حركة التاريخ بين النسبي والمطلق "في رسائل النور"(2)

أديب إبراهيم الدباغ

حركة التاريخ بين النسبي والمطلق

"في رسائل النور"(2)

بقلم: أديب إبراهيم الدباغ

المدخل- ما وراء القبح والشر

إن إيمان المؤمنين بالله تعالى يزيد ويتعزز بكثرة وقوفهم على مظاهر الخير والجمال التي تتظاهر مفصحة عن نفسها هنا وهناك من أرجاء الوجود، إذ يعني هذا - من جملة ما يعنيه الإنسان الباحث عن الحقيقة - أن وراء هذا الخير والجمال خالقاً قديراً موصوفاً بكل الصفات الجمالية التي نجد انعكاساته وآثارها على وجه الكائنات.

إن الوجه الأخر للعالم يبدو - للوهلة الأولى - وكأنه بحر طامٍ من الشرور والآثام، وموج هائج مخيف يضرب شواطئ الإنسانية بعنف، ويرسم فوق جبينها أشد صور القبح دمامة، وأكثرها إيلاماً.

وهنا تنجم مسألة كانت - وما زالت - تستأثر باهتمام الناس. وخلاصتها:

إن الله - جل وعلا - في مألوف العقل خير محض، وجمال مطلق، منزه عن النقص والقصور فيما يخلق ويُوجِد، فلا يمكن عقلاً - أن يتسلل "القبح والشر" إلى هذا الوجود وهو من صنعه وإيجاده.

والحق في قضية "القبح والشر" أدق وأعمق من هذه النظرة الفوقية والسطحية التي ينظر من خلالها بعض من لا يريدون تكليف أنفسهم عناء الغوص الشمولي والاستقصائي في مبنى الأشياء التي يقع عليها النظر وفي معناها، وفي مداها البعيد، وفيما يمكن أن تنطوي عليه آثارها المستقبلية من خير وجمال قد تفوتنا رؤيته في الآن والتو إلا أن المستقبل سيكشف عنه - لا محال - في وقته المناسب.

فما من شيء في هذا العالم، وما من حدث يحدث فيه، أو أمر ينزل به، إلا وهو جميل بذاته، أو جميل بغيره "أي بما سيعقبه من نتائج جميلة" كما يقرر "النورسي" رحمه الله.

فالشر المطلق - أي الشر الذي ليس في طبيعته تحفيز أي نوع من أنواع الخير - والقبح المطلق - أي القبح الذي لا يتكشف في خاتمة المطاف عن أي نوع من أنواع الجمال - في الأشياء والوقائع والأحداث لا وجود لهما أصلاً في هذا العالم كما يتصور البعض، بل لهما وجود اعتباري زائل إذا نظرنا إلى ما سيؤول إليه أمرهما من الخير والجمال في أجل الزمان.

وحتى "الشيطان" نفسه - عنوان الشرور والآثام في هذا العالم - لا يعدم من خدمة يؤديها للإنسان بالرغم منه، حيث يثير فيه - بالاحتراب معه - قواه الجوانية الخيرة، ويحرك في نفسه عرق التحدي والتحفيز، فينكب على نفسه يرمم حصونها، ويسد منافذها وثغورها، فلا يقوى الشيطان على الانسلال إلى داخله، فيبقى قلبه طاهراً نظيفاً مهيأً لقبول أنوار الله ورحماته، فإذا به ينفع - راغماً - من حيث أراد الضرر، تماماً كما حصل له مع "آدم" - عليه السلام - أبي البشر، فلئن استطاع بمكره أن يكون سبباً في إهباطه من الجنة من جهة، إلا أنه من جهة أخرى كان سبباً في تفتح استعدادات "آدم" - عليه السلام – الكامنة، وارتقائها إلى أقصى غاياتها في التوبة والندم وانكسار القلب والعبودية الخالصة لله والتي كان من نتائجها الرضى والمغفرة والمحبة من الله تعالى، وهي أقصى ما يتمناه المؤمن ويطمح إليه.

وفي قصة "موسى" و "الخضر" عليهما السلام، والتقائهما ثم مضيهما معهاً في رحلة عمل معرفية يجوبان خلالها بعض أسرار ما يتشكل من أحداث، ويستبطنان بعض غوامض ما تتكشف عنه الأيام من وقائع... في هذه القصة الشيقة التي يحكيها لنا القرآن الكريم إيماء وتنبيه إلى أن الوقوف - أحياناً - على ظواهر الأمور والأحداث، والحكم عليها بمقتضاها قد يوقع في الظلم والخطأ.

فما كان يبدو في سلوك "الخضر" عليه السلام من قسوة وشر وتهور في خرقه للسفينة، وقتله للغلام، وإقامته للجدار - وإن كان سلوكه هذا مداناً حكماً وتشريعاً - إلا أنه تبين بعد التفسير الذي قدمه "الخضر" - أنه ينطوي على الرحمة والخير والحكمة فيما سيثمر من ثمار في آجل الزمان، ومستقبل الأيام. وهذه النظرة الاستبطانية والمستقبلية للأمور، وعدم الوقوف عند ظواهرها الآنية العجلى، وسطحيتها المباشرة، هي النظرة التي يجب أن ننظر من خلالها - أيضاً - إلى أحداث التاريخ الإسلامي ووقائعه، ولا سيما مآسيه وأحزانه التي ما زالت تثير سحابة قاتمة من الأسى في ضمير المؤمن الغيور.

وما لم يصطحب المؤرخ المسلم هذه النظرة الشمولية والاستقصائية في التعليل والتحليل للحدث التاريخي الذي يعالجه، فإنه سيقع - نتيجة ذلك - في تصورات وهمية مربكة واستنتاجات فجة قد تجره إلى شيء من عدم الاحترام لبعض الشخصيات التي يدور عليها الحدث، والاستهانة بها إلى حد التشكيك بإيمانها وإسلامها كما تورط بالانزلاق إلى هذا الدرك من الخطيئة بعض من ذوي الأغراض بلا تثبت أو دليل!.

ولما كان تاريخ الأمة - أياً كان - إنما هو حركة قدرها المقدور الوثيق الصلة بعالمي الغيب والشهادة، والساري في كيان العالم مشكلاً بعض تاريخه الماضي والحاضر وكذلك المستقبل، لذا فكم يكون من السذاجة بما كان أن يقف أحدٌ عند ظاهرة تاريخية بادية السقم من غير النظر إلى ما يمكن أن تنطوي عليه علتها من صحة وعافية في مداها البعيد، وإلى ما يمكن أن تتركه من مناعة في جسم الأمة في مستقبل أيامها.

فأية واقعة تاريخية - مهما بدت للعيان سلبية ومأساوية وشريرة - إن هي إلا بعض عواصف القدر وسحبه وبوارقه وأنوائه، وسرعان ما تنقشع عن صحو ضحيان ساطع النور في روح الأمة وضميرها تستضيء به أجيالها زماناً بعيداً.

و"النورسي" - رحمه الله - ذو النفس الصافية الجميلة يرى الجمال في كل شيء، ويرى النور في أشد الظلمات حلكة، ويرى بذور خير يمكن أن تختفي في جوانب أي شر.

وعلى ضوء نظرته هذه يمكن أن نفهم رأيه في إشاراته التاريخية التي يشير بها إلى بعض أحداث التاريخ الإسلامي.

ونود التنويه إلى أن هذه الإشارات لا تضمها رسالة واحدة أو كتاب واحد، بل جاءت متفرقة في العديد من الرسائل والكتب حيث كان يلتفت هذه الالتفاتات الذكية عندما تحين المناسبة ضمن الموضوع الذي هو بصدد الكتابة فيه.

والآتي من كلامه هو القاعدة الكلية التي ينطلق منها الرجل في تفسيره لأحداث الكون والتاريخ حيث يقول:

(نوضح – هنا - سراً من أسرار الآية الكريمة:

(أحسن كل شيء خلقه) "السجدة: 8".(2).

نعم، إن كل شيء في الوجود - بل حتى ما يبدو أنه أقبح شيء - فيه جهة حُسن حقيقية، فما من شيء في الكون، وما من حادث يقع فيه إلا وهو جميل بذاته، أو جميل بغيره، أي: جميل بنتائجه التي يفضي إليها..

فهناك من الحوادث التي يبدو ظاهر أمرها قبيحاً مضطرباً مشوشاً، إلا أن تحت ذلك الستار الظاهري أنواعاً من جمال رائق، وأنماطاً من نظم دقيقة:

فتحت حجاب الطين والغبار والعواصف والأمطار الغزيرة في الربيع تختبئ ابتسامات الأزهار الزاهية بروعتها، وتحتجب رشاقة النباتات الهيفاء الساحرة الجميلة...

وفي ثنايا العواصف الخريفية المدمرة المكتسحة للأشجار والنباتات، والهازّة للأوراق الخضراء من فوق الأفنان، حاملة نذر البين، وعازفة لحن الشجن والموت والاندثار، هناك بشارة الانطلاق من أسر العمل لملايين الحشرات الرقيقة الضعيفة التي تتفتح للحياة في أوان تفتح الأزهار، فتحافظ عليها من قر الشتاء وضغوط طقسه، فضلاً عن أن أنواء الشتاء القاسية الحزينة تهيء الأرض استعداداً لمقدم الربيع بمواكبه الجميلة الرائعة.

نعم!... إن هناك تفتحاً لأزهار معنوية كثيرة تختبئ تحت ستار عاصف العواصف إذا عصفت وزلزلة الأرض إذا تزلزلت، وانتشار الأمراض والأوبئة إذا انتشرت.

فبذور القابليات، ونوى الاستعدادات الكامنة - التي لم تستنب بعد - تتسنبل وتتجمل نتيجة حوادث تبدو قبيحة في ظاهر شأنها، حتى كأن التقلبات العامة، والتحولات الكلية في الوجود إن هي إلا أمطارٌ معنوية تنزل على تلك البذور لتستنبتها.

بيد أن الإنسان المفتون بالمظاهر والمتشبث بها والذي لا ينظر إلى الأمور والأحداث إلا من خلال أنانيته ومصلحته بالذات، تراه تتوجه أنظاره إلى ظاهر الأمور، وتنحصر بما فيها، فيحكم عليها بالقبح!... وحيث إنه يزن كل شيء بحسب نتائجه المتوجهة إليه فحسب، تراه يحكم عليه بالشر! علماً أن الغاية من الأشياء إن كان المتوجه منها إلى الإنسان واحدة، فالمتوجه منها إلى أسماء صانعها الجليل تعد بالألوف. فمثلاً:

الأشجار والأعشاب ذات الأشواك التي تدمي يد الإنسان الممتد إليها، يتضايق منها الإنسان ويراها شيئاً ضاراً لا جدوى منه، بينما هي لتلك الأشجار والأعشاب في منتهى الأهمية حيث تحرسها وتحفظها ممن يريد مسها بسوء.

مثلاً: انقضاض العُقاب على العصافير والطيور الضعيفة يبدو منافياً للرحمة، والحال أن انكشاف قابليات تلك الطيور الضعيفة وتحفيزها للظهور لا يتحقق إلا إذا أحست بالخطر المحدق بها، وشعرت بقدرة الطيور الجارحة على التسلّط عليها.

ومثلاً: إن هطول الثلوج الذي يغمر الأشياء في فصل الشتاء ربما يثير بعض الضيق لدى الإنسان، لأنه يحرمه من لذة الدفء ومناظر الخضرة، بينما تختفي في قلب هذا الجليد غابات دافئة جداً ونتائج حلوة لذيذة يعجز الإنسان عن وصفها.

ثم إن الإنسان من حيث نظره القاصر يحكم على كل شيء بوجهه المتوجه إلى نفسه، لذا يظن أن كثيراً من الأمور التي هي ضمن دائرة الآداب المحضة أنها مجافية لها، خارجة عنها... فالحديث عن عضو تناسل الإنسان - مثلاً - مخجل فيما يتبادله من أحاديث مع الآخرين... فهذا الخجل منحصر في وجهه المتوجه للإنسان، حيث إن أوجهه الأخرى أي من حيث الخلقة ومن حيث الاتقان ومن حيث الغايات التي وجد لأجلها، موضع إعجاب وتدبر... فكل من هذه الأوجه التي فطر عليها إنما هي وجهٌ جميل من أوجه الحكمة، وإذا هي - بهذا المنظار - محض أدب لا يخدش الحديث عنها الذوق والحياء... حتى إن القرآن الكريم - الذي هو منبع الأدب الخالص - يضم بين سوره تعابير تشير إشارات في غاية اللطف والجمال إلى هذه الوجوه الحكيمة والستائر اللطيفة، فما نراه قبحاً في بعض المخلوقات، والآلام والأحزان التي تخلفها بعض الأحداث والوقائع اليومية، لا تخلو أعماقها - قطعاً من أوجه جميلة، وأهداف خيرة، وغايات سامية، وحكم خبيئة، تتوجه بكل ذلك إلى خالقها الكريم كما قدر وهدى وأراد.

فالكثير من الأمور التي تبدو - في الظاهر - مشوشة مضطربة ومختلطة، إن أنعمت النظر إلى مداخلها طالعتك - من خلالها - كتابات ربانية مقدسة رائعة، وفي غاية الجمال والانتظام والخير والحكمة(.

       

هوامش:

(2) النقطة الثانية من "الكلمة الثامنة عشرة" بديع الزمان سعيد النورسي.