دروس وفوائد من هجرة النبي

د. محمد شاكر المودني

دروس وفوائد من هجرة النبي

محمد صلى الله عليه وسلم

د. محمد شاكر المودني

[email protected]

الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفؤا أحد، كتب على نفسه البقاء، وحكم عباده بقانون الفناء، فخلق الموت والحياة، وجعل تعاقب الليل والنهار، والأيام والسنين، ليبلوا خلقه أيهم أحسن عملا…

أشهد أن لا إله إلا هو كما شهد بذلك خيرة خلقه أنبياؤه ورسله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وحبيبه، قضى حياته في الجهاد والدعوة، وعاش عمره داعية إلى الله بإذنه وسراجا منيرا.. صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا..

أما بعد،

عباد الله:

لقد دعى القرآن الكريم إلى النظر والتأمل في خلق الله وآياته الكونية…إذ ذلك مدعاة إلى الاعتراف بربوبيته سبحانه، والإقرار بألوهيته، وإفراده بالعبودية الخالصة (إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم، ويتفكرون في خلق السماوات والأرض..) – آل عمران: 192 –

وكذلك دعى القرآن إلى التفكر والتأمل في حياة الأمم، وأحداث التاريخ لأخذ العبرة والعظة، فشأن هذه الأحداث والذكريات التاريخية، شأن طبائع الوجود وآيات الكون، يمر الناس عليها أو تمر عليهم، فمنهم من يعتبر فيهتدي ويرقى، ومنهم من يعرض ويغفل فيضل ويشقى… والمؤمن اليقظ الفطن من يجعل من هذه الأحداث ذكريات يربط بها ماضيه بمستقبله…

قال تعالى: ( فاقصص القصص لعلهم يتفكرون) – الأعراف: 176 –

وقال سبحانه: ( كذلك نفصل الآيات لعلهم يتفكرون) - يونس: 24 –

وقال سبحانه: ( إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون) – الرعد: 3 –

وقال سبحانه: ( وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا) – الفرقان: 62 –

عباد الله:

إننا في هذا اليوم، وبمناسبة حلول سنة هجرية جديدة (1429)، نستحضر ذكريات وأحداثا من حياة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، آلاما ومعاناة من أجل هذا الدين عاشها خير خلق الله محمد صلى الله عليه وسلم، تبوأت منها هجرته المباركة المكان الرفيع والمقام الكريم، وهي التي نريد أن نقف عندها اليوم وقفات اعتبار واتعاظ.

ï فما هي أهم الدروس والعبر التي يمكن استخلاصها اليوم من هجرة سيد البشر؟؟

1- الديـن أولا:

لقد كان عليه الصلاة والسلام ابن مكة المكرمة، والأرض الطيبة، والتربة الطهور، والحرم الآمن، والحمى المبارك، وهي مسقط رأسه وفيها أهله وعشيرته، وفيها نشأ وترعرع، فأحبها عليه السلام حبا جما، ولكنه لما تعلق الأمر بالدين، وتعارض مع العقيدة والإيمان، آثر ما عند الله، وقدم الدين، وضحى بما كان يحب من أجل ما صار يحب فحب الله أولا، ولا يجتمع في القلب حبان. قال تعالى: (ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه).

فقد جاء في الحديث الصحيح الذي أخرجه الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمكة: "ما أطيبك من بلد، وأحبك إلي، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك"، وقال في حديث صحيح آخر أخرجه أحمد وغيره: "والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت".

فما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجة من حاجاته، ولا مصلحة من مصالحه الخاصة، بل كان الدين قضيته الأولى، وأمر نشره ونصرته همه الأول.. قدم من أجل ذلك كل غال ونفيس، من غير يأس ولا استسلام ولا دنية في دين، حتى إنه ما يئس من عرض دينه على القبائل، ولا قبل نصرة مشروطة، كما وقع في رفضه عليه السلام للنصرة المشروطة لبني عامر بن صعصعة، الذين اشترطوا أن يصير الأمر إليهم بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم.

فأين نحن اليوم من الدين وأمره؟ وهل فعلا أمر الله مقدم في حياتنا على كل أمر؟ وهل حب الله مقدم على غيره مما نحب من الأموال والأبناء...وما سواه من الحب تبع له؟؟

2 - حب الـرســول:

كثير من الناس "يدعي" اليوم حب الرسول صلى الله عليه وسلم، أو يحبه في عمقه، ولكنك تجده في واد والرسول وسننه في واد آخر، فهل هناك فعلا محبة؟ أو هل هناك صدق في هذه المحبة؟

إن حدث الهجرة وضعنا أمام صورة عظيمة كاملة لمحبة الرسول صلى الله عليه وسلم، والصدق في دعوى المحبة... وكان بطل هذه الصورة، وذاك النموذج، هو أبا بكر الصديق رضي الله عنه، الذي تشرف وفضل بصحبة النبي صلى الله عليه وسلم في الهجرة...

ضرب لنا الصديق رضي الله عنه أروع الأمثلة في كيف ينبغي أن تكون المحبة، وأن دليل صدق هذه الدعوى أو عدمه؛ العمل والاتباع أو عدمه...

ومن مظاهر محبة أبي بكر:

- الفرح بالصحبة: فعندما أتاه النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بإذن ربه له بالهجرة، قال قولته المشهورة المتضمنة كل معاني المحبة: "الصحبة يا رسول الله؟".

- رفض المقابل في الدابتين اللتين أعدهما للهجرة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك تضحية بالمال.

- آل الصديق في خدمة الرسول صلى الله عليه وسلم ، فإلى جانب الأب (أبو بكر)، هناك ابنه عبد الله (كان يأتي بالأخبار)، وابنته أسماء (كانت تأتي بالطعام)...، وفي ذلك ما فيه من دلائل المحبة التي تصدقها التضحية بالمال والأهل والأبناء.

- في غار ثور يصبر الصديق على أذى اللدغ حتى لا يتأذى الرسول صلى الله عليه وسلم، وفيه تضحية بالنفس...

ï فأين نحن من هذا كله؟ أين سنة الرسول في حياتنا؟ هل نقدم سنته على مصالحنا؟ وهل نصبر على سنته وهديه مهما كلفنا أو تعارض مع مصالحنا؟ فأين صدق دعوى محبة النبيصلى الله عليه وسلم، وهذا ثوبان رضي الله عنه ذكر المحبة فنزلت الآية مشروطة: (ومن يطع الرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيئين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا...)

3- دعـوة الأهـل والأقربين:

لقد أحب صلى الله عليه وسلم قومه، فكان رحيما بهم، وكان يقول: "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون"، فيقول له جبريل عليه السلام: "صدق من سماك بالمؤمنين رؤوفا رحيما".

 ومذ أمره ربه بقوله: ( وأنذر عشيرتك الأقربين) مافتئ رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو أهله وعشيرته، فلم يمل ولم يكل رغم الإيذاء المتواصل، والآلام التي لقيها منهم هو وأصحابه، حتى مات أحب الناس إليه زوجه خديجة، وكذا عمه أبوطالب الذي كان له درعا و ردءا.

وظل صلى الله عليه وسلم على هذه الحال صابرا محتسبا وداعيا أهله وعشيرته إلى الله مدة 13 سنة، حتى جاءه الأمر بالهجرة، ولولا أمر الله له بالهجرة وإخراج قومه له – كما رأينا في الحديث السابق – ما هاجر.

ï فهل قمنا بدعوة أهلنا وأقاربنا؟ وهل استنفذنا الجهد في ذلك؟ وهل صدت الأبواب في وجوهنا؟ فأين نحن من جهد رسول الله، ومن تضحياته، ومن حبه لعشيرته الأقربين؟ فهذا أول الدعوة..

وإن الرسول عليه السلام ما إن بعث حتى جمع الأهل والعشيرة، وناداهم: يا بني عبد مناف، يا بني هاشم، يابني كذا...، ثم أبلغهم: إني رسول الله إليكم..، فعرض عليهم الإسلام.

ï فهل فعلا ندعو نحن أبناءنا وأهلينا وأقاربنا إلى الدين والصلاح والاستقامة؟ هل نجعل هذا همنا وشغلنا الشاغل؟

4- معية الله لعباده المؤمنين الصادقين:

لما أذن الله لرسوله بالهجرة، خرج صحبة أبي بكر الصديق فأقاما في غار ثور ثلاث ليال، وقريش تطلب النبي وصاحبه، وتجعل لمن يأتي بهما مائة من الإبل، وتبحث عنهما في ربوع الصحراء، حتى أحدق الخطر وعظم الخطب لما بلغ المشركون باب الغار، هناك قال أبو بكر للرسول صلى الله عليه وسلم : "لو أن أحدهم نظر إلى موضع قدميه لرآنا"، فقال صلى الله عليه وسلم قولة المؤمن الواثق من معية الله له: "يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟" فأنزل الله مصداق ذلك: (إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا، فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا، والله عزيز حكيم) – التوبة: 40 –

v كذلك الأمر لما تبعهما سراقة بن مالك حتى لحق بهما، وهو على فرس له، فالتفت أبو بكر، فقال: يا رسول الله هذا الطلب قد لحقنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تحزن إن الله معنا".

فكان كذلك إذ صد الله سراقة، وعاد أدراجه بعد أن أعطى الأمان لرسول الله، وعرض عليه الزاد والمتاع، بل وعاد يصد ويرد كل من يلقاه في طريقه يطلب محمدا وصاحبه.

ï وإن معية الله هذه التي نستفيدها من حدث الهجرة ليست خاصة بالرسول صلى الله عليه وسلم، بل إنها لكل مؤمن تقي محسن...

قال تعالى : (إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون) – النحل: 128 –، وقال صلى الله عليه وسلم: "احفظ الله يحفظك".

5- الهجرة انتصار للدعوة الإسلامية:

لقد كانت الهجرة انتصارا للدعوة، وانتصارا لمحمد صلى الله عليه وسلم على خصومه، وبها تم إقامة دولة الإسلام، ومنطلق النور الذي سيعم كل الأرجاء، وفي المدينة لقي صلى الله عليه وسلمكل الحفاوة والترحاب، فكان دخوله المدينة انتصارا حقيقيا، وبداية انتصارات عظيمة لاحقة...

ولكن لم يأت ذلك من فراغ، فقد سبق خوف وجوع وحصار وأذى، وسبقت آلام وعذابات ومعاناة مدة ثلاثة عشر عاما (13سنة)..فكانت الهجرة نتيجة وثمرة، وكانت الثمرة على قدر النصب، وكانت النتيجة على قدر الجهد والصبر...

فهذا الدين لا يعطي ثمرته إلا لمن بذل وصبر وصابر وثابر، وأما من "استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه"

قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم) – محمد: 7 –

وقال: (ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز) – الحج: 40 - وقال صلى الله عليه وسلم: (واعلم أن النصر مع الصبر).

وقال تعالى: (حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا) – يوسف: 110 –

ï فاتقوا الله – عباد الله – واحرصوا على أن تكونوا ممن ينصر الله بهم دينه، ويعلي بهم كلمته، واستعينوا على ذلك بالله ثم بالصبر على أمر الله...ووفقني الله وإياكم لما يحب ويرضى، وجعلنا سببا لكل خير وعز لهذه الأمة...آمين

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين.. والعاقبة للمتقين.. ولا عدوان إلا على الظالمين..

أما بعد،

عباد الله:

قال عليه الصلاة والسلام: "لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية". فبهجرة النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه، فاتت الهجرة وفات ثوابها، قال تعالى: (الذين آمنوا و هاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون) – التوبة: 20 – ، فيظهر أن أهل الهجرة قد ذهبوا بالأجر العظيم، والدرجة الرفيعة..

ولكن لو تأملنا معنى الهجرة لوجدناها في الحقيقة صورة من صور الجهاد في سبيل الله، والتضحية من أجل الدين، والثبات على كلمة الحق، والسير في طريق عبادة الله، والصبر على ذلك رغم كل المحن والفتن والمشوشات...

v ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : "عبادة في الهرج، كهجرة إلي" (الهرج : الفتن)

فشرع لنا بذلك صورة أخرى من الهجرة مماثلة في المعنى والمضمون للهجرة الأولى...إنها هجرة المعاصي والمحرمات، فالأولى مادية والثانية معنوية...الأولى من دار الكفر إلى دار الإيمان، والثانية من المعصية إلى الطاعة والاستقامة. وفي الحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه" وفي رواية أخرى: "المهاجر من هجر ما حرم الله".

 اللهم وفقنا للطاعات، واكتبنا في المهاجرين إليك، واجعلنا من الراشدين..آمين..

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين