( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوّي وعدوّكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق )

محمد شركي

من المعلوم أن الإيمان بالله عز وجل  إلها واحدا لا شريك له هوعهد وميثاق أخذه  سبحانه وتعالى من العالمين ، وبمقتضى ذلك العهد  يلزم كل من ينتمي إلى دائرة الإيمان أن يوالي ويعادي لله كما أمر سبحانه وتعالى بذلك في محكم التنزيل . والإيمان بالله عز وجل هو العلاقة  التي تجمع بين المؤمنين ، وهو الرباط الذي يربطهم ، ولا اعتبار لعلاقات أخرى مهما كانت  خارج دائرة  الإيمان  ، وعلى  أساس  يكون فيما بينهم ، والبراء  ممن عادى الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم ، وعاداهم بسبب إيمانهم  .

ومعلوم أن علاقة الإيمان هي التي تتحكم في كل العلاقات التي تكون بين أهل الإيمان وغيرهم ممن ليسوا مؤمنين  ، وتحددها وتضبطها ، ذلك أن أهل الإيمان  قد تربطهم  علاقات بأهل الكفر تفرضها أو تقتضيها ظروفهم كالجوارأو معاملات أو المصالح المشتركة أو المتبادلة  ... إلى غير ذلك  ، لكنها لا تكون  أبدا بديلا  للمؤمنين عن علاقة الإيمان الرابطة فيما بينهم، والتي تنشأ عنها بالضرورة مودة فيما بينهم، وولاء . ولا يمكن أن تكون بين أهل الإيمان وأهل الكفر مودة وولاء ، وإن ارتبطوا  بهم  بعلاقات  لأن الكفر هو عداء لله  من خلال  معاداة دينه إما بإنكاره أو بالكفر به ، ويترتب عن ذلك  أيضا إضمار أو إظهار العداء  لمن بعث لتبليغ دينه  ، وعداء  لمن آمنوا به ، وهي عداوة لا يمكن أن تزول مهما كانت العلاقات بين المؤمنين والكفار .

وبالرغم من أن الله عز وجل يحرم في محكم التنزيل  عدوان  المؤمنين على الكافرين ما لم يبدر من هؤلاء عدوان عليهم ، فإنه  ينهاهم عن مولاتهم أو إلقاء المودة إليهم كما جاء في قوله تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق )).

ولقد جاء في كتب التفسير أن هذه الآية الكريمة نزلت في الصحابي الجليل حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه ، وقد كان  ممن أسرّ إليهم النبي صلى الله عليه وسلم بخبر خروجه إلى مكة وهي يومئذ دار شرك ، وكان أهله بها، ولم تكن له عشيرة تحميهم من انتقام الكفار، فأراد التودد إليهم لحماية أهله ،فأرسل إليهم كتابا أفشى فيه ما أسره إليه النبي صلى الله عليه وسلم مستعملا عجوزا  مشركة لتبلغه لهم ، فكشف الله عز وجل أمره بوحي أوحاه  إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكلف عليه السلام  من يحلق بالعجوز ، ويصادر منها الكتاب قبل أن يصل إلى الكفار فيعلموا بما عقد عليه العزم صلى الله عليه وسلم .

 والآية الكريمة فيها عتاب لهذا الصحابي الذي قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم عذره وقد علم صدق إيمانه ، وقدر ظرفه وهو ممن شهدوا بدرا ، وفيها  في نفس الوقت تشريع ينسحب على أهل الإيمان إلى قيام الساعة بمقتضى قاعدة العبرة بعموم لفظ القرآن الكريم لا بخصوص سبب نزوله لأنه رسالة للعالمين . وقد تلا هذا التشريع بيان الحكمة من ورائه، وهو كون الكفر عنوان العداء لله تعالى ودليل عليه ، وهو عداء لدينه عز وجل وعداء  لرسوله صلى الله عليه وسلم الذي بعثه لتبليغه  ، وعداء للمؤمنين به . ومعلوم  كما أخبر الله عز وجل في محكم التنزيل أن الكفار عبر تاريخ البشرية الطويل ، وفي كل زمان  ومكان إنما يعادون المؤمنين بسبب إيمانهم بالله عز وجل إلها وربا واحدا لا شريك له ، وهو ما يؤكده قوله تعالى : (( يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم )) ، وفي هذا بيان أن إخراج الكفار رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن هاجر معه من المؤمنين إلى يثرب إنما كان سببه إيمانهم  . وإخراج النبي صلى الله عليه وسلم ومن كان معه من المؤمنين هو نتيجة عداء الكافرين لدين  لله  عز وجل .

وإذا كانت عداوة الكفار  للمؤمنين زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم  لله تعالى  قد تجلت في إخراجه عليه السلام ،وإخراج  من آمنوا به من موطنهم بمكة ومحاربتهم ، فإن عداوة الكفار لله تعالى ولرسوله وللمؤمنين في كل زمان وإلى قيام الساعة ستترتب عنها اعتداءات مختلفة حسب الظروف ، لهذا نهى الله تعالى عباده المؤمنين  عن موالاة الكافرين و عن السعي إلى إلقاء المودة إليهم وهم يكفرون بما جاء هم من الحق .

 ولقد جعل الله تعالى الامتناع عن اتخاذ الكافرين أولياء والإسرار إليهم بالمودة أو الإعلان عنها محكا ومعيارا لتمحيص إيمان المؤمنين  وإثبات ابتغائهم مرضاته  فقال : (( إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي تسرّون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل ))، وإخباره سبحانه وتعالى بما يخفى وما يعلن من موالاة الكافرين فيه تنبيه وتحذير خطير للمؤمنين بما لا يخفى عليه سبحانه وتعالى من موالاتهم والتودد إليهم سرا أو علانية ، وقضى أن من يفعل ذلك وهو مؤمن  يضل عن سواء السبيل .

ومعلوم أن استحضار معية الله عز وجل ، وإحاطته بما يعلن ويسر يمنع ما نهى عنه سبحانه وتعالى من موالاة أعدائه الضالين عن سواء السبيل ، ومن والى ضالا عنه ، وألقى إليه بالمودة كان معه في ضلاله .

مناسبة حديث هذه الجمعة هو تنبيه المؤمنين في كل مكان إلى خطورة ما نهى عنه الله عز وجل من  إخفاء أو إظهار الولاء والمودة للكافرين خصوصا  وأن  كثيرا من المؤمنين عليهم يلتبس أمر الارتباط مع الكافرين بعلاقات تقتضيها  ظروفهم ومصالحهم ، وبين برهم والقسط  إليهم ما لم يصدر عنهم عدوان ، وهو ما لا يعني موالاتهم والتودد إليهم ، لهذا يتعين على المؤمنين أن يحتاطوا في علاقاتهم مع أهل الكفر ، وأن تكون هذه العلاقات معهم وفق ما شرع الله عز وجل ورسوله .

اللهم اجعلنا نحب بحبك من أحبك سبحانك ، وأحب  رسولك صلى الله عليه وسلم وأحب عبادك المؤمنين ، ونعادي بعدائك من عاداك سبحانك ، وعادى رسولك صلى الله عليه وسلم ، وعادى عبادك المؤمنين . اللهم اجعلنا نوالي من واليت ، ونعادي من عاديت .

والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .