كتاب أضاحي منطق الجوهر

د. حمزة رستناوي

وقول على قول

د. حمزة رستناوي

[email protected]

تعقيب نقدي على مقال د. خالد محمد كوكو بعنوان " وقفات عند كتاب أضاحي منطق الجوهر" المنشور في موقع رابطة أدباء الشام بتاريخ 22- 11-2014م

بداية أشكر الصديق الدكتور خالد محمد كوكو على قراءته النقدية للكتاب , فالنقد يغني التجربة , و لا بديل لنا عن الفكر النقدي و تفعيله لتجاوز أوجه قصورنا.

و سأقف عند ثلاث نقاط أثارها في نقده للكتاب.

*أوّلاً :هل المنطق الحيوي يقايس المنطق الحيوي؟

 يورد د. كوكو : " الكتاب يعرض لمساطر تأخذها معكَ لقياس كل فكره أو شيء , و لكن نتساءل ألا يمكن قياس الكتاب نفسه بهذه المساطر ليشرب من نفس الكأس " انتهى الاقتباس.

التعقيب :

العلم وثيق الصلة بوجود معيار / معايير ..مقاييس / مساطر..و نظرية المنطق الحيوي لا تدَّعي أنّها اختراع جديد.. هو هو محاولة لقراءة منطق الحياة , و اكتشافه كما وُجِدَ و يوجد و سيوجد في الكون و المجتمعات , اعتمادا على مرجعية البداهة الحيوية الكونية ..و المنطق الحيوي هو محاولة لاكتشاف قانون للأشياء , و ليس وضع قانون جديد من العدمْ ..و هو لا يُلزم - الأنا قبل الآخرين - إلا بِما يُلزمهم بداهة و برهانا ...فهو يُلزم –الأنا قبل الآخرين - مثلا برفض قتل النفس , كون كل واحد منا يرفض أن يقتله الآخرون - إلا في اعتبارات ضيّقة معينة تناقش لذاتها و يقرّها عموم الناس - و المنطق الحيوي يُلزم الناس باحترام حرية عقائد للآخرين ,كونك ترفض أن يُكرهُكَ الآخرين على الدخول في معتقداتهم ..و المُقايسات الموجودة في الكتاب لنماذج من الخطاب الاسلامي المعاصر ,هي اجتهاد و يمكن مراجعتُها و تصحيحها عند وجود قرائن تستدعي ذلك ..و هذا ما تمَّ بالفعل فكل مقايسة في الكتاب استهلكتْ مِنِّي الكثير من التدقيق و كنتُ أقوم بإثبات أو تعديل الحكم أكثر من مرة , بعد المناقشة مع مجموعة عمل مدرسة دمشق للمنطق الحيوي و بإشراف من  د.رائق النقري في مرحلة انجاز الكتاب..و أكون من الشاكرين لمَنْ يساعدني على تجاوز قصور نظرية المنطق الحيوي , و تصحيح أي مُقايسة وردت في فصول الكتاب.

*ثانياً : هل المنطق الحيوي منطق متعدد القيم فقط ؟!

توصيف المنطق الحيوي بأنه منطق متعدد القيم Multiple-Valued Logic و يرفض الثنائيات صحيح , و لكنّه لا يعني أنّه فقط منطق متعدد القيم , بل هو إحدى أشكال هذا المنطق المتعدد القيم , يورد  د.كوكو :" إذا أدخلنا هذا القياس الى مفهوم الايمان بالله نجد: أنا أؤمن بالله - أنا أميل أكثر إلى الايمان بالله-أنا لا أؤمن بالله -أنا أميل أكثر الى عدم الايمان بالله. ..و هكذا دخلنا في فلسفة  وحفر للأعماق و احتمالية تمييع الاجابات ,  و خلقنا حولنا جدليات للفهم و الرؤية. إنّ هناك أشياء لا تحتمل خلق حالات من الضبابية حولها ,  فإمّا أن أكون أؤمن بالله أو لا أؤمن " انتهى الاقتباس.

التعقيب:

المثال المعروض لا يوضِّح رؤية المنطق الحيوي , بل  هو توضيح لفكرة المنطق متعدد القيم ,حيث أنَّ المنطق الحيوي هو أحد أشكاله , و لكنّه يتجاوز ذلك , و سأورد سياق الكِتاب نفسه  في عرض الفكرة: "و عند السؤال التقليدي هل أنت مؤمن بوجود الله ؟ وفق منطق الثنائيات – و هو المنطق المهيمن في الخطاب الإسلامي التقليدي - يمكن توقع إجابتين : أنا أؤمن بالله – أنا لا أؤمن بالله , أما مع المنطق الحيوي فيمكن توقع أربع إجابات / أربع لحظات : أنا مؤمن بوجود الله- أنا أميل للإيمان بوجود الله- أنا أميل لعدم الإيمان بوجود الله- أنا غير مؤمن بوجود الله.                               و هذه اللحظات الأربعة تتكامل مع بعضها , و يمكن للإجابة أن من تنتقل من  لحظة إلى أخرى عند ذات الإنسان , و تختلف بين إنسان و آخر , و مجتمع و آخر.  و إذا نظرنا إلى الإيمان كشكل /طريقة تشكل ,  و كصيرورة حركية احتمالية نسبية تتجسد في مصالح معروضة , عندئذ  نفتح أفقا ً واسعا ً أمام دراسة ظاهرة الإيمان ,  و دورها كمحرِّك و فاعل في حياة الفرد و الجماعة ,  وبذلك  نحرِّر مفهوم الإيمان من منطق الثنائيات ,  منطق الجوهر الثابت ,  المنطق الذي يصادر حرية الاختيار و حرية الإيمان و  الصلاحيات التي يتحوَّاها هذا الإيمان " انتهى الاقتباس.                 المنطق الحيوي لا يلزم الانسان بالإيمان بالله وفق تصوّر معين أو عدم الايمان , و لا يهدف أبدا للتشكيك في ايمان أحد , أو خلق ضبابية , فالإيمان يقوم على الحرية , و الحرية ارادة الحياة , و لكنّه يبين للمُؤمن أن هذا الايمان ما هو إلا شكل متغير و صيرورة حركية احتمالية احتوائية نسبية تعرض لمصالح , فكم من انسان آمن بالله وفق التصور الاسلامي ثم كفر , و العكس بالعكس , و الايمان يزيد و ينقص:  "وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيماناً" المدثر 31 . ووفقا لرواية منسوبة للنبي الكريم لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن " و طبيعة هذا الايمان تختلف من مجتمع لآخر ,و من فرد لآخر ,و من زمن لآخر , حتّى عند نفس الفرد , فهناك من يؤمن بالله الرحمن الرحيم الرءوف , و هناك من يؤمن بالله المنتقم المتكبّر أو يقتل الآخرين فقط لأنّهم يختلفون عنه بالعقيدة ..

*ثالثا : الجوهر.. كسلاح للانتحار الجماعي.

يطالب د. كوكو بأن يكون هناك جواهر مطلقة سامية مقدّسة ,لا يمكن مقايستها  يأتيها القياس و لا تقبل الجدل و المساطر كالإيمان بالله و الدين و الاسلام , بينما مفهوم الشكل و طريقة التشكل و مقايسات المنطق الحيوي تصلح لما دون ذلك كالتدين و السلوك و الممارسة الحياتية في تطبيق الدين الخطاب الاسلامي المعاصر.

التعقيب:

المقولة المعروضة أعلاه تشابه مقولات من قبيل : "الاسلام غير المسلمين" , أو كما عبّر الإمام محمد عبده عندما زار أوروبا : "وجدتُ في أوروبا مسلمين بلا إسلام , ووجدتُ في بلدي إسلاماً بلا مسلمين"

و لكنّ المصالح المعروضة في هذه المقولات منافية للبرهان من عدة أوجه:

-لا يوجد اسلام من دون المسلمين , فالنبي محمد و الصحابة و أئمة الشيعة ..الخ كلهم مسلمين و مستحيل وجود اسلام بلا مسلمين , فلو لم يوجد مسلمين اليوم في القرن الحادي و العشرين , لكان قولنا الاسلام دين منقرض ؟!  و الاسلام كعقيدة و أي دين آخر كذلك , لا يمكن فصله و فهمه بمعزل عن الابعاد الاخرى للكينونة الاجتماعية و ابسطها الزمان و المكان و السياسة و الاقتصاد و اللغة..الخ.

-مقولة الشكل و كون الكينونة – أي كينونة -  هيَ طريقة تشكل و صيرورة حركية احتمالية احتوائية نسبية يمكن مقايسة صلاحيتها عبر تقنية مربع المصالح , هذا لا يتضمّن أيْ حُكُمْ قيمة على هذه الكينونة , بكونها تافهة.. ثمينة! ,بل هو قانون معرفي يشمل كل كينونة , بمعزل عن كونها مقدّسة او مدنّسة ..و من منطق عقائدي -على طريقة المعتزلة - يمكن وضع هذه المقولة في سياق مبدأ " سُنَنُ الخَلْقْ ". و مقولة الجوهر بحدِّ ذاتها لا تحمل حكم قيمة مرتفع ,إلا وفق تصوُّر و أوهام المؤمنين بها .. بما يجعلهم يؤمنون بأنّهم من جنس أو فرقة أو قبيلة أو عقيدة جوهرها مختلف عن جواهر الآخرين  و أفضل منهم !  لنأخذ على سبيل المثال الدين الاسلامي فهو ليس بجوهر , بقرينة أنه وجد في زمن معين و مجتمع معين أثّر و تأثر بذلك , لا يمكن القول بالإسلام دون وجود اللغة كفاعلية ثقافية بشرية مثلا , و القرآن الكريم تمَّ جمعه بزمن مُعين و فيه ناسخ و منسوخ , و يحتمل روايات و قراءات رسوم مختلفة..الخ .

أما بالنسبة لموضوع الايمان , فالمنطق الحيوي يُعني بالإيمان بالله ,و مفهوم الالوهية كما وُجِدَ في المجتمعات البشرية , لا يُقَايِس صلاحيات الله , بل صلاحيات الايمان بالله , و طبيعة و نتائج هذا الايمان , و اختلاف اشكال الايمان بين البشر و المجتمعات و صلاحياتها , المنطق الحيوي ,غرضه تجاوز قصور الكينونة الاجتماعية و قصور البعد العقائدي  فيها , سواء كانت العقيدة الاسلام او غير الاسلام , سواء كانت عقيدة اسلامية سنية شيعية معتزليه صوفية سلفية..الخ. و  أزعُم أنَّه يفيد المؤمنين قبل غيرهم في تجاوز القصور الممكن و المحتمل جدا لأي كائن , و التخلص من ازدواجية المعايير. إنّ الجذر المنطقي للعنصرية و ازدواجية المعايير هو منطق الجوهر , و لذلك يؤكد المنطق الحيوي في نقده على مقولة الجوهر و منافاتها للبرهان و قصورها ,و لكنه يعترف بأن منطق الجوهر هو إحدى الاشكال المُمكنة لتشكل الكينونة , و لكنه شكل قاصر حيويا مناف للبرهان , وجد عبر التاريخ بصلاحيات متفاوتة و بضرورات مُعيّنة , و لكنَّ ضررهُ  اليوم أصبَحَ بمستوى الكارثة و الانتحار الجماعي , و الدليل الدامغ ما يجري في مجتمعاتنا من صراعات و حروب اهلية و طائفية , و بلدي سوريا و بلدك السودان يا صديقي , خير مثال للنتائج الكارثيّة لثقافة منطق العنصري  و سيادتها ,سواء أكان جوهرا قوميّا أو دينيّا أو فئويّا سياسيا أو  قبليا.

هامش:

أضاحي منطق الجوهر " تطبيق مقايسات المنطق الحيوي على عينات من الخطاب الاسلامي المعاصر"