تفسير سورتي ( القدر ، الشمس )

العلامة محمود مشّوح

الجمعة 28 ربيع الأول 1397 / 18 آذار 1977

العلامة محمود مشّوح

 (أبو طريف)

       إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون .. أما بعد فيا أيها الإخوة المؤمنون :

       فإنا مضطرون لضرورات نقدرها إلى أن نعود بين الحين والآخر لنذكر بالمنهج الذي أخذنا به أنفسنا في هذه الأحاديث ، ولنذكر ـ وهذا أيضاً مهم جداً ـ بالغرض الأساسي الذي اصطنعنا من أجله هذا المنهج واعتمدناه ، وقد يبدو لي أن حدود المنهج وأغراضه تغيب عن بعض الإخوة في بعض الأحيان ، ولعلها تغيب عني أيضاً ، إن وضع السور المكية موضع الدراسة كان من أجل غاية توخيناها ابتداءً ، وعنّينا النفس من أجلها على ما في ذلك من عنتٍ ومشقة بالغين ، وأنا شديد الشعور بالضرورات التي تملي شيئاً من هذا القبيل إلا أنه في أحيان يخيل إلى العديد من الإخوة الذين يتابعون هذه الأحاديث أننا نسوق الكلام في التفسير أو في نحو من أنحاء التفسير على الأقل ولعلي لا شعورياً أجنح في بعض الأحيان في اعتبار هذه الأحاديث شيئاً من هذا القبيل .

       فمن أجل ذلك خطر لي خلال الأسبوع الماضي أن أتجاوز بعض السور فلا أبحثها ولا أعرّج عليها لكي يعرف كل الإخوة أن التفسير ليس غرضاً مقصوداً في هذه الأحاديث ، وأن المقصود الأول والأساسي والذي نصبنا له هذه الأحاديث هو أن نتعرف على خطوات الدعوة الإسلامية على يد قائدها ومؤسسها محمد صلى الله عليه وسلم ، والغرض من هذا في هذا الوقت بالذات أن الحاجة ماسة بين العاملين كل العاملين في الحقل الإسلامي إلى معرفة خطوات الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولعل هذا الكلام أن يقع من البعض موقع الغرابة ، بل لعل البعض يستنكر مثل هذا الكلام .

       فلو أنك سألت أي عامل في الحقل الإسلامي سؤالاً صريحاً ومباشراً : أأنت تعمل وفاقاً لصورة محددة ومعروفة لها ما يشهد عليها من عمل النبي صلى الله عليه وسلم ؟ لقال لك بداهة : نعم . ولو أنك ذهبت تشكك في صحة هذا الجواب ، لقابلك بالاستهجان والاستنكار ، ولكن حسبك أن تخرج من باب العمومات إلى الأمور الخصوصية المباشرة اليومية لتفحص معه الطريقة التي يعمل بها ، ولتقايس معه نظائرها وأمثالها وأشباهها من عمل النبي صلى الله عليه وسلم ، لكي تدرك إن شئت بحزن وأسف وإن شئت بلا حزن وبلا أسف أن القوم كلهم يخبطون في أودية لا يعلمون عنها إلا القليل .

       إن هـذا الواقع المؤلم والمؤسف هو الذي اضطرنا إلى أن نسلك هذا الطريق ، إن حيرة عميقة تلف أدمغة العاملين في ميدان الإسلام فتعمي عليهم كثيراً من المسالك ، وتشوّب في وجوههم كثيراً من السبل ، ولقد آن أن تخرج الأمة بمجموعها من هذه البلبلة التي تعيش فيها ويعيش فيها على الأخص العاملون في هـذا الحقل وذلك واجب على المسلمين لأنهم يملكون المصباح ، يملكون الضوء ،  يملكون الدليل ، يملكون تجربة لا أغنى ولا أعظم ولا أسمى ولا أصح من تلك التجربة التي عاشها محمد صلى الله عليه وسلم . حينما كنت أزوّر الكلام في نفسي خلال الأسبوع الماضي كنت أريد أن أعنف بكم وفي نفسي في آن لأقع في هذا المطب أن أتجاوز سوراً عديدة وأن أقف عند قضايا عملية واقعية حركية مباشرة كي نعود إلى جو المنهج وجو الأغراض التي أخذنا أنفسنا بالكشف عن حدودها ومعالمها ، لكن وبأناة رأيت نفسي بين أمرين إما هذا وإما الوفاء للمنهج والوفاء للقضية بكل ما فيها من تطويل وبكل ما فيها من تعب ، وبصعوبة تتسبب عن ضرورة الوقوف مع التفاصيل الدقيقة ومع الجزئيات الصغيرة .

       إن هذا الإسلام الذي نعيشه والذي نحمله لأنفسنا وللعالمين ولليوم ولما سيأتي من أيام منهج فريد ليس له في ما عرفت الدنيا في القديم والحديث نظير ولا شبيه ، إنه فريد تفرد هذا الإنسان الذي ألقي عليه هذا المنهج كما أن هذا المخلوق البشري متفرد بخصائصه وبذاته وبإمكاناته وبطباعه وبغرائزه وحوافزه من بين مخلوقات الله جل وعلا التي تزحم الكون أو يزحمها الكون ، فكذلك المنهج الذي ألقي على هذا الإنسان متفرد في باله لا يبلغ حد الإحاطة به إلا من أنزله وهو الله تعالى ، وإلا من حمله وهو محمد عليه الصلاة والسلام .

       وما نحن إذ نتقرى معالم هذا النظام المعجز إلا قوم باذلون ما وسعنا البذل قد نصل وقد لا نصل ، قد نضع أيدينا على شيء يرضي وقد يخطئنا التوفيق ولكنا على كل حال نحاول ، وليست المحاولة نتاج مجهود إنسان كما يجب أن يُعلم ، إن الغرور يجب أن يطرد من مثل هذا القبيل ، إن هذه الساحة لا ينفع فيها ولا يصلح إلا الصدق والأمانة ، إن المكتشفات التي نصل إليها ويصل إليها غيرنا ليست حصيلة مجهوداتنا وحسب , إنما هي تراكم المجهودات عبر القرون والأزمان وصلنا إلينا نكتشف على ضوئه مزيداً من الأمور نتركه لمن سيأتي من بعدنا يأخذ بمقادة السفينة حتى يوصلها إلى شاطئ الأمان والنصر والعز إن شاء الله .

       كنت أريد أن أتجاوز هذه السور لكني رأيت أن هذا القرآن يا إخوة لم ينزل عبثاً ، كل كلمة فيه لازمة في مكانها وفي بابها ، لو أنك أردت تغربل القرآن وأن تنفي أو تحذف ما وسعك ذلك إلا على حساب قضية الإسلام الرئيسية والأساسية . حينما تأخذ بين يديك منهجاً بشرياً وسواء عليك أن يكون هذا المنهج منهجاً فكرياً أو منهجاً عقدياً أو منهجاً سياسياً أو منهجاً اقتصادياً ، فما من شك في أنك تستطيع أن تعد قضاياه عداً ، وما من شك في أنك تستطيع أن ترسم حدوده رسماً ، هذا شيء مهم من الضروري لحملة الإسلام ولأبناء الإسلام أن يعرفوه . الإطار العام جاهز مع التطبيق ومع المعاملة مع الواقع تتكشف احتياجات لم تكن قضايا المنهج البشري قد رأتها ولم تكن قد وضعت لها الحلول ، لأن نظر الإنسان قاصر ،  الإنسان طاقاته مداركه محدودة بحدوده ، محكومة بقيد الزمان والمكان .

       فمن أجل ذلك كل إنتاج بشري يجب أن تظهر فيه النواقص الملازمة للطبع البشري ، أما فيما يتعلق في منهج الله جل وعلا فأنت لا شك عاجز عن أن تحيط تماماً بحدود المنهج عاجز أيضاً ومن باب أولى أن تعد قضاياك ، إن الإسلام أقام بناء هو هذا البناء الإنساني ، ولكن من حكمة الله ومن إعجاز هذا الدين ومن إعجاز هذا القرآن أنه أحلّ كل قضية من قضاياه في مكانها الحق ، صغيرة كانت أو كبيرة ، ربما ونحن ننظر في ثنايا القرآن تمر علينا أمور نرى أنها غير ذات أهمية ، أن هذه القضايا الصغيرة التي لا تأبه لها ولا تكاد تقيم لها وزناً لا يمكن الغفلة عنها ولا يمكن إسقاطها ، ولا يمكن حذفها ، إنها بمثابة النسيج الذي يمسك البناء أن ينهار فلو أنك أغفلتها لجنيت على المنهج بالذات .

       من هنا كنت مضطراً من حيث النتيجة أن أقبل تحدي هذا المنهج ، وأن أقبل في أن أمدّ في عمر هذه الأحاديث شهوراً أو سنين ، لا أدري . ولكني آخذ على نفسي إن شاء الله تعالى أن أظل مع مقتضيات المنهج مهما طال بنا الشوط ، ومهما تراكمت في وجودنا المصاعب .

       هذا كلام في ظني يدعو إلى البلبلة أكثر مما يشرح ، لكني آخذكم إلى الوقائع مباشرة ، لنخرج من هذه المتاهة اللفظية أو الفكرية ، لأقول نحن اليوم وفي سياق التنزيل نواجه سورة القدر ( إنّا أنزلناه في ليلة القدر ، وما أدراك ما ليلة القدر ، ليلة القدر خير من ألف شهر ، تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر ، سلام هي حتى مطلع الفجر ) .

        نواجه كذلك سورة أخرى وأحب أن أقرن السورتين معاً بكلام عام وعابر هي سورة الشمس تأتي بعد القدر مباشرة في سياق التنزيل ( والشمس وضحاها ، والقمر إذا تلاها ، والنهار إذا جلاها ، والليل إذا يغشاها ، والسماء وما بناها ، والأرض وما طحاها ، ونفس وما سواها ، فألهمها فجورها وتقواها ، قد أفلح من زكاها ، وقد خاب من دساها ، كذبت ثمود بطغواها ، إذ انبعث أشقاها ، فقال لهم رسول الله ناقة الله وسقياها ، فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم ربك بذنبهم فسواها ، ولا يخاف عقباها ) .

       انظروا إلى هاتين السورتين استذكروهما ، لا شك أننا من حيث النظرة الأولى لا نكاد نكشف شيئاً ذا أهمية فيما يتعلق بالمردود العملي للحركة ، ولكن تعالوا ننظر بإمعان ، ما هي الفكرة الأساسية التي قامت عليها سورة القدر ؟ إن معظم المسلمين تنصرف أذهانهم إلى ليلة القدر ، تلك الليلة التي جاء في القرآن ذكرها وجاءت بصددها أحاديث عديدة ، وهي ليلة يتحرّاها المسلمون في شهر رمضان المبارك ، ويكادون يتفقون اليوم على الأقل على الاحتفال بالسابع والعشرين من رمضان ومن شاء منهم ممن تدفعه تقواه ورغبته فيما عند الله أن يقوم هذه الليلة بالذكر والدعاء وقراءة القرآن ، هذا هو الشيء الذي يتبادر إلى الذهن ولعل شيئاً آخر يتبادر إلى أذهان الكثيرين .

       إن هذه الليلة خصّها الله تعالى من بين الليالي بمزية هو أن الله تعالى جعل فيها ساعة لا يوافقها عبد مسلم يدعو الله بما شاء من خير الدنيا والآخرة إلا أعطاه الله إياه ما لم يدعُ بإثم أو قطيعة رحم . إن كثيرين من المسلمين يلتمسون هذه الليلة رجاء أن يوافقوا هذه الساعة ويكونوا في حالة طاعة وتضرع وابتهال إلى الله أملاً في أن يقبل الله منهم الدعاء وأن يجيب مطالبه .

       ما عندي حول هذه القضية ما أقوله ، إلا أنني أريد أن أقول شيئاً ذا أهمية خاصة ، إن من يتصور أن الله تعالى قاضٍ يجلس وراء المنصة ، أو موظفاً كبيراً يجلس في مكتبه وفي الخارج كتّاب يكتبون له المستدعيات ، ووظيفة هذا القاضي أو الموظف الكبير أن يتقبّل الشكاوى وأن ينظر في الدعاوى وأن يفصل منها ، إن هؤلاء الناس لا أقول فيهم إلا أنهم جماعة ينطلقون في تفكيرهم من منطلق ذاتي شخصي مع غفلة مزعجة ومؤلمة عن هذه السورة العظيمة التي أنزلها الله تعالى .

       يا أيها الإخوة .. اسمعوا ( إنّا أنزلناه ) والضمير يعود على القرآن الكريم أساس الإسلام ودعامته ، ودليل الإسلام ومرشده ، ( إنّا أنزلناه في ليلة القدر ، وما أدراك ما ليلة القدر ) للتهويل والتعظيم ، ليلة القدر يا إخوة ليلة من جملة الليالي من حيث الماهية ، من حيث الوصف ، ليلة كسائر الليالي ، من أين أخذت هذه المزية ؟ ومن أين جاءها التقدير ؟ جاءها من هذا القرآن ، من حيث كونها ظرفاً نزل فيها القرآن الكريم ، فهي ليلة القدر بهـذا الاعتبار ولهذا الاعتبار بالذات ، فما معنى القدر ؟

       كما قلت لكم إن هذه الليلة في أذهان كثير من المسلمين ظلال وأخيلة وصور هي حصيلة تراكمات عصور لا ينبغي أن تكون شاهدة على الإسلام ولا مقومة لهذا الإسلام ، إنها عصور لا تشرّف الإسلام ، إن القدر بمعناه اللغوي الذي نزل به القرآن يعني التسوية ، تقول : قدّرت الأمر أي سوّيته ، بحيث لا يكون فيه خلل ولا يكون فيه نقص ، فهي ليلة القدر لأنه سُوي فيها هذا الإسلام تسوية يعجز عنها أهل السماوات والأرض . هذا واحد .

       وللقدر معنى نابع عن هذا المعنى الأساسي في جذر اللغة بالذات ، تقول : فلان جليل القدر أو عالي القدر إذا كان ذا منزلة أو المكانة ، ولكن المنزلة والمكانة تُعطى للشخص وتُعطى للعمل وتُعطى للمكان وتُعطى للزمان بشرط أن يكون هذا الشخص أو العمل أو الزمان أو المكان على أتم ما يمكن أن يكون ، الإنسان لا يكون جليل القدر ، لا يكون ذا قدر إلا بعد أن يكون سوي الشخصية كامل البناء ، ليس في مسالكه ولا في أخلاقه ولا في تصرفاته ولا في نماذج تفكيره ما يمكن يُعاب به أو يُذل ، فمن هنا يكون ذا قدر أي أنه أخذ هذه المكانة نتيجة هذه التسوية العظيمة والمحكمة التي بُني عليها . فالقرآن بهذه المثابة أخذ قيمته العالية من حيث كونه مسوّى على أتم وأكمل وأشمل ما يكون . خذ السورة التي عرضتها سورة القدر سورة يكاد يتلألأ الضياء من بين ثناياها ، سورة تشكل لك على نحو تتطلع فيه إلى الملائكة نازلة من السماء إلى الأرض ، وصاعدة من الأرض إلـى السـماء ، فكأنك فـي غمرة ضياء ، ضياء كاشف ، ضياء منير .

       ( تنزّل الملائكة والروح ) أي جبريل ( فيها من كل أمر ، سلام هي حتى مطلع الفجر ) ما الذي أعطت للمسلمين سورة كسورة القدر ؟ ثم ، ما هي الدفعة التي أوجدته في صدور المسلمين في مرحلة باكرة جداً من مراحل الدعوة ؟ أهو من الضروري أن يذكّر المسلمون وهم في غمرة الصراع مع الشرك والمشركين بعظمة هذا الإسلام وبنقاوة هذا الإسلام وأن هذا الإسلام مبني على أحسن وأحكم ما يكون ؟ ارجعوا إلى وقائع الحياة البشرية ، إن الإنسان يحمل قضية ما ، إن إيمانه بقضيته هو الذي يحدد نصره أو هزيمته ، إن الإنسان حينما يكون مؤمناً بالقضية التي يحملها قانعاً بها فإنه سيكون مندفعاً معه ومضحياً في سبيلها ، ولكنك حينما تجد إنساناً يحمل قضية ليس قانعاً بها ، قناعته بها هزيلة وليس متحمساً من أجلها فإنه لن يكون بذلك المحل ، سيكون شخصاً مهزوزاً متردداً أقرب إلى الهزيمة منه إلى الإقدام ، إن هذا يصور لك قطاعات هائلة من الناس ، تلك القاعات لا تتعب أنفسها بالتفكير والتعرف على مكامن القوة ومواطن الضعف ، فترى من أجل ذلك أن الحياة الدنيا تزدحم بمعوقات لا حصر لها ، من أين جاءت هذه المعوقات ؟ جاءت من ذلك النفر المتكاثر من الناس الذين يحملون أموراً لا يقتنعون بها ويدافعون عن قضايا تكذبهم شخصياتهم وذواتهم في دفاعهم عنها . إنها تلك الصورة التي تجد فيها زحاماً لا ينتهي من المترددين والمائعين والمتشككين ، وبكلمة من الذين لا يصلحون لشيء ، لا ينفعون في دنيا ولا ينفعهم أخرى .

       إن المسلمين في ذلك الوقت كانوا جيل بناة ، جيل قيادة ، وجيلاً رائداً . وإن أي خلل في البناء سوف يشكل ارتباكاً خطيراً يقع على نتائج الدعوة بالذات . فمن أجل هذا عُني رسول الله صلى الله عليه وسلم كما عُني القرآن أساساً بأن يشحذ همم المسلمين باستمرار ، هذا واحد .

       الشيء الثاني وأرجو أن لا يغيب عن البال ، السورة التي يراها كثير من الناس غنيمة من غنائم الآخرة وكأنها مقطوعة المجريات عن الحياة الدنيا ، إن هذه السورة توسّع من أفق الإنسان المسلم ، إن المسلم حين يسمع ربه تعالى يذكر له ليلة القدر التي نزل فيها القرآن وصافحت كلماته أذن الدنيا ، تلك اللحظة الحاسمة من تاريخ البشرية ، ويعرف أنها وُصفت بالقدر سواء كانت تماماً أو عظم المحل وزيادة المنزلة يعرف من أمر إسلامه وصفاً جديداً ، إن هذا القرآن له منزلته التي لا يدانيه فيها أي شيء آخر ، لك أن تستعرض ما شئت مما عرفته الدنيا ، ولك أن تحصر نفسك بين أربعة جدران وتفكر ، فإنك خارج بالنتيجة بقضية لا اختلاف عليها ولا أظن أحداً على وجه الأرض يختلف عليها أن هذا القرآن وهذا الإسلام مختلف عن كل ما يخطر على بال البشرية ، من عدد من الوجوه أبرزها وأجلاها وأهمها أن هذا الإسلام يبنيك فرداً ويبنيك جماعة ويبنيك في رقعتك الصغيرة ويبنيك على محيط الأرض كله ويبنيك اليوم ويبنيك غداً وإلى آخر الزمان ، أي باختصار أن هذا الإسلام الذي شرفك الله جل وعلا بالانتساب إليه وشرفك وكرمك بحمل هذا الإسلام ليس لك وحسب ، وإنما لك ولكل الناس الذين وُجدوا وسيجدون على ظهر هذه البسيطة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين .    

       فإذا كان الأمر بهذه المثابة وكانت المهمة بحجمها وبجديتها تحدد مجموع الطاقة التي يجب أن تُبذل من أجلها فإن هذا الإسلام من حيث هو يتناول مستقبل ومصير الجنس البشري برمته ، يجب أن يشحذ همتك إلى آخر حد مستطاع ، ويجب أن يدخل في ذلك الاعتزاز بهذا الشيء الذي شُرّفت بالانتساب إليه ، والدفع المستمر بضرورة العمل لأنك لا تعمل لمصلحتك فقط ، ولا لقومك فقط ، ولا لجيلك فقط ، وإنما أنت تعمل للإنسان حيث وجد الإنسان ومتى وجد الإنسان .

       فالمسلمون في ذلك الوقت كان ضرورياً جداً أن يستقر عميقاً في قلوبهم ووجداناتهم ضخامة المهمة التي ألقاها الله تعالى على كواحلهم ، وأن يستقر بالأحرى في أذهانهم وفي أعمق جذر قلوبهم أنهم أُناس يمتازون عن سائر الناس . هم الناس الذي يجدّون حين يهزل كل الناس ، وهم الناس الذين يتمسكون بمقتدى العقل حينما تطيش عقول كثير من الناس ، وهم الناس الذين يشغلون أنفسهم بمعاني الأمور حينما ينغمس كل الناس في سفساف الأمور ومنحطها ودنيئها ، هم جيل ولا كالأجيال ، هم ناس ولا كالناس ، هم حملة رسالة ورواد الإنسانية في أعلى وأسمى من هذا المستوى الذي تتخبط فيه إنسانية الناس اليوم .

       إن المسلمين كانوا بالفعل محتاجين إلى أن يستقر عميقاً في قلوبهم هذا المعنى ليعرفوا لأنفسهم مكانتها ومكانة هذا الدين الذي يحملوه .

       فإذا ذهبنا إلى سورة الشمس وأظن أن كثيراً منكم سيعترض بأن هاتين الكلمتين في سورة القدر شيء لا يكفي وأنا موافق ولكني أظن أن هذا في المنظور الذي نعتمده كافٍ الآن .

       إذا ذهبنا من هذه السورة إلى سورة الشمس فنحن نلاحظ أن الله جل وعلا يسوق مشاهد كونية ، ومشاهد إنسانية ، ووقائع اجتماعية ، لاحظوا وانتبهوا واربطوا أنفسكم مع مشاهد السورة ، لنتسائل من حيث النتيجة ، إن الله يعرض جانباً من النظام الكوني سبق لنا أن واجهناه في سور متعددة ماضيات ، لكن النسق هنا هو المهم ، النسق نسق العرض ، توالي المشاهد ، الصورة بمجملها بمجموعها ، يعرض الشمس وضحاها ، والضحى هذه الفترة  ممتدة مما بعد مطلع الشمس بقليل وإلى قبيل الظهر بقليل ، وهي أصفى فترة من فترات النهار ، إن الإشارة هنا واضحة أنها تقارن بين الشمس ضاحية منيرة مشرقة أشد ما يكون الإشراق وأصفى ما يكون الضياء مع هذا الإسلام الواضح المنير الذي ليس فيه أسرار ولا ألغاز ولا معميات ، وإنما هـو واضح وضوح الشمس في رائعة النهار .

       وكذلك ( والقمر إذا تلاها ، والنهار إذا جلاها ، والليل إذا يغشاها ) هذه المشاهد الذي تعتري الكون بانتظام دائماً وأبداً ، ترى الشمس تطلع من المشرق وتأخذ بالارتفاع فإذا ضحت غمرت الكون بالنور المريح العميق الهادئ اللطيف ، وكذلك أنت تراها في المغرب فإذا جنّك الليل برز لك القمر نوراً يضيء جنبات السماء وزوايا الأرض ، هذه الحركة المنتظمة المتسقة التي لا اختلال فيها منذ أن فتح الإنسان عينيه على الأرض ، وإلى أن يشاء الله تشعرك بأن هذا الكون يسير وهو متحرك كله ، ضمن قانون له من الدقة والإحكام والضبط والانتظام ما لا مزيد عليه أبداً ، لو أن النهار زاد دقائق ، ولو أن الليل زاد دقائق ، ولو أن الشمس تخلفت في مسارها ، ولو أن القمر تغير مجراه ، لتغيرت الدنيا وأصبحت غير الدنيا ، ولكان الناس غير الناس إن صح أن يوجد ناس في ظل هذه الشروط التي لا نعرف عنها شيئاً .

       ولكنك ترى الدنيا على النحو الذي رآها آدم عليه السلام بعد أن نفخ الله فيه روحه ، ورآها الناس جميعاً بهذا الشكل لا اختلال ولا زوال ، ثم يعرض عليك أو يلفتك نظرك إلى مشهد آخر مادي هو مشهد السماء هذا السقف المرفوع المبني المزين بزينة الكواكب ، انظر إليه أيضاً ترى أن الله يمسك السماوات أن تزولا ولإن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعد ، لو شاء ربك لأسقط على الناس كسفاً من السماء فأهلكهم ، وانظر إلى السماء هذا السقف تلمع فيه النجوم هذه الكواكب ، لو أن واحداً منها خرج عن مداره قيد شعرة لعملت فيه عوامل الجاذبية عملاً غير العمل الذي تراه ولأدى ذلك إلى اصطدام في ظواهر الكون وقضايا الكون وفي أرجاء الكون تتأدى إلى خراب الدنيا وخراب الكون جميعاً .

    عرض عليك إذن مشهداً من مشاهد الكون مشهد الشمس ومشهد القمر ومشهد الليل الذي جعله الله لك سباتاً ومشهد النهار الذي جعله لك ظرفاً للحركة والاستمتاع وعرض عليك منظر السماء هذا السقف المرفوع المبني بأيد وقوة من الله جل وعلا .

       ثم عرض عليك شيئاً آخر ، لكن الآن في الأنفس ( ونفس وما سواها ) وربك يقول ( سنريهم آياتنا في الآفاق ) كما رأيتم الآن ( وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكفِ بربك أنه علـى كل شيء شهيد ) اعقل عن الله ما يقول لك ، قال لك ( ونفس وما سواها ) ما معنى التسوية ، تأخذ عوداً من شجرة في عقد ، فيه تعرجات ، وتُعمِل فيه الموس تزيل العقد وتعدل المائل ، فيقال أنك سوية هذه القضية ، أي أنك أزلت كل مظاهر الاعوجاج والانحراف والاختلال في هذه القضية ، فالتسوية هي إحكام البناء وإتقانه وتعديله ، ولا تكون التسوية بهذا الشكل .

       فالنفس الإنسانية ليست كما يتصورها أحلاس الفكر المرير في هذه الأوقات وفي أوقات أخرى ، نفس مضطربة غير متوازنة أبداً ، إن النفس الإنسانية سواها الله جل وعلا ، ولكن لاحظوا التفرد ، إن الكون يزدحم بمخلوقات عديدة غيرك ، ولله جنود السـماوات والأرض فيها الجماد الذي لا يتوجه نحوه الخطاب لأنه جماد ، وفيها الحيوان الذي يتحرك بمقتدى الغريزة لا يحكمه عقل وليس مؤهلاً لإعمال الفكر ، فلا يتوجه إليه الخطاب ، وفيها الملائكة الذين جردهم الله جل وعلا من أي دوافع وحوافز قد تتضارب ويلزم أن يعالجها المخلوق علاجاً حتى تستقيم على الجادة ،  فمن أجل ذلك كانت الملائكة صنفاً من مخلوقات الله جل وعلا لا يعرفون إلا الطاعة لا يعصون الله أبداً .

       أنت وحدك من بين مخلوقات الله جل وعلا ركبّك الله جل وعلا على نحو خاص جعل فيك قابلية الهداية كما جعل فيك قابلية الضلال ، وأوجب عليك أن تخوض التجربة وأن تدخل ميدان الصراع ، وحتم تبارك وتعالى أن لا تترقى وأن لا تنهض وأن لا ترتفع إلا من خلال الصراع مع هـذه القوى المركوزة في النفس ، لكن إياك أن تظن أن الله جل وعلا حين ركّب فيك هذه القوى إنما خلقك على نحو غير موزون ، لا ،  إن وظيفة كل حافظ وكل دافع في الإنسان وظيفة ملحوظة ، لا يغفل عنها إلا غافل ، إن كثيراً من الناس يشمئزون حينما يقول لهم إنسان من الناس لقد رأيت أمس فتاة حسناء فأعجبتني ولكن صرفت نفسي عنها ،  الواقع كثير من الناس من أصحاب التقى المكذوب يظنون أن هذا من علائم التدهور وعلائم الانحطاط ، ونقول لا ، ذلك أمر طبيعي ، الإسلام إسلام ، خلق الإنسانَ ربُه وهو يعرفه وهو يعرف طبيعة الغرائز والدوافع التي ركبها فيه ، والإنسان لا يعرف حلاوة الطاعة إلا إذا عرف مرارة المعصية ، لا يعرف فسحة الإيمان والنور إلا إذا عرف ضيق الكفر وضلالته .

       إن الله جل وعلا حين ركّب فيك هذه النوازع المتباينة أراد لك أن ترقى من خلالها حتى تلحق بمصاف الملائكة ، ولكن من داخل الصراع ولن تتقوى ولن تشحن لك عزائم ولن تبلغ معارج العز أثناء رقيك إلا من خلال هذا الصراع .

      هذه التسوية شيء خاص في الإنسان لا يمكن أن تجدها في أي مخلوق من مخلوقات الله جل وعلا . بعد أن يعرض الله جل وعلا هذه المشاهد من الأنفس ومن الآفاق ، ويبين لنا أن هذا الكون بإحكامه ودقته صنع الله الذي لا يحول ولا يزول يلفت النظر إلى أن وضع الإنسان يختلف من بعد ، أن النظام الكوني محكوم بالقدرة الربانية وأن النظام البشري موكول إلى الجهل البشري ، فقال ( ونفس وما سواها ، فألهمها فجورها وتقواها ، قد أفلح من زكاها ، وقد خاب من دساها ) لاحظوا لمن أسند التزكية والتدشية ، والتدشية هي التوسيخ للإنسان ، الإنسان هو الذي يزكي نفسه والإنسان هو الذي يوسخ نفسه ، والمجهود من الإنسان والمسؤولية على الإنسان ، فإذا تركتَ هذا لحظة لتعرف ما قال الله من بعد فسوف تكتشف أمراً عجيباً وعظيماً ، يعرض  لك الله في لمحة خاطفة شريحة من المجتمع البشري الثابت هم قوم ثمود حينما جاءهم رسول الله (  فقال لهم ناقة الله وسقياها ) أراد منه آية فجاءهم بالناقة وقال لهم ( هذه ناقة الله لها شرب يوم ولكم شرب يوم معلوم ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب عظيم ) . ما اكتفوا بكلام النبي وسكتوا ، وإنما انبعث أشقاها ، أشق القوم فعقر الناقة ماذا كان ؟ كان أن ( دمدم عليهم ربك بذنبهم فسواها ، ولا يخاف عقباها ) ما معنى سواها أي قلب عاليها سافلها وأمطر عليهم حجارة من السماء وأصبحوا كأن لم  يغنوا بالأمس ، حتى مساكنهم زالت ، ما لذي يعطيك إياه خبر مثل هذا الخبر بعد كل هذا السياق ؟

       إن صالح حينما بعثه الله إلى ثمود بالآية التي هي جزء من أوامر الله جل وعلا طلب الرسول من قومه أن يرعوا نظام الله أن يرعوا أمر الله جل وعلا.  فماذا كانت النتيجة ؟ عبثوا ( كذبت ثمود بطغواها ) أي بسبب طغيانها وتجاوزها الحد ، فكذبوا رسولهم وعقروا الناقة فحل بهم ما حل . الذي تشير إليه هذه الشريحة المجتمعية من الأمم الماضية أ ن أوامر الله جل وعلا ونواهي الله جل وعلا والشرائع التي ينزلها الله ليست شيئاً يمكن للإنسان أن يأخذه إذا أراد وأن يتركه إذا أراد ، إن شريعة الله جزء من المنظومة الكونية برمتها ، وإنما يجري من نسق عن المنظومة الكونية يجري على أوامر الله وعلى شرائع الله ، كيف ترى لو أن نجماً من النجوم خرج عن مساره ألا يدمر الكون ؟ بلى ، وكذلك هذه الدنيا تعمر باعتماد منهج الله وترقى باتباع شرع الله وحينما يبدأ هذا الإنسان الذي لا يزكي نفسه والذي يدنس نفسه بالخروج على أوامر الله وبرفض شريعة الله ،  أرأيت التخريب الذي يحدث في الكون حين يختل النظام وكذلك الحياة الإنسانية يختل نظامها ويحدث فيها تخريب له أول وليس له آخر  .

       من قضية التي عرضتها سورة الشمس جانبان ، جانب يتعلق بأولئك المخاطبين الذين كان محمد عليه الصلاة والسلام يسوق إليهم الخطاب ويناديهم بهذا القرآن ، يحذرهم غضب الله ويحذرهم نقمة الله وينذرهم أن العثو والفسوق عن أمر الله والعصيان له نتائج مرقومة ونتائج معلومة ، أنتم أمة سبقتكم أمم وأنتم الآن تعيشون في أماكن أمم التي عاشت من قبلكم ، حينما بادت لم تبد لأن الله جل وعلا اشتهى لها أن تبيد وإنما بادت بطغواها أي بسبب طغيانها وتمردها وعتوها على أوامر الله جل وعلا ، وما أباد تلك الأمم فحري أن يبيدكم ، فإذا أردتم بقاءً في هذه الأرض وتمكيناً في هذه الدنيا فتمسكوا بشرع الله جل وعلا .

       هذا الخطاب مساق إلى أولئك النفر الذين كان يواجههم محمد عليه الصلاة والسلام بالدعوة لكي يأوبوا ولكي يتوبوا ولكي ينظر إلى مآلات الأمور وإلى عواقب الأمور ، ثم هو خطاب موجه إلى الفئة المؤمنة التي كانت تلتف حول محمد صلى الله عليه وسلم . إن هذه الفئة الصغيرة عدداً ، الكبيرة طاقةً وإمكانيات هي أمل الدنيا ،هي عنوان المستقبل هي روح السعادة لهذا المجتمع البشري ، إنها تملأهم طاقةً من نوع خاص ، إنهم وحدهم فقط  المأهلون لامتلاك الدنيا وامتلاك الآخرة على سواء . وإن هذه الظواهر الشاذة التي توجد على ساحة الحياة الدنيا من أنظمة ومجتمعات وأفراد لا يقيدون أنفسهم بقيود الشريعة ولا يربطون أنفسهم بأوامر الله فمصيرهم محدد ومآلهم معلوم ، وإن من المسلمين من حول محمد عليه الصلاة والسلام أن يعرفوا موقفهم وأن يثقوا بأن العاقبة لهم لماذا ؟ ليس بحساب مبني على الظنون والأوهام وليس بحساب مبني على الكبرياء التي لا محل لها وإنما بواقع لا ريب فيه .

       إن كل الكون يسير مع النظام فلا يعقل عند أي إنسان فيه ذرة من عقل أن هذا الإنسان وحده هو الذي يمكن له أن يشذ وينجو بعواقب شذوذه ، أبداً ، إن الشذوذ له عاقبة هي الدمار ، والله جل وعلا كشف هذا كشف صريحاً في سورة الشمس لكي يعي المسلمون أن الشذوذ هذه هي نتائجه ، ولكي يحمي الله المسلمين من أن يترخصوا ومن أن يتساهلوا ومن أن يميلوا مع الرخص التي لا معنى لها . لقد كانوا قلة يا إخوة حينما نزلت هذه السورة والتي قبلها ، كانوا قلة قد لا يصلون الأربعين شخصاً ما مكانهم في دنيا تقوم بها دنيا مشركين تعبدون كل شيء إلا الله ما مكانهم ؟ لا شيء ، كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود ، ومع ذلك اسمح لنفسك أن تنظر بعد عشر سنوات أو بعد عشرين سنة أين ذهبت كبرياء قريش وأين ذهب عنفوان قريش وأين ذهبت فارس وأين ذهبت الروم وأين راحت مصر وماذا كان مصير العالم القديم كله تحت أي حساب من كان يتصور أن ذلك اليتيم الذي يتحرك في مكة من حوله عدد قد لا يتجاوز عدد أصابع اليدين مرتين يمكن أن يحطم دعائم العالم القديم ليقيم حضارة جديدة ويقيم دنيا جديدة وليطرح في الوجود إنسانية ووجوهاً جديدة .

       إن أحداً لم يتصور هذا ، أو ليس الله قال حكاية ووصفاً للمشركين في مواجهة أنبيائهم : ( أهذا الذي يذكر ألهتكم ؟ ) بكل سخرية وبكل استهزاء كانت الأصابع تمتد مستهزئة ساخرة بمحمد ، أهذا الذي يكره ألهتكم ؟ لكن هذا هو الذي دخل معك فاتحاً وأشار بقضيبه إلى الأصنام فقال يتلو قول الله ( قل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً ) هذا هو الذي كانت الأصنام مع إشارته تنكب للمناخر والوجوه ،هذا نعم ، فإلى الناس المؤمنين يساق الكلام ، إن الأمور ليس مردها إلى العبث وليس ردها إلى المكانة الشخصية ولا المكانة الاجتماعية إن الأمور مردها أولاً وآخراً إلى سلامة المنهج وإلى معايشة المنهج .

       أيظن أن الذين ينادون بالإسلام في جنبات الأرض اليوم يقيمون وزناً للملوك والرؤساء ولرؤوس المجتمع ؟ أيظنون ذلك ؟ من كان يظن هذا فليلجأ من رأسه هذا الوهم ، إن الإسلام جاء ليلغي هذه التركيبة برمتها ، إن الإسلام جاء ليقضي على هذه الظواهر برمتها ، ولذلك ما كان من ملك وما كان من زعيم وما كان من اتجاه وما كان من ذي سلطان وما كانت من رهبة وما كانت من رغبة فإن ذلك كله لن يطرأ على طريق الإنسان المؤمن ولن يغير من موقف الإنسان المؤمن ، إن الإنسان المؤمن يستند إلى الكون بنظامه المحكم الذي لا يمكن أن يختل . إن هذه الشريعة جزء من نظام الله الكوني لا يمكن لأحد أن يعبث بها كما لا يمكن لأحد أن يتغلب عليها . وإن الإنسان يوم يغلب فإنما يُغلب بانهيار وقع في داخل نفسه ، أأنتم يا إخوة خير أم جيل محمد صلى الله عليه وسلم ؟ إن رسول الله قاد المسلمين في معركة أحد وحلّ بالمسلمين ما حلّ ، وحينما تساءل المسلمون : من أين انهزموا ؟ قال لهم الله القول الذي يجب أن يُقال والذي يجب أن يوضع دائماً أمام عيني المسلم ( أولمّا أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم ) إن الإنسان طالما هو مرتبط بنظام الله الذي هو جزء من النظام الكوني فلن ينهزم في حال من الأحوال ، ولكنه ينهزم حينما تتراخى قبضته عن عروة الله الوثقى وحينما تزل قدمه عن صراط الله المستقيم .

       هاتان سورتان عرضتهما لكم عرضاً ليس فيه غناء في الواقع ، لكني فقط أن أضعكم على العمود الفقري للسورتين ، على الأمر الأساسي الذي أبرزتهما السورتان الكريمتان ، والدعوة في مراحلها الأولى وهي تبني نفسها بعناية الله تعالى وبقيادة نبيها ومرشدها وقائدها محمد صلى الله عليه وسلم محتاجة إلى درس من هذا القبيل ، درس يقرّ في ضميرها عظمة هذا الإسلام وعظمة الداعين إليه . ومحتاجة كذلك إلى ما يثبت في قلوبها وأذهانها أن هذا المنهج الذي يضعون أنفسهم في داخله إنما هو جزء من النظام الكوني الذي يشمل ويحكم السماوات والأرض . وأن أي إنسان تسوي له نفسه بأنه يمكن أن يتغلب على هذا المنهج وأن يحطم هذا النظام فهو إنسان فريسة وهم قاتل ، لأنه سيبيد وسيفنى وسينتحر وسيبقى منهج الله تعالى متفرداً وصامداً في وجه الزعازع جميعاً .

       كانت الأمة في عهد نبيها عليه الصلاة والسلام محتاجة إلى هذا الدرس ، ولعلها اليوم أن تكون أشد حاجة إلى هذا الدرس . إننا نعيش عصراً من أغرب عصور أمتنا ، ومن أشدها تعقيداً وأكثرها التواءً ، وأقدرها على تحريف القضايا والعبث بمصائر الشعوب . وإن أمتنا محتاجة إلى هذا اللون من المعرفة والوعي واليقين من القناعة ، بأنها الأمة الوحيدة في كون الله المؤهلة لأن تنقذ هذه البشرية المعذبة من بين أيدي اللصوص وقطاع الطرق والمتلاعبين بالأعراض وبالدماء وبمصير البشرية .

       فيا أمتنا ويا قومنا .. يا عباد الله .. اعرفوا ماذا أنزل الله عليكم ، وحاولوا أن تكونوا أوفياء لهذا الذي أنزله الله ، ومع هذا الذي جاءكم به محمد صلى الله عليه وسلم ، واعلموا يقيناً أن الدنيا يوم أن تفقد الأمل منكم فلن يبقى لها أمل ، وأن الدنيا إذا سقطت ثقتها بكم فخير لها أن تضع ثقتها بحمار لا يعقل ولا يفقه شيئاً .

       إنكم أنتم مسؤولون في هذه الدنيا عن مصير الدنيا . ثم أنتم موقوفون بين يدي الله ليقول لكم : ألم أُرسل إليكم رسولاً ؟ فستقولون : بلى . ألم أُنزل إليكم كتاباً ؟ فستقولون : بلى . فماذا عملتم فيما أنزلته إليكم ؟ ماذا أنتم قائلون ؟ أعدوا الجواب قبل أن لا يكون جواب . أعدوا الجواب عملاً ووفاءً لهذا الدين العظيم لهذه التركة العظيمة التي تركها الله تعالى لنا . والله يأخذ بأيدينا جميعاً إلى ما يحب ويرضى ..

       وصلى الله تعالى على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين .