( إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين )

محمد شركي

لمّا اقتضت إرادة الله عز وجل ابتلاء بني آدم في الحياة الدنيا لمجازاتهم عن سعيهم فيها في الآخرة ، فإن الله سبحانه وتعالى كتب عليهم التكاثر بالتناسل ليبلغوا عدد ما شاء أن يبلغه خلقه جل جلاله ، وأودع فيهم ذكورا وإناثا غريزة بها يتحقق التناسل والتكاثر ، فهذّبها وضبطها بضوابط حتى لا تنحرف عن الغاية والقصد.

ومنعا لكل انحراف لهذه الغريزة، وضع الله سبحانه وتعالى موانع تمنع هذا الانحراف منها  غض الأبصار كوسيلة تفضي إلى حفظ الفروج بالنسبة للجنسين حيث قال في محكم التنزيل : ((  قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون وقل للمؤمنات يغضض من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن )) . وهكذا تكون بداية تهذيب غريزة الجنس في الإنسان  والتي أودعها فيه الله عز وجل لغاية التكاثر بالتناسل هو ضبط حاسة البصر التي تعتبر أول محرك من شأنه أن يستثير هذه الغريزة العمياء ، لهذا أمر الله عز وجل الذكور والإناث من عباده المؤمنين بالغض منه ، والغض معناه الكسر والصرف والخفض  بحيث لا يجيل الجنسان النظر في جسديهما منعا لاستثارة غريزتهما الجنسية ، وهو ما قد يفضي إلى سوء تصريفها خلافا لما أمر الله عز وجل .

 ولقد أتبع الله عز وجل أمره بغض البصر بأمره بحفظ الفرج تنبيها إلى أن البداية تكون بإجالة الأبصار في الأجساد ، والنهاية تكون باستباحة الفروج ، وما بين البداية والنهاية  أمور أخرى منهي عنها لا تقل استثارة للغرائز عما تثيره الأبصار ، وقد ذكر منها الله تعالى الكشف عن الأجساد لذلك أمر بأن تستر بما تفضل به سبحانه وتعالى  على الإنسان من ستر اللباس ، وذلك بكيفية معلومة بالنسبة للجنسين معا مع تفصيل في ذلك  بالنسبة للإناث، منه ضرب الخمر على الجيوب ، وإدناء أو إرخاء الجلابيب على الأجساد ، فضلا عن تحديد طريقة المشي بحيث لا يضرب بالأرجل للكشف عن الزينة ،وكذا تحديد طريقة الكلام بحيث لا يخضع بالقول ، وهو ما يكره من قول النساء للرجال مما يؤثر في قلوبهم .

إنها منظومة أخلاقية أو تربوية لمنع انحراف غريزة  الجنس عن غايتها وقصدها الذي هو التناسل من أجل التكاثر للخضوع إلى الابتلاء في الحياة الدنيا ومواجهة المحاسبة والجزاء في الآخرة .

وإلى جانب هذه المنظومة المانعة لانحراف هذه الغريزة ، التي إذا ما التزم بها الجنسان كان ذلك كفيلا بضبطها وتهذيبها ، حرّم الله عز وجل التواصل الجنسي بينهما خارج إطار شرعه لهم وهو عبارة عن زواج شرعي حافظ للنسل والأنساب فقل جل وعلا : (( ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا ))  والمنع عن القرب دليل على شدة الخطورة إذ لا يمنع القرب من شيء إلا وفيه خطركبير ، والقرب عبارة عن دنو خطوة بعد أخرى بحيث يكون للوقوع في فاحشة الزنى خطوات تبدأ بالبصر الذي أمر الله تعالى أن يغض منه ، وبكشف للجسد الذي نهى عنه وبخضوع بالكلام الذي حذر منه، فضلا عن خطوات أخرى بين هذا وذاك مما جاء النهي عنها في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل الخلوة أو الاختلاء بين الجنسين خارج إطار العلاقات التي شرعها الله تعال . ولقد ذكر الله عز وجل بعد النهي عن مجرد القرب من الزنى وهو قرب من مقدماته ودواعيه  أنه فاحشة ، والفاحشة هي كل أمر غاية في القبح تأنف منه الفطرة ، ويستقبحه العقل  والشرع معا لما يترتب عن ذلك من فساد كبير يلحق الأنساب  التي أراد لها الله عز وجل أن تكون رحما مصونة أبوة، وأمومة، وبنوة، وأخوة، وعمومة، وخؤولة، ورضاعة ، وصهرا، ونسبا ، وجعل لها أحكاما تضبطها .

ومعلوم أنه باختلال الأنساب تختل الغاية والقصد من خلق الإنسان الذي هو ابتلاء في الحياة الدنيا لمحاسبة وجزاء في الآخرة ،لهذا  وصف الله تعالى السبيل إلى الزنا بأنه أسوأ سبيل ، وهل يوجد أسوأ من سبيل يحيد سالكه عن قصد وغاية أرادهما الله عز وجل؟

ولقد سجل كتاب الله عز وجل أخبارا عن  نوع من أنواع الانحراف بغريزة الجنس عن القصد والغاية  في حديثه عن قوم نبي الله لوط عليه السلام الذين أساءوا تصريف هذه الغريزة بإتيان الذكور دون الإناث وهو انحراف خطير بها عن القصد والغاية ،وصفه الله تعالى بالفاحش أيضا، فقال على لسان نبيه لوط عليه السلام مخاطبا قومه : (( ولوطا إذا قال لقومه أتأتون الفاحشة ما سبقهم بها من أحد من العالمين إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم مسرفون ))  .

إن هذا النص القرآني شاهد على أن فاحشة قوم لوط لم تكن مسبوقة من قبل ، ولم تعرفها الأمم التي كانت قبلهم ، وهي إسراف فاحش في تصريف غريزة الجنس ،لذلك قضى الله عز وجل بهلاك قوم لوط لأن انحرافهم  الفاحش أقتضى أن يبادوا لأنهم لا يستحقون الحياة  .

مناسبة حديث هذه الجمعة هو الجريمة الشنعاء التي هزت بلادنا الأسبوع المنصرم حيث أقدم أحد المجرمين على اختطاف، واغتصاب، وقتل صبي ، الشيء الذي تسبب في استياء كبير لدى المواطنين الذين استنكروا هذه الجريمة المركبة من اختطاف، واغتصاب، وقتل ، وهو ما لا يقدم عليه إلا وحش كاسر .

ولقد أثارت هذه الفاجعة جدلا بين من سلمت فطرتهم فاستهجنوها ، وبين من فسدت فطرتهم، فأنكروا على أصحاب الفطرة السوية  مطالبتهم بالقصاص من مختطف، وهاتك عرض، وقاتل نفس ، واعتبروهم بذلك أكثر وحشية من وحشية المجرم، وهو ما أثار استياءهم الشديد على صعيد واسع لوجود من يدافع عن الإجرام ،وينكر ما شرع الله عز وجل من قصاص هو الضامن للحياة كما جاء في قوله تعالى : (( ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب  لعلكم تتقون )) فلا يتقى إزهاق الأرواح إلا بالقصاص المانع لذلك ، وهو ما يقره العقل والشرع خلاف ما يذهب إليه أهل الأهواء ممن فسدت فطرتهم، وجاهروا بفسادها  وأعلنوا به من خلال الدعوة إلى الفواحش والمطالبة بممارستها تحت شعار الحرية والحق في ذلك .

وهذه النازلة تفرض ألا يثار موضوع جريمة القتل دون إثارة  موضوع  جريمة فاحشة قوم لوط التي ذمها الله عز وجل وحرمها وعاقب أول من اقترفها بعذاب أليم في الدنيا قبل الآخرة . ومع وضوح حكم الله عز وجل في هذه الفاحشة ، فإن أصحاب الفطرة الفاسدة يطالبون بممارستها تحت مسمى المثلية ، فضلا عن مطالبتهم بممارسة فاحشة الزنى تحت مسمى الرضائية تقليدا للأمم  العلمانية التي لا تدين بدين الإسلام ، محاولين فرضها على مجتمعات مسلمة عن طريق إلزامها  بما تسنه المجتمعات العلمانية من قوانين وضعية مفسدة للفطرة  توصف بأنها كونية  وذلك لإجبار الناس على قبولها .

إن هذا الذي أقدم على اختطاف صبي لاغتصابه قبل قتله له ميول واضحة ومؤكدة  إلى فاحشة قوم لوط، واقتناع بها، وإصرار عليها مع أنه  في مستوى ثقافي لا يمكنه أن يدعي جهلا بفظاعتها، لأن حتى من لا مستوى ثقافيا لديه يستهجنها  بفطرتهم ما سلمت فطرتهم بله من لهم مستويات ثقافية  .

وما يجب أن يدان ،ويتشدد في منعه لمنع جرائم الاغتصاب عموما واغتصاب الصبية والصبايا خصوصا، هو وجود دعوات منحرفة لإحياء فاحشة قوم لوط ،ونشرها في مجتمعات مسلمة . ولقد خص الشرع الإسلامي عقوبة لها لو أنها طبقت لما أقدم أحد على ارتكابها، ولكن حين يوجد من يدافع عنها ويعتبرها حقا وحرية ، فإن ذلك يعتبر تحريضا عليها ، وهو ما يستوجب معاقبة المحرضين عليها الذي يصرحون جهارا نهارا بذلك عبر وسائل  الاعلام ووسائل التواصل الاجتماعي وهم يوصفون بالحقوقيين والمفكرين والخبراء، الشيء الذي شجعهم على التمادي في دعواتهم إلى نشر الفواحش المستقذرة .

ومن التناقض الذي يقع فيه المشجعون للفواحش من فاسدي الفطرة أنهم أدانوا مغتصب وقاتل الطفل ، ولكنهم  في نفس الوقت اعترضوا على معاقبته العقاب المستحق لأنهم لا يعتبرون فاحشة قوم لوط التي يسمونها مثلية  جريمة تستوجب العقاب، فعن أي منطق يصدر هؤلاء ؟

ولقد ذهبوا إلى أن فاحشة قوم لوط لا تعالج بالعقاب وإنما تعالج بما سموه تربية جنسية طالبوا بتعميم تدريسها في المؤسسات التربوية ، وكأن هذه المؤسسات لا تدرس فيها تربية إسلامية يوجد فيها ما يطالبون بتدريسه مما يتعلق بغريزة الجنس ويعتبر  مطلبا من مطالبها ، وهو ما نهى عنه الله عز جل من قرب من فاحشة الزنى من مقدماته إلى نتائجه ، وما أدانه ونهى عنه من فاحشة قوم لوط .

وهل يحتاج المسلمون إلى تربية جنسية وافدة من مجتمعات علمانية تبيح الفواحش بما فيها فاحشة قوم لوط ، وفضائياتهم تعج بالأفلام الإباحية المبتذلة للأجساد البشرية ذكورا وإناثا ،ومن ثم ابتذال الكرامة الآدمية ؟  وكيف يكون حل مشكل الفاحش عند من يشيعونها ويشجعون عليها ، ويضفون عليها المشروعية ، ويدافعون عنها ، ويدينون من يجرمها ، وفي إدانتهم تلك إدانة مباشرة  لشرع الله عز وجل، تنزه شرعه عن الإدانة .

إن المطلوب من الأمة المسلمة ألا تقبل مساومة في دينها  ولا تقبل دنية فيه ،وأن تتمسك بشرع ربها لا تحيد عنه قيد أنملة ، ولا تساير فاسدي الفطرة في فسادههم والدعوة إليه  ، ولا تستعمل  أو تقبل ما يخترعون من مسميات منحطة  ومخجلة  تحاول تلطيف ما استبشعه شرع الله  من فواحش كما هو الشأن بالنسبة لمسمى المثلية والرضائية وهم يحذون في ذلك حذو أمم علمانية لا تعترف ولا تقر بشرع الله عز وجل .

ومتى عرف المسلمون شناعة ،وبشاعة ، وفظاعة فاحشة قوم لوط ،وفاحشة الزنى كما جاء ذكرهما في كتاب الله عز وجل، وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، فإنهم سينكرونها ويستبشعونها ، وذلك كفيل بتحصينهم من الوقوع فيها ، ومن فساد تصريف ما أودع الله عز وجل فيهم من غريزة الجنس .

اللهم إنا نسألك أن تتداركنا بألطافك الخفية منة ورحمة منك . اللهم إنا نعوذ بك مما عاقبت به  من شاعت فيهم الفواحش . اللهم لا تؤاخذنا بما فعله السفهاء منا . اللهم رد بنا إلى كتابك وإلى سنة رسولك صلى الله عليه وسلم  ردا جميلا ، وثبتنا على الإسلام ثباتا لا يتزعزع . اللهم رد بالضالين ، وعليك بالمفسدين المصرين على الفساد والإفساد، فأنت عليهم قادر . اللهم لا تجعل لهم على الناشئة المسلمة وعموم المسلمين سبيلا . اللهم ق أعراض المسلمين ممن يستهدفونها .اللهم اجعلنا ممن أحببت من التوابين والمتطهرين .

والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.