمتد إلى الأنف ثم الشفتين..

كنّا نغار من جمال أختنا.. رغم أننا جميعا نعتبر من الكلاب الجميلة..

وجاءت لحظة الفراق.. صرخت أختنا مقاومة انتزاعها منّا، وأخرجت صوتاً مازال يرنّ في أذني..

إنه الوداع.. وتجاوبنا معها: نباحاً من نوع الأنين، وعواء أقرب إلى النحيب.. وابتعدت.. حتى لم نعد نراها.. لقد انفرط عقد أسرتنا.. وعلينا أن نواجه مصيرنا بشجاعة وصبر.. هذا ما كنت أحاول تأكيده لأخوتي ونحن جاثون أرضاً.. لا نستطيع حراكاً..

وجاء دوري.. إن عائلة تبدي إعجابها بي، خاصة تلك المرأة التي تمسك بيدها طفلة حلوة.. فاتفقت مع (سيدنا) على أخذي.. والصغيرة تداعبني بلطف، وتمرر يديها الصغيرتين على شعري الناعم..

- لم أنتحب.. أو أصرخ.. ربما لأن الذكورة تقتضي الصلابة، وربما لتبلد مشاعري، أو قناعتي بالمصير المحتوم، وربما لأني أحببت الطفلة الجميلة وأمها.. وربما.. وربما..

ودعت أخوتي بنظرة حزينة.. ومضيت.. دون أن أعرف ما سيحدث لهم.. إنها كارثة قدرنا..

        

في بيتنا الجديد

كان بناءً ضخماً.. قصراً فسيحاً. فيما يسمونه (فيلا).. وأية (فيلا):

غرف شاسعة ، وصالونات مترامية، وأدراج توصل إلى طبقة أخرى.. بينما يتزاحم الأثاث: أنواعاً شتى رتبت بتداخل وانسجام.. تزيدها اللوحات الفنية والتحف والتذكارات بهاء.. وأشياء كثيرة لا أعرف لها اسماً، متراصة، أو متناثرة هنا وهناك..

قدمت لي (منى)، وهو اسم الصغيرة، حليباً طيباً، وبعض الطعام الجاهز، وهي تداعبني، وتقبّل رأسي، وأمها سعيدة فرحة.. بينما بدا لي الأب صارماً متهجماً.. وإن كان لا يخلو من طيبة وكرم وكياسة..

وانتقلنا، بعد قليل، إلى الحديقة الملحقة بالقصر، التي ستكون ميداني، وفضائي، وبها بيتي الصغير، الجميل.

كان ينتظرني فيها رباط قوي، متين، ينتهي بطوق متقن يمكن التحكم باتساعه: ضيقاً وانفراجاً، حسب محيط الرقبة.. فدخلته طائعاً.. وقد ذهب (أصحابي) إلى شؤونهم.. فأغلقوا باب قصرهم عليهم.. وأنا وحيد في عالمي الجديد.. الفسيح.. المجهول..

وكأي غريب.. كان عليّ أن أكتشف المكان، وأعرف ما حولي بدءاً من أقرب النقاط، وحتى مدى الرؤية الممكن.. بيتي جميل، واسع، بالقياس إلى حجمي الصغير، بني من حجارة قوية، وزيّن بألوان شتى.. تنتهي عند بابه الخشبي الذي تركت فيه نافذة واسعة للرؤية والتنفس (كان بإمكاني الخروج من هذه الفتحة.. وتعذّر عليّ ذلك بعد أن كبرت).

شاهدت وروداً جميلة من أصناف شتى.. تطلق روائح ذكية، تختلط بألوانها البهيجة.. وقد رتبت في مساكب منتظمة، تتخللها، أو تقطعها أشجار مختلفة الحجم والارتفاع.. وفي وسط الحديقة بركة كبيرة مرصعة، حولها نوع من رخام غالي الثمن... بينما انبثقت من وسطها نافورة ماء تختال زهواً بتحكمها بالمياه التي تطلقها على أشكال هندسية متعددة.. وفي ركن آخر طاولات ومجموعة كراسي، وأرجوحة كبيرة تتّسع لعدة أشخاص..

يبدو أن (سيدي) غني، ومرفه، وهذا لصالحي، على أية حال.

كانت الفراشات كثيرة، عديدة.. تتشابك مع ألوان الحديقة لتشكل غابة في التنوع.. وكأنها رسم زيتي متقن الصنع.. بعضها اقترب مني، وكأنه يريد الاستفسار عن هذا القادم الغريب.. ومعظمها كان يطير بعيدا ليقف فوق الورود والأزهار (ماذا تفعل الفراش بالأزهار والورود..؟)..

ومن الأشجار تنطلق أصوات قوية لطيور من أنواع كثيرة.. بما يصعب على مثلي التمييز بينها، ومعرفة أهدافها.. فهذا يغني لحناً طويلاً يطرب سامعه، خاصة في تنوعه التناغمي.. وذاك يردد معزوفة واحدة يكررها دون ملل، وتندمج مجموعة أصوات مع بعضها.. أقدر أن أميز منها أصوات عصافير صغيرة تطلب الأكل، وأخرى تعبر عن الحب بلغتها، خاصة أني أشاهد ذلك الغزل والعناق والرفرفة بين عدد من أزواج الطيور، أو التزاحم.. والطيران الجماعي عند حدوث صوت غريب..

آلاف العيون تتجه نحوي، حذرة، قلقة من وجودي، لكنها سرعان ما ألفت المنظر فلم تعرني اهتماما...

وحده ذلك القط السمين جاءني متبخترا، وكأنه يتحداني ويسخر مني.

قط جميل، والحق يقال.. من صنف ملكي (سيامي)، ويظهر أنه مدلل عند أصحاب البيت حتى يترك حرا.. كان يقترب مني بحذر وشراسة.. لم أفهم قصده، فاتخذت استعداداتي احتياطا لأي طارئ.. ولم تك بي نوايا عدوانية اتجاهه.. فوصية أمي ترن في مسامعي، ولا أكتمكم سراً لو قلت لكم: إني أعجبت بهذا القط، وانفتح قلبي له، وتمنيت، في سري، لو يصبح صديقي.. طالما أننا سنعيش في مكان واحد..

وبين الاندهاش فيما حولي، والتفكير بواقعي الجديد.. مرّ الوقت سريعاً دون أن أحس، إلى أن بدأ الليل يرخي سدوله على المكان، وكأنه ينذر هذه الكائنات بالإخلاد إلى الراحة، والغرق في سبات طويل..

لم يكن لمثلي أن يرقد وهو في يومه الأول، وسط جو غريب.. وجنسنا لا يعرف النوم كباقي الحيوانات..خاصة في الليل الذي يكون مجال عملنا، وصديقنا وغريمنا بآن.. وكثيراً ما نغمض عيناً لنفتح الأخرى.. كنوع من حالات الهدنة التي تقع على خط النوم والاستنفار.. وتعجبت... هل سأترك حتى الصباح دون أكل أو تعليمات..؟..

وانشقّ باب البيت.. كانت منى وأمها، وبرفقتها (عادل) أخوها.. الأكبر قليلاً منها.. اتجهوا نحوي وقد حملوا لذيذ الأكل والشراب.. والاندهاش واضح في عادل الذي اقترب مني بتحبب.. يسابق أخته لاكتشاف هذا الكلب الجديد.. وهو العاشق للكلاب والحيوانات..

أطلق عادل قيدي، وحملني بين يديه صوب بركة الماء.. بينما كانت أنامل منى تداعب رأسي، وتمسك بذيلي وسط فرحة أمهما..

وكي أثبت لهم بعض خصالي، وأقابل معروفهم بمثله.. رحت ألثم أياديهم.. ثم أقفز وأنط، وأجري كالسهم لأعود فأدخل بين أرجلهم.. منّوعا في صوت نباحي.. الخاص بحالات الاستقبال والفرح والسلام..

مضت ساعة ويزيد ونحن على هذه الحالة.. وسمعت الوالدة تسأل:

- أين مجيد؟. لماذا تأخر في المجيء إلينا؟ ألا يريد أن يرى كلبنا الظريف..؟..

- هيا يا منى، أسرعي بإحضاره...

- تعرفين يا أمي أن مجيد لا يحب الكلاب.. ويستحيل أن يترك مقعده أمام التلفاز..

- قولي له: لدينا كلب جميل.. أليف.. يختلف عما عرفناه من كلاب سابقة..

- أوه يا أمي.. أخشى ألا يسمع مني.. وأن ينهرني..

ذهبت الأم، وبعد قليل خرجت بصحبتها ولد نحيل، يضع نظارات بيضاء على عينيه.. يبدو غاضباً.. عصبياً.. وصوته حاد، وهو يحاول الإفلات من يدها والعودة من حيث جاء..

كان يصرخ بقوة:

- اتركيني.. لا أريد رؤيته.. إني أكره الكلاب.. والقطط، وكل الحيوانات..

وترد الأم:

- إنه صغير، جميل، ودود.. وفوق ذلك يبدو ذكياً جداً ولطيفاً، شاهده واحكم عليه..

لم يقترب مني مجيد، كان يحدّق بي ويهرب، فيسرق نظرات نحوي، فيها بعض اهتمام الأطفال بالتعرّف على لعبهم الجديدة، وبعض من فضول، عملت على مقابلته بترحاب.. لكن بما لا يفرط بكرامتي.. نعم، لي كرامة، ويجب الحفاظ عليها منذ البداية..

اكتفى مجيد بهذه النظرات، ورجع سريعاً إلى البيت وهو يتمتم ببعض الكلمات التي لم أفهمها.. وسط حيرة أهله، ودون أن أعرف ما تركه منظري داخله.

حضر الأب ظهراً للغداء في سيارة فارهة، يرافقه سائق بلباس خاص يحمل له حقيبته، فدخل الجميع إلى البيت وكنت معهم.

تحلّق الأولاد حول أبيهم، ومنى تتسلق عليه، وعادل يسأله:

- ماذا أحضرت لي يا بابا؟...

بينما مجيد يجلس في مكان منزو، وكأنه وحده في برية.

بدا الأب لي عطوفاً، وقوراً، يحب عائلته الصغيرة، ويلبّي رغباتها.. وهذا حسن.. وانتبه، فجأة، لوجودي.. أو تذكر أني موجود.. فنادى أولاده قائلاً:

- إيه يا أحبائي.. ماذا نسمي كلبنا الجميل هذا؟...

وانهالت أسماء شتى.. معظمها أسماء بشرية، أو وصفية..

عادل أصرّ على تسميتي باسم كلبهم السابق. (عرفت أن كلباً كان قبلي دون أن أعرف أي مصير حلّ به).

ردّ الأب بصرامة:

- لا أريد تذكّر ذلك الكلب اللعين.. الذي ما عرفنا كيف نتخلص منه...

انتابتني قشعريرة خوف وتحسّب.. وتساؤلات.. عما فعله ذلك الكلب (اللعين) حتى تخلّصوا منه.. ترى أية جريمة اقترف..؟ وماذا فعل؟ (عرفت لاحقاً أنه لم يفعل شيئاً سوى أنه كبر في السن، فأمضى سنواته الأخيرة عليلاً.. وقد ترهل، ولم يعد قادراً على الجري، والقيام بواجباته المعهودة.. فقرر الأب التخلص منه بإعطائه إلى مصلحة خاصة- نوع من دار العجزة، أو القتل- لتتصرف به كما تريد.. وأن عادل ومنى، ومعهما أمهما، أصروا على إبقائه حتى مماته- عرفاناً منهم بما قدّمه لهم من خدمات كثيرة- فما استطاعوا الصمود أمام قرار الأب وإلحاح مجيد).

أخيراً، توصّل الأب إلى قرار:

- إن أنسب اسم له هو (شفق)، لأنه يشبه لون الشفق.. وإن أردتم تدليله نادونه: شوشو..

سألت الصغيرة منى:

- وماذا يعني الشفق يا أبتي؟..

قالت الأم:

- الشفق يا حبيبتي هو اللون الذي تتركه الشمس على السماء لحظة غروبها.. ألا تلاحظين تلك الأطياف التي تتشكّل عند الغروب؟ إنها الشفق.. وكلبنا يشبه لون الشفق.. وهو اسم جميل..

وافق الجميع على الاسم.. ومن حينها صار اسمي (شفق).. وعند الصغار: شوشو.

إذا.. هذه هي العائلة التي سأعيش بينها: خمسة أفراد: الأب والأم والأولاد الثلاثة، إضافة إلى عدد من الخدم المتناثرين (جيئة وذهاباً) في أرجاء البيت.

        

مرحلة التدريب الشاق

حتى حينها، ورغم وجودي في هذا البيت لأكثر من شهرين، وبدء تكوين صداقة مع عادل ومنى، ومد خيوط رفيعة مع مجيد، الذي كان منطوياً معظم الوقت..

إلا أنني لم أعرف ما هي مهماتي، وتصورت أن حياتي ستسير على هذا المنوال.. وكأني لعبة صغيرة تمّ شراؤها لتسلية الصغار، واللعب معي، أو علي.. والقيام بمشاوير في الحديقة، أو في بعض الشوارع، ثم المبيت- وحيدا- في بيتي..

وفي صبيحة أحد الأيام، وبعد ذهاب سيدي إلى عمله، عاد السائق فحملني في سيارة إلى وجهة مجهولة.. حيث سارت بنا إلى خارج المدينة.. ثم دخلت ميداناً كبيراً لتتوقف عند مبنى واسع، وسط غابة جميلة، معدّة الترتيب، فسلمني لرجل مفتول العضلات، ممشوق الجسم، صارم النظرات والقسمات.. عرفت أنه مدربي الذي سيتولى تعليمي.

قصة تعليم الكلاب طويلة.. معقدة.. تعبر عن طبيعة البشر، وتشعّب حياتهم وأمزجتهم..

فيما مضى، كان الكلب يتصرف بحرية (نسبية)، دون تدخل كبير من مالكه، فيقوم بواجباته كما يراها ويقدرها ويفهمها، فيحرس ويحمي ويتدخل ويراقب.. ويقوم بكل الأعمال بوحي من طبيعته، وما أتقنه من ذويه.

ويبدو أنه مع تطور البشر، بما في ذلك أساليب السرقة والاعتداء، وتعدد المقتنيات والأجهزة.. وميلهم إلى التفنن والتنافس والمباهاة..

لم تعد ثقافتنا الكلبية قادرة على مسايرة هذا التطور.. فأرغمونا على تعلم ما يريدون، وأخضعونا لدورات تدريبية قاسية تدوم أشهراً، نخضع فيها لشتى فنون القتال، والحراسة، والحماية.. والكثير مما سأورد بعضه. ورغم أني مع التعليم والتطور.. لأن الحياة لا تقف، ولأن الجهل والأمية والتخلف مصيبة.. بل هو مرض فتاك يصيب البشر والمخلوقات والمجتمعات.. فقد كنت أفضّل لو جاء برغبة منّا (معشر الكلاب)، ووفقاً لما نراه نحن، وليس بالطريقة الجبرية- القهرية التي يمارسونها علينا.

البشر عموما لديهم أفكار خاطئة عن الحيوانات، خاصة نحن معشر الكلاب..

إن تفوقهم، وامتلاكهم عقلاً يفوق عقلنا، وقدرتهم على النطق والتعبير فيما بينهم، وما أتيح لهم من فرص التعلم والتطور، ومن ثروات وضعوا أيديهم عليها، وكائنات استعبدوها، أو استخدموها لصالحهم.. وصالحهم فقط..

كل ذلك أدى بهم إلى التعالي، والاستخفاف بنا، وإلى وجود قناعات لا تتغير (عند أغلبيتهم الساحقة) عن ذكائنا وقدراتنا (فنحن أولاً وأخيراً حيوانات.. والحيوان في مفهومهم هو الذي لا يفكر ولا يعرف كيف يتصرف، ولا يحس، أو يحب، أو يكره..).

فنحن من طبقة متدنية، خلقت لأجلهم فقط.. كي يسيطروا عليها، ويمارسوا ما يشتهون: حباً وبغضاً، خيراً وشراً، ضرباً وتودداً، قتلاً وعلاجاً.. وهكذا..

ولذلك يعتمد التدريب والتعليم على قاعدة: العقاب والثواب.. والعقاب قبل الثواب دوماً.. وما يتجلى ذلك: باستخدام العصا والسياط لتعليمنا ما يريدون، فإن تجاوبنا وفهمنا وتلاءمنا، (أو أردنا).. كان لنا الأكل والدلال وأوصاف الإشادة والتحبب.. وإن رفضنا (يفسرون الرفض بعدم الفهم) كانت العصي والكرابيج والعقوبات بانتظارنا، وقد تصل إلى الضرب المبرح، والحرمان من الأكل لوقت طويل، وغضب ومقاطعة سادتنا..

لست متحيزاً لبني جنسي بتعصب، أو بغير موضوعية.. فأنا أعرف العديد من نقاط ضعفنا، وأقر بتفوق الإنسان علينا، وبعجزنا عن منافسته، أو اللحاق به، أو مقاربته.. لأنه وهب ما ليس لدينا، ولأن مواقعه، وما يملك من وسائل وأموال وقدرات تساعده في ذلك، وتجعله متفوقاً بما لا يقاس، وأعترف بسيادته علينا، وتكريس هذه السيادة منذ قرون، حتى صارت خصيصة فينا..

لكنني أعترض على مستوى العلاقة التي تصل إلى (الاستعباد والاستبداد، وعلى تلك النظرة الخاطئة لنا، ولقدراتنا، وطريقة حياتنا، ومحاكمتنا للأمور، وخلفيات تصرفنا.. وعلى عدم احترام الحد الأدنى من حقوقنا، وخاصة ترك هامش ولو صغير من الحرية.. نقرر فيه بعض شؤوننا، ولو بحدود علاقتنا الكلبية، وفي تكوين حياة أسرية حتى لبعض الوقت، وفي أن نحب ما نريد، وفي الزمن والمكان والمواصفات التي نختارها.. لا أن تفرض علينا مثلاً زوجة بعينها، يختارونها هم (بغض النظر عن مشاعرنا) ولو لوقت قصير.. ثم يأخذونها لتجيء لهم بالأولاد.. أو أن نحرم من أطفالنا فلا نراهم طوال حياتنا.. وأشياء كثيرة.. وأشياء كثيرة: هي أحلامنا.. وأمانينا (أليس من حقنا أن نحلم ونتمنى؟!!)..

كان مدربي اختصاصيا فيما يبدو، يضع برنامجاً تصاعدياً متكاملاً.. والتصاعد يعني تعليمنا ما هو أسهل إلى الأصعب فالمعقد.. ثم التخرج (بشهادة) فيها علامات لكل صنف، وترتيب (تماماً كما كان يحصل في البشر الذين يدرسون دراسات عليا.. ويتخرجون منها مختصين)..

لم تكن بيننا لغة للتفاهم، فكانت الإشارات والحركات، واستخدام الوسائل المعنية هي الطريقة.. كما في الحضانة، أو المعوقين..

كنت أضحك في سرّي لسذاجة مدربي.. الذي يتصور أنني لا أعرف بديهات كلبية.. كالتقاط عظمة من مكان يخفيها فيه، أو التمييز بين الأشخاص وفقاً لقطع منهم (محرمة، أو سروال، أو سترة.. وغير ذلك).. أو لتحديد صديق من عدو (غريزتنا) تقودنا إلى معرفة من يحب أسيادنا ومن يكرهونهم..

فتركته يمضي في جهوده، وأنا أتظاهر أني غر صغير لا يعرف إلا القليل.. ولم أك لأظهر مقدراتي ومواهبي إلا عندما يستفزني، أو يتحداني أحد ما.. وعندما أشعر أنه تعب فأشفق عليه..

هكذا، تعلمت خلال أيام الأوليات، أو المرحلة الأولى من دورتي التدريبية..

فأتقنت البحث عن شيء مفقود.. حتى وإن كان على مسافة بعيدة، أو مختبئاً تحت الأرض.. أو بين مواد مختلفة، وتحسّن أدائي في تمييز الروائح المنبعثة من البشر.. فتطورت قدرة الشمّ لدي، وصرت أكثر (ثقافة)، وعلماً.. وظهر أن مدربي راض عني..

عرفت ذلك عبر حديثه مع سيدي، وإشادته بي.. ومن خلال بعض المكافآت التي قدمها لي.. وشعر أن علاقة طيبة يمكن أن تقوم بيننا.. فأقبلت بحماسة على القسم الثاني من الدورة.

ساعات في التدريب.. فعودة إلى البيت.. أمكث للراحة بعض الوقت، وأنام أحياناً.

تعودت على زقزقة العصافير، وتغريد البلابل والحساسين، وهديل الحمام، ورفرفة الفراشات، وأزيز النحل، وطنين الذباب.. فما أيقظوني.. سوى الخبيث: (مينو): القط العدواني.. أو المشاكس.. الذي كان يدق باب بيتي محدثاً أصواتاً مزعجة.. يزيدها مواؤه الحاد الذي يصدره خصيصا لنرفزتي..

فكرت بتأديبه أكثر من مرة، وتلقينه درساً لا ينساه.. وكنت أتراجع إشفاقاً عليه.. بانتظار فرصة ما لتوبيخه، ووضعه عند حده..

علاقتي توطّدت بالأسرة، خاصة مع منى وعادل وأمهما.. فكانت منى تأتيني يوميا بعد مجيئها من المدرسة، وتحضر لي أنواعاً من الحلوى والكعك والشوكولا (كنت أستلذ بها كثيراً).. ثم تداعبني، وتقبلني.. وأنا ألتهم يديها الصغيرتين، وأعربش على مئزرها، أو أقفز وأجري لأعود إليها بخفة.. أحمل لها عظمة كنت أخبئها (كنوع من عادة متأصلة فينا..)..

ويجيء عادل حاملاً أنواعاً شهية من المأكولات.. يلعبان معي بعض الوقت، ثم يدخلانني المنزل.. فأقترب من مجيد المنعزل.. أحياناً كان يعاملني برفق فيدعني أقترب منه وألامسه، وأحياناً يصرخ بي، أو يضربني..

مع ذلك كان تصميمي كبيراً في أن أبني علاقة معه، وأغيّر نظرته عن الحيوانات عموماً، والكلاب خصوصاً.. فتعمّدت القيام -مراراً- بحركات بهلوانية أستثيره فيها، أو بقفزات وتصرفات مضحكة.. وأتصنّع الحزن والألم -أحيانا- لأجلب انتباهه، وأستدرّ عطفه..

كان الحمّام شيئاً فاخراً.. حيث أترك وحدي بعض الوقت في مغسل خصص لنا.. ثم تجلب الأم الشامبو والأمشاط فيشاركها عادل ومنى دلك شعري، ورشّ الماء عليه.. ثم تجفيفي بمنشفة خاصة بي، وباستخدام المنشف الكهربائي أحياناً.. يا لها من حياة مترفة.. حيث العديد من الأدوات، يمكن اعتبارها ملكاً لي، وهي التي رتبت في درج مستقل، إلى جانب هدايا قدمت لي في المناسبات.. كالنظارات، والأطواق، وبعض الألبسة، والغطاءات، وعديد المناشف، والأمشاط، والمنظفات.. وحتى بعض أنواع العطور التي تليق بكلب عائلة غنية.

كانت أيام العطل أجملها وأكثرها سعادة عندي.. حيث كانت العائلة بأكملها تخرج في نزهة، أو مشوار، إما إلى الغابة، أو البحر.. أو إلى مدينة الملاهي.. وبما فيها زيارة حديقة الحيوان، أو لممارسة رياضة المشي في ملاعب جميلة رتبت بعناية لعلية القوم.

ما زالت تلك الزيارة الأولى لحديقة الحيوان محفورة في ذاكرتي.. لأنها عرّفتني على عالم عجيب.. لحيوانات تشابهنا ببعض الخاصيات.. فكنت مندهشاً لتعددها وكثرتها، وأنا الذي اعتقدت أنه لا توجد في العالم غيرنا والقطط.. وما رأيته من طيور وحشرات.. وإذا بي أمام الزرافة ورقبتها الطويلة التي تعانق الأفق لكني استغربت صغر رأسها الذي لا يتناسب وحجمها.. وكأنه رأس طفل ركّب على جسد عملاق.

أما وحيد القرن فبدا لي ضخماً، عنيداً.. سجين منطقة صغيرة، وكأنه في غير مكانه.. شأنه في ذلك شأن الفيل الذي أذهلني خرطومه، وحجمه، وذلك السهم العاجي الذي كثيراً ما سبب له الموت لغلاء ثمنه..

الحيوانات الأليفة جميلة على العموم.. فتوقفت عند النعامة التي يضرب المثل بجبنها وخوفها حين تدفن رأسها بالرمال وهي تعتقد أنها بمنأى عن أعدائها فيصطادونها.. وكذا الطاووس وريشه الجميل، خاصة الذكر الذي ينفش ريشه مستعرضاً جماله أمام الأنثى، ومغترّاً بذلك التشكيل الخلاّق الذي يشبه لوحة فنية نادرة.. أنواع من الطيور، والببغاوات التي تتزاحم جمالاً ورونقاً.. فتذهل الناظر إليها وهو حائر في أيها الأبهى. لم يكن ممكناً المرور قرب الضبع دون استنفار (غريزي).. فمنظره برقبته الطويلة القاسية، ووجهه الدموي، ورائحته الكريهة.. دفعتني –لا شعورياً- إلى التأهّب في محاولة لمهاجمته.. فشدّني عادل برفق، وكأنه يريد أن يقول لي:

- هذا ضبع سجين.. ليتفرّج الناس عليه.

وإذا كان الضبع مستفزّاً، فمنظر الخنزير البري أكثر قبحاً وقرفاً.. ولا أدري مسؤولية هذا المخلوق، أو غيره في أن يُخلق كريهاً، بشعاً، مقززاً.

خشيت الأسد المترهل، ومن حوله لبواته: زوجات مستلقيات ضجرات.. بينما زئيره يملأ المكان، فيزرع الهيبة والتوجّس فيه.. لا أدري إن كان يستحق –حقاً- أن يسمى ملك الحيوانات والغابة.. بالنظر إلى قوته فقط، وكأن القوة –وليس غيرها هي المقياس الرئيس- عند بني البشر.. هكذا فرضوا ثقافتهم!!..

النمور، مثلاً، أكثر اتّساقاً، أجمل منظراً، تمشي بكبرياء، خاصة تلك المرقطة منها، التي تعتبر أسرع مخلوقات الأرض..

عندما راقبتها.. شعرت بقشعريرة تتسرب إلى مفاصلي وجسدي، وشعري يقف وكأن قوة خارقة خارجة عني هي التي فعلت ذلك.. وتساءلت:

- لِمَ التوجّس من نمر سجين، مدجّن، لا يستطيع تأمين طعامه بنفسه؟ ألا يمكن السيطرة على غرائزنا وعقلنتها؟

وكنت بحاجة إلى تأمل طويل كي أصل إلى نتيجة مقنعة..

الكلاب الإفريقية، أو المتوحشة تختلف عنا كثيراً، وبدت لي أقرب إلى الذئاب والضباع منها للكلاب، وكأنها خليط مزجه مخمور.. فأبرز الجوانب الشرسة.. والكريهة.

توقفت عندها محدّقاً بها، محاولاً معرفة التشابه بيننا، ومخاطبتها –إن أمكن- فلم تستجب، وكأن توحشها أفقدها القدرة على التفاهم مع الغير، حتى وإن كان محسوباً على فصيلتها.

يصعب عليّ وصف كل ما رأيت من أنوع القرود والسعادين والشمبانزي (كم يشبه بني البشر).. وابن آوى الشهير بالخبث والمقالب.. والثعالب الصحراوية الصغيرة.. الجميلة – الخبيثة، والذئاب، والدببة، والحمار الوحشي المخطط، الأبي، الذي ظلّ عصيّاً على الإنسان فلم يتمكن من ترويضه وتدجينه.

أما الغزلان بأنواعها العديدة: الريم، والمها، والوعول، والحور.. فهي بحق الأجمل.. خاصة عيونها المكحّلة.. فحقّ أن يقال الشعر فيها، وأن تكون مضرب المثل في الجمال والرشاقة والحُسن.

        

وعدنا إلى التدريب.. فالمرحلة الثانية أكثر صعوبة وتعقيداً..

تساءلت مراراً عن الهدف من كل هذا التعليم، فما شأني والقفز داخل حلقات حديدية، ثم حلقات من نار علينا المرور فيها.. وفهمت لاحقاً أن على الكلب، حتى وإن لم يعمل في سيرك.. أن يتعلم كل شيء تحسباً للطوارئ، ولشتى الاحتمالات التي يمكن أن تصادفه في مهماته وحياته.

تعلمت فنون الحراسة والتيقّظ، وحماية البيت والسكان. وكان الأهم في ذلك كله، أفضل الطرق لمهاجمة الغرباء الذين يريدون شرّاً أو سرقة، وكيفية تجريدهم من أسلحتهم: سكاكين كانت أم مسدسات، أم أي سلاح آخر.

عملية مهاجمة لصّ محترف، أو مجرم ليست سهلة على كلب بمفرده.. لأن المسألة تتجاوز النباح الإنذاري إلى الدخول في اشتباك مباشر.. قد يلحق أشدّ الأذى بنا (آلاف الكلاب قتلت وهي تحاول حماية سادتها وممتلكاتهم).. فكان يجب تلقي المزيد من التدريب على إمساك يد المجرم إذا ما حملت سلاحاً دون التعرض للخطر، وإجباره –بقبضة فكّنا القوي- على رميه، ثم إلقاء الرجل أرضاً، والإمساك بخناقه (دون قتله) إلى حين وصول سكان المنزل، أو الشرطة.

عانى المدرب كثيراً في توعيتنا من غشّ اللصوص والمجرمين، الذين يلجأون إلى وسائل شيطانية لإلهاء الكلاب أو إسكاتها، أو تنويمها، أو قتلها إن اقتضى الأمر.. من خلال التودد إلى الكلب وتقديم الأكل والحلوى له (خصوصاً إذا كان اللص أو المجرم من أصدقاء صاحب البيت الذين يرتادون بيته ويظهرون الحبّ له.. وكم مرّت في حياتي قصص عن هؤلاء الغشاشين.. المخادعين).. أو رشّ مواد تعطّل حاسة شمّه. فيسكت عن النباح.. أو بتقديم طعام مسموم، أو فيه منوّم.. وغير ذلك من الوسائل.

كان علينا الحذر من كل غريب، أو طارق للبيت، أو قادم إلى الحديقة.. حتى وإن ارتدى لبوس صديق, وأن نمتنع عن تناول أي نوع من المأكولات تقدّم إلينا من غير أصحاب البيت.

وقدّرت المشقّة التي يبذلها المدرب لإفهامنا أنواعاً مختلفة من الاحتيال والتلوّن.. وأهمها: الإباء، والصبر على الجوع، والرفض لتناول أي نوع من الطعام لا يأتينا من سادتنا.

وعندما اقتنع المدرب بأني فهمت المقصود، راح يدربني على وسائل إنقاذ البشر من الحريق، أو الغرق، أو حالات المرض، والطوارئ.

كان يجب أن نتعوّد دخول دائرة النار بسرعة خارقة، والتفتيش فيها عن أصحابنا لإخراجهم بجرّهم إلى مكان آمن.. وكذا الأمر في حالات الغرق في المياه (وهي عملية أسهل بالنسبة إلينا لأننا تتقن السباحة، وبقدرتنا جرّ شخص إلى الشاطئ).

واحتجت دروساً وتدريبات مركّزة لمساعدة مريض، أو شخص يقع، أو البحث في الأنقاض، وطرق الإنذار التي يجب اللجوء إليها لإعلام الآخرين بما يجري.. وفي التنبيه من تسرّب الغاز، أو ماسّ الكهرباء، أو فيضان وتسرّب المياه، وشؤون تفصيلية كثيرة، تمثّل برنامج عمل ومهمات الكلاب، بما فيها إمكانية فتح باب مغلق، أو كسر زجاج نافذة والدخول منها.. أشياء كثيرة أتقنّاها بالتكرار والممارسة.

واستغربت أن تدريباتنا –جميعاً- تتوجه من وإلى الإنسان فقط.. دون أي مخلوق آخر، وكأنه لا يوجد –في أيامنا هذه- عدو للإنسان غير أخيه الإنسان.

وانتهت دورتي التدريبية بعد نحو ثلاثة أشهر.. في احتفال صغير.. قدمت لي فيها الحلوى والمأكولات الشهية، وشهادة رسمية موقّعة من مدربي، استلمها سيدي.. وعرفت _إذ ذاك- أني لم أعد ذلك الجرو الصغير، وأن مسؤوليات جسيمة ملقاة على عاتقي..

        

بعض الذكريات والعلاقات الكلبية لهذه الفترة

مثّلت دورتي التدريبية فرصة لا تكرر لأمثالي في التعرف على أنواع عديدة من الكلاب، والاحتكاك بعدد كبير منهم وتكوين صداقات وعلاقات متينة مع بعضهم.. وكذا في وقوعي بأول حبّ.. ومفاجأتي برؤية أحد أخوتي، مما يدعوني إلى تلخيص بعض المشاهد لكم..

فوائد الدورة لم تقتصر على ما تلقنته من علوم وأساليب شكّلت وعيي، وصقلت مواهبي وحسب.. بل كانت الفضاء الرحب لتنوّع معلوماتي وثقافتي ومعارفي.. عبر رؤية عدد كبير من الكلاب.

فعرفت كلاباً خاصة بالبيوت، لا تعرف الحدائق والاشتباكات، وإنما تربى لجمالها، وصغرها، ويمكن أن تكون نذيراً لأصحاب البيت، لأن من غريزة الكلاب: إعلام سيدها بأي طارق.. بل وأكثر من ذلك، فهي تنبح لمجرد سماعها وقع أقدام غريبة قرب بيت مالكها، فتُعلمه، وتنذره بنباح قوي متواصل لا يتوقف.. إلا عندما تتأكد أن الرسالة وصلت.

معظم هذه الأنواع اللطيفة مدلّلة، تعيش في رفاهية تحسد عليها، وبعضها يسمح له العيش أزواجاً (تصوروا): كلباً وكلبة.. والإنجاب أيضاً!!.. وربما إبقاء الأولاد (يالهم من محظوظين).

والتقيت بكلاب مختلفة، مختصة بالصيد.. يدلل على ذلك: قوامها النحيل، وطول قوائمها، وقدرتها الفائقة على العدو.. ولذلك تركز تدريبها على مطاردة الفرائس والإمساك بها، أو جلبها عندما يصيبها السيد.. مسكينة كلاب الصيد.. إنها مهددة بالانقراض، لأن حاجة الإنسان إليها لم تعد كبيرة، بعد اختراع السيارات، وأساليب القتل الحديثة.. فلم يعد منها سوى أعداد محدودة.. بينما تعاظم دور كلاب الحراسة (أمثالنا).

عقدت صداقات خاطفة مع عدد من الكلاب، من فصيلتنا، ومن غيرها، وبعضها لم تبدأ إلا بعد عراك، أو خلاف حادّ..

تصوروا أنني اشتبكت مرة مع صديقي (بيل) في شجار عنيف لأجل عيون كلبة حلوة.. بهرتنا.. ففي ساعة راحة لنا.. مرّت كلبة تخطف الأنظار، وتخلب الألباب/ ممشوقة، فتية، قهوية اللون.. تتبختر دلالاً وشباباًُ، وكأن الأرض لا تحملها، فتستعرض (إمكاناتها البارزة).. وجنسنا شهواني، سريع الحب والإعجاب.. كان يستحيل علينا (ونحن في عزّ المراهقة) أن نتركها تمرّ دون التحرّش بها، ومحاولة التقرّب منها.. وفجأة انتفضنا، مجموعة الذكور، نتزاحم فيمن يسبق إليها، ويقترب منها.. فيحظى بنظرة، أو لمسة، أو وعد، أو حركة مغناجة.. واعترضني (بيل) محاولاً منعي ليستفرد بها.. فاشتبكت معه في معركة شرسة.. كان جزأها الأكبر استعراضها لقوى كلّ منّا.. (إناث الكلاب تحب الأقوى الذي غالباً ما يظفر بها).. ورغم أن (بيل) أكبر مني، (وربما أقوى) إلا أني نسيت كل شيء إلا اللحاق بها واستمالتها، وليكن ما يكون (ألا يستحق الإعجاب تضحية بقَدْرِهْ؟!!)..

لكن (سارقة قلوبنا) لم تكترث بنا، وبكل ما قمنا به.. وكأنها ألِفت هذا المنظر اليومي، بل مضت في طريقها تسخر منّا، ومن سذاجتنا.. مما جعلنا نوقف معركتنا فوراً، ودون تصميم.. وكأن إنذاراً داخلياً في كلّ منّا قد نادانا لإيقاف هذا العبث المضرّ..

من يومها و(بيل) صديق حميم لا يفارقني كلما سنحت لنا فرصة.. فيمضي الوقت سريعاً دون أن نحسّ به. كنا نتحاور في كل القضايا والموضوعات التي تهمّ جنسنا، ونتجاوزها أحياناً، إلى الحيوانات الأخرى، بما فيها بني البشر.

صحيح أننا كنا نختلف في العديد من القضايا، ونحتدّ في النقاش، وقد نتخاصم بعض الوقت، أو يعلو نباحنا.. لكننا كنا نتغلب على ذلك بتفهم كل منّا لوعي الآخر ونظرته (نحن ديمقراطيون) فنتصالح، ويقبّل بعضنا بعضاً.

ومراراً شكونا همومنا وما نعانيه –أحياناً- في بيت السادة، وكيف يسقطون أمزجتهم وأحوالهم علينا.. فنراهم تارة لطفاء، سمحاء، كرماء.. وأخرى فظّين، قساة، جبابرة.. لا يرحمون.

ولأن تجربة (بيل) أغنى، وقد خبر أنواعاً من البيوت والسادة والكلاب.. فقد أفادني كثيراً بتجاربه ونصائحه، وحصائل خبراته.. وكان يرشدني إلى أفضل الطرق في التعامل مع الآخرين، وأهمية فهمهم، وتغليب المحبة والتسامح والإخلاص على البغضاء والأحقاد والحسد والبخل.. وواجب تحمل الآخرين وظروفهم التي يمرون بها، والتي قد تدفع بعضهم إلى الغضب والنرفزة والتصرف السيئ..

كانت علاقتي مع (بيل) جد مفيدة وضرورية لي، وسّعت مداركي، وفتّحت عيوني على أمور لم أكن أعرفها.. كان رحيماً.. فهم الحياة فعركها وعركته، شكّلته في أتونها.. فخاض غمارها مسلحاً بالتجربة والصلابة والإيمان. مما وفّر له قدرة التغلب على المحن والصعوبات وشتى الامتحانات التي تعرض لها.. وسلحته بالصبر في الشدائد والتعقل عند الغضب، واستخدام العقل في المشاكل التي واجهها، أو فرضت عليه.

تناقشنا كثيراً ومراراً في الواقع المفروض على الكلاب، الذي أصبح جزءاً من حياتهم التي تأقلموا فيها، إلى درجة تبدو مستحيلةً أفكارُ تحررهم، وعودتهم لممارسة حياتهم كما يريدون، أو كما كان في الزمن الغابر.

(بيل) يرى أن حبّ الكلب لبني البشر، هو حبّ صادق نابع من القلب، ثم ذاك الإخلاص الذي تكرّس فيهم كخصيصة.. والامتثال الأعمى لطلباتهم ومصالحهم وأمزجتهم.. قادهم، عبر زمن طويل، إلى الخضوع التام، وإلى نوع من العلاقة التبعية التي لا فكاك منها، فصار عليهم تقديم المزيد والمزيد من التنازلات والخدمات لإرضائهم.. ولو على حساب الحقوق الأساسية للكلاب.. فتقلصت هوامش الاستقلالية لديهم، ولم يعد بالإمكان تحقيق أي نوع من الانفصال أو الاستقلال. لأنه يعني التشرد.. والقتل.. وربما المذابح الجماعية.. كما حدث لحيوانات كثيرة.

أذكر جيداً جانباً من تلك الحوارات الخصبة بيني وبين (بيل) والتي شاركنا فيها، أحياناً، بعض الكلاب.. كانت اندفاعات الشباب، وحماسهم.. تجعلني أميل للثورة والتمرّد على واقعنا.. وشاركني بذلك معظم من كان في عمري.. ولكن..

قلت مرة لـ (بيل): إني أوافقك تحليلك الوصفي لواقعنا.. لكنني لست معك في النتائج والحلول..

قال (بيل): وما هو رأيك أنت؟..

- رأيي، أن هناك فرقاً كبيراً بين الحبّ والخضوع، بين الإخلاص والانصياع، بين الصداقة والاستغلال.

- هذا صحيح – يقول (بيل):

- إذا كان هذا صحيحاً فلماذا لا نغيّر عاداتنا، ونطالب بحقوقنا، أو بجزء منها على الأقل؟..

- نحن اعتدنا هذه المعاملة وقبلناها (رغماً عنّا أو برضانا) وصار يصعب بعد أن تكرست: تغييرها..

- كل شيء قابل للتغيير.. فالحياة متطورة، ولا شيء ثابت..

- هذا قانون عام.. لا يشمل العديد من الخصوصيات.

- كيف لا يشمل إذا كان قانوناً عامّاً؟..

- العلاقة مختلّة بدرجة كبيرة بيننا وبين البشر، هم السيد المطلق، الأقوى، الأذكى، الذين يملكون كافة الوسائل التي يمكن استخدامها ضدّنا، بما فيها لقمة الأكل، والمأوى، بل وحتى الحياة..

ولا تنس أننا قبلنا هذه العلاقة.. بل ازددنا تعلقاً بهم، وإخلاصاً لهم، وقدمنا لهم –عبر قرون- كل التنازلات.. حتى وإن كانت على حساب كرامتنا وحريتنا، وحقوقنا الأولية.

- إن العلاقة، خصوصاً تلك التي نسميها صداقة. تقوم بين طرفين، وليس من طرف واحد على حساب الآخر، وهي أخذ وعطاء، تضحية وبذل من الجانبين.

- ربما كان هذا بيننا، أو بين البشر مع بعضهم، لكنها غير قائمة في علاقتنا مع البشر، لأننا قبلنا –منذ البداية- أن نكون الأضعف، والتابع، والملحق، واتّكلنا عليه في كل شيء، حتى صارت لقمة عيشنا، وزيجاتنا، وتحديد نوعيتنا، وعدد نسلنا، بل حياتنا.. رهن إرادته.

فهو يعتقد أنه يقدّم لنا الكثير: الطعام والشراب والمسكن.. واللباس أحياناً، والمشاوير، والعلاج، والدلال، والرعاية.. وغير ذلك من أمور كثيرة.

- هي أشياء صغيرة.. لا تعادل اليسير من الخدمات الجليلة التي قدمناها ونقدمها.. ثم من قال لك إنه يدللنا، ويمشورنا، ويداعبنا حباً بنا؟.. أليس ذلك جزءاً من تسليته وملء فراغه، وتعبيراً عن ملله، أو وحدته، وضجره وحاجته إلى أي مخلوق يؤانسه ويلبي طلباته بصمت، ودون تردد أو مناقشة؟..

- القضية أعقد من ذلك، وهي جدّ متداخلة..

- إنك تعقدها حتى تبدو كاللغز الذي لا حلّ له، وهذا نوع من الهرب، بل هو الاستسلام بعينه..

- الكلام سهل يا (شفق) فالواقع صعب، ونحن ضعاف، مبعثرون في أرجاء الدنيا، تتحكم فينا قوانين وقوى وظروف لا نقدر على مجابهتها.

- إذا كنا لا نستطيع مجابهتها حالياً.. فعلينا ألا نستسلم، بل نحاول.. ونحاول.. وعلى الأقل إبقاء إحساسنا بالظلم والحرمان والقمع موجوداً بيننا، وأن لا ننسى ما يحيق بنا، وما مفروض.

- لست استسلامياً يا صاحبي، وما كنته يوماً، لكنني واقعي، وقد علمتني التجارب ألا أقفز في الفراغ فأقع على رأسي، وألا أطالب بأشياء خيالية، مستحيلة التحقيق..

- الواقعية كلمة جميلة، صحيحة.. لكننا نختلف في مضمونها وفهمها، وفي التعاطي معها.

إنني أعتبر نفسي واقعياً عندما أفهم ظروفنا وما حلّ بنا، وأعي جيداً توزعنا وتشتتنا وضعفنا وتخاذلنا.. مقابل تفوق، وقوة البشر.. لكن هذا شيء.. وفهم الواقعية على أنها استسلام للمفروض شيء آخر..

- آه يا شفق.. إن روح الشباب تدفعك بعيداً، وأخشى عليك.. فالبشر لن يتركوك تفعل ما تريد.. بل إن مجرد معرفتهم بآرائك، وتوجهاتك (حتى وإن لم تفعل شيئاً لأجلها) ستضعك تحت مراقبتهم الشديدة، وستعرضك لعقوبات يتفنون في إبداعها..

إننا موزعون في مشارق الأرض ومغاربها، بما يجعل أي لقاء لعدد محدود شبه مستحيل، ودونه دوريات الشرطة ورصاصهم، وسيارات وزارة الصحة، وحماية البيئة، والأفراد العاديون، وألف ألف طريقة، وخصم، ومشكلة.. فكيف ستستطيع بثّ أفكارنا، أو القيام بعمل ملموس إذا كانت إرادتنا بأيديهم، ولقمة عيشنا مرتبطة بهم، بل ومصيرنا برمّته؟..

- لست مراهقاً، أو فوضوياً، أو انتحارياً.. وبالوقت نفسه لست معقداً ضدّ جميع البشر.. إنني أعي، مثلك، أن جزءاً كبيراً مما حلّ بنا (بل الجزء السادس) كان من صنع أيدينا، ونحن المسؤولون عنه.. لأننا لم نفرّق بين الصداقة والخضوع، بين الحب الخالص والوفاء.. وبين القبول بالذل.. وسلّمنا كلّ مقدراتنا لغيرنا، فكان الطبيعي أن يمسكنا من رقابنا، وأن يطالب بالمزيد.

والأهم أيضاً.. أننا تركنا أرضنا ومكاننا الطبيعي.. وهربنا إلى المدن والحدائق والحياة السهلة المرفهة التي أغوتنا، وأسالت لعابنا.. فدخلنا فخّ التدجين التام.. قطعنا صلاتنا بتاريخ الأجداد، بل احتقرناهم، وتفَّهنا عقولهم وحياتهم، وطرق معيشتهم.. وتصورنا أن حياة البيوت أريح وأفضل.. خاصة وأننا لا نبذل فيها أي جهد لتأمين طعامنا (إن من يعتمد في طعامه على الغير لابدّ أن يستسلم له)..

- ولكن.. أليس بالإمكان أن نفعل شيئاً نحسّ فيه من شروط حياتنا؟..

- ربما.. ربما.. لكني غير متحمس.. لأني أرى أن الظروف لا تعمل لصالحنا.. وقد فقد جيلنا القدرة على التضحية حين آثر كل منّا حياته الخاصة –المريحة- واكتفى بما يقدم له، وحين استسلم تماماً لم يعد لديه ما يضغط به أو يطالب (وما نيل المطالب بالتمنّي ولكن تؤخذ الدنيا غلابا).. هكذا يقول شاعر عربي حكيم..

- ها أنت تعيد ما أقوله، فلماذا تخالفني إذاً؟..

- من قال لك إني أخالفك؟.. نحن متفقان في معظم الأمور، بل إني مقتنع تماما بأن الحياة كفاح وعمل، وأن الحقوق تؤخذ ولا تعطى.. ولكن هذا شيء آخر. نحن في وضع لا نستطيع فيه حراكاً..

وما أقصده هنا.. هو أنك قد تعي ظرفك وما يحيط بك، وتعرف الجور والظلم وحقوقك وواجباتك، وما لك وللآخرين وتتحدث جيداً.. وتطرح شعارات جميلة.. ومع ذلك لا تستطيع فعل شيء سوى الصمت والقبول.. وفي أحسن الأحوال الانتظار.. علّ وعسى..

- هي فلسفة (مثقف) يا صاحبي.. تزيين جميل للاستسلام والخضوع.. يجعل مثل هذا النمط أخطر من أولئك الكلاب البسطاء الذين نعتبرهم "عاديين".. القانعوِن بما ألفوه، الذين لا يحركون ساكناً، ويعتبرون أنفسهم في أحسن حال، ما داموا يأكلون وينامون.. ويتضاجعون.. والسيد راض عنهم..

- كلا يا صديقي. إنك تظلمني.. لأنك لم تفهمني.. فالوعي ضروري (البشر يقولون: إنهم دونه يصبحون كالبهائم) فهو يفتح مداركك، يعرفك بأحوالك وأحوال الدنيا، يمكّنك من التصرف السليم وفهم الآخرين، يدلك على الممكن والمستحيل، بقواك الفعلية وقوى غيرك، وبالوسائل الأجدى لتحصيل شيء ما من حقوقك.. وتحسين ظروفك..

- أي وعي هذا.. هو فلسفة الهزيمة، نوع من الكذب على النفس، تبرير –مثقف- للخنوع. لأن الوعي –كما أفهم- يجب أن يقود إلى العمل، وأقلّه التفكير بالوسائل الممكنة..

بأن الوعي وحده غير كاف، والتحجج بالظروف (نحن من أسهم في صناعة هذه الظروف) يقود إلى الاستسلام التام. وإن علينا أن نحاول ونحاول.. ولو بنشر أفكارنا.. وإن كان لابدّ من الانتظار –كما تقول- فهو الانتظار الذي يجب أن نمهد له، أن نسهم فيه، أن نعدّ ونهيئ للغد. حتى لا نتحول إلى قدريين.. فيأتي جيل، وربما أجيال من بعدنا، لتفعل الشيء نفسه، فتنتظر وتنتظر.. وهكذا..

- بهذا الشكل ربما أوافقك.. لكني تعب ويائس ومهزوم.. فلا تأمل من كلب عرف ظروفي أن يقدم شيئا ملموساً.. لعلّ الأمل يكون فيكم، أنتم الأصغر سناً، أو فيأجيال قادمة.. لعلّ..

        

يتبع