سنن الصراع بين الحق والباطل(6)

أ.د. محمد سعيد حوى

خطبة الجمعة 30 /1 /2015م

10 / ربيع الآخر/ 1436هـ

(وتلك الأيام نداولها بين الناس)

أ.د. محمد سعيد حوى

سنة التداول:

قال تعالى: ﴿ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ﴾ [آل عمران: 140]

عندما تتحدث عن التداول فإنه يعني انتقال أمرٍ ما من يدٍ إلى آخرى وتحول من حالٍ إلى حال وهذه القضية من سنن الله في الكون في كل شيء، تقرأ قوله تعالى: ﴿ مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي القُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ ﴾ [الحشر: 7]

والمعنى إذن جعل الله سبحانه وتعالى تشريعاتٍ في مال الفيء وغيره حتى لا يكون تداول المـال محصوراً بين الأغنـياء فقـط، ولا يخفى لو حُصر تداول المال بين جهة واحدة ماذا سيكون من مفاســد.

سنة التداول هذه سنةٌ ماضية في الحكم في المال، في النفوذ، في الجاه، في الغنى، في الفقر، في كل شيء .. .

وإذا نحن نظرنا إلى سياق الآيات الكريمة من سورة آل عمران التي حدثتنا عن التداول ﴿  وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ﴾ [آل عمران: 140]

 وجدناها تُبيّـن حكمماً عظيمة لهذه السنة الربانية:

1-    فجاءت الآيات في سياق الأمر بالمسارعة إلى جنة عرضها السموات والأرض، لنعلم أن غايتنا في هذه الدنيا في كل ألوان الصراع إنما هو الوصول إلى الجنة والفوز برضوان الله.

2-    سبقها قوله تعالى: ﴿ وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 139]

إذن من حكم التداول ألّا يتسللَ وهنٌ أو حزنٌ إلى قلوب المؤمنين فإذا ما وجدوا جهةً ما انتصرت أو استقوت فالأمر لا يعدو أن يكون مرحلةً وطالما تمسكتم بإيمانكم فستبقون الأعلون مهما كان حال الصراع.

3-    ثمَّ قال تعالى: ﴿ إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ... ﴾ [آل عمران: 140] إذن عندما يُصاب المؤمنون بجراح بالغة يترتب عليها آلام شديدة فهم يزدادون إيماناً وتمسكاً لأن الأيام دول فيزدادون ثباتاً وثقةً بالله وتوكلاً عليه.

4-    ثم قال تعالى: ﴿ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ [آل عمران: 140] إذن من حكم سنة التداول ظهور علم الله في من كان مؤمناً وصادقاً ومن كان غير ذلك، فلو كانت دائماً الأمور تسير على ما يُرام لا يظهر الإنسان على حقيقته.

5-     قال تعالى: ﴿ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ ﴾ [آل عمران: 140] ما دام أنَّ الأيام دول فالصراع بين الحق و الباطل دائمٌ ومستمر، وليس محسوماً أمر النصر فيه دائماً، ولا بدَّ أن يترتب عليه شهداء وهذه منقبةٌ عظيمة وفضيلةٌ كبيرة؛ أن يصطفي الله شهداء تترتب على سنة التداول.

6-     ثم قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴾ [آل عمران: 140] إذن في هذا التداول سيتمكن قومٌ في مرحلةٍ من المراحل فإما أن يقوموا بالحق والعدل وإمّا أن يقوموا بالظلم، وهذا يُعجل بنهايتهم.

7-    ثم قال تعالى: ﴿ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ [آل عمران: 141]

 إذن من حكم سنة التداول التمحيص فتشتد الأمور تارةً، هنا يثبت المؤمن حقاً.

8-    قال تعالى: ﴿ وَيَمْحَقَ الكَافِرِينَ ﴾ [آل عمران: 141] إذن رسمت الآيات منهجاً متكاملاً (مؤمنون يستعلون بإيمانهم فيكون صراعٌ فيكون جراحٌ وآلامٌ ويكون تداولٌ ويكون من بعضٍ ظلمٌ فيُمحصُ أهل الإيمان هؤلاء فإن ثبتوا وصدقوا كان محق الكافرين وهذه النتيجة النهائية لسنة التداول) .

9-    وكل ذلك ليتقرر مصير الفريقين وتظهر فضيلة المجاهدين والصابرين قال تعالى بعد ذلك كله: ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ﴾ [آل عمران: 142].

10- كل ذلك جاء في سياق ما حدثَ للمؤمنين في أحد إذ كان قبل ذلك نصرٌ عظيم في بدر ثم كان ما كان في أحد لمخالفة بعضهم أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم ولأهمية الموضوع وخطورته قدم له ببيان  رباني أننا بين يدي سننٍ لا تتخلف ولا تتبدل، فلنقرأ الآيات كاملةً ولنتأمل قال تعالى: ﴿ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ ، هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ ، وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ، إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ، وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الكَافِرِينَ ، أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ﴾ [آل عمران: 137- 142].

11-         وإذا تأملنا مرة أخرى في سنة التداول فهي أثرٌ عن حقيقة عظيمة، وهي: أن الملك ملكُ الله والحكم حكم الله والأمر أمره والسلطان سلطانه وله العزة المطلقة وهو الغالب على أمره يفعل ما يشاء سبحانه ﴿ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي المُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ المُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَتُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [آل عمران:26 - 27]

12-         ثم أيضاً التأمل في هذه السنة فهي توجيهٌ للخلق إن أمر الصعود والهبوط والقوة والضعف والنصرة والهزيمة مرتبطٌ بسنن وقوانين وأسباب، فمن أخذ بها كان له نصرٌ وقوةٌ وتثبيت وإلا فلا ومن حكم ذلك أنه لا يركن أحد إلى واقع ولا إلى ادعاء إيمان ولا يظنن أحدٌ أنه خارج عن السنن وهذا يجعل المؤمنين دائماً في جدٍ واجتهاد وتحرٍ وبحث وإعداد وتحفز والتزمٍ بالحق والعدل فعندما يتخلف شيءٌ من ذلك لا بدّ من نتائجه كما حدث في أُحد وكما حدث في حُنين.

13-         يمكننا أن نقول في ضوء الآيات الكريمة إننا أمام ثلاثة أركان لحماية الأمم والدول أنفسها.

1-              الإيمان والعبودية لله.   2- الحق والعدل.     3- الإعداد والقوة.

إذا حققت أمةٌ العدل والقوة وفقدت الإيمان فقد يمهلها الله زمناً (فمهل الكافرين أمهلهم رويدا ..) لكن أخطر ما يهدد الدول والأمم فقدان الحق والعدل، فإذا استشرى ظلم وانتهك حقٌ وعدلٌ وانتهكت كرامة الإنسان فهذا يسرع بزوال أصحابه، ففي سياق آية التداول جاء قوله تعالى﴿ ... وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴾ [آل عمران: 57].

وقال تعالى في سورة الحج: ﴿ فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ ﴾ [الحج: 45]

 وقال: ﴿ وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ المَصِيرُ ﴾ [الحج: 48]

وقال تعالى: ﴿ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي اليَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ﴾ [القصص: 40].

وقال تعالى في سورة القلم: ﴿ قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ﴾ [القلم: 29]

وفي سورة هود ﴿ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ﴾ [هود: 102]

14-         إذن عندما ترى الأمم والدول تقع في الظلم إعلم أن نهايتها قد أزفت، لكن بعض الناس يستعجلون ﴿ أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [النحل: 1]

وقال تعالى: ﴿ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ ﴾ [الحج: 47]

15-         ولو نحن نظرنا في سير الأنبياء والأمم نجد أن الحدث الواحد حتى يتكامل ويأخذ أبعاده المتكاملة وتمضي فيه سنن الله قد يستغرق مئات السنين وقصة نوح استغرقت 950 سنة.

ولو نظرنا في قصة ابراهيم من  بدء الدعوة إلى حين أن رزق البنين وأقام المسجدين ربما تجاوز الأمر 100 سنة.

وإذا نظرنا في قصة يوسف ربما كان الأمر استغرق ما بين دخوله في الرق وبلوغه الشباب ثم السجن ثم التمكن في القصر ثم سبع سنين غيث ثم القحط حتى جاء إخوته ربما استغرق الأمر أكثر من 30 سنة.

لعلَّ أقصر مدة في التاريخ تحقق فيها للأنبياء وهم أعظم الخلق هو ما تحقق لمحمد صلى الله عليه وسلم في 23 سنة أي إلى حجة الوداع، وهو أعظم الخلق، فإذن سنن الله تعمل وعلينا العمل والثبات.

تصور في لحظة أنك كنت مع ظالم وضعف إيمانك وخدعت بهذا الظالم ثم فجأة تغير الحال فخسرت الدنيا والآخرة معاً، بينما عندما تكون مع الحق والعدل فأنت كسبت الدنيا والآخرة، ومن هنا إذا فُقهت سنة التداول وأسبابها وحكمها كان ذلك عوناً على العلم والعمل والثبات والتضحية والثقة بالله والصبر والرضا عن الله.

الخطبة الثانية:

كم نكون مع الله حتى نفهم عن الله ونتفاعل مع سنن الله، وهل تصورنا أثر الإيمان والثقة بالله ماذا يفعل.

هنا تأتي قصة يونس ﴿ وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ، فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي المُؤْمِنِينَ ﴾ [الأنبياء:87- 88] إذن هذا الدعاء وهذا الفرج ليس فقط ليونس بل لكل مؤمن.

وفي هذا يأتي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعاء الكرب:

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ عِنْدَ الكَرْبِ: «لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ العَظِيمُ الحَلِيمُ، لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ، لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَرَبُّ الأَرْضِ، وَرَبُّ العَرْشِ الكَرِيمِ» صحيح البخاري ومسلم .

أُتي بالشافعي رضي الله عنه إلى هارون الرشيد وكان قد غضب هارون الرشيد لأمرٍ ما من الشافعي (ربما لأنه رفض تولي القضاء) فلما أدخل الشافعي على هارون الرشيد كما تذكر كتب التاريخ تغيير حال هارون الرشيد وأخذ يكلمه بمودةٍ، هنا استعجب حاجب هارون الرشيد الفضل بن ربيع فأخذ يسأل الشافعي كيف حصل هذا وكان شديد الغضب منه؟

قال الشافعي: لقد قلت إذ أدخلت عليه: ﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا العِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ﴾ [آل عمران: 18]اللَّهُمَّ إنى أعوذ بِنور قدسك ... وبعظمة جلالك من كل عاهة وَآفَة وطارق الْجِنّ وَالْإِنْس إِلَّا طَارِقًا يطرقنى بِخَير يَا أرْحم الرَّاحِمِينَ اللَّهُمَّ بك ملاذى فبك ألوذ وَبِك غياثى فبك أغوث يَا من ذلت لَهُ رِقَاب الفراعنة وخضعت لَهُ مقاليد الْجَبَابِرَة اللَّهُمَّ ذكرك شعارى ودثارى ونومى وقرارى أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا أَنْت اضْرِب على سرادقات حفظك وقنى رعبى بِخَير مِنْك يَا رَحْمَن.  [طبقات الشافعية للأمام السبكي 2/152].