عبد الله الطنطاوي أديب في زمن الربيع العربي 1

محمد علي شاهين

المقدمة

الحمد لله وحده الصلاة والسلام على سيّدنا ونبيّنا وقائدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن سار على هديه إلى يوم الدين وبعد.

فقد استغلّت الدوائر الاستعماريّة حالة العجز والضياع التي تعيشها الأمّة بإيهام العامّة والغوغاء وأنصاف المتعلّمين أنّ ماهم فيه من تخلّف وفقر سببه الإسلام، متهمة إيّاه بالرجعيّة والإرهاب.

وأعطت الجيوش الغازية لنفسها حق التدخّل في دولة مثل سوريّة لمحاربة الإرهاب، ووجدت من الأنظمة الفاقدة للشرعيّة من يعطيها حق التدخّل لقمع شعبه ووأد ثورته.    

وأغرقت دول العالم الإسلامي بالديون والفوائد، ولم تستغل هذه القروض في التنمية، وكان المال العام نهباً لذوي السلطة والنفوذ، وانهارت اقتصاديّات دول غنيّة بالبترول والغاز والمعادن، وتحكّم البنك الدولي بهذه الدول، وفرض عليها سياساته الاقتصاديّة.

وابتلي العالم الإسلامي بالانقلابات العسكريّة، وتسلّط العسكر على الحياة العامّة، وأنشبت الباطنيّة والحزبيّة مخالبها في جسد الأمّة تحت شعار الاشتراكيّة والوحدة والحريّة تارة، وتحت شعار المقاومة ومحبّة الحسين تارة أخرى، وقتل شعبنا السوري وشرّد في المنافي البعيدة، وامتلأت السجون وسراديب التعذيب بالأحرار أمام سمع العالم وبصره، لأنّه طالب بحريّته واستقلاله.

وهنا يأتي دور الأديب المؤمن ليرسم البسمة على الوجوه من جديد، ويعيد إلى القلوب الواجفة الأمل، وإلى النفوس الخائفة الاطمئنان، وأن الله لن يتخلّى عنها، وأنّ نصر الله قريب.

ويأتي دورنا لكتابة سيرة الرجال الأوفياء لدينهم ووطنهم وأمتهم، الحاملين رسالة النهضة ولواء التجديد، المدافعين عن شرف الكلمة الحرّة في زمن الخذلان العربي، الحرّاس الأمناء لحضارة الأمّة وعقيدتها، لنقول للأجيال القادمة بأنّنا رغم كل الظروف لم نستسلم.

وكان من حقه علينا أستاذنا وقرّة عيوننا الأديب الداعية عبد الله الطنطاوي، الذي عاش مهاجراً يحمل قلمه، محاصراً بعيون النظام، محاطاً برعاية الله، ومحبّة إخوانه، أن نفرد له ترجمة خاصّة، نتحدث فيها عن سيرته وهجرته ومسيرته ومؤلّفاته القيّمة التي كتبها، والفنون الأدبيّة التي برع فيها، وجهوده في خدمة الأدب الإسلامي، وعن علاقته بأدباء عصره، وننشر نماذج من مقالاته.

وسيدرك القارئ أننا نكتب من خلال سيرة الطنطاوي طرفاً من تاريخ سوريّة وحركتها الأدبيّة، وندوّن جانباً مهماً من تاريخ الحركة الإسلاميّة التي أعطاها الطنطاوي وقته وماله وحياته.

لقد كان أستاذنا الطنطاوي حديثاً حسناً لمن وعى، وصدق ابن دريد حيث يقول في مقصورته:

إنّما المرء حديث بعده   فكن حديثاً حسناً لمن وعى

ومن أبقى الحديث الجميل من الذكر:

فقد عاش كلّ الدهر عالماً     حليماً كريماً فاغتنم أطول العمر

ترك الطنطاوي بصمته على الجماعة، وعلى الجيل، وحبّب إلينا الفكر والأدب، وكان قدوة في التواضع والإيثار والعمل الجاد المنتج.

امنحه اللهم الصحّة والعافية، واكلأه بعينك التي لا تنام، وبارك اللهم له في عمره وأهله، وارفع قدره ومنزلته بين خلقك، وطهّر نفسه، واسعد قلبه، وفرّج كربه، ويسر أمره، واغفر ذنبه.

وصلّى الله على سيّدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم.

عمّان في   5 نيسان 2019                       المؤلّف                       الموافق في 29 رجب 1440           محمد علي سعد الدين شاهين                                                      

عبد الله بن الشيخ محمود الطنطاوي

أديب في زمن الربيع العربي

أحد النبهاء الغيارى على الثقافة العربيّة، والفكر الإسلامي، كاتب إسلامي مبدع، أديب روائي ناقد، مهتم بأدب الطفل المسلم، وأدب الانتفاضة الفلسطينيّة، وأدب ثورة الكرامة في سوريّة، رئيس (الجمعيّة العربيّة المتحدة للآداب والفنون بحلب)، أحد مؤسّسي (رابطة الوعي الإسلامي) في سوريّة، مؤسّس ورئيس (رابطة أدباء الشام) والمشرف ورئيس موقعها الأدبي الرائع، عضو رابطة الأدب الإسلامي العالميّة.

ولد الأديب الإسلامي عبد الله بن الشيخ محمود الطنطاوي عام 1935، في المدينة الجميلة (إعزاز) المتكئة على سفح التل الترابي المسمّى باسمها، المنحدر نحو الجنوب الشرقي باتجاه وادي نهر قويق، والذي هو جزء من جبل برصايا، أحد هضاب مرج دابق الذي سميت باسمه المعركة الفاصلة بين جيش المماليك بقيادة قانصوه الغوري، والعثمانيين بقيادة السلطان سليم الأوّل بن عثمان (معركة مرج دابق) في 25/2/922 هـ، تلك المعركة الفاصلة التي غيّرت خريطة المنطقة، وفتحت أبواب الشام ومصر وما وراءهما للعثمانيين، ومنحتهم شرعيّة الخلافة، وزعامة العالم الإسلامي بعد بني العبّاس.

فتحها المسلمون بقيادة أبي عبيدة عامر بن الجرّاح، وخالد بن الوليد في السنة الخامسة عشرة للهجرة.

وتقع إعزاز إلى الشمال الغربي من مدينة حلب، على بعد 7 كم عن مدينة كلّس (كلّز) التركيّة.

وهي مدينة طيّبة كثيرة الخيرات، بالقرب من الحدود التركية، ترتفع عن سطح البحر 400م، تشتهر بأجبانها، ومعاصر الزيتون الحجرية والحديثة، وزيتها من أطيب الزيوت في العالم.. ولكن.. مالي ولهذا؟ إلا إذا كنت أريد القول:

ولندع صاحب الترجمة يحدثنا عن بلدته التي أحبّها حيث يقول: "ولدت في بلدة إعزاز، وهي مدينة صغيرة جميلة، هواؤها بليل، وجوّها نقيّ، ومياهها عذبة، وأرضها طيبة، تحفها بساتين الكرز، والتفاح، والخوخ، وكروم التين والعنب والفستق الحلبي، وعشرات آلاف أشجار الزيتون والجوز واللوز والسفرجل، وفي وسطها تل أثري يدعوه أهلها بالقلعة، وفيه تعرّض البطل صلاح الدين للاغتيال على أيدي الحشاشين.

ولكن.. مالي ولهذا؟ إلا إذا كنت أريد القول: إنني عشت طفولتي في جواء الجمال".

ولا بدّ لنا أن نعرّج قليلاً على قلعة إعزاز بمناسبة الحديث عن ابنها البار عبد الله الطنطاوي فننقل رواية الدكتور ماجد عرسان الكيلاني مؤلف كتاب (هكذا ظهر جيل صلاح الدين وهكذا عادت القدس) ـ الكتاب الذي يثني عليه الطنطاوي في كل مناسبة ـ نقلاً عن المؤرخ أبي شامة، مؤلف كتاب (الروضتين)، وأبو شامة من مواطني صلاح الدين ومن خاصته التي تلازمه، نقل عنه ما يلي:

"أما في بلاد الشام فقد استمر الباطنية يبثون الرعب ويحيكون مؤامرات الاغتيال، وحين احتل الصليبيون فلسطين والسواحل السورية، راحوا هم والفاطميون يستعينون بأمراء الصليبيين وملوكهم ويعقدون معهم المحالفات ضد العالم السني، ولقد قاموا فيما بعد، بمحاولتين لاغتيال السلطان صلاح الدين الأيوبي ولكنه نجا من المحاولة الثانية بأعجوبة، ويروي أبو شامة تفاصيل هذه المحاولة الشريرة فيذكر أن الباطنية أرسلوا جماعة من أتباعهم تنكروا بزي الجنود ودخلوا في جيش صلاح الدين وقت محاصرته لحصن إعزاز في شمال سوريا، وباشروا الحرب وأبلوا فيها بلاءً حسناً، وبينما كان السلطان يدير الحرب من خيمته إذ وثب عليه أحد الباطنيين وضربه بسكين في رأسه فأصابت خوذة الحديد، ولكن السكين انزلقت إلى خد السلطان وجرحته، وحينما رأى الباطني فشل ضربته هجم على السلطان وجذب رأسه إلى الأرض وركبه ليحزه، فسارع أحد مساعدي السلطان وهو سيف الدين بازكوج وضرب الباطني بسيفه فقتله، وانقض باطني آخر نحو السلطان فاعترضه الأمير داود بن منكلان الكردي وضربه بالسيف ضربة قاضية ولكن الباطني كان قد سبق الأمير داود فجرحه في جبهته جرحاً مات منه بعد أيام. وهنا انقض باطني ثالث على السلطان فاعترضه الأمير علي بن أبي الفوارس وجماعة فقتلوه، وظهر باطني رابع منهزماً فلحقوه وقتلوه. أما السلطان فقد نقلوه إلى سرادقه والدم ينزف من خده، وتوقفت الحرب في ذلك اليوم، واضطرب الجيش وخاف الناس بعضهم من بعض ولم يصدقوا أن السلطان حي وطالبوا برؤيته حتى أظهره أعوانه فسكن الجنود".

ويوم ولادته ودّع آل الشيخ محمود أحزانهم، بعد فراقم عبد الله الأوّل ابن السنوات الثلاث الذي ودّعوه، فعادت الفرحة والسعادة من جديد، وشعر الوالدان بأنّ الله قد عوّضهم بفقدانه، طفلاً جميلاً، معافى، تتلألأ عيناه بالذكاء، وزغردت النساء لأوّل مرّة وهنّ ينشدن أجمل الكلمات، وترددت الضحكات في أرجاء المنزل بهذا القادم الميمون.

بينما كان الفلاّحون ورعاة الماعز غارقين في الحديث عن موسم الزيتون الذي مضى، وعن زراعة نوع جديد من الحبوب والفاكهة، وأسواق الأجبان التي خسروها في الاسكندرون، أمّا المتنوّرون ومعهم شيخ الجامع الكبير، فكانوا يخوضون في موضوع انتخابات لواء الإسكندرون التي قرّرتها عصبة الأمم المتحدة، وأشرفت عليها هيئة مشتركة من الفرنسيين والأتراك.

إلاّ أنّ الجميع كانوا على ثقة بفوز الأتراك، وانضمام هاتاي إلى تركيّا، ليس بسبب تحيّز الهيئة، ولكن لأنّ الحنين إلى الدولة العثمانيّة كان يملأ القلوب.

فلم يذهبوا إلى صناديق الاقتراع للإدلاء بأصواتهم، لأنّهم بايعوا الخليفة، واكتفوا بالدعاء لولي الأمر، ولم يخطر على بالهم أنّ أتاتورك قد قوّض عرش بني عثمان، وهم غافلون.

وأخذت أنظار التاجر الشيخ محمود تتجه إلى أسواق أنطاكية، بعد انتقال عاصمة اللواء من الإسكندرون إليها، وأدرك أنّ فرنسا قد أعطت السوريين الاستقلال بيد وانتزعت الإسكندرون باليد الأخرى.

وترعرع الطفل عبد الله في أسرة متديّنة تجلّ العلم وأهله، متنقلاً بين إعزاز وحلب ودمشق، ونشأ في طاعة الله على قيم الإسلام وآدابه، متمتّعاً بالوعي الوطني والديني، والحرص على الصالح العام.

يقول صاحب الترجمة في حديث الذكريات: "كان أبي تاجراً متواضعاً، وكان شيخاً معمماً، يحرص على تربيتنا تربية إسلامية، فكان يوقظنا لصلاة الفجر، حتى في أربعينيات الشتاء القارس، ويأخذنا إلى المسجد القريب من بيتنا، وأحياناً ـ في غير أيام الأمطار والثلوج والبرد الشديد، كان يصطحبنا إلى الجامع العمري الكبير في وسط المدينة، وكان الشجار يحتدم بينه وبين أمّنا الرؤوم الحنون، كانت تخاف علينا من البرد والمرض، وكان يحرص على أن نكون أشدّاء في مواجهة الأعاصير، رجالاً وإن كنا دون العاشرة من العمر، يريد أن تكون قلوبنا معلّقة في المساجد، وقد كان له بعض ما أراد من أكثر أولاده، بنين وبنات.

كان يتوسّم فيّ الخير، ربما لأنني أخذت اسم أخي الذي توفي وهو في الثالثة، وكان يحبّه حباً جماً، ويصطحبه معه إلى السوق، والمسجد، وعندما توفي، وجئت بعد أيام من وفاته، أسماني عبد الله، وحللت محلّه في دائرة النفوس، وفي قلبه معاً.

كان يرسلني إلى الكتّاب لحفظ القرآن وتعلّمه، في أيام العطل المدرسية، وعندما صرت إلى الصف الثالث الابتدائي، وضعني في مدرسة صيفية، أتلقى فيها دروساً في النحو، والتجويد، والإنشاء، وحفظ ما يتيسر من القرآن الكريم، ومن الحديث الشريف، وكان شيخ المدرسة الصيفية عالماً جيداً، وكان إمام الجامع العمري الكبير وخطيبه، وكان يدرّس فيه، وأثناء الدرس يطلب مني أن أنهض لأستشهد بآية أو بحديث أو بشيء من الشعر على صحة ما يقول، حتى صار الناس يدعونني بالشيخ عبود.

وقد أفدت من شيخ هذه المدرسة، واسمه الشيخ مصطفى ياسرجي، ما حبّبني بالعلم الشرعي وبالأدب معاً".

وشهد في العاشرة من عمره حدثين هامّين، كانا الشغل الشاغل للناس في أسواقهم ومساجدهم: الإعلان عن الهدنة بين الدول المتحاربة إيذاناً بانتهاء الحرب العالميّة الثانية، وشعور فرنسا بالانتصار، وقيامها بضرب البرلمان السوري إمعاناً في الظلم.

ولمّا وجد أبوه فيه الاستعداد والرغبة لدراسة العلوم الدينيّة، شجّعه للالتحاق بمعهد العلوم الشرعيّة بدمشق، فقضى سنوات الدراسة الداخليّة بهذا المعهد العريق، وتلقّى فيه علوم الدين واللغة العربيّة على كبار علماء دمشق.

ويتحدث الطنطاوي عن الفضائل التي تعلّمها من شيوخه في دمشق فيقول: "عندما نلت الشهادة الابتدائية ـ السرتفيكا ـ وجّهني أبي إلى الكلية الشرعية ـ الخسروية ـ بحلب، ولكن.. شاء القدر أن أذهب مع صديق لي إلى دمشق، وأتقدم إلى مسابقة كان يجريها معهد العلوم الشرعية التابع للجمعية الغراء، وأن أكون الأول بين المتسابقين، وأن أمضي سنوات دراستي الإعدادية والثانوية في هذا المعهد الكريم، وأن أتعلم وأتربّى التربية العربية الإسلامية على أيدي جلة من علماء دمشق الأبرار الأطهار.. كان مديرنا الشيخ أحمد الدقر، ابن العلاّمة الواعظ المؤثر الشيخ علي الدقر، صاحب أكبر نهضة علمية في بلاد الشام. وقد أفدت منه النظام والحزم.

وأفدت من الشيخ عبد الوهاب دبس وزيت، التلاوة الصحيحة لآي الله، ومخارج الحروف.

وأفدت من الشيخ أحمد المنصور المقداد، الكثير من الفقه الشافعي، فقد كان الشافعي الصغير.

وأفدت من العلاَّمة الشيخ نايف عباس، حبّ المطالعة، والجدّ والاجتهاد في طلب العلم.

وأفدت من الشيخ المجاهد عبد الكريم الرفاعي، كلّ خلق كريم يليق بالشاب المسلم.

وأفدت من الشيخ خالد الجباوي الكثير من علم النحو، وهذا الشيخ كان آية في علم النحو، كما وصفه الشيخ علي الطنطاوي الذي استمع إليه ساعة، وخرج بهذا التوصيف.

وأفدت من المفسّر المحدّث الشيخ عبد الرحمن الطيبي الزعبي شيئاً من علوم التفسير والحديث ومصطلحه.

وأفدت من الشيخ عبد الرؤوف أبو طوق فن الخطابة، فقد كان خطيباً مفوهاً، وكان يدرسنا فن الخطابة.

وأفدت من الأستاذ الدكتور محمد خير عرقسوسي شيئاً ضحلاً من حب الفلسفة وعلم النفس.

وأفدت من الأستاذ الدكتور الشيخ محمد أديب الصالح علماً ودعوة، وسلوكاً، وهو ممن حببني بالأدب.

وأفدت من العالم اللغوي النحوي الأديب الشيخ عبد الغني الدقر، حب اللغة والأدب، وحب الدعابة في غير تبذُّل أو شطط.

وتعلمت من مشايخي هؤلاء جميعاً أن ما يميز المسلم، استقامته، ووعيه، ونزاهته، وزهده، وتواضعه في غير اتّضاع.

كانوا علماء أجلاء، ما عرفوا في دنياهم غير العبادة والعلم وإرشاد الناس إلى الطريق المستقيم.. رحمهم الله جميعاً رحمة واسعة".

وكانت سعادة الأهل في إعزاز لا توصف، وهم يستقبلون الشيخ الصغير في إعزاز، وقد حقّق أمل أبيه وأمّه، وقد نال شهادة الكفاءة والثانويّة الشرعيّة السوريّة والعامّة، وهو يتوّج رأسه بالعمامة البيضاء، ويحدثهم عن أخبار العاصمة ورجالها.

لكنّ طموحه كان أكبر من أن يتولّى الإمامة والخطابة في إحدى القرى المنسيّة في ريف حلب أو أحيائها الفقيرة، لأنّه أدرك أنّ العلم بحر واسع، ولا بدّ من مواصلة الدراسة الجامعيّة، بالاعتماد على الذات والاشتغال بالتعليم إلى جانب الدراسة، دون أن يكلّف والده أيّة نفقات إضافيّة.

والتحق بجامعة دمشق، ونال الإجازة في الآداب، من قسم اللغة العربيّة سنة 1965.

وعاد الشاب عبد الله إلى محافظة حلب يحمل الإجازة في اللغة العربيّة من الجامعة السوريّة (جامعة دمشق) وهو يتوقّد حماسة وحيويّة، واستهوته حرفة التعليم، وكان للمعلّم مكانة اجتماعيّة لائقة في تلك الفترة من تاريخ سوريّة، فاشتغل بتدريس مادّة اللغة العربية في ثانويات حلب بين عامي: (1965 – 1978).

وعكف على المطالعة الحرّة في مكتبات حلب العامرة بكتب الأدب والتراث، وقرأ الأدب القديم والحديث بنهم، واطّلع على المدارس الأدبيّة.

وفي قصبة قنّسرين، وجد كل ما قرأه عن حلب من أوصاف، وما دوّنه الرحّالة عنها، وما نظمه الناظمون، وما كان يتحدث به أبوه بعد كل رحلة عن غرائب حلب وطرائفها، فهي المدينة الواسعة الكثيرة الخيرات، الطيبة الهواء، وما قيل في تسمية حلب، وأنّ إبراهيم الخليل عليه السلام كان نازلاً بها، يحلب بقرته الشهباء في الجمعات، ويتصدّق به فتقول الفقراء: حلب الشهباء.

واستعاد كل ماوصفه ابن بطوطة في تحفته لقلعتها فقال: لها قلعة شهيرة الامتناع، بائنة الارتفاع، تنزّهت حصانة من أن ترام أو تستطاع، منحوتة الأجزاء، موضوعة على نسبة اعتدال واستواء وقد طاولت الأيّام والأعوام، وشيّعت الخواص والعوام ؛ وبداخلها جبلان ينبع منهما الماء، فلا تخاف الظمأ، ويطيف بها سوران، وعليها خندق عظيم ينبع منه الماء، وسورها متداني الأبراج، وبها مشهد يقصده بعض الناس يقال: إنّ الخليل عليه السلام كان يتعبّد به.

        وسمع الموشّحات والقدود الحلبيّة من الشيخ الفنان الكبير بكري كردي مؤذّن الجامع الكبير، والأشعار الجميلة التي يتغنّى بها المنشدون في مجالس الطرب الأصيل، البعيد عن الابتذال والخلاعة، كبائيّة أبي بكر الصنوبري في وصف حلب:

سقى حلب المزن مغنى حلب

 

فكم وصـلت طربا بالطرب

وكم مستطاب من العيـش لذّ

 

بها إذ بها العيش لم يستطب

إذا نشـر الزهـر أعلامـه

 

بـها ومـطارفـه والعـذب

غـدا وحـواشيه من فـضّة

 

تروق وأوسـاطه من ذهب

و قصيدة الصنوبري الطويلة التي وصف فيها جمال حلب ومزايا أهلها:

احبسـا العيس احبساها

 

وسـلا الـدار سـلاها

واسـألا أين ظباء الـ

 

ـدار أم أيــن مـهاها

دمـية إن جـليت كا

 

نت حلى الحسن حلاها

أعطيت لونـا من الور

 

د وزيـدت وجـنتاها

حلب بـدر دجى أنــ

 

ـسجها الزهـر قـراها

حـبذا جامـعها الجـا

 

مـع للنفــس تقــاها

قـبلة كـرّمها اللـه

 

بــنور وحــــباها

حـلب أكــرم مأوى

 

وكـريم مــن أواهـا

بـسط الغيــث عليها

 

بـسط نور ما طـواها

وخلال اشتغاله بالتعليم نال دبلوم الدراسات العليا من الجامعة اليسوعيّة في بيروت سنة 1977، وواصل دراساته الفكريّة وأعماله الأدبيّة، وتقدّم إلى الجامعة بدراسة قيّمة تحت عنوان (ظاهرة الحزن في الشعر النسائي المعاصر: هند هارون نموذجاً)، تلقاها المشرف على الرسالة الدكتور أسعد علي بالاستحسان والتقدير، وصدر قرار الجامعة بعد مناقشتها بمنحه (دبلوم الدراسات العليا).

وجذبته من جديد أضواء العاصمة السوريّة ليشهد بدايات نهضتها الثقافيّة وأنديتها الأدبيّة وأحزابها السياسيّة، ويسترجع ما حفظته ذاكرته العصيّة عن النسيان، من أخبار بني أميّة، قبل أن تنتقل راية الخلافة إلى العراق، وما شهدته في عهد الدولتين النوريّة والصلاحيّة من مجد وعزّ، وما ألحقه هولاكو بالمدينة من دمار، وإلحاقها بمصر بعد انتصار المماليك على المغول في عين جالوت، وهل ينسى الشاب عبد الله الجامع الأموي أحد عجائب دمشق، وشذى نسيم غوطتها إحدى جنات الدنيا المفضّلة على سائر منتزهات الأرض، وسورها الشاهق، وأبوابها السبع، وما فيها من جوامع ومدارس وزوايا وأسواق مرتّبة.

ولقي في دمشق آباء الحركة الإسلاميّة ومنظّريها، وكان على صلة طيّبة بالشيخ الدكتور مصطفى السباعي المراقب العام الأوّل لجماعة الإخوان المسلمين، ورئيس تحرير مجلّة (حضارة الإسلام)، والأستاذ الكبير أحمد مظهر العظمة رئيس تحرير مجلّة (التمدن الإسلامي)، والأستاذ الجليل سعيد الطنطاوي، وأديب العربيّة الكبير الشيخ علي الطنطاوي، وسواهم من العظماء.

وجذبه الإعلام قبل انتشار التلفاز، فكانت أوّل تجربة له في الإذاعة المحليّة: إعداد برنامج أدبي تناول فيه تراجم أدباء مدينته التي أحبّها (أديب من بلدي) لإذاعة حلب.

وفي وقت مبكّر انتسب في دمشق إلى (جماعة الإخوان المسلمين) وهو فتى سنة 1952وتمثل مبادئها، وبشّر بفكرها، واكتوى بنار خصومها سجناً واغتراباً، فما زادته المحن إلاّ مضاءً وحكمة.

اعتقل بسبب أفكاره الحرّة، ونقده الشديد لانتهاك حقوق الإنسان، وناله العذاب كسائر إخوانه، فصبر واحتسب، دخل السجن مرفوع الرأس وخرج مرفوع الراس، كما شهد له إخوانه، لم يتنازل عن مبادئ دعوته، وحاور كبار المسؤولين أمثال العماد حكمت الشهابي واللواء علي دوبا ونزيه زرير ومحمد ناصيف، ولما اعتقل الطنطاوي في حلب كان معه مسدس مرخّص صودر منه، ولما أفرج عنه طالب العماد بالمسدس، ونال ما تمنى، وأعجب العماد بجرأته وشجاعته وتمنى أن يكون في حزبه مثله، وكان يكره الظلم والاستبداد، ويشفق على المنافقين ويسخر منهم، وكان يقول الحق ولو على نفسه، جريئاً لا يخشى في الله لومة لائم.

ثم هاجر إلى عمّان سنة 1980، قائلاً العبارة التي ردّدها الفيلسوف المصري عبد الرحمن بدوي بعد هزيمة حزيران عام 1967: وداعاً أيّها الوطن المكبّل بالقيود الحافل بالجواسيس والمخبرين، وفيها رأس تحرير مجلّة (النذير) التي أصدرتها (جماعة الإخوان المسلمين) السوريين، .

وبعدها هاجر إلى العراق، في أواخر عام 1982، وسكن بغداد العاصمة، المدينة الجليلة، مدينة السلام، التي بناها المنصور، وجعلها أحد مراكز الحضارة في العالم، وزهرة المشرق وجنة الدنيا، وبنى مدينتها بشكل مدور، وعمل لها سورين، وبنى قصره في وسطها، والمسجد الجامع بجواره، وبنى القبة الخضراء فوق إيوان، وجر أقنية الماء إليها، وأقطع أصحابه القطائع، فعمروها وسميت بأسمائهم، ولم يكن لها نظير في جلال قدرها وفخامة أمرها وكثرة علمائها وأعلامها، بها البساتين المونقة والحدائق المحدقة، وبها النخيل وأنواع الرياحين، وفي مدح بغداد قال بعض الفضلاء: بغداد جنة الأرض ومدينة السلام وقبة الإسلام ومجمع الرافدين وغرة البلاد وعين العراق ودار الخلافة ومجمع المحاسن والطيبات ومعدن الطرائف واللطائف وبها أرباب الغايات في كل فن وآحاد الدهر في كل نوع، وكان أبو إسحاق الزجاج: يقول بغداد حاضرة الدنيا وما عداها بادية، وكان أبو الفرج الببغاء يقول: هي مدينة السلام بل مدينة الإسلام فإن الدولة النبوية والخلافة الإسلامية بها عششتا وفرختا وضربتا بعروقهما وبسقتا بفروعهما، وإن هواءها أغذى من كل هواء وماءها أعذب من كل ماء، وإن نسيمها أرق من كل نسيم وهي من الإقليم الاعتدالي بمنزلة المركز من الدائرة، ولم تزل العراق موطن الأكاسرة في سالف الأزمان، ومنزل الخلفاء في دولة الإسلام.

وكان ابن العميد إذا طرأ عليه أحد من منتحلي العلوم والآداب وأراد امتحان عقله سأله عن بغداد فإن فطن بخواصها وتنبه على محاسنها وأثنى عليها جعل ذلك مقدمة فضله وعنوان عقله.

وبعد نقل مجلّة (النذير) إلى بغداد واصل تحرير المجلّة من بغداد، حيث صدر العدد الأوّل منها في ذي القعدة 1399هـ - 21/9/1979م،

وأعدّ برامج في إذاعة بغداد بين عامي: (1983 – 1990).

وكتب ثلاثين تمثيلية إذاعية، قدمت في إذاعة قطر سنة 1991 بعنوان (مع بناة الإسلام) ثم طبعت في كتاب بهذا العنوان في دار عمار للنشر والتوزيع في عمان سنة 2007. 

ولمّا اقتحم التلفزيون كلّ بيت ببرامجه الخالية من روح الإسلام وحضارة الأمّة، أحسّ عظم المسؤوليّة أمام الله، وشمّر عن ساعد الجدّ، وملأ حيّزاً من الفراغ الذي تركه الإسلاميّون لغيرهم، بعد انتشار فتاوى تحريم التلفاز بينهم، ونأيهم عن الخوض في هذا الميدان.

وقدّم في عدد من التلفزيونات العربيّة ثلاثة مسلسلات تلفزيونية (بالاشتراك) كل مسلسل في ثلاثين حلقة وهي:

(أكل وشرب على مائدة القرآن الكريم) 1988، إنتاج تلفزيون بغداد.

و(سمع وأطاع) 1993، (ثلاثون حلقة) شركة سعودية.

و(نادي العروبة و محكمة النحو) 1995، (ثلاثون حلقة)، شركة سعودية.

وأشرف على عدد من البرامج والمسلسلات التلفزيونية والإذاعيّة الناجحة.

وعاش في بغداد مكرّماً من الحكومة العراقيّة التي فتحت ذراعيها لاستقبال الفارّين من بطش النظام السوري، متمتّعاً بحب إخوانه وتقديرهم، لكنّ الحنين إلى حلب ومغاني الشهباء لم يكن يفارقه، وهذا ديدن الأوفياء من الأدباء والشعراء.

ألم يمني المتنبي نفسه بالعودة إلى حلب، وهو في طريقه إلى الكوفة من مصر، ينشد لحن الحنين.

كلّما رحـبت بنا الروض قلنا

 

حلب قصدنا وأنت السبيل

فيك مرعى جيـادنا والمطايا

 

وإليها وجـيبنا والذبيـل

ثمّ انتقل إلى عمّان بعد الاحتلال الأمريكي للعراق، فأقام معزّزاً مكرّماً بين إخوانه ومحبيه، بالعاصمة الأردنيّة، وسعد بقصبة أرض البلقاء، ومدينة دقيانوس، التي قال فيها أبو عبد الله محمد بن أحمد البشاري: عمان على سيف البادية ذات قرى ومزارع، ورستاقها البلقاء، وهي معدن الحبوب والأنعام، بها عدة أنهار وأرحية يديرها الماء ولها جامع ظريف في طرف السوق مفسفس الصحن شبه مكة، وقصر جالوت على جبل يطل عليها، وبها قبر أورياء النبي عليه السلام وعليه مسجد، وملعب سليمان بن داود عليه السلام.

وكان لسان حاله يردد قول الأحوص بن محمد الأنصاري:

أقول بعمان وهل طربي به

 

إلى أهل سلع إن تشوقت نافع

أصاح ألم يحزنك ريح مريضة

 

وبرق تلال بالعقيقين لامع

وإن غريب الدار مما يشوقه

 

نسيم الرياح والبروق اللوامع

وكيف اشتياق المرء يبكي صبابة

 

إلى من نأى عن داره وهو طامع

وقد كنت أخشى والنوى مطمئنة

 

بنا وبكم من علم ما الله صانع

أريد لأنسى ذكرها فيشوقني

 

رفاق إلى أرض الشآم رواجع

وهو قيادي ناجح يتمتع بمحبّة إخوانه واحترامهم، تولّى عضويّة مجلس شورى (جماعة الإخوان المسلمين) في سوريّة فترات طويلة داخل البلاد وخارجها، وتولّى أمانتها العامّة.

وعضو مؤسّس في رابطة الأدب الإسلامي العالمية.................

رأس تحرير مجلة (فراس) للفتيان والفتيات:.......(1995 – 1996).

رأس تحرير مجلة (الرواد) للفتيان والفتيات:...... (1996 – 1998).

رأس تحرير مجلة (سلام) الكويتية للأطفال:...... (1998).    

رأس رابطة أدباء الشام:...........................(2000 ـ حتى الآن).

رأس تحرير الموقع الإلكتروني (أدباء الشام):.. (2003 ــ حتى الآن).

وكان له حضور ومشاركات في عدد من المؤتمرات الدعويّة، والندوات الأدبيّة والسياسيّة والعلميّة في عدد من البلدان العربية والإسلامية والأوروبية.

وقام بجولات في معظم البلدان العربية والإسلاميّة والأوروبيّة، شرح خلالها القضيّة السوريّة، والتقى فيها بقادة العمل الإسلامي.

وكان كريماً مضيافاً يستقبل ضيوفه بوجهه الطلق، وثغره الباسم، في بيته العامر بالمدينة الرياضيّة بالعاصمة الأردنيّة.

وما عرفت عنه التأفّف من ضيف ثقيل الظل، أو زائر أطال الزيارة، فحرمه من النوم والراحة، وموعد القراءة والكتابة.

وكان يهوى لقاء الكبار من قادة الفكر والعمل الإسلامي، وأهل السياسة والأدب، حتى ولو كان على خلاف في الرأي معهم، لقي نواب صفوي، وأبا الأعلى المودودي، وعلال الفاسي، وأبا الحسن الندوي وغيرهم، وفي ذلك يقول: "منذ الصغر، وأنا أحبّ مجالسة الكبار ذوي الشأن، لأفيد من خبراتهم وتجاربهم، وأوفر على نفسي معاناة مثيلاتها، وأما بعد أن اكتهلت وشخت، فصرت أميل إلى مخالطة الشباب، لأفيد منهم حيوية واتقاداً في الفكر والعقل والقلب والروح."

وعرفته المنابر الأدبيّة خطيباً بارعاً، ومحاضراً بليغاً، وما عرفنا عنه اللحن والركاكة في القول والإسفاف في المعاني.  

وعرفته الصحافة السوريّة والعربيّة، صاحب مقالة فكريّة وأدبيّة ناضجة، ولو جمع ما كتبه في مجلّة (التمدّن الإسلامي) و(حضارة الإسلام) وجريدة (الشهاب) و(المنار) وغيرها من المنشورات الورقيّة لبلغت عدّة مجلّدات قيّمة، فلمّا ظهرت الصحافة الإلكترونية فاق الأقران وتقدّم عليهم.

وتقديراً لجهوده المباركة في خدمة الإسلام والأدب العربي، ووسط حشد من عشّاق الفكر والأدب منحته (مؤسسة الإثنينيّة) في مدينة جدّة بالمملكة العربيّة السعوديّة درجة الدكتوراه الفخريّة.

كما منحته الجمعية الدولية للمترجمين واللغويين العرب درجة الدكتوراه الفخريّة عن جدارة واستحقاق لهذا اللقب، ولجهوده في خدمة اللغة العربيّة وآدابها.

*   *   *

الحياة السياسيّة والاجتماعيّة في عصر الطنطاوي

لم تتوقف محاولات استئناف الحياة الإسلامية وتجديد الدولة العثمانيّة، وإحياء الخلافة بعد سقوط الدولة، وظهور حركة الجامعة الطورانيّة، وقيام الاتحاديين بالاجهاز على الرابطة العثمانيّة، وتسليم العالم الإسلامي للقوى الاستعماريّة.

وبدأ الحصاد المرّ بتقسيم البلاد العربيّة، ثم بتقسيم سوريّا، وإقامة كيان غريب في قلب العالم العربي.

وفي العاشر من حزيران 1916، أطلق الحسين بن علي شرارة الثورة من مكة المكرمة، وتضمن بيان الثورة اتهام (جمعية الاتحاد والترقي) بالقبض على مقدرات الدولة العثمانية بقوة الثورة، والانحراف عن صراط الدين ومنهج الشرع القويم، والتمهيد للمروق من الدين واحتقار أئمته، وسلب شوكة السلطان المعظم ما له من حق التصرف الشرعي والقانوني.

والتف السوريون وأحرار العرب حول بيان الثورة الإسلامي، وجاء من دمشق إلى مكّة وفد يمثل علماء دمشق ووجهاءها، منهم: الشيخ كامل القصّاب، والسيد محب الدين الخطيب، والشيخ فؤاد الخطيب، والسيد نسيب البكري، فبسط لهم الشريف يده بالبيعة فبايعوه خليفة.

لكن الانجليز غدروا بالشريف حسين، وضّحوا بشرفهم الذي قطعوه له، ثمناً لتنفيذ مؤامرة تقسيم البلاد العربيّة.

وكانت أول ضربة سددت لمشروع الحسين الوحدوي، إعلان المؤتمر السوري في الثامن من آذار1920 استقلال سورية، وتتويج فيصل ملكاً عليها، ويومها لم تعترف فرنسا وبريطانيا بمقرّرات المؤتمر.

وزحفت القوات الفرنسية على العاصمة السورية في 21/7/1920 رغم قبول الحكومة السورية بجميع شروط إنذار (الجنرال غورو) وتسريحها للجيش، وانسحاب قواتها من منطقة مجدل عنجر، لفرض واقع جديد بموجب معاهدة (سايكس ـ بيكو) التي حقق الاستعمار الأوروبي من خلالها مؤامرته ضد قيام دولة عربيّة موحدة وقويّة تضم سوريّا.

وفي صبيحة يوم الأحد 24/7/1920 نشبت معركة غير متكافئة من الفجر حتى الظهر، في مرتفعات (عقبة الطين) قرب ميسلون، استشهد خلالها وزير الحربية السوري البطل يوسف العظمة* وهو في الصف الأول من المعركة، بعد أن أظهر من ضروب البسالة والإقدام ما أدهش الأعداء.

وبسطت فرنسا الصليبية انتدابها على قسم كبير من الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، وكأنها الوريث الشرعي للدولة العثمانية، وشرع أهل التوسّع الاستعماري ينادون أنّ لفرنسا حقوقاً تاريخيّة ثابتةً يرجع منشؤها إلى عهد الحروب الصليبيّة، وباتت سوريّا تعرف في المحافل والأندية الاستعماريّة (بفرنسا المشرق).

لكنّ أحرار سوريّا لم يستسلموا، وعقدوا العزم على تحدي المستعمرين وتحرير البلاد من الفرنسيين المحتلين، وامتشقوا السلاح، وقارع أبطال الاستقلال الغزاة، حتى نالت البلاد استقلالها، ورحل آخر جندي عن تراب الوطن.

في تلك الفترة الدقيقة من تاريخ سوريّة في عام 1935 ولد أستاذنا الشيخ عبد الله محمود الطنطاوي، وولدت معه (دار الأرقم) النواة الأولى للحركة الإسلاميّة في سوريّة، ولم تمض سنتان حتى تأسّس في دمشق عام 1937تجمع ديني باسم (جمعيّة الشباب المسلمين)، وآخر باسم (جمعيّة العلماء) بعد عودة الشيخ كامل القصاب من منفاه إلى دمشق.

وسمع الطفل أزيز الطائرات الفرنسيّة الغازية، وهدير سلاسل المصفّحات، وهي تطارد الثوّار عبر دروب البلدة الصغيرة الغارقة في الفقر والشقاء، وصليات البنادق الفرنسيّة التي ورثها الدرك السوري بعد الاستقلال.

وأنشد الطفل عبد الله مع أقرانه فوق سطح منزل العائلة بإعزاز الأهازيج الوطنيّة التي تمجّد أبطال الاستقلال ابراهيم هنانو، وعمر البيطار، والشيخ عز الدين القسّام، والشيخ محمد الفحل، والشيخ محمد الأشمر، والشيخ خير غزال، والشهيد زكي الشربجي الذي دفن مع الشيخ محمد الفحل في قبر واحد.

طيارة طارت بالليل فيها عسكر فيها خيل

فيها إبراهيم هنانو يركب على ضهر حصانو

مركب بنتو قدامو “يسقي العدا كاس الويل”.

طيارة طارت بالجو فيها عسكر فيها ضو

فيها إبراهيم هنانو راكب على ضهر حصانو

مركب بنتو قدامو “يسقي العدا كاس السو”

“طيارة طارت يا رجال فيها عسكر فيها مال”

فيها إبراهيم هنانو راكب على ضهر حصانو

مركب بنتو قدامو “هو المكسب والرسمال”

وبقيت هذه الأسماء حيّة في ضمير الطفل، فلمّا جاد بيانه كتب في سيرتهم ومجّد بطولاتهم، وامتشق قلما أحدّ من السيف وأطول من الرمح لمقارعة الخونة وأعداء الحريّة والاستقلال.

ولمّا شعر أبناء سوريّة بخطر المناهج الفرنسيّة على اللغة العربيّة والدين الإسلامي، قام نفر من فضلاء العلماء بالدعوة إلى مقاطعة المدارس الحكوميّة والتبشيريّة، وإلى إنشاء مدارس عربيّة إسلاميّة خاصّة تقوم بمهمة تربية الناشئة وتعليمهم.

"وأنشئت لهذا الغرض (الجمعيّة الغراء) وكان على رأس هذه الحركة الشيخ أحمد الدقر، والشيخ محمد الخطيب، والشيخ عبد الحميد الطبّاع، والشيخ أحمد الصابوني، وكان يتبع الجمعيّة جملة من المدارس والمعاهد والمساجد، ومن أشهرها: مدرسة معهد العلوم الشرعيّة في جامع دنكز، ومدرسة سعادة الأبناء، ومدرسة وقاية الأبناء، ومدرسة روضة الحياء، ومدرسة الريحانيّة، ومدرسة السميساطيّة, وجامع العدّاس، وتكيّة السلطان سليم، ومدرسة ثانويّة السعادة.

وكان المؤسّسون يتولون تهيئة أماكن سكن الطلبة وإيوائهم، وتأمين جميع حاجاتهم من طعام ولباس ودواء.

وكانت مدرسة دنكز مدرسة قديمة واسعة، أنشأها الأمير تنكز نائب الشام، وبها جامع كبير كان في غاية الهندسة والبناء، اتخذتها الجمعيّة مقراً لتدريس طلاّبها".  

ثم أدرك هذه الحركة داء الانقسام والاختلاف فاستقل الشيخ علي الدقر بالجمعيّة الغراء التي التحق بها الطفل عبد الله.

وانتهى حكم حزب الكتلة الوطنيّة، وسط معارضة شعبيّة واسعة، لم يحصد السوريّون خلالها سوى مشروع معاهدة لا قيمة لها، وسياسة وطنية فاشلة.

وشهدت حكومة المديرين التي قامت على أنقاض الكتلة الوطنيّة اندلاع الحرب العالميّة الثانية في الأوّل من أيلول 1939، ونشوب حرب أمميّة لم يشهد العالم لها مثيلاً بين قوّات الحلفاء وقوّات المحور، عانى خلالها السوريّون أزمة خانقة كسائر شعوب العالم، ووضعت بلادهم في ظل حكم فرنسي عسكري مباشر طبّقت فيه قوانين الطوارئ في حالة الحرب.

وكان لهزيمة القوات الفرنسية أمام القوات الألمانية، وإجبارها التوقيع على الهدنة في الثاني والعشرين من حزيران1940 ودخولها باريس، وقيام حكومة (فيشي) في باريس وقع الشماتة والفرحة لدى الشعب السوري الذي غدرت به فرنسا، وأهدرت حقوقه، وتنكرت لمطالبه الوطنية.

وكان الحدث البارز الذي حظي باهتمام السوريين في عهد حكومة المديرين اغتيال الزعيم الوطني عبد الرحمن الشهبندر في السادس من تموز 1940بدمشق.

وجرت انتخابات نيابية تحت إشراف حكومة السيد عطا الأيوبي، ورعاية سلطات الانتداب في الحادي والثلاثين من تموز 1943، فاز على أثرها (حزب الكتلة الوطنية) بأكثرية ساحقة.

وقامت الوحدات العسكرية المتمركزة حول دمشق بعدوان غادر على دمشق يومي 29 و30 من أيّار 1945 مدّعياً أن حامية البرلمان السوري رفضوا أداء التحية العسكرية للعلم الفرنسي، فأمطرت طائراتهم المدينة بالقنابل المدمرة والمحرقة، وقصفوها بالمدافع وصنوف الأسلحة، واستهدفوا مجلس النواب، والأحياء المدنية، والأسواق التجارية.

ويومها وقف المعلّم أمام السبورة فكتب قصيدة أمير الشعراء أحمد شوقي التي ألقاها في حديقة الأزبكيّة في القاهرة بعد الدمار الذي حلّ بدمشق، فما بقي طالب في المدرسة إلاّ وحفظها عن ظهر قلب ومطلعها:

ســـلامٌ مـــن صــبـا بــردى أرقُّ

 

ودمـــعٌ لا يـكـفكف يــا دمـشـقُ

ومــعـذرة الـيـراعـة والـقـوافي

 

جــلال الـرزء عـن وصـفٍ يـدقُّ

وذكــرى عــن خـواطرها لـقلبي

 

إلــيــك تــلـفـتٌ أبـــداً وخــفـقُ

وبــي مـمـا رمـتـك بــه الـليالي

 

جـراحات لـها فـي الـقلب عـمْقُ

وأمّا الحدث الثاني فهو قيام الولايات المتحدة الأمريكيّة بإلقاء القنبلة الذريّة الأولى على ناكازاكي اليابانيّة، والثانية على هيروشيما اليابانيّتين.

وفي الثاني من أيلول 1945 انقشعت السماء وتوقفت المدافع، إيذاناً بانتهاء الحرب العالميّة الثانية، وتنفّس السوريّون الصعداء ومعهم أسرة الطنطاوي ابن العاشرة مع أبيه وأخيه وثوّار إعزاز وريفها حيث تصدّى لهم الجيش الفرنسي المتمركز بقلعة اعزاز ومخفرها، وشاركهم في مظاهرة ليليّة استشهد فيها عدد من المدنيين منهم زميله ابن الحلو، وكان طفلاً في العاشرة من عمره.

وخرجت فرنسا من سورية مذمومة مدحورة، بعد أن أفسدت ثقافة السوريين وعاداتهم ولغتهم، ودمرت مفهوم الإسلام السياسي في أذهان الجيش والنخبة الحاكمة، وكانت ضالعة في إقامة وطن قومي لليهود مع بريطانيا.

وقبل جلاء الفرنسيين عن سوريّة أحرقوا مقرّ الجمعيّة الغرّاء وجامعها المعمور.

ويومها أدرك الناشئة من جيل الطنطاوي أنّ عليهم مهمّة إصلاح ما أفسده الفرنسيّون، وإحياء ما قتلوه من قيم ومفاخر.

وأخذت الحركات السياسيّة الإصلاحيّة تنمو وتزدهر، ولم تكن مدينة سوريّة تخلو من جمعيّات إصلاحيّة، وكانت الجمعيات متفرقة ومنصهرة في مجتمع الثورة ضد الاحتلال.

وشهد الطنطاوي ابن الرابعة عشرة، أوّل إحلال قسري للمدنيين شاغلي السلطة، بعناصر أخرى من القوات المسلحة في أوّل انقلاب عسكري تشهده سوريّة بعد الاستقلال بقيادة رئيس هيئة الأركان العامّة الزعيم حسني الزعيم صباح الثلاثين من آذار 1949، مستغلاً النقمة الشعبية على الرئيس شكري القوتلي وحزبه، بسبب دورهما في هزيمة فلسطين.

واندفع الزعيم نحو العلمانية مقتفياً سيرة (أتاتورك) ملهم جميع الانقلابات في العالم الإسلامي، وأحل القوانين الوضعية الفرنسية محل مجلة الأحكام العدلية العثمانية، وألغى قانون الوقف، ورفض مشروع توحيد سورية مع شرقي الأردن الذي تبناه الملك عبد الله بن الحسين، أكثر المشاريع قبولاً لدى الشعب السوري، لأنه يعني العودة إلى سوريا الموحدة قبل (مؤامرة سايكس ـ بيكو) وإلى مشروع المؤتمر السوري الذي بايع فيصل بن الحسين ملكاً على سوريا من طوروس حتى العقبة، وأبرم مشروع خط (التابلاين) مع الحكومة الأمريكية، ومرّر مشروع الاتفاق النقدي مع وزارة المالية الفرنسية، واقترح أن توقع سورية معاهدة سلام كاملة مع إسرائيل بدلاً من اتفاقيّة الهدنة.

وفي ليلة الرابع عشر من آب 1949 زحفت المصفحات العسكرية نحو العاصمة السورية بأمر الزعيم سامي الحناوي قائد اللواء الأول للقيام بانقلاب عسكري مضاد (ارتجاعي أو رد فعلي) على حكم الزعيم حسني الزعيم، فألقي القبض على الزعيم، بعد استسلام حرس القصر الجمهوري دون مقاومة، وعلى رئيس وزرائه محسن البرازي، وبعد محاكمة شكليّة وجد أنّهما مذنبان، ونفذ فيهما حكم الإعدام رمياً بالرصاص.

وفي الساعة الأولى من صباح التاسع عشر من كانون الأوّل 1949، أزاح مجلس العقداء برئاسة اللواء فوزي سلو ونائبه العقيد محمد أديب الشيشكلي، في انقلاب عسكري ـ العقيد سامي الحناوي، واعتقل أعوانه العسكريين والمدنيين، واتهمه بالرضوخ لزعماء (حزب الشعب) الذين سيطروا على الجمعية التأسيسية، والاصرار على إقرار مشروع الوحدة مع العراق الملكي المتهم بالخضوع للنفوذ البريطاني الذي كان يشجّع الملك فيصل الأوّل (صاحب التاجين) على استعادة عرشه في سوريّا بعد ظفره بعرش العراق.

وفي عام 1950، شهدت أروقة المجلس النيابي السوري والصحف السورية معركة حامية بين القوى الإسلامية الناشئة من ناحية، وبين المعترضين على أن ينص الدستور الجديد على أن دين الدولة الإسلام.

وفي التاسع والعشرين من تشرين الثاني 1951، قام العقيد محمد أديب الشيشكلي في بانقلابه الثاني، فاعتقل رئيس الوزراء السيّد معروف الدواليبي، وأكرهه على تقديم استقالته، إلى رئيس الجمهوريّة السيّد هاشم الأتاسي.

        واتهم بيان الشيشكلي (حزب الشعب) بالتآمر، ووصف قادته بأنهم يحمّلون الجيش مسؤولية عيوبهم وتشوشهم واضطرابهم، ويسخّرون المصالح العليا للبلاد لغاياتهم الشخصية، وطالب بإنهاء حقبة المحتالين، والمتلاعبين، ومحترفي السياسة.

ورحبت واشنطن بانقلاب الشيشكلي، وسارعت للاعتراف بنظامه، ووجدت فيه أمريكا أداة قوية قادرة على فرض الاستقرار في البلاد، وكبح المد اليساري، وأنه قادر على إنشاء علاقات جيدة ومستقرة مع الغرب، وتشكيل حكومة تقدمية في سورية.

وتولى العقيد أديب الشيشكلي رئاسة الجمهورية بعد إجراء استفتاء شعبي بتاريخ العاشر من تموز 1953، فاز فيه بنسبة مضحكة بلغت 99،6 % مرشحاً وحيداً، دون منافس، وتمت الموافقة على إقرار الدستور الرئاسي البديل لدستور 1950 خلال الاستفتاء على رئاسة الجمهورية السورية.

        ومضى الجيش بعد ذلك في تسلّطه على الحكم وفرضه إرادته في الكبيرة والصغيرة حتى كانون ثاني 1958، عندما قذف الجيش البلاد كالكرة تحت أقدام الرئيس عبد الناصر.

إلاّ أن عبد الناصر لم يفهم المجتمع السوري وتركيبته الطائفيّة والحزبيّة حق الفهم، واكتفى باستشارة عدد قليل من المقربين، لم يكونوا أمناء على مقدّرات الشعب السوري.

لم يتخذ جمال عبد الناصر أي إجراء رادع لمنع تحويل نهر الأردن في عهد الوحدة، إلا أن الاشتباكات المتقطعة لم تتوقف حتى عام 1967 عندما سيطرت القوات الإسرائيلية على المنطقة كلّها.

ووقع في أخطاء قاتلة، وانفرط عقد الوحدة، وكان أكثر المتشدقين بالوحدة وأعلاهم صوتاً في عهدها، أقل السوريين وفاء لها، وخيّب انقلاب الثامن من آذار 1963 آمال الجميع، فلم تقم للوحدة مع مصر، ولامع جناح حزب البعث العراقي قائمة.

وأدرك الشاب الطنطاوي بوعيه السياسي أن ما سمي بالحركة التصحيحيّة عام 1970 لم يكن سوى إعلان اكتمال سيطرة الجناح الطائفي على الجيش السوري، ووصول أوّل رئيس جمهوريّة نصيري في العام التالي.

وأدرك ما يعني ميشيل عفلق "بأنّ انقلاب الثامن من آذار كان خارجاً عن إرادته" مما شكّل اعتداءً على الجناح المدني في البعث.

وفهم طبيعة الصراع بين الشعب السوري من جهة، والجناح العلوي الذي هيمن على مقدّرات البلاد من جهة أخرى، وأخذ يصدر قوائم تسريح الضباط السنّة تحت دعوى أنّهم انفصاليّون.

وكيف ووجهت الاحتجاجات الشعبيّة في عام 1980 بالعنف الثوري، والمنظّمات العسكريّة، وفي مقدمتها: سرايا الدفاع وسرايا الصراع والمظليّون.

ولم يكن من اليسير على أديب مرهف الحس، شديد الاعتزاز بشعبه أن يرى سرايا الدفاع ترتكب بحق السوريين مجازر مروّعة في سجن تدمر، ومدينة حماه وجسر الشغور وغيرها.

وخاصّة بعد منح برلمان النظام الجيش والأمن الغطاء القانوني لإعدام أي منتم لجماعة الاخوان المسلمين لتنفيذ أعمال القتل دون خشية من الله والناس.  

المراجع:

1 ـ نثر الجواهر والدرر في علماء القرن الرابع عشر ص 187 د. يوسف المرعشلي.

2 ـ التاريخ السياسي والاجتماعي لسوريّة العربيّة م1 محمد علي شاهين.

الحركة الأدبيّة والفكريّة والفنيّة في عصر الطنطاوي

يمن علينا حكامنا الذين قتلوا منّا مليون سوري، وهجّروا من شعبنا نصفه، وتركونا نعيش في الخيام الممزّقة حتّى الآن تسعة فصول، كل فصل منها اسمه شتاء، تغطي خيامنا الثلوج، وتجري من تحتنا السيول، بعيداً عن بيوتنا المفروشة بالسجاجيد، والأثاث الوثير، ومطابخنا العامرة بما لذّ من طعام الأمّهات، وحدائقنا الغنّاء، وقططنا الأليفة المتكئة بجانب المدافئ وجمر الكوانين، ومكتباتنا الزاخرة بالمجلّدات المذهّبة، والمخطوطات النادرة.

يمنون علينا تأميم الصحافة، وإحكام الرقابة على المطبوعات، ومطاردة الأقلام السوريّة الحرّة خلف الحدود، ومصادرة الكتاب.

ففي مطلع عهد الاستقلال نشطت الحركة الأدبيّة والفكريّة في سوريّا مع رحيل آخر جندي فرنسي، وفتحت الأبواب للهواء الطلق، وازداد الطلب على مصادر المعرفة من صحف ومجلات ومؤلّفات، وازدهرت تجارة الكتب، وأخذت المطبوعات المصريّة واللبنانيّة تجد مكانها على أرفف المكتبات العامّة والخاصّة، وما كان بيت من بيوت السوريين المثقّفين والمتعلّمين وأنصافهم يخلو من مكتبة عامرة بالكتب، وبدأ الأدباء والشعراء ينشرون ما لديهم من مؤلّفات ودواوين للناس، وكان لحملة القلم مكانة رفيعة في المجتمع السوري، واشتهرت أسماء لامعة في سماء الفكر والأدب العربي، كانت ملء العين والبصر.

وكان الطفل عبد الله في الثانية من عمره، لمّا أرسى الأديب شكيب الجابري (الحلبي) سنة 1937 اللبنة الأولى للرواية السوريّة المعاصرة بعد نشره روايته الأولى (نهم)، وحاول أن يكون جسراً بين ثقافة الغرب وثقافة الشرق العربي الإسلامي من خلال كتاباته الروائيّة، ثم تلت رواياته: (قدر يلهو) 1939، و(قوس قزح) 1946، و(وداعاً يا أفاميا) 1961.

وغدت الطبعات الرخيصة لتراجم مشاهير الشرق، وروايات الإسلام التي ترجمها دون الإشارة إلى مراجعها الفرنسيّة، اللبناني جرجي زيدان تملأ الأرصفة والأكشاك، وتغزو البيوت.

لم يترك زيدان أحدًا من أعلام المسلمين، إلاّ وتناوله بالتشهير والتشويه والطعن، وكان يدُسُّ في كل واحدة من رواياته راهبًا من الرهبان يصوره بصورة البطولة، وكان يبتعد عن أساليب الفصحاء ويستهدف العامة والطبقة الوسطى، فلمّا كشف النقّاد زيف بضاعته، شمّر الأدباء عن ساعد الجد واشتغلوا بالتراجم والسير، وكان الطنطاوي أحد فرسانهم.

وهاله الإحجام عن تراجم أعلام الإسلاميين القدماء والمعاصرين، واهتمام المبهورين بالغرب بكتابة سير مشاهير أوروبا وأمريكا، فأفرد لهم المؤلّفات الكثيرة.

قرأ روايات الأديب المصري علي الجارم (فارس بني حمدان) 1945، و(الفارس الملثّم) 1949، و(هاتف من الأندلس) 1949، و(السهم المسموم) 1950، و(غادة رشيد) التي تناول فيها كفاح الشعب المصري ضدّ الاستعمار الفرنسي.

علي الجارم الذي منعت الرقابة العسكرية إبان حكم جمال عبد الناصر إعادة طبع مؤلفاته، بالإضافة إلى مؤامرة الصمت التي حيكت حوله في هذا العهد.

وقرأ الشاب عبد الله للأديب سيّد قطب ديوانه وقصصه ورواياته، وأعجب بكتاباته النقديّة، وتفسيره، ومعالمه، لكنّ أعداء الحق والحقيقة اعتقلوه في ليمان طرة سنة 1954 مدة عشر سنوات تعرض وأخوانه خلالها لأشد أنواع التنكيل والإضطهاد، حتى ساءت حالته الصحية، ثم أفرج عنه بعد تدخل الرئيس العراقي عبد السلام عارف، ثمّ أعيد اعتقاله بتهمة إحياء (جماعة الأخوان المسلمين) ومحاولة قلب نظام الحكم، وقدم أمام محكمة الدجوي العسكرية، وصدر الحكم بإعدامه مع مجموعة من إخوانه يوم الإثنين التاسع والعشرين من آب 1966.

أدرك أهميّة الرواية وما يمكن أن يقدمه الروائي، من خلال محنة الأديب نجيب كيلاني الذي قضى في سجون عبد الناصر عشر سنوات بعد محنة (الإخوان المسلمين) سنة 1954، وأفرج عنه في منتصف 1959 بعفو صحي، فعاد إلى الكليّة وتخرّج طبيباً، واشتغل بالمستشفيات المصريّة، ثم أعيد اعتقاله سنة 1965 حتى هزيمة حزيران 1967، وكان عبد الناصر قد أخرجه من المعتقل سنة 1957 ليتسلّم جائزة أدبيّة على مستوى الجمهوريّة، بعد فوز روايته (الطريق الطويل) ثم ليعود إلى المعتقل في نفس اليوم.

وكان عبد الناصر ملهم الانقلابيين العسكريين في عالمنا العربي، وقدوتهم إلى النار في قمع الفكر الأصيل، وملاحقة حملة القلم، والدعاة.

وكان نصيب الإسلاميين في سوريّة الحظ الأوفر من الملاحقة والسجون والتعذيب والقتل والتشريد، لأنّهم كانوا يشكّلون خطراً على نظام الحزب الواحد والقائد الملهم، بسبب انتقادهم الدائم للفساد والرشوة والمحسوبيّة، وتردي أحوال المواطن الاقتصاديّة والاجتماعيّة، وتضييع أجزاء غالية من أرض الوطن، نتيجة الاستغناء عن الكفاءات العسكريّة، وإحلال أبناء الطائفة والانتهازيين في إدارة شؤون البلاد، وحماية أرض الوطن.

وفي حلب التقى الطنطاوي رفيقي دربه في الدعوة والأدب محمد محمود الحسناوي القادم من جسر الشغور، ومحمد منلا غزيّل القادم من منبج.

وبينما الثلاثة جلوس في أحد صباحات حلب على مقعد مقابل لنافورة مياه في حديقة المنشيّة، قرأ غزيّل قصيدته (الصبح القريب) قبل نشرها، فشعر الطنطاوي والحسناوي بالقلق، وأدركا أنّ الخطر قادم، أنّ الأيّام حبالى، وأنّ إخوانهم يمرّون في مرحلة صعبة، فتعاهد الثلاثة على النضال من أجل تحرير البلاد السوريّة من جلاديها.

من أين أبدؤها حـكاية صبحنا الحلو الحبيب

من أين؟ ودّ القلب لوغمست بأشذاء الطيوب

من أين؟ ودّ القلب لو غرست بأعماق القلوب

من أين أبدؤها وطيف الليل مسعور الغيوب

من أين أبدؤها وطـيف الليل مسعور النيوب

متلصلص يجتاحه الإشفاق من زحف الغيوب

متوجّس حـيران يسترق الخطا عبر الدروب

وافترق الرجال الثلاثة على أمل اللقاء، لكنّ مشيئة الله أبت إلا أن يفترقوا: الطنطاوي إلى المعتقل، والحسناوي إلى الأردن فالعراق، وبقي غزيّل رهين بيته في منبج.

وأفرج عن الطنطاوي لعدم ثبوت أي تهمة عليه، فغادر الطنطاوي حلب إلى الأردن ثم إلى العراق تحت جنح الظلام سرّاً، ليمارس مع إخوانه نضالاً سلميّاً قلّ نظيره، واختفى غزيّل في ريف حلب فلم يسمع الناس له صوتاً إلا من خلال الأناشيد التي يتغنّى بها السوريّون خلف النوافذ الموصدة والأبواب المقفلة والمنافي البعيدة.

لم ينس السوريّون انتهاكات حقوقهم، وحالة الطوارئ الدائمة المفروضة عليهم منذ آخر انقلاب عسكري عام 1963، وتزييف إرادتهم، واستباحة مدنهم وقراهم، وقصفها براجمات الصواريخ، والإغارة عليها بالطائرات قبل اختراع البراميل المتفجّرة.

لم ينس السوريّون المجازر الجماعيّة في حماه، وجسر الشغور، وما ارتكبه النظام من مجازر في أحياء حلب: المشارقة، وبستان القصر، وغيرهما كثير.

ولم ينس الأحرار بعد مجزرة تدمر الكبرى في السابع والعشرين من حزيران 1980 حيث أعدم في سجن تدمر وحده ألف ومئة معتقل في الزنازين، ودفنت في مجزرة النساء الصغرى في التاسع والعشرين من كانون الأوّل 1980، مئة وعشرون امرأة طاهرة معتقلة في تدمر داخل الأخدود نصفهنّ أحياء.

يومها سكت الشياطين الخرس على هول ما رأوا، وسكت السوريّون تحت سوط الجلاّد مجبرين، لكنّ أحرار سوريّا لم يصمتوا ولم ينسوا، لأنّ للسوريين ذاكرة عصيّة عن النسيان، استطاعوا استعادتها بعد واحد وثلاثين عاماً، في يوم الكرامة.

وعرف الناس أدب السجون، وراج سوقها، بسبب تعاطف الناس مع المظلوم، وكراهيتهم للظالم المستبد، وكتب آخرون من وحي السجون روايات وقصصاً واقعيّة ومتخيّلة لسجين أو سجينة مفترضين في الخيال، وصدرت روايات ودواوين وقصص باكية، رواية (القوقعة) لمصطفى خليفة، و(حمام زنوبيا) لرياض معسعس، و(5 دقائق وحسب) لهبة الدباغ، و(الشرنقة) لحسيبة عبد الرحمن، و(مديح الكراهية) لخالد خليفة، و(السوريّون الأعداء) لفوّاز حداد، ولم يكن هذا الأدب مقصوراً على سوريّة، فقد صدرت (الزنزانة 10) لأحمد المرزوقي بالمغرب، و(البوابة السوداء) لأحمد رائف بمصر، و(مذكّراتي في سجن النساء) لنوال السعداوي بمصر، وصدرت ثلاث مجموعات قصصيّة (رائحة الخطو الثقيل) و(النحنحات) و(الوعر الأزرق) لإبراهيم صموئيل، وصدرت لمحمد علي شاهين ـ مؤلّف هذه السيرة ـ مجموعتان قصصيّتان: (عبيد الله والهر على ذمّة التحقيق) و(شهود الليلة القمريّة) ورواية (خليج غوانتانامو) أعتى سجن في العالم حيث كان المفرج عنهم يخشون تسليمهم إلى دولهم.

وازدهر النشيد الإسلامي الجهادي بين الشباب، واشتهر عدد من المنشدين نذكر منهم: أبو الجود (أمل عائد)، وأبو راتب (شريط غضبة الحق وشريط ثورة النور)، وأبو دجانة (أناشيد منوّعة)، وعماد رامي (شريط وا شوقاه وشريط أقدار) وسامي يوسف (ألبوم أمّتي وألبوم المعلّم)، ويحي حوّى (ألبوم منوّعات وألبوم قلبي شدا)، ومحمد العزّاوي (مجموعة أناشيد منوّعة)، ومصطفى الجعفري (أناشيد في مدح الرسول (ص) وأناشيد مختارة)، بالإضافة إلى المنشد المعتصم بالله العسلي، وعبد الفتاح عوينات، وفريد سرسك، ومشاري العفاسي (ألبوم قلبي الصغير، وألبوم عيون الأفاعي)، وأنشد العفاسي قصيدة (أبكي على الشام) ووضع ألحانها، وهي من كلمات: د. عبد المحسن الطبطبائي، ومطلعها:

أبكي على شام الهوى بعيون مظلومٍ مناضل

وأذوب في ساحاتها بين المساجد والمنازل

ربّاه سلّم أهلها وأحم المخارج والمداخل

واحفظ بلاد المسلمين عن اليمائن والشــــمائل

مستضعفين فمن لهم يارب غيرك في النوازل

مستمسكين بدينهم ودمائهم عطر الجنادل

واشتهرت فرق للإنشاد الإسلامي، أخذت موقعها في الإذاعات المحليّة، والمناسبات الدينيّة، وحفلات الأفراح الإسلاميّة، ومنها: فرقة اليرموك للفن الإسلامي، وفرقة الروابي للفن الإسلامي)، وفرقة الوعد للفن الإسلامي.

وانتشر النشيد الإسلامي بين الأطفال، مثل أناشيد طيور الجنّة: (يارب نصلّي بالأقصى ـ بلادي يا عيني ـ ماما يا سكّر)

وتحدث السوريّون عن مواكب الشهداء وكان استاذنا الطنطاوي رائداً في تدوين قصص البطولة والفداء في خمس مجلّدات تحت عنوان: (مواكب الشهداء في سوريّة)، نشر منها ثلاثة مجلّدات، وأحرق مجلّدان في جملة الأوراق التي خشي وقوعها بيد الأمريكان وعملاء إيران قبل دخولهم بغداد.

وكان اليساريّون المنشقون يكتبون مذكّراتهم في السجن على ورق السجائر، أمّا الإسلاميّون فكانوا يخيّطون جراحهم بعد كل حفلة تعذيب بإبر الخياطة، وقش الحصير، ويعقّموها بالنار، ويحفظون عن ظهر قلب الوقائع اليوميّة التي شاب لها الولدان في سجون النظام الحقود.

يمنون على هذه الشيخ الأديب أنهم تركوه حيّاً يتشوّق إلى عزاز، مهوى طفولته وعشقه، لينشد مع الشاعر الموصلّي:

إن قلبي بالتلّ تلّ عزاز

 

عند ظبي من الظباء الجواز

شادنٌ يسكنُ الشـآمَ وفيهِ

 

مع ظرفِ العراقِ لطفُ الحجاز

الطنطاوي الأديب الناقد

كتب الأديب عبد الله الطنطاوي بفنيّة عالية وبأسلوب سهل مشوّق القصّة والرواية والمسرحيّة، ببيان سهل ممتنع، وصنع لغته الروائيّة بمهارة عرف بها، وبرع بالمقالة الأدبيّة، والدينيّة، والسياسيّة، والاجتماعيّة، ووصف بالغزارة في التأليف والتصنيف، والإيجاز والإطناب مراعاة لمقتضى الحال.

وتميّز كل ما كتبه بقلمه الجميل عن أقرانه من الأدباء المعاصرين بالتواضع والبعد عن الأضواء، والصدق، والأصالة، والاهتمام بالهمّ العام.

وأدرك عظيم مسؤوليّة الأديب أمام الله، لأنّه صاحب رسالة، يجب عليه تبليغها بلطف وأناة، ووشعر بخطورة المهمّة الملقاة على عاتقه، فشمّر عن ساعد الجدّ، وحمل الأمانة بيمينه، ونهض بالأدب الإسلامي، للارتقاء بالذوق العام، وبناء الإنسان الحر.

أدمن الطنطاوي على تلاوة القرآن الكريم بتدبّر، والاستماع إليه بإنصات، لأنّه المصدر الأوّل للتشريع في الدولة القادمة التي يحلم بها، وتأثّر ببلاغته وبيانه وسحره.

وكان يجد لذّة في الاستماع لحديث رسول الله وسيرته العطرة، لأنّه المصدر الثاني للتشريع الإسلامي بعد القرآن الكريم.

وكان قارئاً نهماً، جمّاعة للكتب، ترك في حلب مكتبة عامرة بأمّهات كتب الدين واللغة العربيّة وآدابها، أنفق عليها من حرّ ماله الكثير، وحزن على فراقها كما تحزن الأم على فراق أولادها، ثمّ أهداها إلى إحدى المكتبات العامّة بعدما عبث عناصر المخابرات الأسديّة فيها، لكنّ ما يحفظه في صدره من لطائف الأدب، وجميل الأشعار، والطرائف والنوادر، وما بقي في ذاكرته من كتب اللغة والنحو والأصول التي تركها خلفه، رهينة الكتب والقراطيس خفّف عنه هذا الفراق.

كتب الطنطاوي النثر الأدبي ببراعة، وكان معجباً بأسلوب أمير البيان شكيب أرسلان، وأديب الأمّة المسلمة مصطفى صادق الرافعي، حريصا على الارتقاء بأسلوبه نحو الكمال علّه يصل إلى مستوى الجاحظ وابن المقفّع، مع حرص على حفظ أجمل الاختيارات الأدبيّة، والشواهد الشعريّة، والحكم والأمثال، وقدرة على استدعائها من ذاكرته العصيّة على النسيان، كلّما أراد تدعيم آرائه الحرّة.

قرأ كتاب عبد الرحمن الكواكبي (طبائع الاستبداد) وكان على وفاق مع مقولة الكواكبي: "إن الاستبداد هو سبب اختلال نظام الثروة، وأحد عوامل الفساد والتخلف العلمي والفكري، وهو مخالف لتعاليم الإسلام التي أمرت بالشورى والأمر بالمعروف"

وترصّد أعداء العروبة والإسلام، فمزّق حجابهم وكشف سوآتهم ونكأ جروحهم، وشنّ على المستبدين بالشعوب المسلمة حرباً لا تزال نارها مضطرمة، لأنّهم في نظره سبب البلاء والتخلّف.

وكان يفخر بكلاسيكيّته العربيّة المسلمة فيقول: "أنا كلاسيكي للعظم، فأنا أحرص على الجزالة في مواطن الجزالة، وأبدو شديد الحرص على اللغة الفصيحة، وعلى النحو، واقرأ كتب التراث بعشق ونهم، وعندما أنقد غيري أشتد عليه في اللغة والنحو والصرف..

أما إذا كانت الكلاسيكية تقليداً بلا تجديد ولا تطوير، فأنا لست كلاسيكياً، ولست رومانسياً، أنا عربي، وأسلوبي عربي فصيح، وأقدم أفكاري بوضوح، وأحرص على موسيقى اللفظة وموسيقى الجملة."

وكان يعتبر شخصيّة الشهيد سيّد قطب الملتزمة مصدر إلهامه فيقول: "سيّد قطب أستاذي في الأدب، وفي الحياة، وفي التنظيم، وفي الثبات على المبادئ حتى الشهادة، حياته، وأدبه، وفكره، كل ذلك أثر فيّ.. أحب من يحبه وأكره من يكرهه، ولا أبالي..".

وهو إلى جانب ذلك كلّه أديب ناقد ذوّاقة لفن القول، يملك القدرة على التمييز بين القلم الأصيل والمزيّف، مع حرص شديد على سلامة النص من العيوب اللغويّة، والالتزام بالقصيدة الخليليّة في النظم، ولا تعني كلاسيكيّته الجمود والتعقيد والغموض والانغلاق، ولكنها تعني الحركة والبيان والإبانة والتيسير والانفتاح.

ويحرص الطنطاوي على تشجيع الكتّاب والمصنّفين، والشباب المبدعين، بكتابة المقدّمات النقديّة لمجموعاتهم القصصيّة ودواوينهم الشعريّة، ليواصلوا مسيرة العطاء في زمن غربة الكتاب، وكساد سوقه.

ولم يكتف الطنطاوي بنقد الأدباء والشعراء في المجلات الأدبيّة والصفحات الثقافيّة، لأنّه يؤمن بأنه لا أدب بدون نقد، فكتب في أصول النقد عدّة كتب منها:

(في الدراسة الأدبية) صدرت الطبعة الأولى في عام 1974 عن المكتبة العربية بحلب (بالاشتراك).

و(تذوق النص الأدبي) صدرت الطبعة الأولى عن دار الضياء في عمان في عام 2001 (بالاشتراك).

و(في الإنشاء الأدبي) صدرت الطبعة الأولى في عام 1974 عن المكتبة العربية بحلب بالاشتراك).

وكتب في النقد الاجتماعي (شهد وعلقم) وفي النقد الأدبي (فصول في النقد التطبيقي) و(أصنام الأدب السوري).

وكتب في مجلّة (الدعوة) في مرحلة صدورها بلندن مقالات عديدة.

وبالإضافة إلى كتبه النقديّة المنشورة، له كتب مخطوطة تحت الطبع منها: (وكاتب وما كتب) و(شاعر وما شعر).

وكان يحرص على تطبيق القواعد النقديّة على مؤلّفاته الممتعة، وليس ممن (يقولون ما لا يفعلون).

وكان إنتاجه القلمي في ميدان القصّة والرواية غزيراً متنوعا متجدّداً، ترفده حالة إبداعيّة، ومخزون لغوي، وخيال واسع، وتجربة واقعيّة بسبب مخالطته كافّة الشرائح الاجتماعيّة والطبقيّة.

واتسمت كتابته بالسهولة، والبعد عن التعقيد، وتماسك النص الأدبي، حيث تشكل كل جملة حلقة مرتبطة بما قبلها من الحلقات.

وهو إلى جانب ذلك كلّه محقّق مصنّف، ومن جيّده (الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر وليد الأعظمي) في مجلد كبير، و(الأعمال النثرية الكاملة للشاعر وليد الأعظمي) في ثمانية مجلدات، وراجع وكتب مقدمات المجلّدات الخمسة (الإخوان المسلمون في سوريّة مذكرات وذكريات) لعدنان سعد الدين رحمه الله.

وله كتب مخطوطة كثيرة تحت الطبع، تشكّل مع ما نشر له تراث رجل أديب قل نظيره، يعمل بصمت في زمن المتشدّقين والمتنطّعين.

وكتب في التراجم: (اللواء الركن محمود شيت خطّاب: المجاهد الذي يحمل سيفه في كتبه) و(الدكتور الشيخ مصطفى السباعي الداعية الرائد والعالم المجاهد) و(الإمام حسن الهضيبي) و(الأستاذ الشهيد سيّد قطب) و(الإمام أبو الأعلى المودودي) و(العالم المجاهد الشيخ محمد الحامد)، و(كواكب الشهداء) ثلاثة أجزاء، و(رجال لهم آثار)، و(منهج الإصلاح والتغيير عند بديع الزمان النورسي) 1418/1997.

وعندما قامت ثورة الكرامة في البلاد السوريّة دافع عنها بقوّة، ودعا الأدباء والشعراء لكتابة القصّة، والرواية التراجيديّة للثورة، ونظم الأشعار الثوريّة، وحثّ النقاد على المساهمة الجادّة في الدراسات الأدبيّة المتعلّقة بالثورة.

*    *    *

نموذج من نقد الطنطاوي

ديوان جسر على نهر درينا

للشاعر: حسن الأمراني*

قدّم الأستاذ عبد الله الطنطاوي لمقالته النقديّة بكتابة سيرة مختصرة لصاحب الديوان الشاعر الإسلامي المغربي حسن الأمراني، عرّج فيها على مولده، ودراسته، ودرجاته العلميّة، والوظائف التعليميّة والجامعيّة والصحفيّة التي مارسها، ودواوينه الشعريّة التي نظمها، ثم مهّد لديوان الأمراني (جسر على نهر درينا.. ملحمة الإسلام في البوسنة) فتحدث عن الملحمة التاريخيّة التي خاضها مسلمو البوسنة والهرسك في قلب أوروبا، بينما العالم يتفرّج على المجزرة.

لقد بني الجسر الذي كان قائماً على نهر درينا، عام 979هـ–1571 م بأمر الوزير العثماني محمد باشا سوكو لوفيتش الذي ولد في قرية صغيرة من قرى البوسنة، قرب فيشيجراد، القرية الواقعة عند ملتقى النهرين: درينا ورِزاف، وقد أراده الوزير رابطاً بين الإقليمين العثمانيين: البوسنة والصرب.

واليوم، يعود نهر درينا ليشهد مآسي لم يعرف لها العالم نظيراً، حيث يقوم الصرب بتذبيح المسلمين، رجالاً ونساء وأطفالاً، ويلقون بجثثهم إلى النهر.

وحين يمتنع النهر عن التهام الجثث، فتظلّ طافية، يقوم الصرب ببقرها لتستقرّ في أعماق النهر.

إن أعماق نهر درينا تضمّ اليوم كثيراً من الشهداء. يقول الشاعر الأمراني:

 "إني أرفع هذه الأشعار إلى المستضعفين من الرجال والولدان من شعب البوسنة والهرسك، الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً."

استعار الشاعر عنوان الديوان من الرواية المسماة بهذا الإسم والموصوفة بأنّها تتحدث عن تاريخ البوسنة، واقتطف من الرواية أيضاً كلمات معبّرات عمّا يجري الآن هناك، من مثل قوله:

"أخذ بعض سكان المدينة ينشدون، على طريقة أهل المدينة، هذا النشيد، وقد شحبت وجوههم من فرط الانفعال:

في سراييفو والبوسنة

كلّ أمّ حزينة

من فراق ابنها

الذي بعثت به إلى الإمبراطور مجنّداً."

تساؤلات:

ترى.. ماذا ينشد سكان سراييفو في هذه الأيام، والأمهات يغتصبن أمام بناتهنّ، وأزواجهنّ وأبنائهنّ وحفدتهنّ ؟

ماذا سيقول الشعراء والكتّاب والمغنّون والمنشدون وهم يرون من فظائع الصرب ما تجاوزوا به مذابح قبية ودير ياسين وكفر قاسم التي نفّذها همج القرن العشرين في فلسطين ؟

وماذا عساه أن يفعل ذلك الوزير العثماني البوسني محمد باشا الذي أمر ببناء ذلك الجسر ليربط بين الإقليمين، وليتعارف الناس من خلاله وعبره ويتعاونوا ؟ ماذا عساه أن يفعل فيما لو كان طّلع على الغيب – الذي لا يعرفه إلاّ الله، ولا يطْلع عليه إلاّ من شاء من أصفيائه– ورأى الصرب يعبرونه ليقتلوا المسلمين – حفدته – ويفعلوا بهم الأفاعيل ؟

أما كان يعدل عن فكرة بناء الجسر، ليبني سدّاً من نار، يفصل ما بين البشر وبين الصرب المتوحشين المتخلفين ؟

ولو عاش كاتب الرواية البوسني الكاثوليكي إلى أيامنا هذه، ورأى ما يفعله الصرب بالمسلمين – والعالم على أبواب القرن الحادي والعشرين -..أما كان يترحّم على ( النبّاش ) الأول: إمبراطور النمسا الذي كان يسوق شبّان البوسنة إلى محرقة الحرب التي لا ناقة لهم فيها ولا جمل ؟ وأما كان يرى فيما كتب ووصف من جرائم متواضعاً وأقلّ بكثير من الواقع المأساوي المعيش، والناس يودّعون هذا القرن ؟

لقد كتب مؤلف الرواية يقول:

 "كما يقع كثيراً في تاريخ الإنسانية أصبحت أعمال العنف والنهب وحتى القتل من الأمور التي يسكت عنها وتباح، شريطة أن ترتكب باسم مصالح عليا، وتحت ستار شعارات معينة، وأن تنزل على عدد صغير ممن يسمّون بأسماء معينة، وينتمون إلى عقيدة معينة".

الرواية: 2/149

فأين هذا مما يحدث الآن ؟

لا بدّ أنه كان سيغيّر كثيراً مما كتب، حتى تكون رواية جديدة حافلة بمخازي الصرب وتوحشهم المنبعث من أحقاد دفينة موغلة في أعماق التاريخ.

رفاقية الرفاق:

ولعلّ هذا ما يفسّر ويشرح للذين يعجبون من قتال ( رفاق ) الأمس، وتذبيحهم وتذبيح نسائهم وأطفالهم، وهم الذين كانوا ( رفاقاً ) في الحزب الأحمر، وزملاء في الجامعة، فما الذي جرى حتى يُجْروا دماء الرفاق والزملاء أنهاراً ؟

لم نكن نعرف يوم احتضنتنا الجامعة

فاحترقنا في ميادين الصراع

أن أبناء الأفاعي

في الليالي الحالكة

ينفثون السمّ باسم الطبقات الكادحة

في العروق الجائعة

*    *    *

عندما كنّا نغنّي الشعر والثورة

في ساحة ( هوشي منه )

والقلب على الكفّ و ( يوميات بوليفيا ) وأشواق الكفاح

لم نكن نعرف غير ( ديان بيان فو ) أملاً يشفي الجراح

لقد كانوا ( رفاقاً ) في الحزب الدموي الأحمر، وما كان يخطر على بال مسلم أو مسلمة من الرفاق والرفيقات، أن ماركس وأنجلز ولينين وستالين وكلّ أبالسة الشيوعية، سوف يعجزون عن استلال سخائم الأحقاد من قلوب سود تعيش في بلاد الصرب والجبل الأسود، فالصرب فعلوا بالمسلمين بعد الحكم الشيوعي، وعلى يد تيتو – صديق بعض المستعربين وأحد الرواد – مثل ما يفعلونه في هذه الليالي الدّوامس المترعات بألوان قاتمة من الجرائم..

حديث الشيخ علي يعقوب:

وقد حدّثنا الشيخ علي يعقوب – شيخ استنبول الفقيد- الذي نجا من إحدى مذابحهم في الأربعينيات، حين أطبق الصرب على المصلّين الذين كانوا يصلّون صلاة عيد الأضحى في بلدتهم التي كانت تربض على كتف نهر درينا.. أطبق الصرب (الرجعيون) من جانب، والصرب (التقدّميون) الشيوعيون من جانب، وأحاطوا بالمسلمين المصلّين، وذبحوا منهم مذبحة هائلة، قدّرت بثلاثة آلاف شهيد، ورموا جثثهم في ذلك النهر الذي صار نهراً أحمر قانياً، ورمى الطفل علي يعقوب بنفسه في النهر، لينجو من المذبحة، وليحدّثنا حديثه هذا بعد أربعين سنة من حدوثها ( عام 1984 ).. حديثاً اقشعرّت منه أبداننا، حتى وقع في خاطري أن يكون الطفل علي يعقوب الذي شهد المذبحة، ما يزال يعيش في ضمير الشيخ علي يعقوب الذي ذرَّف على السبعين، لأنه كان يحدّثنا والذعر ملء عينيه، والخوف مرتسم على قسمات وجهه، ومعشّش في أعماقه، حتى بلغ به الأمر أن يرجونا أن لا ننشر شيئاً من حديثه، لأنه يخشى من الصرب الشيوعيين ( العقائديين ) على بقايا أسرته المنكوبة.. لقد كان يخشى من انتقام الصرب المجانين المجرمين بعد أربعين عاماً من المذبحة..

رباط الماركسية:

إن البوسنيين الشيوعيين ليعجبون من تصرفات رفاقهم الشيوعيين من الصرب.. كانوا يحسبونهم قد انصهروا في بوتقة الماركسية الأممية، ونسوا أصولهم العرقية، وعقائدهم النصرانية، وأخلاقهم الجبلية، وأحقادهم الصليبية التاريخية.. كانوا يظنون أن رباط الماركسية الأممية أقوى وأصلب من أي رباط، وإذا هم وقد انفرط عقدهم الذي لم يكن سوى وهمٍ وتدليس على الذات، يعودون سيرتهم الأولى، وحوشاً كاسرة في غابات أوربا الصليبية الحاقدة ينقض بعضهم على بعض في لمحة بصر، ويمارس بعضهم ضدّ بعضهم الآخر أقسى صنوف الهجمية، وأحطّ أنماط العهر والفجور.

رؤيا مستقبلية:

هذه بعض ما تعبر عنه وتوحي به اللوحة الأولى من الديوان.. وهذا هو الجانب المظلم من هذه اللوحة، أما الجانب المشرق فيها، فهو ما تجلى في وعي أصحاب البصائر، كذلك الشيخِ الشاب الذي كان ينظر بنور إيمانه نحو المستقبل، فيرى المأساة الكارثة قادمة على أيدي أولئك الرفاق، ولعل من كان يسمع كلام ذلك الشيخ كان يضحك ملء شدقية على هذا التخلف السياسي والفكري لدى المشايخ:

يومها وشوشني الشيخ الفتى:

 إني سأفضي لك بالسرّ، فلا تجهر به من قبل أن تؤنس نار الأبديه.

فجميل الصبر مفتاح القضية.

 يا بنيّ

سوف يأتي _ واحفظ القول _ على الناس زمان

تصبح اللحية فيه بندقية

وحجاب البنت يغدو قنبلة.

ويعلق حيران بن الأضعف على قول هذا الشيخ (المتخلف):

 وظننت الشيخ يهذي

وبأعماقي ضحكت

لم أكن أفهم شيئاً

وهو يتلو الزلزلة.

وقد كان الذي توقّعه ذلك الشيخ، فكانت الزلزلة التي خفيت أسبابها على (حيران) _ الرفيق الشيوعي الضائع بين ما كان يحلم به، وبين الواقع المر _ ابن (الأضعف) ويا ليته كان ابن ( المستضعف ) فالإسلام كان وما زال وسيبقى إلى الأبد، هو الأقوى، وإن استضعفوا أبناءه في عصر العلو اليهودي الصليبي هذا.

الجسر بين الماضي والحاضر:

وفي اللوحة الثانية: ( البيان ) يتداخل الماضي والحاضر عند جسر درينا، فعلى الجسر تعلق إعلانات الغزاة، ويعلق الضحايا، ويصلب الثوار..

ومن خلال الحوار بين علي خجا وإسماعيلوفتش نطلع على الواقع المرير، وعلى النفوس المتأزمة نتيجة الحصار القاسي، والقصف والدمار ونقض العهود والمواثيق، ولكن.. يبقى الجهاد الأمل في الخلاص، فترك الجهاد مذلة، والمذلة محرمة على المسلم الذي يريده  الإسلام عزيزاً على الزمان، يتبوأ قمة المجد، ويأبى العيش بين الحفر.

صوت الشاعر:

ويأتي صوت الشاعر هادراً في حزن عبر اللوحة الثالثة ( الجرح الهادر ). وجرح الشاعر هو جرح سائر المسلمين، هو جرح الفلاح المستضعف الذي يحكي عن قريته التي كانت آمنة مطمئنة جميلة، فغدت مهجورة، بعد أن كانت موئلاً للحساسين ومأوى للياسمين، هجرتها طيورها وتركت أوكارها، ففقدت بذلك جمالها، كما فقدت جلالها وعظمتها بعد أن استضعف الصرب رجالها، واغتالوا مآذنها التي كانت تنشر البشر والبشريات، ثم يأتي النَّفَس الملحمي شامخاً مفتخراً بالقرون الوضاء التي عاشتها هذه البلاد في ظلال دوحة الإسلام:

يـا قـرونـاً خمسـة لألاءة

 

كرحيق الفجر ما بين القـرون

من طوى أعلامك الخضراء؟

 

من نسج الأكفان للحق الرزين؟

قد غدا نهر " درينا " ظامئـاً

 

ولكـم كان يروّي الظامئيـن !

والعصافير التـي كانت هنـا

 

زينة الروض وكحل الناظرين

ذبحوها، هدموا أعشـاشهـا

 

صادروا ألحانها بين اللحـون

هتكوا سترالصبايـا، عذّبـوا

 

كل شـيخ، قطعوا كلَّ وتين

سرقوا الأطفـال من أمّاتهـم

 

شرّدوهم.. يا لظلم الظالميـن

قتلوا كـلَّ أبـيٍّ، صلبـوا

 

يا سراييفـو بنيـك المهتديـن

     ويلخّص الشاعر رأيه في هذه الملحمة بأن نكون أو لا نكون.. هذه هي الخلاصة وعلى المسلمين أن يعوها جيداً وأن يبشّروا بها، ويسعوا إلى تحقيقها.

أحقاد وغباء:

وفي اللوحة الرابعة ( الصلب ) يتحدّث أحد الرفاق المحسوبين على الإسلام والمسلمين، وهو معلّق وموثق إلى الجسر.. يتحدّث عن مأساته التي لا يعرف لها سبباً، ويتساءل عن سبب تعليقه وتعذيبه واغتصاب أخته أمامه، وعن سبب تعذيب أمّه وأبيه الذي قاتل النازيين ودافع عن بلغراد وزغرب – عاصمتي الصرب والكروات – ولا يدري لماذا صار هو ومن على شاكلته من الرفاق ( المسلمين ) غرباء وكالوباء ؟ والمسكين لا يدري أنها حرب دينية وليست حرباً عرقية، كما يروّج لها الإعلام الغربي الصليبي الحاقد، ويلحق به في الترويج لهذا الزعم، كل إعلام غبيٍّ في دنيا الناس.

صوت التاريخ:

وفي اللوحة الخامسة ( الواقعة ) يتداخل التاريخ بالحاضر، كما في (البيان) فيتحدّث الشاعر – مازجاً بين ( غرناطة ) و (سراييفو) الشهيدتين – مستصرخاً ضمائر المسلمين، عبر نداء قادم من وراء الأفق، غير أنه نداء دامٍ ما يزال ينزف، مستعيراً أبيات صاحبة (البراق) بتغيير طفيف:

وفي الأفق نداء نازف الجبهة يستصرخ أبناء العقيدة:

ليت للمسلم عيناً فترى

 

ما ألاقي من عذاب وضنى

قيّدوني عذّبوني، ضربوا

 

موطن العفّة مني بالعصا

ويأتي الجواب مدمى:

  • آه يا أمُّ اعذرينا

نحن أصبحنا أسارى الذلِّ والقهر الشديد

اعذرينا

فلقد أدمت سجايانا القيود.

(ألا ما أجملها من صورة، وما أروعه من تعبير فقد أدمت سجايانا القيود)

ويأتي الجواب على الجواب حازماً صارماً:

لم أجد عذراً لكم بعد امتهان العرض والدين..

وما غبطة حيّ صار يحيا كالعبيد ؟

لم أجد عذراً سوى أن تطلبوا درب الشهيد.

فسلوك درب الجهاد والاستشهاد هو نفسه الصعود إلى قمم العزّة والكرامة والمجد.

ولم يبعد الشاعر في المقارنة بين غرناطة وسراييفو، فالمسلمون جميعاً يخشون ضياع البوسنة كما ضاعت الأندلس، وكلتاهما في أوربا، ولا يريد شاعرنا أن تقول الأمهات المسلمات البوسنيّات كما قالت أم أبي عبد الله الصغير لابنها:

ابك مثل النساء ملكاً مُضاعاً

 

لم تحافظ عليه مثل الرجال

بل جعل الأم البوسنية تستدرك قبل أن يكون لوم وتلاوم، فتدعو بنيها إلى الجهاد والاستشهاد، فدربهما هو وحده الدرب الموصل إلى الكرامة وصون العرض والأرض والدين والشعب.

شاعر أهمّته أمّته:

وهكذا تتوالى لوحات الديوان، معبرة عن الواقع البئيس الذي يعيشه المسلمون في البوسنة والهرسك، تحت ثقل الجزارين الصرب، راضعي حليب الذئاب والأحقاد، و..

والشاعر الأمراني متفنن مبدع في التعبير عن قضايا أمته العربية والإسلامية، في هذا الديوان وفيما سبقه من شعر ونثر، تناول فيهما هموم هذه الأمة، وهو في هذا الديوان ذي الموضوع الواحد، رائد في هذا الميدان، فلم نعرف شاعراً أصدر ديواناً حول البوسنة ومعاناة المسلمين فيها، وهو واعٍ لطبيعة المعركة الشرسة التي يسمّيها الإعلام العربي التابع للإعلام الغربي الصليبي المتصهين: حرباً عرقية، وهي في حقيقتها الظاهرة للعمي والمبصرين، حرب دينية بكل ما في هذه الكلمة من معنى، تريد الإجهاز على الإسلام، واستئصال شأفة المسلمين من قلب أوربا، كما صرّح الصرب أنفسهم، ولكن الإعلام الغربي يحاول طمس حقيقة ما يجري، ليصرف المسلمين العاجزين أصلاً عن فعل أي شيء لمناصرة إخوانهم المسلمين هنا وهناك، عن تقديم أي شيء ذي بال لهؤلاء الذين يقتلون ويُصَلَّبون وتُقَطَّع أيديهم وأرجلهم، وتُغْتَصبَ نساؤهم وفتياتهم وصبيتهم، لسبب واحد ولا سبب سواه، هو كونهم ينحدرون من أصول إسلامية.

الشعر في الديوان:

تهمة الخطابة والوعظية السردية المباشرة تتلبّس الشعر الإسلامي في نظر النقّاد العلمانيين، وأحبّ أن نحتكم في هذه الدعوى المريبة، في هذا الديوان الصغير الحجم، الكبير المعنى، الذي تقرأ فيه شعراً صرفاً..

فإذا كان الشعر – حسب المقولات الحديثة – صوراً وموسيقى، فإننا نرى شاعرنا قد عبّر عمّا يريد من معان وأفكار، من خلال الصور والموسيقى معاً..

اقرأ معي ما جاء في اللوحة السادسة ( الاغتصاب ) من شعر:

لجسد مرتعش

على سرير الرعب

لصرخة موءودة

من طفلة شرقية شقراء

تجأر بالدعاء

لرافع السماء

لجسد منفطر مما جناه الصرب

وأذرع مشلولة..

تهتف في مرارة: يا ربّ        

صيّرت سيفي قلمي

جعلت حبري من دماء القلب

لعلّ رمح الصرخة الخرساء

يشقّ قلب عابد المحراب

بالغضب المغموس في قرارة الأحقاب

ويبعث الدماء

كاسحة من قلب هذا الشعب.

ألا ترى هذا الصراخ المدمّر للأعصاب، ينطلق من حناجر الصبايا اللواتي تعرّضن للتعذيب الشيطاني الذي لا يوصف ؟

هل ترى في تلك الصرخات غير التعبير عن الفجيعة من خلال الصور التي هي من المجاز العقلي البديع: "سرير الرعب – صرخة موءودة – صيّرت سيفي قلمي – حبري من دماء القلب – رمح الصرخة الخرساء – الغضب المغموس في قرارة الأحقاب".

والموسيقى الحزينة التي تنساب عبر القصيدة، توشح تلك الصور بهالة من حزن وألم، والكلمات والتراكيب التي حملت تلك الموسيقى من خلال انتقائية محببة، لأنها عفوية، لا ابتسار ولا اقتسار لقافية أو حرف رويّ..

وهذا الحكم ليس على هذه القصيدة اللوحة فحسب، بل تراه في سائر لوحات الديوان، التي حفلت بالتصوير والتجسيد المناسبين لطبيعة الموضوع المأساوي.

اقرأ معي هذه الأبيات، وتأمل ما فيها من صور حفلت بها هذه اللوحة ( الذكرى ):

ها هنا ربعي الطفولي

ها هنا حلمي الربيعي

ها هنا بستان أحلامي المنضَّد

وهنا في الأفق الغربي شلال من الضوء، لُجَيْنيٌّ تَهَجَّدْ

فوقه شلال عسجد.

هل تحتاج هذه الصور إلى من يشرحها ويفسرها ؟

وهل تحتاج الموسيقى التي تنساب في نعومة حيناً، وفي تصخاب حيناً آخر، إلى من يفتش عنها؟

ها هنا شهقة بحر

ها هنا صولة غابه

ها هنا غيمة عشق

ها هنا ظلُّ سحابه

وفي (الخرافة) عبّر عن الدعاية القديمة المستجدة عن إرهابية المسلم في الأدب الغربي، منذ ما قبل شكسبير وحتى يومنا هذا.. عبر عن تلك الخرافة بكلمة (الغول) مرة، وبهذه الصور الفاقعة التي تهدهد الأمهات بها أطفالهن مرة ثانية:

خليع عربي ضيق الجبهة أسود

يطلع الليلة من قلب الجدار

يزرع الرعب بأعماق الصغار

( وهذا المسلم ليس بشراً سويا )،

بل عدو ظامئ للدم والقتل المريب.

ولنشنّف أسماعنا بهذه الموسيقى الشجية التي تذكرنا بسورة الشمس في الفرقان المجيد:

أغريب أنا في أرضي

هيهات.. أبي روَّى ثراها

كل شبر فوقها يشهد أني من بناها

ورعاها

وسقاها

وأبي الذي من أجلها أعطى دمه

ضحّى لتبقى مسلمة.

وهذه الصور الممتعة _ فنياً _ المحزنة _ واقعياً _ في قصيدة ( بديع يتلو أشعاره ) وفيها الكثير مما رواه لنا الشيخ علي يعقوب _ تغمده الله بفيض رحمته _:

طاول النجمَ الحجر

شاخت الأزهار والبدر انتحر

وتمطت عند أعتاب القمر

ذئبة تعزف ألحان الظفر

أي جمال وأي سحر حلال نطالعهما في هذه القصيدة المترعة صوراً وموسيقى ومعاني شامخات عن المذابح التي شهدها وما يزال يشهدها نهر درينا وجسره العتيد ؟

وهذه الموسيقى الملونة بألوان الأسى الأسيان، في ( وا إسلاماه ):

ولدي الحبيب

ماذا صنعت وأنت ما أدركت بعد

سن الفطام

ماذا أتيت من الذنوب ؟

ذبحوك بين يديّ، شقّوا الجيب، واغتصبوا دمي

أبنيّ ما صنع العتاة ؟

كانوا أضرّ من الذئاب الجائعات ؟

نقشوا على الصدر الصليب

ولدي الذبيح

أرأيت أعداء المسيح ؟

باسم المسيح

ذبحوك بين يديّ، أعداء المسيح

أعداء كل الأنبياء

 الصرب مصاصو الدماء.

ساقٌ هنا.. وهناك معصم

عنقٌ مضرّجة هنا وهناك رأسٌ قد تحطّم

والذنب ؟ لا ذنب سوى أن قيل: مسلم.

وأحياناً تشتدّ الموسيقى، ويهدر النغم في تعنيف:

وهناك في بعض الجهات

يغفو الولاة

يغفو الولاة على سرير الطيّبات

كل يجالس عجله الذهبي يسأله صكوك المغفرة

حيناً ويغفو كالصنم

ما بينهم يوم الكريهة خالد أو معتصم

ويختم الشاعر قصيدته الرائعة ( وا إسلاماه ) التي تحمل على جناحيها ملحمة المسلمين في كل العصور..يختمها بهذه الأبيات الحزينة بمعناها ومبناها، بموسيقاها وصورها، بألفاظها وتراكيبها:

يا أرض أندلس سلاما

ما عدت وحدك جمرة الذكرى، سلاما

هذي سراييفو تبادلك التحيّة والختاما

يا أرض أندلس سلاما

فكما ضاعت الأندلس، فردوسنا المفقود، ضاعت الخلافة، وضاعت فلسطين، وضاعت سراييفو التي قاتل أبناؤها المجاهدون في فلسطين ومن أجل الإسلام والمسلمين.

وفي لوحته الأخيرة ( أطفال سراييفو يتحدّون الحصار ) موسيقى صاخبة أشبه ما تكون بالنشيد الحربي ينشده أطفال سراييفو في قوة حزينة، على أحان المدافع والصواريخ وأزيز الرصاص:

نحن أطفال سراييفو العتيدة

إن حرمنا من حنان الأمهات

في الليالي الحالكات

فلأنا مسلمون

*    *    *

نحن رغم القهر والقيد اللعين

سوف نبقى مسلمين

نحن أطفال سراييفو القتيلة

قيّدونا

عذّبونا

أحرقوا المسجد والروض وأحلام الطفولة

صادروا الآباء منا والبراءة

والحكايات الجميلة

علّمونا في ربيع العمر أن نلعق جرح الكبرياء

علّمونا أن نغنّي للردى الزاحف..

أن نعزف ألحان المنيّة

علّمونا أن نصلّي، ويد تحضن جسم البندقية

نحن أطفال سراييفو الشهيدة

سنصلّي ونصلّي

ونعيد الضوء باسم الله للشمس الطريدة

فالأطفال وشاعرهم متفائلون أبداً، برغم تراكم الظلمات، وجرائم المجرمين، لأنه لا ييأس من روح الله إلا الكافرون، ولسوف ينبثق فجر الإسلام، من بين أسجاف الظلام، بعد أن قرع الصرب نواقيس صلبانهم، فنبّهوا المسلمين إلى الأخطار المحدقة بإسلامهم وبوجودهم، بعدما غفلوا عنه دهراً طويلاً، منذ اجتاحت الصليبية الحديثة والشيوعية الكافرة ديارهم..

ولئن تخاذل المتخاذلون اليوم، إن غداً لناظره قريب، وسيأتي القادمون من قلب الغيوب، ليمحوا العار عن مسلمي اليوم، الذين أعلنوا الحرب على الإسلام:

أيها الظالم ما أقسى القصاص

أيها الظالم ما أقسى القصاص

فأطفال اليوم هم رجال الغد وأبطاله المجاهدون:

يا سراييفو المجيدة

يا سراييفو الشهيدة

أذن الله بأن ترفع رايات الجهاد

نحن أطفالك حراس العقيدة

لن يطول الانتظار

لن يطول الانتظار

ولعلّ قائلاً يقول: أليس في هذا المقطع خطابية ومباشرة ؟

والجواب: هذه الأبيات هي ختام الديوان، وهي بمثابة القفلة الصارخة له، ولكلّ مقام مقال.

الشاعر الملتزم:

والدكتور حسن الأمراني شاعر ملتزم بإسلامه، بمبادئه وتعاليمه، ملتزم بقضايا أمته، يعبّر عنها في عقلانية لا تخلو، ولا يجوز لها أن تخلو من العاطفة المتّقدة حيناً، الحانية بدفء حيناً آخر، فبعد هذه الصور الجميلة الرائعة:

جمرةٌ مطفأة شمـس الضحـى

 

وفؤاد الليل بكّـاء حزيـن

جُنَّت الأرض من الذبح فمـن

 

يملك الرقبة من مسّ الجنون

يا دموع الأرض كوني منصلاً

 

يتلظّى في صدور المعتدين

  قال:

يا سراييفـو جراحـي جمـّة

 

ونداء القلب مكتوم الأنيـن

واصطباري فيك أضحى خنجراً

 

كلهيب يبعث الـداء الدفين

       وهذه العاطفة المشبوبة نلمحها في قصائد الديوان عموماً، وهذا ليس بعجيب ولا غريب على شاعر تشغله أمّته بقضاياها المصيرية عن قضاياه الشخصية:

ما الذي يبقى من الشعر إذا صار فماً دون قضيّة

ما الذي يبقى إذا صار كورد المزهرية

في بلاط المترفين

أيها الحرف الأمين

لتكن سيفاً بصدر الظالمين.

كما نلحظ التزامه الإسلامي في تعبيره عن نفسه من خلال شخصيات قصائده:

هذا نشيدي شقّ أروقة الفضاء:

حريتي نعمتي

ديني أنا كينونتي

أنا نجمة الصبح التي تهدي الورى سبل السلام.

أنا مسلم وحقيقتي:

أن أحمل النور الذي جلاه صوت الأنبياء إلى الوجود.

فهذه هي رسالة الشاعر، وهي نفسها رسالة المسلم في كل زمان ومكان، أن يكون داعية سلام، يحمل نور النبوة إلى سائر الأنام.

كما يظهر التزام الشاعر في تأثره بكلمات القرآن الكريم وتراكيبه وصوره، كقوله:

وهتفت: سيري يا جبال وأوّبي.

وقوله:

أين آتيلا ونيرون وفرعون ؟ تماروا بالنذر

فإذا هم كهشيم المحتظر

إن ربّي أخذه أخذ عزيز مقتدر.

وفي هذه الصور البديعة:

يا محمد

دع عيون القمر الناعس تشهد

دع شفاه النَّهَر الظمآن تشهد

مولد الفجر على ساعد شيخ يتعبّد

مثل بلقيس التي أبصرت الحقّ وقد لامست الصرح الممرّد.

وهذه الأنفاس الإيمانية المتفائلة أبداً:

يا محمد

اُحدُ باسم الله، ضع رجليك في عزّ الركاب

إنها قافلة الإيمان لا تخشى الذئاب.

وأخيراً:

ماذا أنقل من هذا الديوان وماذا أدع ؟

هل أنقله كله في هذا المقال، لأني أريد لسائر القرّاء أن يقرؤوه ويفهموا مغازيه ويستمتعوا بصوره وموسيقاه الحزينة حيناً، الثائرة حيناً آخر ؟ وأن يعرفوا حدود المأساة.. حدود الحريق الذي شبّ في وسط أوربا المتحضّرة أوربا الديمقراطية التي رفعت الصليب، وسار (فرسانها) الصرب الذين لا يحملون في رؤوسهم وقلوبهم نخوة الفرسان ساروا تحت الصليب من جديد، فأجهزوا في بداية هذا القرن على وحدة الأمة، ومزقوا شملها، واغتصبوا أرض الأنبياء وأسكنوا فيها أوباش البشر …

*   *   *

عناية الطنطاوي بأدب الطفل

عني الطنطاوي بثقافة الطفل العربي عناية فائقة لإيمانه بأهميّة كتاب الطفل المصوّر، ومجلته الورقيّة والألكترونيّة، وبمسرح الطفل، وقدّم القدوة والمثال للأطفال من خلال تراجم مختارة من السيرة النبويّة والتاريخ الإسلامي الحافل بالصور المشرقة، وكتب الأدب العربي، بأسلوب حواري مبسّط، وأعاد رسم صورة جميلة ناطقة بحب الوطن، وحب الخير والصدق والأمانة والوفاء، والكرم والشجاعة والتسامح، لأنّه كان يؤمن بهذه القيم، وعليها ربّى أبناءه وبناته ومريديه، ويؤمن بأن طفل اليوم هو رجل الغد.

وتحدّث الأديب المرحوم محمد محمود الحسناوي عن الجانب التربوي فيما كتبه أستاذنا الطنطاوي ـ أطال الله عمره ـ للأطفال والأشبال فقال: "فبالإضافة إلى المتعة الفنية والجمالية، وإلى سرد المعلومات قصاً أو حواراً، هناك الأهداف التربوية الكامنة أو المتحصلة من الأسلوب التعبيري الأنيق، والألفاظ والتراكيب الفصيحة المختارة، أو من قيم التفكير الراقي التي قامت عليها هذه الشخصيات الأعلام، أو عملت على نشرها وتحققها في الحياة، أو من مجالي المشاعر والعواطف السامية التي نبضت بها قلوب هذه الأعلام في ساعات العسر أو اليسر، أو في ساعات الألم أو النصر، والتربية من خلال الأشخاص والوقائع أجدى وأنفع من القواعد والقوانين المجردة من اللحم والعظام والأعصاب والأحداث، وهو ما نطلق عليه أحياناً اسم التاريخ، التاريخ القديم أو التاريخ الحديث".

وكان اختياره مبني على منهج الربط بين ماضي الأمة المشرق الناهض وبين حاضرها الذي يسير على هدى أولئك النخبة الكرام، سواء بالهمة والعزيمة، أم بالفكر والرأي، أم بالسيف والقلم، وهو منهج الصحوة الإسلامية، منهج الدعوة والعودة إلى لله.

أدب الأطفال عند الطنطاوي

الهدف: إنشاء جيل مسلم فعّال.

الوسائل:

تشكيل عقله: تربية إبداعية ـ ثقافة ـ خيال ـ لغة ـ حب الاكتشاف.

صقل روحه: إيمان ـ جمال ـ حب الخير ـ ذوق ـ فرح ـ نظافة.

التحكم بعواطفه، وتوجيهها بحذر.

عناية بجسمه: العقل السليم في الجسم السليم.

آليات: ـ كتابة القصة الهادفة لتحقيق ذلك.

ـ كتابة التمثيلية الهادفة.

ـ كتابة السيناريو لقصة مرسومة، ورقياً، أو إلكترونياً. يراعى فيها الدقة الفنية، ـ كاتبها محترف، والرؤية واضحة عنده وعند الرسام (ماذا نريد أن نقدم للطفل حسب مرحلته العمرية، وماذا نقول له).

ـ نسعى إلى الكشف عن طاقاته الإبداعية.

ـ نحرّض الأطفال على الاكتشاف أيضاً.

ـ التركيز على الجوانب الإيجابية في أكثر ما نقدم له بعيداً عن الوعظية المباشرة: افعلْ.

ـ نقد السلبيات بروح الدعابة والسخرية، بعيداً عن الوعظية في النواهي: لا تفعل.. من أجل تخليصه منها، وبحذر.

ـ الكاتب يقدم القيم الشعورية والجمالية بأسلوب غير مباشر، ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.

ـ الأسلوب سهل، مقتضب، قد تغني الكلمة عن جملة.

ـ العناية باللغة، فلا أخطاء.. لغوية، نحوية، صرفية، إملائية، عروضية.. إلخ..

ـ العناية بالخط، بقواعده وجمالياته. نقدم بعض الأعمال بالخط اليدوي، لتبقى الصلة قائمة بين الطفل وحروفه.

نركز على:

القيم الإيمانية. القيم الأخلاقية. القيم العربية، والوطنية: حب الوطن من خلال معرفته: تاريخياً، وجغرافياً.. حب العرب والعروبة، وربطه بالإسلام، فالعرب مادة الإسلام. الثقافة العربية في تماهٍ مع الإسلام. الأخلاق: مكارم الأخلاق: الشجاعة بأنواعها، الكرم ـ حب الخير للناس ـ التسامح ـ العطف على الضعفاء ـ بر الوالدين ـ حب الأقربين ـ التواضع، الصدق، العدل، الصبر، العطاء، حبّ البطولة، القوة، الحرية، الحق، الإحسان، عشق التعاون مع الآخرين: مع الأهل والجيران، والزملاء، والأصدقاء، (روح جماعية)، احترام الموعد. زرع بذور النخوة، والمروءة، وحب التضحية، والفداء، والإيثار، حب الأهل والجيران والوطن و.. حب العمل، نشاط، إتقان، الحرص على الإنجاز في موعده. العادات والتقاليد، بعد غربلتها، بإبعاد السلبي، وشحذ الإيجابي. حبّ الحيوان، والطيور، الأسماك..

تزويد الطفل بالمعلومات الصحيحة: علمية، تاريخية، دينية.

ـ تنفيره من الخرافات.

ـ تنمية خياله، بعيداً عن الخرافة والشطط، وخاصة الخيال العلمي.

ـ ربطه بالواقع المعيش.

ـ حب الطبيعة: جبال ـ أودية ـ غابات ـ بحار ـ أنهار ـ ينابيع  ـ أشجار..إلخ.

ملاحظة كبيرة: يربط الكاتب كل ما تقدم بقيمنا الإيمانية، بعقيدتنا، بربنا ذي الجلالة، بحكمته، برحمته، ألخ.

ـ تربية ذوقه الفني: بتنمية حسّه النقدي.

ـ حب الجمال: جمال السكون: السماء ونجومها ومجرّاتها..

ـ التركيز على السلوك السويّ مع: الناس، مع البيئة، مع الحيوان، مع الشجر، مع الحجر..

ـ الحرص على الوقت، وتقديمه له بالدقائق لا الساعات.

ـ إحياء الإيجابي من تراثنا، بصياغة جديدة عصرية للقصص والحوادث التي تخدم ما تقدم من قيم.

العناية في تقديم أبطالنا وعظمائنا في القديم: في صدر الإسلام، وفي العصور التالية، واختيار الصغار منهم مثل: علي بن أبي طالب في صغره وشبابه، وأسامة بن زيد ـ محمد بن القاسم الثقفي وسواهما بالتفتيش عنهم في بطون الكتب.. ومن عظمائنا الكبار: الخلفاء الراشدون، عمر بن عبد العزيز، هارون الرشيد.. والحديث بصورة لائقة، ومقنعة عن علمائنا وصالحينا.. وحبذا العلماء الصغار، والمجاهدون..

ـ عند الأطفال أسئلة كثيرة، وبعضها محرج.. نفتش عن تلك الأسئلة، ونجيب عنها إجابات مقنعة ومناسبة للمرحلة العمرية للطفل.

ـ العناية بالفروسية، والكرامة.

ـ المهم تخريج جيل وطني، عربي، مسلم، إنساني، حرّ، غني بعقله، وذكائه، ومشاعره، وأخلاقه، وسلوكه، جيل متماسك، متعاطف، متراحم، متكافل، متضامن، متعاون.

ملاحظة كبيرة ثانية:

البعد ما أمكن، عن المباشرة والوعظ، ما نريده يقدمه الفن الذي يتغلغل في النفوس البريئة القابلة للبذور والغراس التي ستنمو فيها، فالطفل ذكي، فأنشؤوه على الحرية والكرامة والعقل والعاطفة المشبعة بقيم الحرية التي هي من أعظم القيم التي نريد لأجيالنا الحاضرة والقادمة، أن تتشبع بها.

أحبتي:

هذه خواطر حول مشروعكم الحيوي النبيل، في تربية الأطفال، من خلال:

القصة، والسيناريو، والتمثيلية، والفيلم، والمجلة، وسواها من الأساليب والمعطيات الحضارية الجديدة والمستجدة.

حلمي الذي لم يتحقق في هذا المجال:

أن تكون لدينا مؤسسة كبيرة لتنشئة الأجيال، من خلال الأدب والفن بأنواعه.

الموضوع مهم، وغني جداً، ويحتاج إلى الاختصاص والاحتراف، في الكتابة، والرسم، والإخراج.

واسلموا

*   *   *

الطنطاوي يكتب للأطفال العرب مئة كتاب وكتاب

"أنا لا أتجاوز الحقيقة وأركز على الجوانب الإيجابية"

الطفل العربي مظلوم, أهله يظلمونه, ومربوه يظلمونه, والصحافة تفتئت عليه، وتحرمه حقه"

كنت قد أجريت حواراً مع الأستاذ عبد الله الطنطاوي في 9/4/1997، بالعاصمة الأردنيّة خلال فترة اشتغالي بتحرير (صحيفة اللواء) الأسبوعيّة، ونشر فيما بعد ب(مجلة الغرباء) و(موقع رابطة أدباء الشام) تحت عنوان: (الطنطاوي يكتب لأطفال العرب مئة كتاب وكتاب) جاء فيه:

يسعدنا أن نلتقي مع الأديب الأستاذ عبد الله محمود الطنطاوي أحد الكتاب النقاد المهتمين بأدب الأطفال في حوار هادئ وصريح, يتناول جانباً من القضايا التي تهم أدب الطفل العربي وهو يعكف على إتمام مشروعه المؤلَّف من مئة كتاب وكتاب الذي يؤرخ لعدد من مشاهير المسلمين بعنوان: من نجوم الإسلام. ويتابع رسالته الأدبية من خلال عدة مجلات للأطفال: مجلة فراس، ومجلة الرواد، ومجلة سلام، وفي إصداراته الأخرى.

* رغم اهتمامكم بأدب الكبار, فإن الكتابة للأطفال تأخذ حيزاً كبيراً في إنتاجكم الأدبي. نرجو إعطاء القارئ الكريم نبذة عن أهم أعمالكم في مجال أدب الأطفال؟

- أنا أكتب للأطفال منذ كنت صبياً يافعاً.. كنت أكتب في جريدة "الشهاب" الدمشقية, في ركن الطلاب, عام 1955 وأنا طالب في الصف العاشر ثم انقطعت فترة من الزمن, شغلت فيها بالكتابة للكبار, قصة ومسرحية ونقداً أدبياً, ونقداً اجتماعياً وسياسياً, ثم عدت في الثمانينيّات إلى أدب الصغار من جديد, أكتب وأنشر القصة القصيرة, ورواية الأطفال, والسيناريو وما إلى ذلك مما له صلة بأدب الطفل, ثم أنشأت صحيفة متواضعة داخلية للأطفال باسم (الأشبال)، أما أهم أعمالي في مجال أدب الطفل, فهو مشروع كبير أطلقت عليه اسم "من نجوم الإسلام" وهو يتألف من مئة كتاب وكتاب صدر منها حتى الآن ستة وعشرون كتاباً, كل كتاب تتراوح صفحاته ما بين الأربعين صفحة إلى مئة وعشرين صفحة من القطع الكبير. أرجو من الله أن يعينني لإكمال هذا المشروع الذي لقي قبولاً واستحساناً من كل من اطلع عليه. والحمد لله.

* هل تعطينا فكرة عن هذا المشروع?

- يتناول المشروع حياة شخصيات إسلامية متميزة في العصر الإسلامي الأول. وما تلاه من عصور حتى العصر الراهن.. شخصيات من الصحابة الكرام, وشخصيات من التابعين. ومن تابعي التابعين, وهكذا حتى الوقت الحاضر.

* مثل من الشخصيات الحديثة مثلاً?

- مثل شخصيات: الأفغاني, ومحمد عبده, ورشيد رضا, والكواكبي, وحسن البنا, ومصطفى السباعي, وسليمان الجوسقي, وسليمان الحلبي, ومحمد الحامد, وعز الدين القسام, وكامل القصاب, وبدر الدين الحسني، وحسن حبنكة, وعلي الدقر, وسيد قطب, ومحمد فرغلي، وعبد القادر عودة، ويوسف طلعت، ومحيي الدين القليبي, وسعيد النورسي, والمودودي, ومحمد المبارك, والبشير الإبراهيمي ومحمود شيت خطاب، وعلال الفاسي، ونوّاب صفوي، وعمر المختار، وعبد الكريم الخطابي،... و.. شخصيات متميزة أغفلها الكاتبون.

* لا شك أنها شخصيات جديرة بالاهتمام, وواجبنا جميعاً كشف الجوانب المضيئة من سيرة هؤلاء الرواد وأن شخصية مثل سليمان الجوسقي تحتاج إلى بيان فمن هو سليمان الجوسقي?

- الشيخ سليمان الجوسقي شخصية عجيبة, كان أزهرياً, وكان أعمى, واستطاع تشكيل جيش من عميان مصر, التقاه نابليون بونابرت, وأعجب به, وعرض عليه سلطنة مصر.

* سلطنة مصر?

- نعم يا سيدي, سلطنة مصر, ولكن الجوسقي رفض ذلك وقد خاض بجيشه من العميان معركة ضد الفرنسيين الغزاة, وكانت الشهادة خاتمة حياته, على يد نابليون.

* هل تذكر لنا طريقة عرضك لهذه الشخصيات?

- هناك أكثر من طريقة عرض.. طبعاً الكتابة عينها كانت بأسلوب قصصي, روائي.. أو مس- رواية، إذا جاز التعبير. مثلاً.. شخصية عبد الله بن رواحة رضي الله عنه وهو الشخصية الثانية من نجوم الإسلام, قدّمته على هذا الشكل:

"حدثنا الفتى صادق أمين قال:

- رأيت فيما يرى النائم, أنني أمام رجل جميل بهي, مهيب, أعرفه ولا أعرفه. تقدمت منه قليلاً في شيء من التردد وسألته:

- من أنت رجاء?

فقال وهو يبتسم:

- احزر.. اسمي: عبد الله, وكنيتي: أبو محمد.. ولدت في يثرب, وأنتسب إلى الخزرج، وتعلمت القراءة والكتابة, وكنت من العرب القلائل الذين يكتبون في الجاهلية. أسلمت على يد الداعية العظيم مصعب بن عمير, وشهدت بيعة العقبة الثانية, وكنت أحد النقباء الاثني عشر..

وهكذا يستمر ابن رواحة في التعريف بنفسه, في رؤوس أقلام.. ويعرفه الراوي بطل المسلسل: "الفتى صادق أمين" وتأتي "صادقة" أخت صادق, وهي في الثانية عشرة من عمرها أي تصغر أخاها بسنتين. ويكون حوار بين الثلاثة نعرف منه شخصية ابن رواحة.

وفي الشخصية الأولى من النجوم (محمد بن مسلمة: فارس رسول الله) أبدأ على الشكل التالي:

"حدثنا الفتى صادق أمين قال:

هكذا كل المشروع أو كل كتاب من هذا المشروع يبدأ بهذه البداية: حدثنا الفتى صادق أمين قال.

* أنت تمزج بين الخيال والتاريخ إذن.

- ولكن لا أتجاوز الحقيقة التاريخية.

* ولكنني لاحظت أنك تركز على الجوانب الإيجابية فقط?

- هذا صحيح, والسبب: أنّ في حياتنا من السلبيات ما تضيق به الصدور، وتشمئز منه النفوس, ثم.. ألا تكفي كتابات أعداء هذه الأمة, من مستشرقين ومستغربين وأذناب تلك التي تركز تركيزاً هائلاً على السلبيات, حتى إنهم إذا لم يجدوا سلبيات في حياة قادتنا كالرسول القائد - صلى الله عليه وسلم-, وكالخلفاء الراشدين, ومن هم على سننهم أقول: إذا لم يجدوا سلبيات افتعلوها.. افتعلوا وجود سلبيات لا تقف أمام أي تحقيق تاريخي.. هذه واحدة.. والثانية.. ما يراه أطفالنا من ازدواجية في حياتهم في البيت وفي المدرسة ولدى بعض (الدعاة) الأدعياء.. كلام كالعسل المصفى, أو كالعسل بشهده, وأفعال مغايرة لذلك الكلام المعسول.. إنهم - وهم أذكياء- يرون الهوة الواسعة الشاسعة بين القول والفعل, مما يشكل انفصاماً في شخصياتهم كآبائهم ومربيهم.. مثلاً.. يسمعون من أولئك (الكبار) قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) ويسمعون منهم وصايا الرسول العظيم بالجار, ويسمعون ويسمعون عن الصدق والكرم والشجاعة والنجدة والنخوة والمروءة, ثم ترى أعينهم غير ذلك تماماً.. مئة وثمانين درجة -كما يقولون- وتكون الطامة, إذ يظنون أن هذه هي سنة الحياة، وأن هذا هو الصحيح؛ كلام جميل وفعل قبيح... قبيح جداً.. أليس هذا هو الواقع الذي يكتوي بنيرانه أبناؤنا وبناتنا? لذلك.. قلت: يا عبد الله, ركز على الجوانب المشرقة, ودع الجوانب المظلمة -إن وجدت-.

* هل هناك قاسم مشترك بين شخصيات نجوم الإسلام?

- هناك جامع مشترك أنا أحب الذي يجمع, ومنه الجامع الذي نصلي فيه, وأمقت الذي يفرق ويقسم.. الجامع المشترك لشخصيات نجوم الإسلام, هو الجهاد بمعناه الواسع, لأننا نعايش ظروفاً صعبة قاسية, فيها إحباط ويأس وظلمات متراكب بعضها فوق بعض.. أردت تعريف فتياننا وفتياتنا بقادتهم الحقيقيين, في القديم وفي الحديث.. وتركيزي على الشخصيات المعاصرة سيكون واضحاً لأن الناس ما عادوا أو لا يكادون يعرفون شيئاً ذا بال عن الشخصيات المعاصرة المتميزة بصدقها في القول والعمل.. ولعل الدافع المباشر لهذا, هو أن أخي الكاتب الأديب الباحث حيدر قفه, قال لي مرة:

- نحن نقرأ الكثير عن الرجال العظام في تاريخنا.. عن زهاد, ومجاهدين, وصادقين, وأصحاب نخوات ومروءات.. عن شخصيات علمية لم تتخذ علمها سلماً للوصول إلى مآربها الدنيئة, ولكن لا أكاد أرى من يملأ قلبي وعقلي وعيني الآن.. فهل تدلني على مثل تلك الشخصيات?

هذه واحدة, والثانية هي أن من كان قبلنا, كان يكتب ما يشاهد وما يسمع عن الشخصيات المتميزة. أما نحن فالأمراض القلبية والنفسية تقف سداً منيعاً دون ذلك. الحسد والغيرة, وما سواهما من ألوان الجرب النفسي وما ينجم عنه من كذب وغش وخداع وتدليس, واستغفال الطيبين الأطهار.. هذه الأمراض جعلت الناس, أكثر الناس. يتحدثون عن السلبيات ويتجاهلون الإيجابيات بل إنهم ليكذبون وهم يتحدثون عن الآخر وعن أنفسهم الهزيلة.. ولو كنت ممن يحب كشف الغطاء عن بعض من عرفت وعاملت لفاحت روائح تزكم النفوس قبل الأنوف. ورحم الله أبا العتاهية عندما قال:

أحسن الله بنا أن الخطايا لا تفوح   فإذا المستور منا بين ثوبيه  فضوح

وأحسن الله إلى أخي وصديقي الكاتب الكبير الأستاذ حسن التل (رحمه الله), عندما نبهني ذات يوم إلى قول الله تعالى في كتابه العزيز:

﴿قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله﴾.

سمعت هذه الآية من أبي بلال وكأني أسمعها لأول مرة في حياتي وقلت لنفسي:

"إذا كان الله -سبحانه- يطلب من المؤمنين أن يغفروا للذين لا يرجون أيام الله, فمن باب أولى, أن نغفر لمن يرجون أيام الله".

ولكنهم يصرون على انحرافاتهم وأكاذيبهم وسرقاتهم وضلالاتهم.. ومنذ ذلك اليوم صرت أغني مع حكيم المعرة:

ولما رأيت الجهل في الناس فاشياً     تجاهلت حتى ظنّ أني جاهل

وصرت أدندن معه:

خسئت يـا أمنا الدنيا, فأفّ لنا    بنو الخسيسة أوباش أخسّاء

ادندن وأتجاهل, وأرثي لمن مطعمه حرام, ومشربه حرام, ولكنه على زي حسن ومظهر جميل يظهر به أمام الناس, ولسان لا أريد أن أصفه, وأقول مع من قال:

جمال الجسم من قبح النفوس     كـقنديل على قبر المجوسي

* دعنا نعد إلى أدب الأطفال, ألا ترى أن ثقافة الطفل تحتاج إلى المزيد من اهتمام الصحف والمجلات?

- هذا صحيح.. فالطفل عندنا -كسائر بني آدم - مظلوم. أهله يظلمونه والصحافة تفتئت على حقه.

* كيف يظلمه أهله?

- الوالد الذي يطعم أولاده من الحرام هو ظالم لهم, والوالد الذي يكذب ويعلم أولاده الكذب ظالم لأولاده, والوالد الذي لا يربي أولاده على الصدق والأمانة والفضيلة, ظالم لهم, وأما أوضاع المعلمين والمربين فحدث ولا حرج.. أو.. أقول لك: لا تحدث إلا إذا نفع الحديث.. وآدابنا (القديمة) أولت الأطفال رعاية خاصة, فبنت شخصياتهم منذ نعومة أظفارهم.. وآدابنا وبعض صحافة الأطفال عندنا تهدمها.. ويا حسرة على العباد..

* فرحنا جداً بصدور مجلة فراس, ثم بصدور أختها مجلة الرواد اللتين تنهض بتحريرهما. فماذا عن المجلتين? وهل توقّفتان عن الصدور؟

- (فراس) و (الرواد) شقيقتان تعاهدتا على رعاية أطفالنا من سن مبكرة, وكان يقوم بتحريرهما أساتذة مختصون بشؤون الأطفال وأدب الأطفال من سائر أنحاء الوطن العربي من المغرب غرباً, حتى العراق شرقاً, كان يكتب فيهما ويرسم كتاب وشعراء من الأردن وسورية وفلسطين ومصر والعراق والمغرب ولبنان والسعودية واليمن ودول الخليج وكانت صفحاتهما مفتوحة لسائر الكتاب والشعراء والرسامين الأصلاء, كانت المجلتان تعملان على إشباع رغبة الطفل, وموضوعاتهما تسمو بنفوس الأطفال, وتربيهم على الفضيلة؛ فضيلة الصدق والأمانة والشجاعة الأدبية كل ذلك بأسلوب حي بعيد عن المباشرة والوعظية. وقد زادهما تنوع الكتاب والشعراء والرسامين بيئة وثقافة.. زادهما غنى. ففي كل عدد كنت تقرأ لحوالي عشرين كاتباً وشاعراً, ولحوالي عشرة رسامين مبدعين, وهذا لا تجده في صحافة الأطفال الأخرى التي سبقت فراس والرواد في الظهور لسنين والحمد لله. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإن مجلة فراس انتقلت إلى جدّة في السعودية، وأمّا (الرواد) فقد توقفت فترة، ولعلها تعود إلى الحياة قريباً إن شاء الله تعالى.

* لكن ألا ترى أن فراس والرواد كانتا جادتين?

- طبعاً جادتان.. لا تنشران عملاً ليس وراءه هدف خلقي، تربوي.. قصة أو سيناريو أو مسرحية أو قصيدة أو موضوعاً أو رسمة.. حتى التسليات تتوخى من ورائها فوائد, كإدخال المتعة والسرور إلى نفس الطفل, وكرياضة ذهنه وتحريك عقله, وتنمية قدراته ومهاراته وذكائه.. كانت المجلتان جادتين في كل ما تنشران.

* وكيف كان انتشارهما?

- ممتاز ولله الحمد.. كنّا نطبع من فراس عشرين ألفاً, ومن الرواد ستة وعشرين ألفاً توزع في دول الخليج ومصر والأردن ولبنان, وكنا نتمنى ونسعى أن تتمكنا من اختراق الجدران الصماء في الدول العربية الأخرى.

* شكراً لك يا أخي على إجاباتك ولعلنا نلتقي مرة أخرى حول أدب الأطفال وصحافة الأطفال, وكتاب الأطفال وشعرائهم ورساميهم.. شكراً لك ونرجو تقديم كلمة موجزة للأطفال.

- أوجه كلمتي هذه للصغار والكبار. إلا إذا أعلنا يأسنا من بعض (الكبار) الذين يربون أولادهم على الغش والخداع والكذب, ليفوزوا بالمال والمنصب والجاه في هذه الحياة القصيرة.

أقول لهم: الصدق الصدق فيما تقولون.

الأمانة الأمانة..

الفضيلة الفضيلة..

اعملوا بصدق وأمانة وإخلاص, فأمتكم في أمس الحاجة إليكم, وأوضاعنا المتردية هذه, نتيجة طبيعية لبعدنا عن ديننا.. عن تعاليم إسلامنا العظيم.. عن قيم أمتنا.. عن تكالبنا على المصلحة الشخصية, وإن تعارضت مع المصلحة العامة.. مع مصلحة الأمة.. وإلى لقاء آخر يا أيها الأحباب".

*   *   *

صحيفة اللواء (الأردنيّة) 9/4/1997 حاوره: محمد علي شاهين.

الطنطاوي الكاتب الموسوعي

كتب الأديب الموسوعي الأستاذ عبد الله الطنطاوي ستة وعشرين موضوعاً في (موسوعة الزاد العلمية) السويديّة التي جرى تعريبها في جدّة عام 1995.

وقد قام بالترجمة والإشراف العام على الموسوعة، الدكتور بهيج ملاّ حويش، وراجعها الأستاذ سليم عبد القادر.

فما هي موسوعة الزاد ؟

يعرّف الأستاذ الطنطاوي هذه الموسوعة في مقالة منشورة على صفحات (مجلّة رابطة أدباء الشام) فيقول:

وصف بعض الباحثين هذا العصر بأنه عصر الموسوعات، فقد كثرت الموسوعات كثرة كبيرة في سائر اللغات، ومنها اللغة العربية، وأقبل الناس على اقتنائها، بحيث لم تعد مكتبة المثقف العادي تخلو من كتاب مرجعي، يضمّ مجموعة العلوم والفنون وجملة المعارف، وتاريخها، وتطورها، وأثرها في سير الحضارات الإنسانية، إذ لن تتأتى ترقية القدرات العقلية، وتنمية الذوق السليم، وتدريب الملكات البشرية، إلا باتباع أسلوب منهجي في التفكير، وهذا يحتاج إلى منظومة مرجعية تعالج مختلف فروع المعرفة، وآخر ما توصلت إليه العلوم والفنون، مصنّفة، ومرتّبة، ومبوبة.

وقد وجد القائمون على موسوعة الزاد، أن تقاطع خطوط العمل التعليمي، وتعدد الزوايا المعرفية، وتسليط الضوء على الموضوع، من حيث هو وحدة موضوعية ذات تشعّبات وتداخلات في أكثر من حقل من حقول الحياة، يحقق مبدأ الثقافة المتكاملة، ويشيع المعرفة، ويعمق منهجيّة التفكير والبحث العلمي، فاعتمدوا في تصنيف هذه الموسوعة، على الأمور التالية:

1 - التصنيف الموضوعي، لأنه أساس العمل الموسوعي.

2 - تكامل المدارس الفكرية: لأنه يحقق مبدأ المعالجة الموضوعية الشاملة.

3 - ردم الهوّة بين النظرية والتطبيق، لأنه ينقل المثقف من حالة انعدام الوزن الاجتماعي، إلى تحقيق الذات، ومن البحث عن مرتبة، إلى البحث عن دور إنتاجيّ فعّال.

4 – التقنيات الحديثة، والإعلام الجماهيري، لأن هذا أساس التعليم المستمر. إنهم يرون أن دور المقالات المدبجة، والكتابات المزخرفة قد انتهى، وجاء دور العبارات الدلالية، وتقنيات النشر والإيصال، بما يساير التطور الحسّيّ العام:

فمن النص المقروء، إلى الوسائل السمعية والبصرية، ثم اللغوية البصرية.

ومن الصورة الجامدة، إلى المشهد الحي.

ومن تربية الذاكرة الاستظهارية، إلى تنمية الذاكرة البصرية والشفوية.

ومن الإلقاء والتلقي، إلى التفاعلية في الأخذ والعطاء، وربط المعلومة المجردة، بالاستخدام اليومي، وبتطبيقاتها في حياة الفرد ومحيطه.

هذه الموسوعة، في الأصل موسوعة سويدية، ترجمت إلى تسع لغات، وقامت مؤسسة الزاد في جدة بتعريبها عام 1995 وأبرزت تطبيقاتها بعض جوانب المجتمع العربي الإسلامي، فأغنتها بتاريخ أمتنا، ومناراتها الحضارية، وأعلام رجالها، بحيث غدت وكأنها موسوعة عربية، وقام بهذا الإغناء عدد من الأكاديميين والمتخصصين، وبذلك سدّوا ثغرة مهمة في جسم هذا العمل الموسوعي الكبير.

وممن شارك في هذا العمل من الأساتذة الباحثين: أكرم العمري- إبراهيم البلوشي- سعد غراب- سليمان العايد- عبد الله الطنطاوي- عماد الدين خليل- محسن عبد الحميد- محمد العربي الخطابي- محمد عبد الله السمان- وسواهم.

جاءت موسوعة الزاد في 18 جزءاً كبيراً ضمت حوالي أربعة آلاف صفحة، و 12500 صورة، و250 موضوعاً، وست ساعات فيديو، وطبعت في مطابع ديداكو في برشلونة (إسبانيا) طباعة ملوّنة فاخرة، وبتجليد فاخر مذهّب، وورق ممتاز، بقياس 25 × 17.5سم.

ومن موضوعاتها الأدبية والفنية وما يمتّ إليها: الأبجدية –الأدب- السينما- اللغة- المسرح- الطباعة- الصحف- النحت- الرسم- التصوير.إلخ.

ومن موضوعاتها في الأديان والتاريخ: أديان قبل الإسلام- اليهودية- المسيحية- الإسلام- حضارة ما بين النهرين- مصر- الصين- اليابان- روما- اليونان- الهند- الفلسفة الاشتراكية- الثورة الفرنسية- عصر النهضة- القومية..

وتحدّثت الموسوعة عن التلفزيون، والإشعاع، والطاقة، والكمبيوتر، والكهرباء، والمغناطيس، والإلكترونيات..

وتحدثت عن الطب، والأسنان، والتناسل، والسمع، والكلى، والهضم، والوراثة..

وتحدثت عن الطيران، والملاحة الفضائية، والإبحار، والسيارات، والمحركات.

وتحدثت عن الزراعة، والأزهار، والأشجار، والحراجة، والحبوب، والتوابل.

وتحدثت عن الأرض، والجسور، والأنفاق، والصحارى، والخرائط، والعمارة.

وتحدثت عن الفلك، والشمس، والكواكب، والنجوم، والقمر.

وتحدثت عن الحيوانات بأنواعها: الثدييات، الثعابين، الخيول، الحشرات، الدواجن..

إلى آخر ما هنالك من موضوعات يحتاج إليها القارئ العادي، والمثقف، والباحث.(1)

ـ وشارك الأستاذ الطنطاوي في موسوعة (فلسطين والوعد الحق) للدكتور إسحق أحمد الفرحان بأبحاث قيّمة.

ويعطينا الدكتور إسحق أحمد الفرحان لمحة عن هذا الكتاب الذي شارك في أبحاثه الأستاذ عبد الله الطنطاوي فيقول: في هذا الوقت بالذات، حيث فلسطين ورقة يلقى بها على موائد المفاوضات، يخرج هذا الكتاب ( الوثيقة ) ليوضح للأمة الإسلامية حجم القضية و خطورتها الحالية، و أهميتها للأجيال القادمة، و مسئولية العالم تجاه هذه القضية الإنسانية. في هذا الكتاب تجتمع أقلام كوكبة من خيرة كتاب الأمة و علمائها و مفكريها، ليبنوا أبعاد هذه القضية المقدسة، و ليعلنوا بإن فلسطين مارد يتنامى فوق وهن اللحظة التاريخية و أنها ليست مساحة على الخريطة يمكن إقتسامها،و إنما هي بقعة مباركة من الأرض، تمتد في تاريخ الأمة الإسلامية جمعاء. و تتصل بقضيتها، و ضمائر أجيالها المتعاقبة، و أن فلسطين أكبر من كل الصكوك، ما وقّع منها، كإتفاق غزة و أريحا أولا، و ما قد يوقع.إن السمات الأهم لهذا الكتاب , هي تأكيده على البُعد الحضاري لهذه القضية وعرضه التحليلي الشامل لسائر جوانبها العقدية والتاريخية والسياسية وغيرها, كما أن لا يرتبط بوقت محدد, فهو لا يعالج الموضوع من زاية بذاتها, وإنما يتمرد على الوقت الذي يحصر الكتابات ذات الطابع السياسي. إضافةً إلى احتوائه على مجموعة كبيرة من الصور التاريخية الفريدة, والصور الحديثة الملتقطة خصيصاً له.هذا الكتاب هو صرخة دائمة في وجه الظلم ونداءً متصلاً من أجل إنصاف فلسطين قضيةً وشعباً إلى أن يزول الظلم ويعلو الحق ويسود العدل ويتم التحرير بإذن الله.{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}.(2)

1 ـ مجلة رابطة أدباء الشام موسوعة الزاد للعلوم والتكنولوجيا، عبد الله الطنطاوي.

2 ـ نادي القراءة نت فلسطين والوعد الحق د. إسحق احمد الفرحان.

الطنطاوي يكتب للمسرح والإذاعة والتلفزيون

المسرح باللهجة الحلبيّة:

رغم عناية الطنطاوي الشديدة بالنحو، وحبّه للفصحى، فقد حاول الاقتراب من العامّة، وذلك بتقديم النص الفصيح للمخرج، ليتصرّف فيه الممثّل باللهجة الحلبيّة الدارجة ومنها:

1 ـ خمس مسرحيات قصيرة، مثلت على خشبة مسرح سوق الإنتاج بحلب، وعلى مسرح (دار الكتب الوطنية بحلب) في عام 1971 – 1976، باللغة العربيّة الفصيحة.

2 ـ مسرحيّة (قبل أن يذوب الثلج) من المسرح التركي – إعداد- مثلت على مسرح الشعب بحلب في عام 1976.

3 ـ مسرحيّة (ما في حدا أحسن من حدا) (باللهجة الحلبية) مثلت على مسرح سينما نقابة الفنانين بحلب سنة 1977.

ووسط اهتمام الجمهور الحلبي، وتدافعه على شبّاك التذاكر، مثلت

4 ـ مسرحيّة (الناس بلا الناس)، عدّة مرّات على مسرح الشعب بحلب في عام 1978.

5 ـ ومسرحيّة (حط بالخرج) التي مثّلت على مسرح القباني بدمشق بالعاميّة، هي من تأليف عبد الله الطنطاوي وزميله، وكانت بالعربيّة الفصيحة، وقدّمت إلى الممثّل المعروف محمود جبر، وقرأها وأبدى إعجابه بها، ولكنّه نصحنا أن نجعلها بالعاميّة فاعتذرنا،وفوجئنا بها تمثّل على مسرح القباني باسم محمود جبر، وأكل حقّنا المادي والمعنوي فيها.

كتابة عدد من المسلسلات التلفزيونيّة الناجحة:

وله ثلاثة مسلسلات تلفزيونية (بالاشتراك) كل مسلسل في ثلاثين حلقة قدّمت القباني بدمشق بالعاميّة، عدد من التلفزيونات العربية وهي:

1 ـ (أكل وشرب على مائدة القرآن الكريم) – 1988، إنتاج تلفزيون بغداد.

2 ـ (سمع وأطاع) – 1993، شركة سعودية.

3 ـ (محكمة النحو ونادي العروبة) – 1995، شركة سعودية.

وأشرف على عدد من البرامج والمسلسلات التلفزيونية.

وفي مجال الإذاعة:

إعداد برنامج (أديب من بلدي) في إذاعة حلب 1975.

وعشرات البرامج الإذاعية في إذاعة بغداد (1983 – 1988).

تمثيليات مع بناة الإسلام:

وقدّمت إذاعة قطر للطنطاوي 30 تمثيلية إذاعية سنة 1991 بعنوان (مع بناة الإسلام)، لاقت رواجاً كبيراً عند الكبار والصغار، واهتماماً عند المربين، وكانت كل حلقة تتناول شخصيّة من الصحابة الكرام، الذين بنوا مجد الإسلام، وشيّدوا أركانه، وكانوا القدوة والمثال في سيرتهم العطرة، استقاها المؤلّف من كتب السيرة والتراجم، واستمرّت إذاعة قطر في إعادة بث هذا المسلسل طوال عدّة رمضانات.

ثم طبع هذا المسلسل في كتاب نشرته دار عمّار للنشر والتوزيع في عمّان بنشرها في كتاب لطيف في سنة 2007 بعنوان (مع بناة الإسلام).

وقد أثنى الباحث المربّي محمد عادل فارس على كتاب (مع بناة الإسلام) وسجّل أبرز سماته مما يتصل بالجانب التربوي وقال:

1- يبحث الكتاب عن مفتاح كل شخصية من الشخصيات الفذّة التي تحدث عنها، ويبرز المواقف التي ترسم ملامح تلك الشخصية.

2- يتحرّى أسلوب الحوار الممتع، بلغة عربية فصيحة سلسلة، وطرائق فنية جذابة مؤثّرة، تعين على تجلية المعلومات والمواقف والقيم، فيشرك في الحوار راوياً يوطّئ للحوار، ويثريه بمداخلات لطيفة، وجَدَّاً يعرض الموضوعات ويبرز القيم العليا المقصودة، بأسلوب تربوي جميل، وحفيدين ذكيين يجمّلان ويكمّلان بتعليقاتهما، فضلاً عن مؤثرات صوتية جانبية تضفي على الحوار حيوية، وتجعل المستمع (أو القارئ) يعيش في جو الأحداث.

وفي كثير من الفصول يأتي الصحابي ليتكلم بنفسه عن حياته وذكرياته، ويجيب على أسئلة الحاضرين ويعلّق على مداخلاتهم.

3- وتظهر شخصية الكاتب في كل فقرة، فهو ليس مجرد مؤرخ ينقل الحقائق، أو قاصّاً يقصد الإمتاع، بل هو أحد حماة هذا الدين، وحفيد بُناة الذين يتحدث عنهم، وأحد أبنائه الذين يتمسكون به في زمنٍ "القابض فيه على دينه كالقابض على الجمر" وهو يرى حقد الحاقدين عليه، وكيد الكائدين به، وبطش العتاة المجرمين الذين يبغون استئصاله، وتكالب أعدائه الذين يرمونه عن قوس واحدة.. وتخاذل المحسوبين على هذا الدين العظيم، الذين جعلوا معيار السداد سلامتهم الشخصية، وسلامة مصالحهم.. ولا حول ولا قوة إلا بالله (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون) التوبة: 33.

4- وتتجلى رسالة الكاتب في كتابه بإبراز عدد من القيم العليا، منها:

* إعلاء قيمة الجهاد في سبيل الله، وما يرتبط بها من قيم كالشجاعة والبطولة والتضحية والفداء..

* تمجيد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بما هم أهل له، في عصر وجد فيه من يحاول أن يطمس أمجادهم، ويبرز شخصيات لا تعد شيئاً أمام أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، بل في عصر وجد فيه من يتطاول على الصحابة الكرام ويتكلم في حقهم بالباطل.

* أبرز أهمية أن يكون القائد قدوة لأتباعه، فالناس يقتدون بسلوك القائد –في نفسه وأهله- أكثر مما يقتدون بكلام لا يجدون أثره في حياة المتكلم (كبر مقتاً عند الله أن تقولوا مالا تفعلون).

* إبراز أهمية الإيمان بالله تعالى، فالإيمان عُدّة النصر، وهو الكفيل بنصر القلة المؤمنة على الكثرة الكافرة.

* تأكيد أهمية وحدة المسلمين وتلاحم صفوفهم: (إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفّاً كأنهم بنيان مرصوص) (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم).

* الاهتمام بفلسطين والقضية الفلسطينية وتحرير المسجد الأقصى.

* أهمية احترام الوقت، وضبط المواعيد.

5- وتظهر الروح التعليمية في مواطن كثيرة من الكتاب، بأن يصحح خطأ لغوياً يجري على لسان أحد الحفيدين، أو يشرح كلمة غامضة علينا، نحن أبناء الجيل الذي ابتعد عن نبع الفصاحة، فيشرح مثلاً معنى السقاية والرفادة، ومعنى المُشاش (فيقول: هي رؤوس العظام اللينة) ومعنى استقام المنْسِم (أي تبيّن الطريق ووضح).

وأثنى على مؤلّفه، ودعا له بالقبول.

ومن مسرحيّات الأستاذ الطنطاوي المنشورة:

1 ـ على خطا سيّد الشهداء.

2 ـ مصرع كعب.

3 ـ برنامج خاص بمناسبة حرب الخامس من حزيران، ومن الجديربالذكر أنّ الطنطاوي كان ضابطاً مجنداً في تلك الحرب الكارثة.

4 ـ أنا أعتزّ بإسلامي

5 ـ وأذّن ن في الناس. (برنامج إذاعي).

6 ـ النعمان بن مقرن.

7 ـ أبو عبيدة بن الجراح.

8 ـ عمرو بن العاص.

9 ـ عمّار بن ياسر.

10 ـ أسيد بن حضير.

11 ـ سليمان الفارسي.

12 ـ عزّة البنات.

13 ـ الزبير بن العوّام.

14 ـ خالد بن الوليد.

15 ـ المثنّى بن حارثة الشيباني.

16 ـ محمد بن مسلمة.

17 ـ زهرة بن حويّة التميمي.

18 ـ القعقاع بن عمر.

19 ـ الطفيل بن عمرو الدوسي.

20 ـ جرير بن عبد الله البجلي.

21 ـ المغيرة بن شعبة.

22 ـ عدي بن حاتم الطائي.

23 ـ مصعب بن عمير.

24 ـ عياض بن غنم.

25 ـ هاشم بن عتبة.

*   *   *

نموذج من مسرحيّات الطنطاوي

مسرحيّة عدي بن حاتم الطائي

المؤثرات: موسيقى.

فوزي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أصحابي كالنجوم، بأيّهم اقتديتم اهتديتم.. صدق رسول الله.

مؤثرات: تغريد بلبل.

فوزي: هذا رجل طويل النِّجاد، رفيع العماد، كثير الرماد، هذا سيد وابن سيد.. هذا هو الصحابي المجاهد عديّ بن حاتم الطائي أجود العرب.

مؤثرات: موسيقى.

فوزية: من ضيفنا لهذا اليوم يا أخي؟

فوزي: ألم تعرفيه يا فوزية؟.. إنه سيد من سادات العرب في الجاهلية والإسلام..

مؤثرات: وقع خطوات..

عدي: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الجميع: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.

فوزي: أهلاً بالحسيب النسيب، أهلاً بالجواد ابن الجواد.. أهلاً بصاحب رسول الله.

الجميع: صلى الله عليه وسلم.

فوزية: أهلاً بك يا جدي المجاهد..

عدي: مرحباً بكم يا أحباء رسول الله.

الجميع: صلى الله عليه وسلم.

فوزية: ألا تقدم للإخوة المستمعين نفسك يا جدي؟

عدي: أنا عدي بن حاتم.

فوزية: ابن حاتم الطائي؟

عدي: أجل يا ابنتي.

فوزية: وأخو سفّانة بنت حاتم؟ يا مرحباً بصاحب الحسب والنسب، بمن كان أبوه يحبّ مكارم الأخلاق، حتى ذاع صيته في العرب والعجم، وسارت بأحاديثه الركبان.

فوزي: عفواً جدي المجاهد.. أنا لم أسمع بسفّانة.

فوزية (مقاطعة): عفواً جدي عدي بن حاتم، أنا أحدثه عن سفّانة إذا سمحت.

عدي (في سرور): تفضلي يا ابنتي تفضلي، ففيك ملامح من سفّانة عندما كانت صغيرة مثلك.. تفضلي.

فوزية (في حماسة): سفّانة بنت حاتم الطائية من ربّات الفصاحة والبلاغة والحسن والجمال والجود والكرم، كان أبوها حاتم يعطيها من إبله فتهبها وتعطيها للناس، فقال لها أبوها ذات يوم:

يا بنيّة.. إن الكريمين إذا اجتمعا في المال أتلفاه، فإما أن أعطي أنا وتُمسكي أنت، وإما أن أُمسِك أنا وتعطي أنت، وإلاّ فإنه لا يبقى عندنا من هذا شيء.

فوزي: فبماذا أجابت أباها يا فوزية؟

فوزية: فقالت سفّانة: والله لا أُمسِك أنا أبداً.

فوزي: وأبوها؟ ماذا كان موقف أبيها حاتم؟

فوزية: كان موقف حاتم كموقف ابنة حاتم.. قال لها:

ـ وأنا والله لا أُمسك أبداً.

فوزي: والعمل؟ ألم يتنازل أحدهما للآخر؟

فوزية: لا.. لم تتنازل سفّانة عن جودها، ولم يتنازل أبوها، فقالت له سفانة: فلا نتجاور.

فوزي: كيف؟ ما معنى فلا نتجاور؟

عدي: يعني قاسمها أبوها ماله، وتباينا.. وصارت تجود بمالها، كما كان أبي يجود بماله.

فوزي: هذه طُرفة بديعة، ما كنتُ لأصدقها لولا أنك يا جدي حاضرٌ عليها.

فوزية (لعدي): واسمح لي يا جدي أن أكمل بعض ما أعرف من أخبار سفّانة.

عدي: تفضلي يا ابنتي، فقد أثرتِ في نفسي شذى الأريحيات الطائية.

فوزية: عندما جيء بسبايا طيء إلى النبي الكريم.

الجميع: صلى الله عليه وسلم.

فوزي: عفواً جدي.. هل تأخر إسلامكم حتى غزاكم المسلمون؟

عدي: أجل يا بني.. تأخر إسلام طيء أولاً، وسار قسم كبير منها في ركاب طليحة بن خويلد الأسدي عندما ادّعى النبوة ثانياً، وثالثاً كانت قبيلة طيء تؤذي المسلمين وتغير عليهم، وتخطف من تلقاه منهم، ورابعاً، لم تكن بعيدة عن قتل المجاهد البطل والصحابي الجليل عكاشة بن محصّن.

فوزي: وأين كنت أنت وعقلك الكبير يا جدي؟

عدي: كنت على دين الركوسية.

فوزي: لم أسمع بهذا الدين.

عدي: هذا الدين كان وسطاً بين النصرانية والصابئية.

فوزية: عفواً يا سادة.. لم أكمل حديثي عن سفّانة، عن جدتي الحبيبة سفّانة.

عدي: تفضلي يا ابنتي تفضلي..

فوزي: وأرجو ألا تطيلي يا فوزية.

فوزية: كما تحب يا أخي فوزي.

مؤثرات: موسيقى ناعمة مصاحبة.

فوزية: عندما جيء بسبايا طيء إلى الرسول القائد، كانت سفّانة من بين السبايا، فتعرّضت للنبي الكريم وقالت له:

ـ يا محمد، هلك الوالد وغاب الرافد، فإن رأيتَ أن تخلّي عني ولا تُشْمِتْ بي أحياء العرب، فإن أبي سيد قومه، كان يفك العاني، ويحمي الذمار، ويفرّج عن المكروب، ويطعم الطعام، ويفشي السلام، ولم يطلب إليه طالب قط حاجة فردّه، أنا ابنة حاتم الطائي.

فوزي: ما أبلغ هذا الكلام، وما أفصح قائله.. فماذا تصرّف معها الرسول القائد يا فوزية؟

فوزية: فقال لها النبي الكريم:

الجميع: صلى الله عليه وسلم.

فوزية (متابعة): يا جارية، هذه صفة المؤمن.. لو كان أبوك إسلامياً لترحّمنا عليه.. خلّوا عنها، فإنّ أباها كان يحب مكارم الأخلاق.

فوزي: ثم ماذا يا فوزية؟ لا فُضَّ فوكِ، ولا عاش حاسدوكِ.

فوزية: وأكرمها النبي الكريم ووصَلَها، فغادرت المدينة المنورة، وأتت أخاها عدياً.. (لعدي): عفواً سيدي عدي، سأترك لك الحديث.

عدي: طبعاً كانت أختي سفّانة أسلمت وحسن إسلامها، وجاءتني معجبة بأريحية رسول الله

الجميع: صلى الله عليه وسلم.

عدي (متابعاً): وكرم أخلاقه ويده، فحسّنتْ لي الإسلام، ودعتني إلى مقابلة الرسول الكريم

الجميع: صلى الله عليه وسلم.

فوزي: أين كنت يا جدي عدي عندما زارتك سفّانة؟

عدي: سأروي لكم حكاية إسلامي، فلعل فيها موعظة لمن هم في مثل حالي في الجاهلية.

فوزي: تفضل يا جدي.

مؤثرات: موسيقى ناعمة مصاحبة..

عدي: لما بُعث النبي

الجميع: صلى الله عليه وسلم.

عدي (متابعاً): كرهتُه كراهية شديدة، فانطلقتُ حتى كنت في أقصى الأرض مما يلي الروم، فكرهتُ مكاني أشد من كراهته، فقلت: لو أتيتُه، فإن كان كاذباً لم يَخفَ عليّ، وإن كان صادقاً أتبعه. فأقبلت، فلما قدمت المدينة، استشرفني الناس فقالوا: عدي بن حاتم، عدي بن حاتم.

فوزية: إذن.. كنت معروفاً لدى العرب.

عدي: فأتيت النبي الكريم

الجميع: صلى الله عليه وسلم.

عدي: فقال لي: يا عدي، أسلمْ تسلم، يا عدي أسلم تسلم، يا عدي أسلم تسلم.

فوزية: فماذا أجبته؟

عدي: قلت: إن لي ديناً.

فوزية: فماذا قال لك يا جدي؟

عدي: قال: أنا أعلم بدينك منك.

فوزي: فماذا أجبت يا جدي؟

عدي: تساءلت: أنت أعلم بديني مني؟

فوزية: فماذا أجابك يا جدي عدي؟

عدي: قال: نعم.. نعم.. ثم قال: ألستَ ترأس قومَك؟ قلت: بلى، قال: ألستَ تأكل المرباع؟

فوزية: عفواً سيدي.. ما معنى المرباع؟

عدي: المرباع: ربع الغنيمة التي يغنمها المقاتلون في الحرب، كان يأخذها أمير القوم لنفسه.

فوزي: نعم يا جدي.

عدي: قال: ألستَ تأكل المرباع؟ قلت: بلى. قال: فإن ذلك لا يحل لك في دينك.

فوزي: لقد أحرجك يا جدي عدي.. فماذا أجبت؟

عدي: فنَضَنَضْتُ.. أي حركتُ لساني في فمي.. ولم أجب.. فقال لي النبي الكريم:

الجميع: صلى الله عليه وسلم.

ـ قد أظن أنه إنما يمنعك (من الإسلام) غضاضة تراها ممن حولي، وأنك ترى الناس علينا إلباً واحداً.

فوزي: يعني متألبين علينا، مجتمعين على قتالنا وعدائنا.

فوزية: ثم ماذا يا سيدي عدي؟

عدي: ثم قال: هل أتيتَ الحيرة؟

قلت: لم آتِها، وقد علمتُ مكانها.

قال: يوشك أن تخرج الظعينة.

فوزي: يعني المرأة.

عدي (متابعاً): من الحيرة بغير جِوارٍ حتى تطوف بالبيت، ولتُفتَحنَّ علينا كنوز كسرى بن هرمز، فقلت: كسرى بن هرمز؟ قال: نعم.. ولَيَفيضَنَّ المالُ حتى يُهِمّ الرجلَ مَنْ يَقبلُ صَدَقَتَهُ.

الشقيقان: الله أكبر..

فوزية: وهل تحقق شيء من هذا في حياتك يا جدي؟

عدي: أجل.. فقد رأيت اثنتين: الظعينة.. لقد خرجت الظعينة من الحيرة، وطافت بالبيت في غير جِوار، ولقد كنت فيمن فتح كنوز كسرى بن هرمز.

فوزية: والثالثة؟

عدي: والذي نفسي بيده، لتكوننّ الثالثة، لأن رسول الله

الجميع: صلى الله عليه وسلم.

عدي (متابعاً): قد قالها.

فوزي: هنيئاً لك إسلامك وصحبتك للرسول القائد يا جدي.

عدي (هامساً): صلى الله عليه وسلم.

فوزية: هل من ذكرى معينة في إسلامك.. أي وقت إسلامك يا جدي؟

عدي: عندما أتيتُ النبي

الجميع: صلى الله عليه وسلم

عدي (متابعاً): في المسجد، أتيتُه بغير أمان، ولا كتاب، وكان قبل ذلك قال: إني لأرجو الله أن يجعل يده في يدي، فقام فأخذ بيدي، فلقيَتْه امرأة وصبي معها، فقالا: إن لنا إليك حاجة، فقام معهما حتى قضى حاجتهما، فعرفت أنه ليس مُلك كسرى ولا قيصر.

فوزي: وبدأ الإيمان بالنبي الكريم يتغلغل في قلبك.

عدي: وعاتبني النبي الكريم على فراري إلى أرض الروم فقال: يا عدي بن حاتم.. ما أفرّك؟ أفرَّكَ أن يقال: لا إله إلا الله؟ فهل من إله إلا الله؟

ما أفرّك؟ أفرّك أن يقال: الله أكبر؟ فهل شيء هو أكبر من الله عز وجل؟

فوزية: فماذا أجبت يا جدي؟

فوزي: إني أرى الإسلام يتغلغل إلى عقلك يا جدي.

عدي: فأسلمت، فرأيت وجهه الشريف قد استبشر.

فوزية: في أيّ سنة كان إسلامك يا جدي عدي؟

عدي: في شهر شعبان، سنة تسع للهجرة.

فوزي: ألا نأتي إلى حديث الجهاد يا سيدي عدي؟

عدي: وهل أطيبُ من الجهاد وحديث الجهاد يا أولادي؟

فوزي: هل تذكر لنا شيئاً عن دورك يا جدي في حروب الردة؟

عدي: كانت ردة بعض القبائل العربية عن الإسلام فتنة امتحن الله بها إيمان المسلمين، وكان موقف الخليفة أبي بكر أعظم موقف في الإسلام، فلولا وقفته الشجاعة في وجوه المرتدين، لكان ما الله وحده به أعلم.

فوزية: مع من قاتلتَ المرتدين يا جدي؟

عدي: قاتلتُ تحت لواء سيف الله خالد بن الوليد.

الجميع: رضي الله عنه.

عدي: كانت قبيلتي طيء من جملة القبائل التي ارتدت عن الإسلام.. استطاع طليحة بن خويلد أن يتلاعب بعواطفها وعقولها، فانحازت إليه، فخرج خالد لقتالها.

فوزي: وأنت معه؟

عدي: وأنا معه، ولكنني كنت أطمع في إعادة قبيلتي إلى الإسلام بلا قتال.

فوزية: وهل تمكنت من ذلك يا جدي؟

عدي: استمهلت خالداً بضعة أيام، ذهبت فيها إلى قبيلتي طيء، وتمكنت من إقناع وجوه القبيلة بالعودة إلى الإسلام، فعادت القبيلة كلها إلى الإسلام، وجَبيتُ الزكاة منها، وعدتُ بها إلى الخليفة أبي بكر.

الجميع: رضي الله عنه.

عدي: وفرح أبو بكر، وفرح خالد، وفرح المسلمون بعودة طيء إلى الإسلام، وانضم رجال القبيلة إلى جيش خالد، يقاتلون المرتدين.

فوزي: كم رجلاً التحق بخالد من طيء يا جدي؟

عدي: خمس مئة فارس من الغوث.

فوزي: لم أفهم..

عدي: لا بأس يا بني.. قبيلة طيء قسمان: الأول اسمه غوث، والثاني جَديلة.

فوزي: إذن.. كان الذين أسلموا من غوث؟

عدي: أجل.. أما جديلة فكانت ما تزال على الردّة، فقال لي خالد:

ـ يا أبا طريف.. ألا نسير إلى جديلة؟

فوزية: إذن أنت أبو طريف يا جدي؟

عدي: نعم.. كنيتي أبو طريف.

فوزي: بماذا أجبت خالداً يا جدي؟

عدي: قلت له: يا أبا سليمان لا تفعل.. فسألني:

ـ لماذا يا أبا طريف؟

عدي: فقلت له: أأقاتل معك بيدين أَحَبُّ إليك أم بيد واحدة؟ فقال خالد:

ـ بل بيدين.

عدي: فقلت: فإن جديلة إحدى يديّ.

فوزية: وهل استجاب خالد لك يا جدي؟

عدي: أجل استجاب، وكفَّ عنهم، فأتيتُهم فدعوتُهم إلى الإسلام واستطعت إقناعهم، فأسلموا، فحمدتُ الله تعالى على إسلامهم، وسرتُ بهم إلى خالد وهم في أهبة الحرب.

فوزي: ففرح بهم خالد.

عدي: بل رآهم خالد في عدتهم الحربية، ظن أنهم جاؤوا لقتاله، فنادى في جيشه:

ـ يا خيلَ الله اركبي.

عدي: فقالوا له: هذه جديلة، جاءت تقاتل معك، ففرح بهم خالد وسألهم:

ـ هل أنتم مستعدون؟

عدي: فأجابوه بصوت واحد: نحن لك حيث أحببت.. فضمّهم خالد إلى جيشه، وعقد لي لواء طيء: غوثِها وجديلتِها.

فوزي: وكم رجلاً كان هؤلاء الفرسان يا جدي؟

عدي: كانوا ألف فارس، لحقوا بركب المسلمين، بعد أن أوشكوا أن يكونوا عليهم.

فوزية: وكنتَ بهذا أبركَ رجل على قومه.

عدي: وقد حفظها لي أمير المؤمنين عمر.

فوزي: وكيف كان ذلك يا جدي؟

مؤثرات: موسيقى ناعمة ترافق الحوار التالي:

عدي: قدمتُ على أمير المؤمنين عمر

الجميع: رضي الله عنه.

عدي (متابعاً): فلما دخلتُ عليه ظننتُ فيه جفاء وانصرافاً عني، فقلت له: يا أمير المؤمنين، ما أظنك تعرفني. فقال أمير المؤمنين عمر: كيف لا أعرفك، أكرمك الله بأحسن المعرفة؟ وأول صدقة بيّضت وجه أصحاب رسول الله صدقة طي؟ أعرفك والله.. آمنتَ إذ كفروا، وأقبلتَ إذ أدبروا، ووفيتَ إذ غدروا.

فوزي: هذه شهادة قيمة من أمير المؤمنين عمر يا جدي.

فوزية: فهل أجبتَه على هذا الكلام الجميل النبيل يا جدي عدي؟

عدي: قلت له: حسبي يا أمير المؤمنين حسبي.

فوزية: هل استفدتم شيئاً من حروب الردة، غير إعادة المرتدين إلى الإسلام يا جدي؟

عدي: وهل هذه قليلة يا ابنتي؟.. ومع ذلك كانت حروب الردة ميداناً عملياً تدرب وتخرّج في مدرسته آلاف الأبطال، وعشرات القادة الأفذاذ.

فوزي: وماذا عن دورك في الفتوحات العربية الإسلامية يا جدي؟

عدي: قاتلتُ في العراق تحت لواء القائد العظيم المثنى بن حارثة الشيباني..وكنت على رأس الفرسان من قبيلة طيء.

فوزية: كم مجاهداً كان تحت إمرتك يا جدي؟

عدي: كانوا ألف فارس بطل، قاتلت فيهم قتالاً يرضى عنه الله ورسوله

الجميع: صلى الله عليه وسلم.

عدي (متابعاً): والمؤمنون.

فوزي: وهل قاتلت تحت لواء خالد في حرب الفتوح يا جدي عدي؟

عدي: نعم.. في مسيرنا من النباج إلى الحيرة، جعلني خالد قائداً للميسرة، وكانت ميسرة جيش خالد من طيء.

فوزي: ثم ماذا يا جدي؟

عدي: وكنت في معركة (المذار) قائداً للميسرة، وفي هذه المعركة الكبيرة قتلت قائد ميمنة القوات الفارسية، واسمه قُباذ.

فوزي: وهل شاركت في معركة كانت شديدة الوطء على المسلمين يا جدي؟

عدي: أجل شاركت. إنها معركة ذات السلاسل.

فوزي: هل تحدثنا بشيء عن هذه المعركة الهائلة يا جدي؟

عدي: كان أمير الأُبُلّة من قِبَل فارس رجلاً خبيثاً اسمه هُرمز، وكان من أسوأ أمرائها جواراً للعرب، فكل العرب يكرهونه، حتى ضربوا به المثل في الكفر والخبث، فكانوا يقولون: أخبثُ من هرمز، وأكفر من هرمز، وكان يحارب العرب في البر، والهند في البحر.

فوزية: أمة فيها مثل هذا القائد، جديرة بالهزيمة.

عدي: جعلني خالد على ميسرة الجيش أيضاً، وانتصرنا في هذه المعركة انتصاراً هائلاً، فرح له سائر الذين كان هرمز يحتقرهم من العرب والعجم.

فوزية: ولماذا سُميت هذه المعركة بذات السلاسل يا جدي؟

فوزي: أنا أجيبها يا جدي.. لأن جنود الفرس قيدوا أنفسهم بالسلاسل حتى لا يهربوا من المعركة.

فوزية: فقُتلوا جميعاً.

عدي: وكنت قائد الميسرة في معركة المصَّيخ أيضاً، وفي معركة أُلَّيس.

فوزي: وهل قاتلت تحت لواء خالد في الشام يا جدي؟

عدي: عدت مع خالد إلى الشام، وقاتلت معه في الطريق، ووجهني بعدها خالد بالأخماس إلى الخليفة أبي بكر.

فوزية: وإذا تركنا القتال، فهل من حديث آخر في مثل جماله وروعته عندك يا جدي؟

عدي: أولاً وأخيراً، ليس أروع من حديث الجهاد، ومع ذلك، سوف أحدثكم عن الصلاة التي هي عمود الدين وعِماده، فأنا منذ أسلمتُ إلى أن مت، ما أقيمت الصلاة إلا وأنا على وضوء.

فوزية: هنيئاً لك يا جدي، فالوضوء سلاح المؤمن.

عدي: وما دخلَ وقت صلاة حتى أشتاق إليها.

فوزي: ويحدثنا التاريخ يا جدي، أن الأشعث بن قيس أرسل إليك يستعير منك قدور أبيك حاتم، فملأتها طعاماً، وأمرت رجالك بحملها إليه، فأرسل إليك الأشعث قائلاً:

ـ إنما أردناها فارغة.

فوزي: فأرسلتَ إلى الأشعث قائلاً:

ـ إنّا لا نُعيرها فارغة.

فوزية: ويحدثنا التاريخ، أنك يا جدي كنت تَفُتُّ الخبز للنمل وتقول:

ـ إنهنّ جارات، ولهنّ علينا حق الجوار.

فوزي: رحم الله عدي بن حاتم، فقد كان شريفاً سيداً في قومه، وكان خطيباً حاضرَ البديهة، حاضر الجواب، وكان فاضلاً كريماً، وكان معظّماً عند قومه، معظّماً عند العرب.

مؤثرات: موسيقى الختام.

مجلّة رابطة أدباء الشام 19/4/2008 مسرحيّة عدي بن حاتم الطائي.

*   *   *

الطنطاوي والروابط الأدبيّة

الطنطاوي ورابطة الوعي الإسلامي:

يقول الطنطاوي متحدثاً في اثنينيّة التكريم عن (رابطة الوعي الإسلامي) التي كان أحد مؤسّسيها فيقول: "في شهر ذي القعدة عام 1375هـ أسسنا رابطة الوعي الإسلامي نحن الثلاثة: محمد منلا غزيل، ومحمود محمد كلزي، وعبد الله الطنطاوي كنا في الصف الأول الثانوي، وأسندوا أمانتها إليّ، وكانت ذات طابع أدبي، ولعلّها أول رابطة تدعو إلى الأدب الإسلامي في الوطن العربي، وقد انتسب إليها أدباء وشعراء كبار من عدد من البلدان العربية، ومنهم الأستاذ الجليل أحمد محمد جمال، رحمه الله تعالى، من السعودية، وأرسل إلي رسالة لطيفة يدعوني فيها إلى الحج، ومن أجل أن نتباحث في شؤون الرابطة، فاعتذرت بصغر سنّي، فأهلي لا يسمحون لي بالسفر، فأجابني الأستاذ جمال برسالة تفيض رقة و.. دهشة من أن أكون في السابعة عشرة، ولي هذا العقل وهذا الأسلوب، وصار يرسل إلي بعض الصحف والمجلات السعودية، التي يكتب فيها، كمجلة الحج، وجريدة الرياض، وسواهما، من الأردن الأستاذ الكبير يوسف العظم، والصحفي المتميّز حسن التل، والدكتور سفيان التل، والشاعر الكبير حيدر محمود، ومن العراق ومن مصر ومن لبنان أدباء كبار.

وكان لرابطة الوعي مناشطها المتميزة في الصحف والمجلات السورية، والأردنية، واللبنانية، وكانت لها صفحات مستدامة في عدد من الصحف والمجلات، كنت أشرف عليها، ودخلنا (معارك) أدبية مع بعض الكتّاب والكاتبات، وصارت أسماؤنا معروفة، وكذلك اسم الرابطة.

وبقيام الوحدة المصرية السورية توقّف نشاط الرابطة، وحلّت نفسها كما حلَّت الأحزاب والجماعات نفسها، نزولاً عند شرط جمال عبد الناصر."

 

الطنطاوي والجمعيّة العربيّة المتحدة للآداب والفنون بحلب:

ترأس الأستاذ الطنطاوي (الجمعية العربية المتحدة للآداب والفنون بحلب) بين عامي (1970 ـ 1979)، وضمّ إليها مجموعة من أصحاب الفن الرفيع، وحفظة التراث الحلبي الأصيل، ويعود إليها الفضل في رفد الحركة الفنيّة الأدبيّة والمسرحيّة بعدد منهم، واهتمّت بالأقلام الواعدة، وتشجيع الشعراء الشباب، وأقامت العديد من المهرجانات الشعرية والقصصية والمحاضرات والندوات والمسرحيات، وكان لها نشاط ملحوظ ومميز بحلب عاصمة الشمال السوري.

الطنطاوي ورابطة الأدب الإسلامي العالميّة:

تعريف بالرابطة:

  1 – نشأة الرابطة ومكاتبها:

    إن واجب الدعوة إلى الله عز وجل عن طريق الكلمة الأصيلة الملتزمة، والسعي إلى تعزيز الأدب الإسلامي وانتشار الأدب المزوّر في العالمين العربي والإسلامي، كل ذلك دعا بعض الأدباء الإسلاميين إلى التفكير في إنشاء رابطة تجمع صفوفهم، وتشدُّ كل واحد منهم بعضد أخيه، وترفع صوتهم، وتقفهم على واجبهم في التأصيل للأدب الإسلامي، ونقد المذاهب الأدبية العالمية ومناهج النقد الحديثة، وإيضاح ما فيها من إيجابيات وسلبيات.

    وقد مرّ إنشاء رابطة الأدب الإسلامي العالمية بمراحل عديدة، إذ بدأت فكرة راودت أذهان عدد من الأدباء والنقاد الإسلاميين من مختلف الجنسيات، ثم أخذت تتجسّد في لقاءاتهم منذ عام 1400هـ - 1980م إلى أن استقر رأيهم على تكوين هيئة تأسيسية تدرس أبعاد الفكرة وتخطط لها، وتراسل الأدباء في سائر الأقطار الإسلامية.

    ثم كانت الندوة العالمية للأدب الإسلامي التي دعا إليها سماحة الشيخ أبي الحسن الندوي – رحمه الله - في لكنو بالهند في شهر جمادى الآخرة عام 1401هـ الموافق شهر نيسان / أبريل 1981م، ودُعي إلى هذه الندوة عدد كبير من رجالات العالم الإسلامي، وفيهم كثير من المهتمـين بالأدب. وفي هذه الندوة التي أعطت دفعاً قويًّا للأدب الإسلامي، اتخذت توصية مهمة تتضمـن ( إقامة رابطة عالمية للأدباء الإسلاميين ).

وقد تعزّز هذا الاتجاه في ندوة الحوار حول الأدب الإسلامي التي عُقدت في رحاب الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة في شهر رجب عام 1402هـ الموافق شهر أيار / مايو 1982م، ثم في ندوة الأدب الإسلامي التي عقدت في رحاب جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في شهر رجب 1405هـ الموافق شهر نيسان / أبريل1985 م. وخلال هذه الفترة قامت الهيئة التأسيسية للرابطة بالاتصال بسماحة الشيخ أبي الحسن الندوي، وعرضت عليه ما قامت به من أعمال تمهيدية واتصالات موسعة، ورغبت إليه أن يتبنى إنشاء هذه الرابطة، واستجاب سماحته بما عرف عنه من صدر رحب، وبصيرة نافذة، ووعي وحكمة بالغين، وإدراك لدور الأدب في وجدان الأمة، وترشيد مسارها، وإنـارة طريقها في العود الحميد إلى الإسلام، الذي هو مسوِّغ وجودها، وحصنها المنيع.

    وهكذا انبثقت عن الهيئة التأسيسيـة لجنة تحضيرية تولت الإعلان عن قيام ( رابطة الأدب الإسلامي العالمية ) ونشرت هذا الإعلان في عدد من الصحف والمجلات بتاريخ 2/3/1405هـ الموافق 24/11/1984م.

ثم دعت الهيئة التأسيسية إلى مؤتمر الهيئة العامة الأول، بعد انتساب عدد كبير من الأدباء إليها في مختلف أنحاء العالم الإسلامي، وعقد هذا المؤتمر في رحاب جامعة ندوة العلماء بلكنو في الهند في شهر ربيع الآخر عام 1406هـ الموافق لشهر كانون الثاني / يناير 1986م حيث تم وضع النظام الأسـاسي للرابطة، وانتخاب مجلس الأمناء. كما انتُخِبَ سماحة الشيخ أبي الحسن الندوي رئيساً للرابطة مدى الحياة، وتمَّ الترخيص الرسمي للرابطة في مقرها الرئيسي بمدينة لكنو بالهند، ثم انتقل مقر الرابطة إلى مدينة الرياض في المملكة العربية السعودية سنة 1421هـ / 2000 م بعد وفاة الشيخ أبي الحسن الندوي – رحمه الله -، وانتخب مجلس الأمناء بالإجماع الدكتور عبد القدوس أبو صالح أحد مؤسسي الرابطة رئيساً لها.

2 – أهداف الرابطة:

تضمنت المادة الثالثة من النظام الأساسي للرابطة الأهداف الآتية:

1 – تأصيل الأدب الإسلامي وإبراز سماته في القديم والحديث.

2 – إرساء قواعد النقد الأدبي الإسلامي.

3 – صياغة نظرية متكاملة للأدب الإسلامي.

4 – وضع مناهج إسلامية للفنون الأدبية الحديثة.

5 – إعادة كتابة تاريخ الأدب الإسلامي في آداب الشعوب الإسلامية.

6 – جمع الأعمال الأدبية الإسلامية المتميزة، ونقلها إلى لغات الشعوب الإسلامية وغيرها من اللغات العالمية.

7 – العناية بأدب الأطفال، ووضع منهج لأدب الطفل المسلم.

8 – نقد المذاهب الأدبية العالمية ومناهج النقد الحديث، وإيضاح ما فيها من إيجابيات وسلبيات.

9 – تعزيز عالمية الأدب الإسلامي.

10- توثيق الصلات بين الأدباء الإسلاميين، وإقامة التعاون بينهم، وجمع كلـمتهم على الحق وفق منهج الوسطية والاعتدال، والبعد عن الغلو والتطرف.

11- إسهـام الأدب الإسـلامي في تنشئة الأجيال المؤمنة، وصياغـة  الشخصية الإسلامية المعتزة بدينها القويم وتراثها العظيم.

12- تيسير وسائل النشر لأعضاء الرابطة.

13- الدفاع عن الحقوق الأدبية للرابطة وأعضائها.

 وكان عبد الله الطنطاوي ممن شارك في المشاورات الأولى مع لفيغ من الأدباء والمؤسّسين، منهم الدكتور عبد القدوس أبو صالح، والأستاذ محمد حسن بريغش، والدكتور توتنجي، والدكتور أبو سليمان في الرياض عام 1980، وكان الطنطاوي أحد أعضاء الرابطة المتحمسين لها، والداعين إلى تأييدها، والانتسشاب إليها، وتأهيل فكرة الأدب الإسلامي في أنشطتها.

3 – تعريف الأدب الإسلامي:

اختارت الرابطة لتعريف الأدب الإسلامي الصيغة الآتية:

" الأدب الإسلامي هو التعبير الفني الهادف عن الإنسان والحياة والكون وفق التصور الإسلامي".

4- مبــادئ الرابطـة:

     تنطلق رابطة الأدب الإسلامي العالمية في تحقيق أهدافها وأعمالها واختيار أعضائها من الالتزام بالمبادئ الآتية:

1 – الأدب الإسلامي ريادة للأمة، ومسؤولية أمام الله عز وجل.

2 – الأدب الإسلامي أدب ملتزم، والتزام الأديب فيه التزام عفوي نابع مـن التزامه بالإسلام، ورسالته جزء من رسالة الإسلام العظيم.

3 – الأدب طـريق مهـم من طـرق بنـاء الإنسان الصالح والمجتمع الصــالح، وأداة من أدوات الدعوة إلى الله عـزّ وجـلّ وتعزيز الشخصية الإسلامية.

4 – الأدب الإسـلامي مســؤول عن الإسهـام في إنقاذ الأمة الإسلامية من محنتها المعاصرة، والأدباء الإسلاميون أصحاب ريادة في ذلك.

5 – الأدب الإسلامي حقيقة منذ انبلج فجر الإسلام، وهـو يستمـد عطاءه من مشكاة الوحي وهَدْي النبوة، ويمتد عبر العصــور إلى عصرنا الحاضر ليسهم في الدعوة إلى الله عز وجل.

6 – خصائص الأدب الإسـلامي هي الخصائص الفنية المشتركة لدى آداب الشعوب الإسلامية كلها.

7 – يقــدم التصـور الإسلامي للإنسان والحياة والكون – كما نجده في الأدب الإسلامي- أصولا لنظرية متكاملة في الأدب والنقـد، وملامح هذه النظرية موجودة في النتاج الأدبي الإسلامي الممتد عبر القرون المتوالية.

8 – يـرفض الأدب الإسلامي أية محاولة لقطع الصلة بين الأدب القديم والأدب الحديث بدعوى التطور أو الحداثة أو المعاصَرة، ويرى أن الحديث مرتبط بجذوره القديمة.

9- يرفـض الأدب الإسـلامي النقـد الأدبي المـبني على المجاملة المشبوهـة، أو الحقد الشخصي، كما يرفض لغة النقد التي يشــوّهها الغموض، وتفشو فيها المصطلحات الدخيلة والرموز المشبـوهة، ويدعو إلى نقد واضح بنّاء، يعمل على ترشيد مسيرة الأدب، وترسيخ أصـوله.

10- الأدب الإسـلامي أدب متكامـل، ولا يتحقـق تكامله إلا بتآزر المضمون مع الشكل.

11- الأدب الإسلامي يفتح صدره للفنون الأدبية الحديثة، ويحرص على أن يقدمهـا للناس وقد برئت مـن كل ما يخالف دين الله عز وجل، وغَنِيَتْ بما في الإسلام من قيم سامية وتوجيهات سديدة.

12- اللغة العربية الفصـحى هي اللغة الأولى للأدب الإسلامي الذي يحارب الدعوة إلى العامية، ويرفض الأدب المكتوب بها.

13- الأديب الإسلامي مؤتمن على فكر الأمة ومشاعرها، ولا يستطيع  أن ينهـض بهذه الأمانـة إلا إذا كان تصوره العقدي صحيحاً، ومعارفه الإسلامية كافية.

14- الأدباء الإسلاميون متقيدون بالإسلام وقيمه، وملتزمون في أدبهم بمبادئه ومثله.

15- إن رابطة العقيــدة هي الرابطة الأصيلة بين أعضاء رابطة الأدب الإسلامي العالمية جميعاً، ويضـاف إليها آصرة الزمالة الأدبية التي تُعَدّ رابطـة خاصة، تشدّ الأدباء الإسلاميين بعضهم إلى بعض، مع  وحدة المبادئ والأهداف التي يلتزمون بها.

رابطة أدباء الشام:

اجتمع الأساتذة الأدباء: عبد الله الطنطاوي، ومحمد الحسناوي، وزهير سالم، والدكتور عثمان مكانسي، في منزل الطنطاوي بالعاصمة الأردنيّة وتدارسوا أهميّة وجود تجمّع أدبي ثقافي مفتوح في بلاد الشام، واتفقوا على دعوة الأدباء والشعراء للمشاركة في تأسيس هذه الرابطة.

كتب الأستاذ عبد الله الطنطاوي في مقدمة تأسيس (رابطة أدباء الشام) يقول:

بلاد الشام من أجمل بلاد الدنيا عامة، وبلاد العرب خاصة، فيها الجنان تجري من تحتها الأنهار وتنبثق من هضباتها الينابيع وتكسو أرضها الخصبة ألوان من الأشجار الفيحاء، الأمر الذي جعلها مهوى أفئدة الناس، من شعراء وأدباء وفنانين، كما عرّضها لمطامع الغزاة عبر الزمان، فنمت على أرضها حضارات، وتلاقحت حضارات لما تمتعت به من موقع إستراتيجي.

وكان لبلاد الشام دورها الريادي في نشوء الحضارة الإسلامية، وفيها تميزت مدرسة أدبية حفلت بألوان الحياة العربية الجديدة، وما فيها من ترف، ورفاه، عبّر عنها أدباؤها وشعراؤها وفنّانوها بإبداعاتهم المتنوعة التي صوّروا فيها معالم الحياة السياسية، والاجتماعية، والدينية، وبهذا شكّلوا مدرسة تميزت بأساليبها التجديدية، وأغراضها المستحدثة، كالشعر السياسي، وما يتبعه وينبثق عنه من شكوى، حيث ظلم الحكام وجلاديهم، والسجون وأهوالها، وهناك شعر الفتوح والحروب، وما يلحق بها من حنين إلى الأوطان، وشوق إلى الأهل والولد، إلى جانب الحياة العقلية، والحياة الروحية في تلك الديار ومن هنا نشأت رابطة أدباء الشام لتعبر عن هذه الخصوصية الشامية.

طبيعة الرابطة:

هي تجمّعٌ أدبي، ثقافي، مفتوح، يسعى إلى الإسهام في بلورة رؤية أدبية حضارية لواقع الأمة، وسبل النهوض بها، ومعالجة مشكلاتها، من خلال أدب سامٍ ملتزم. وليس بينها وبين الروابط الأخرى أي تعارض، بل تعاون وانسجام.

وليس منطلقها إقليمياً ضيقاً، بل هي محاولة لتركيز قوة المدافعة في بؤرة التحديات المفروضة على الأمة والمتمثلة في عدد من المظاهر، كالاستلاب الصهيوني للأرض واستلاب الغرب للفكر، وتزييف القيم، وعمله الدائب على التجزيء والتفتيت، واستغلال التنوع الإثني والمذهبي.

أهدافها:

1ـ إبراز ملامح المدرسة الأدبية الشامية الأصيلة، وأبعادها العربية، والإسلامية، والإنسانية.

2 ـ الانتصار لقضايا الإنسان.

3 ـ الدفاع عن قيم الحرية في سائر مجالاتها.

4 ـ المشاركة في صون الهوية الحضارية للفرد والجماعة.

5 ـ تبني موقف حضاري إيجابي منفتح، يؤمن بالحوار، بديلاً من الصراع الحضاري، وينفتح على الآخر، أخذاً وعطاءً.

6 ـ التعريف بأدب الشام وأدبائها.

وسائلها:

1 ـ الكلمة هي وسيلة التعبير الأولى في جميع الأطر والأشكال الأدبية، وصور الإبداع الفنّي.

2 ـ القنوات: تبدأ الرابطة بالنشر في الساحات الأدبية والثقافية المتاحة، وتسعى إلى أن تكون لها ساحتها الخاصة، من الوسائل المعروفة والمستحدثة.

نداء وإهابة:

يا أحبّتنا وزملاءنا أدباء الشام.

إن الهيئة التأسيسية لرابطة أدباء الشام، تنتظر من سائر الأدباء في بلاد الشام، أن يضمّوا جهودهم إلى جهودها، لتكون قادرة على تحقيق أهدافها، واستقطاب العاملين في ميادين الأدب، والفكر لخدمة قضايا الأمة والوطن، عبر أنشطة أدبية ملتزمة ومميّزة.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

رئيس الرابطة: عبد الله الطنطاوي

تسمية قرية في فلسطين باسم رواية الطنطاوي

وفاءً للأستاذ الروائي عبد الله الطنطاوي الذي أعطى القضيّة الفلسطينيّة أهميّة كبيرة في أدبه وفنّه، وجسّد نضال شعبها المرير ضدّ الاستيطان الصهيوني في شخصيّة البطل الشيخ عز الدين القسّام

الاعلان عن بناء قرية الوادي الاحمر في الخان لحمايته من الهدم

اعلن نشطاء المقاومة الشعبية وهيئة مقاومة الجدار والاستيطان عن اقامة حي الواد الاحمر فجر اليوم الثلاثاء 11/9/2018، في اطار جهودهم ونضالهم لحماية الخان الاحمر الذي اعلنت اسرائيل نيتها هدمه.

واعلن نشطاء المقاومة الشعبية عن بناء ” حي الوادي الاحمر” بقرار من الشعب الفلسطيني بلا تصاريح من سلطة الاحتلال وبلا اذن من أحد، نعلنها تحديا ومقاومة الى قرارات الاحتلال في تهجير وهدم قرية الخان الاحمر.

واكد النشطاء على ان تسمية حي الوادي الاحمر جاء نسبة الى رواية الوادي الاحمر الى عبد الله طنطاوي التي تروي حياة الشيخ عز الدين القسام وحكايته مع الثورة الفلسطينية.

وبحسب النشطاء يقع حي الوادي الاحمر على بعد عدة امتار من الجهة الشرقية بين قرية الخان الاحمر ومستعمرة كفار ادوميم، حيث تم بناء الحي في غسق الظلام وهدوء الصحراء متحدين الاحتلال واجهزته المخابراتية لنقول اننا باقون هنا وصامدون هنا.

قال محمد الخطيب الذي عرف نفسه على أنه أحد سكان هذه البيوت التي تمت إقامتها “هذه رسالة واضحة… هذه أراضي فلسطين بغض النظر أينما كانت وأينما وجدت من حقنا أن نسكنها ونعمرها وأن نعيش بها”.

وأضاف “هذه الأرض التي أقمنا عليها البناء أردنا أن تكون قريبة من قرية الخان الاحمر المهددة بالهدم. إذا هدم الخان الاحمر فان آلاف الفلسطينيين سينتشرون في هذه الجبال ويبنون بها ويسكنون بها”.

مصادر صحفية اشارت الى ان قوات الاحتلال الاسرائيلي قامت فجر اليوم بتشديد الاجراءات على منطقة الخان الاحمر وتقوم بالتدقيق في بطاقات الهوية لكل من يقوم بالدخول او الخروج اليه.

صحيفة القدس العربي 11/98/2018.

الطنطاوي الصحافي

ونماذج من مقالاته

نماذج من افتتاحيّات مجلة (النذير)

ولمّا اشتعلت ثورة الشعب السوري (الأولى) ضد نظام حافظ الأسد، كانت الحاجة ماسّة لنشر أخبار المجاهدين في سوريّة بعد اندلاع الأحداث الخطيرة، وصدور القانون 49 لعام 1980 الذي يحكم بالإعدام على كل منتم لجماعة الإخوان المسلمين، وقيام النظام السوري بفتح السجون والمعتقلات الرهيبة، وتنفيذ أحكام الإعدام بعد محاكمات تفتقد الحد الأدنى من العدالة، فكلّفه إخوانه برئاسة تحرير مجلة (النذير) التي صدرت في عمّان بين عامي: (1979 – 1991) عن الجماعة، فقام بهذا الجهد المبرور بما عرف عنه من بيان حلو وأسلوب جميل، وبعد عن المواقف السياسيّة المشدّدة والمتشنّجة، واهتمام بالقضايا العامّة التي تشغل الرأي العام، وخاصّة السوريين الفارّين من مسدس النظام في ديار الاغتراب، وفتح صدر النذير لمقالات إخوانه وقصائدهم، فكانت ديوان الثمانينيّات، ونشر أخبار المجاهدين في سوريّة وعمليّاتهم الاستشهاديّة، ونشر بياناتهم، ودوّن سيرة شهداء الثورة، وكانت المجلّة مصدراً لأخبار سوريّة في وسائل الإعلام العربي والأجنبي بعد أن فرض نظام الأسد طوقاً أمنيّاً على العمليّات، ومنع وصول المراسلين الصحفيين إلى قلب الحدث، لأنّ النذير كانت تستقي أخبارها من مراسلين منتشرين داخل سوريّة، حتى غلب عليها طابع النشرة الإخباريّة.

وكانت (النذير) مدرسة تخرّج فيها عدد من الأقلام الشابّة، وميداناً لغرس الأفكار الثوريّة التي غذّت ثورة الكرامة في عام 2011.

وكم تمنيت أن تجمع أعداد (النذير) بين دفّتين، وأن تنشر في كتاب يؤرّخ لتلك الفترة الدقيقة من تاريخ البلاد السوريّة، وأن تكحّل عيني أستاذنا الشيخ عبد الله الطنطاوي برؤية هذا المجلّد.

ولا بدّ لنا في هذا الكتاب الذي بين أيدينا من نشر عدّة نماذج من افتتاحيّات (النذير) التي كان يحرّرها الطنطاوي، استكمالاً للبحث.  

المجاهدون: من هم؟ وماذا يريدون

منذ ثلاث سنوات، وبتاريخ 8/2/1976 بالضبط انطلقت أول رصاصة في سبيل الله تفتح الباب للجهاد المنظم، الذي بدأ يؤتي ثماره الخيرة في الأيام الأخيرة لكن تلك الرصاصة الأولى كانت ثمرة معاناة مريرة طويلة من الظلم والإرهاب. كانت سجون سورية تعج بالمعتقلين المسلمين من مدرسين ومعلمين وطلاب. ومن أطباء ومهندسين وعمال وموظفين وعسكريين، ومن أدباء وعلماء وحقوقيين وصحفيين وأساتذة جامعات، ومن آباء وأزواج وأبناء وبنات ونساء.

وكانت زبانية القمع والعسف تصول وتجول في الأحياء الشعبية والمدارس والجامعات، وكانت الحريات العامة والحقوق المدنية تداس بالأقدام، أما حرية الصحافة والعمل السياسي وحرية التعبير عن الرأي والعمل النقابي فلا وجود لها على الإطلاق وأوضح مثل على ذلك تلك الاستفتاءات الصورية المزيفة التي كانت نتائجها معروفة مسبقاً /99,9%/ كالاستفتاء على الدستور أو رئاسة الجمهورية.

على أن المحنة تبلغ أشدها حين يكون الاضطهاد مركزاً على المسلمين وعلى الدين الإسلامي بالذات: من مساجد تهدم، وعلماء يعتقلون، ومناهج تربوية تعطل، ومدارس شرعية تغلق، ومن توجيه إعلامي وتعليمي إلحادي انحلالي ينشر، ومن تسلط حزبي طائفي متزايد، ومن تحضير نفسي وعسكري لتهديم الجيش والقوات المسلحة وتسلم البلاد لليهود لقمة سائغة، ومن إحلال للميليشيات الحزبية الطائفية محل القوات المسلحة النظامية، ومن نهب لثروات الأمة بالرشى والابتزاز والتجارة المشبوهة والصفقات المريبة والإثراء غير المشروع لحفنة قليلة على حساب الأكثرية المسحوقة..

إن تاريخ سورية الحديث لم يشهد استبداداً وفساداً فكرياً ولا إدارياً كالذي يشهده اليوم تحت وطأة نظام حافظ أسد وعصابته المغامرة، لذلك كان لزاماً أن ينبعث من رقاد العدم الأموات، وأن تنشط الهمم والنخوات، وأن يعلو صوت: (الله أكبر. حي على الجهاد): (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير.

فالمجاهدون: فتية آمنوا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً، وبذلوا نفوسهم في سبيل الله رخيصة ليفتدوا دينهم وأمتهم مما هي فيه من ظلم وكفر وبغي وعدوان، وليعملوا على رفع كلمة (لا إله إلا الله) وتحكم الشريعة السمحاء رحمة بالناس أجمعين وبالشعب السوري بالذات، بعد أن جربوا مختلف السبل ولم يبق إلا الجهاد.

مجلّة النذير ـ العدد الأول- ذو القعدة 1399هـ الموافق 21/9/1979م

*   *   *

العنف في سورية. من وراءه ! وما أسبابه؟

من وراء العنف في سورية؟ وما أسبابه؟

أهم أطراف كامب ديفيد، كما زعمت السلطة الحاكمة.

أهم حفنة من الرجال، استطاعت السلطة أن تصفيهم على حد زعمها؟

أهم من الحاقدين أو الخارجين أو المارقين، كما يزعم الأذناب؟

أم ليسوا من كل أولئك، وإنما العنف نتيجة حتمية للطريق الذي سار فيه الأسد وطغمته؟

إن العنف في سورية ظاهرة جديدة، لم تعرفه منذ الاستقلال، فمن ذا الذي أشعل ناره؟ ودراسة (الظاهرات) كما يعلم بنو الإنسان – غير آل الأسد- إنما تتم بالبحث الواعي، وبربط النتائج بمقدماتها، وبالعودة إلى جذور المشكلة والبلاء. أما الزئير المختلط بالخوار فلا يجدي شيئاً.

إذا أردنا أن نفند دعاوى السلطة فلن يكلفنا ذلك جهداً كبيراً، فالثائرون – ومعهم كل الشعب السوري، ومعهم العالم كله- يعرفون بائع الجولان وبطل الهزيمة في حرب تشرين، كما يشيرون بأصابع الاتهام إلى العلاقة بين الأسد وتشاوشيسكو (الرئيس الروماني) صديق إسرائيل؟؟ وصديق الصديق صديق، فكيف إذا كان تشاوشيسكو حبيباً للأسد ولآل الأسد؟

وإما أن الثائرين المجاهدين حفنة، فما أعظمها دولة تعجز عن حفنة من رجال خلال خمسة أشهر، وهي تملك كل ما تملكه سلطة استبدادية من وسائل بطش وإرهاب؟! وكيف يكون المجاهدون حفنة والشعب كله معهم، قد فتح القلوب والبيوت والجيوب، يبذل لهم حباً وأمناً ومالاً؟!!

وأخيراً كيف يكون الثائرون المجاهدون حاقدين أو خارجين أو مارقين، وهم زهرة شباب هذه الأمة، وأكثرهم – كما يعلم الأسد وزبانيته- أطباء ومهندسون وجامعيون، بعضهم عاف الدراسة ليلتحق بالثورة وبالجهاد؟

ألا عودة للعقل يا طاغية سورية، فإن سياسة الزئير والناب لم تعد تفلح.

ألا عودة إلى العقل لتعرف لماذا ثار هذا الشعب؟ ولماذا رضي أن يقدم زهرة شبابه وقوداً لنسف حكمك الجائر؟ وإذا كانت لطمات الثوار قد أذهبت رشدك، وأعمت عينيك، فعلى رسلك نخبرك لماذا ثرنا؟

ثرنا لديننا الذي بذلت وما زلت تبذل الجهود للقضاء عليه ومسخه وتحريفه. أتذكر أم نذكرك: الكفر الصريح الواضح في الكتب المدرسية، الهجمة الشرسة على قيم الإسلام في أجهزة الإعلام، الانحلال الخلقي بل العهر في مؤسسات الحزب والشبيبة والطلائع.

أنذكرك بلجنتك (الموقرة) لتحريف وتشويه مناهج التربية الإسلامية، أو نذكرك أيضاً أن هذا لم يكن برأيك أنت، وإنما هو شرط من شروط إسرائيل للصلح يا (بطل الصمود!).

أنذكرك بمجزرة التعليم؟ وهل إخراج أكثر من ثماني مئة معلم ومدرس من مدارس القطر، لأنهم يؤدون الصلاة، ألا حملة ماكرة على دين هذه الأمة؟! حملة أنتجها فكر طائفي عفن. رجالك يطبعون على كل مسلم (خطر على أمن الدولة)! والمسلم لا يكون خطراً إلا على أعداء الأمة، كما عرفت وتعرف. إنه المسلم الذي عرفت زبانيتك كيف تدفعه إلى الخط الأول أيام حرب تشرين، وسيبقى في الخط الأول دوماً.

وثرنا لكرامتنا. لقد أنفنا أن نرى فوق رؤوسنا الأحذية الغليظة تروح وتغدو، تكره من تشاء بوطأتها، وتهصر من تشاء تحت ثقلها. نحن مسلمون يا عدو الإسلام والمسلمين، إن المسلم لا يخنع ولا يركع.

وثرنا لحقنا المغصوب تستأثر به فئة لم تعرف في تاريخنا إلا بما عرف به الذئب في تاريخ الأحباء. المناصب لكم والمسؤوليات على غيركم. الأموال لكم والجهد من غيركم. البطولة أنتم والدماء دماؤنا؟!!

وثرنا لوطننا الذي بعتموه رخيصاً، ولدمائنا التي هدرتموها غدراً. ثرنا لإخواننا الذين أزهقتم أرواحهم في أقبية (الوحدة والحرية والاشتراكية) بأنيابكم الحادة، ومخالبكم المعقوفة. أنسيتم –ولم ننس- الشيخ مروان حديد والشهيد حسن عصفور والمحاميين كيالي وحيدري. نسيتم – ولن ننسى- الشاب الشهيد عمر سالم والطبيب مصطفى عبود والشيخ أحمد الفيصل من حلب، والشيخ الشهيد محمود شقفة والحاج علي خير الله ودياب فاعور من حماة، والشيخ فاضل زكريا من حمص، والطالب مأمون ادلبي من حلب وهم بعض ضحاياكم.

أنسيتم هؤلاء – يا (سيادة) الرئيس؟ أتنام على غير شوك الهموم؟ أتريد أمناً وسلاماً بعد أن ملأت البلاد دماء ورعباً؟!!

وثرنا لأعراضنا التي استبحتها مع أخيك وكلابه المدللة المعدة لحراستكم. ولولا الحياء، وحب الستر لذكرنا للعالم الأسماء.. أسماء المحصنات من أخواتنا وبناتنا...

ثرنا... لما لا ينتهي من مخازيكم وجرائمكم لو أردنا تعدادها...

وأخيراً ثرنا لنحيا أعزة كراماً.

مجلة النذير العدد الثالث - صدرت في دمشق بتاريخ: 15 ذو القعدة 1399 – 7 أكتوبر1979م

*   *   *

الشاه والشاهنشاهية

الشاه: معتقلات، ومشانق، وسافاك، وخيانة، وتبذير، وسرقة، وسفك للدماء... الشاه ليس شخصاً، وإنما هو مقومات نظام، وحين سقط الشاه آذن بسقوط (الشياه)..

فالشاه ليس وحده شاهاً!

ليس وحده الذي زج بألوف الأبرياء من الذين قالوا: ربنا الله – في أعماق السجون المظلمة العفنة، التي تغذت من أجساد المعذبين من بني الإنسان.

وليس وحده الذي علق زهرات الأمة على الحبال المفتولة بعناية على أيدي بني إسرائيل وما نقم منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد.

ليس وحده الذي استأجر من البشرية أراذلها بعد أن جردها من إنسانيتها، وحولها إلى وحوش ضارية، تنهش الأجساد والأعراض والقيم.

وليس وحده الذي عقد الصفقات، ودبر المؤامرات، وكاد بشعبه، وخان أمته.

وليس وحده الذي كدس الأموال، أموال الأمة، بعد أن تاجر بأرضها وعرضها، وشرفها، ليصبح من أثرياء العالم المعدودين.

والشاه – أخيراً- ليس وحده الذي تصدى لجموع شعبه، يحصدهم بالرصاص حصداً جماعياً، لأنهم خرجوا يقولون: (الله أكبر).

الشاه ليس وحده الذي فعل ذلك. وإنما هذا فعل كل (شاه)، وما أكثرهم في دنيانا!!!

حتى شاه سورية فعل كل ما فعل الشاه!!! فمعتقلاته تئط، وتئن، وحبال المشانق ما تفتأ تلتف حول أعناق الرجال، وعبيد (خصبه) تلغ في الدماء والأعراض، وأرض الجولان تنادي –شاهد عدل على خيانته- و(بنوك) العالم تدفعه إلى مصاف الاغتيال الأول...

وبقيت الأخيرة،

الأخيرة التي طال شوق (شاه سورية) إليها، وعز عليه أن لا تختتم صحائف مجده بها...

الأخيرة في أن يبارى الشاه الشاه في سفك الدماء، دماء المعارضين في أن يحصدهم حصداً جماعياً، ثم ينثنى ضاحكاً على وقع أخبار قتلاهم... وقد كان لشاه سورية ما أراد.

لقد تصدى رجال (الشاه) لتظاهرة المسلمين الذين خرجوا يعلنون للأسد: (الله أكبر).

وفتح رجاله الرصاص على المتظاهرين، فسحقوهم، وانتصر (الشاه)، وما نام على وتر، فلا نامت أعين الجبناء!!!

بقي أن نقول لشاه سورية أيضاً:

ليس الشاه وحده الذي سقط،

وليس الشاه وحده الذي هرب،

وليس الشاه وحده الذي أوصدت في وجهه أبواب المقربين والمخلصين،

وليس الشاه وحده الذي أغارت عليه لعنة الله بالسرطان.

ليس الشاه وحده وإنما كان وراءه وأمامه أمم، كلما دخلت أمة لعنت أختها.

كان الشاه، وكان سوكارنو، وكان هيلاسي لاسي، وكان سوموزا، وكان بول بوت، وهؤلاء –جميعاً- يسلمون عليك، ويخبرونك:

(نحن السابقون وأنتم اللاحقون).

لقطة

على أثر الضوء الأخضر الذي أعطي للصحافة كي تنتقد ما لم يكن يسمح لها بنقده ظهرت بعض المقالات والتعليقات التي تدين النظام، لا لشمولها وعمقها، بل لأنها في صحفه هو بالذات، ومن هذه التعليقات كلمة في زاوية (وقفة) بعنوان (الحوار للتبرير أو للفعل) في جريدة الثورة المؤممة – العدد 5107- الأربعاء 17/10/1979م جاء فيها:

ما علاقة إسرائيل وكامب ديفيد والإمبريالية الأمريكية بأزمة الخبز والغاز والمواصلات والمياه والرشوة والفساد والمحسوبية والسرقة واستغلال الوطن والمواطن؟! ما علاقة كل هذه القوى المعادية بالبيروقراطية وتضخم الموظفين العاطلين عن العمل والتضخم المالي وازدهار المجتمع الاستهلاكي في وطننا؟! ما علاقة كل هؤلاء مثلاً بأن ينتج مصنع درعاً للأحذية يومياً /500/ حذاء فقط مقابل الإنتاج المقرر له وهو /3600/ حذاء، ومعمل النبك للأحذية /400/ حذاء مقابل نفس الرقم 3600؟

ما علاقة إسرائيل والإمبريالية الأميركية وكامب ديفيد وكل القوى الرجعية في العالم بكل ما نرى ونحيا من ممارسات وتجاوزات في هذا الوطن المقهور الذي تضافر عليه الأعداء من الداخل والخارج ؟!

ما علاقة.. وما علاقة؟؟ أسئلة تنتظر أجوبة من المسؤولين. أجوبة صريحة وواضحة ومسؤولة.. أجوبة فعل وسلوكية بدل الوعود والكلام المعسول.. بدل التبرير والدفاع..

مجلة النذير العدد الخامس الاثنين 15 ذو الحجة 1399 هـ الموافق 5 تشرين ثاني 1979م

*   *   *

نماذج من افتتاحيّات موقع (رابطة أدباء الشام)

عيد.. وأيّ عيد

بقلم: عبد الله الطنطاوي

كان أهل مصر يلقّبون حاكمهم الفاطمي، بالحاكم بأمر الله، وعندما بدت انحرافاته للناس، أضفوا لقباً جديداً عليه، هو: الحاكم بأمره، فقد اعتبروا الحاكم الذي يحكم بأمره، وليس بأمر الله، وحسب شريعته، سبّة وعاراً، أما نحن العبيد الفقراء القليلين، فقد أصبحنا نرى الحكام الذين يحكمون بأمرهم، وحسب أهويتهم وأمزجتهم، أقل سوءاً من الحاكمين بأمر غيرهم.. بأمر أمريكا، وتوابعها، وذيولها، فحكم هؤلاء، شرّ مطلق.. 

وقد مضى آخر الحاكمين بأمرهم، والشعوب العربية تتطلع إلى من يحكم باسمها حقيقة لا ادعاء، تمهيداً للحكم بما أنزل الله، لعل هؤلاء يوقفون حالات الانهيار التي تتسارع..

كنا نبكي على فلسطين المحتلة، وعلى القدس والمسجد الأقصى، والجولان المحتل منذ ستة وثلاثين عاماً، وقد بنى العنكبوت بيوته فيه، للهدوء العجيب الغريب فيه، وها نحن اليوم نستقبل هذا العيد، وقد احتل العدو بلداً عربياً كبيراً، احتلّ العراق، والحبل على الجرّار، ما دام الحاكمون هم هم، بعداً عن الشعوب، وافتئاتاً عليها وعلى مصالحها الحقيقية، وتفريطاً بأرضها، وإزهاقاً لأرواح أبنائها، وإذلالاً لكراماتهم..

فالسجون ما تزال غاصة بالمعتقلين منذ أربعين سنة في سورية مثلاً.. والمعتقلون الذين فقدوا كل شيء، ونسوا كل شيء ما عدا سلاسل السجان، وسياط التعذيب، وقضبان الحديد، وجدران الزنازين، وأسوار السجون العاليات، وما يقدّم إليهم من فتات لا تسمن ولكنها تغني من بعض جوع اعتادوا عليه..

نسوا الأهل والوطن والحياة كلها، نسوا الزمان والمكان، وتساوى عندهم الليل والنهار، كما تساوت عندهم السجون والجلادون.

كان العدوّ يبني أفرانه الذرية، ويستقدم مئات المهندسين من أنحاء العالم، من أجل امتلاك القنابل النووية، وكان أكثر حكامنا يبنون السجون والمعتقلات للشعب، والقصور والمزارع وألوان الاتجار بالمخدرات والممنوعات لهم ولأولادهم وأصهارهم، وزبانيتهم، ويستقدمون خبراء التعذيب، وخبراء الثورات والثورات المضادة، ويستوردون أدوات التعذيب من أوربا الشرقية التي ذبحت شعوبها وأحرارها عشرات السنين، ثم بادت، وهلك حكامها أبالسة البشر.

والآن.. يتوسل بعض حكامنا لهيئة الأمم المتحدة، ومجلس الأمن، بأن تنزع إسرائيل أسلحة الدمار الشامل التي تمتلكها، بعد أن فشلوا في تحقيق شعارهم الذي رفعوه ردحاً طويلاً من الزمن: (التوازن الاستراتيجي) أجل.. فشلوا، وحق لهم أن يفشلوا في هذا، وينجحوا في سواه، وهو الأهمّ عندهم، وهو أن ينهبوا ثروات البلاد التي كانت من أغنى الدول العربية، ثم آل شعبها إلى الجوع، والتشرد، والتسوّل في كل مكان من بلاد العرب، وأوربا وأمريكا.. يعملون كما يعمل العبيد، لأنهم لا يملكون ما يثبت جنسيتهم، فليس لديهم وثيقة تثبت جنسيتهم، ولجان حقوق الإنسان في الوطن العربي، وفي العالم، يطالبون النظام بإعطاء مواطنيه الوثائق التي هي من أبسط حقوق المواطنة، و (أركان) النظام يضحكون من تلك الطلبات ومن أصحابها، لأنهم بانتهاك كرامة المواطن السوري، وبإذلاله، وإفقاره، وتشريده، يحققون التوازن الاستراتيجي مع العدو..

وفلسطين المحتلة.. ما حال فلسطين؟ وما حال شعب الجبارين.. الشعب الأسطورة الذي صمد وما يزال يصمد وحده في الميدان، ويتصدّى للغزاة، كما يتصدّى للعملاء، وهم أشدّ وطأة من دبابات العدو وطائراته وجنوده المرتزقة الذين جيء بهم من أزقة أوربا وروسيا، وليس لديهم أي قيمة يحترمونها.

يتصدّى أهلنا وأبناؤنا المقاومون المجاهدون الصابرون بصدورهم العارية إلا من الإيمان، لآلة الحرب الأمريكية الصهيونية، وينزلون بالعدو الكثير من الخسائر البشرية، والاقتصادية، التي ما خسروا عشر أعشارها في سائر الحروب (التحريرية) التحريكية التي (خاضوها). صمود أسطوري، وصبر أسطوري على أنواع البلاء، من فقر، وجوع، ومرض، ودمار شمل كل شيء إلا الإيمان، والكرامة، وشموخ الرجال والنساء، وتضحيات فاقت كلّ تصوّر.

والشعب العراقي الباسل ينحو في مقاومته للاحتلال نحواً جهادياً بطولياً يبشرنا بميلاد جديد للشعب العراقي الذي طالما عانى وما يزال يعاني من ألوان القهر، والفقر، والمرض، ولكنه ما يزال معافى في كرامته، وشموخه، وإيمانه، كسائر الشعوب العربية.

مآس، وكوارث ودماء، وأشلاء, وسجون، ومعتقلات، وأرامل، وأيتام، وقهر وفقر، واستبداد، كل هذه تجثم على الصدور الحرّة الأبيّة، وتحاول أن تحني الظهور والهامات، ولكن.. هيهات هيهات..

هكذا نستقبل العيد، وننشد مع شاعر العرب، أبي الطيب:

عيد، بأية حال عدت يا عيـد

 

بما مضى، أم لأمر فيك تجديد

أما الأحبة، فالبيـداء دونهم

 

فليت دونـك بيداً دونها بيـد

ونقول:

يا حسرة على العباد.

موقع رابطة أدباء الشام 22 تشرين ثاني 2003

*   *   *

أدباء الأبراج العاجية

بقلم: عبد الله الطنطاوي

إذا نظرنا إلى الساحة الأدبية، وقرأنا ما تجود به قرائح أكثر الشعراء والأدباء العرب، وتأمّلنا مدى الفائدة التي يجنيها المجتمع العربي من ذلك النتاج الأدبي الغزير، فإننا سوف نصاب بالإحباط والذهول، من المحصّلة التي سنحصل عليها من وراء الرموز والغموض، والمعمّيات التي تكتنف أكثر ما يُنشر في الدواوين والكتب والصحف مما لا جدوى من قراءته، سوى قتل الوقت، وإزجاء الفراغ، وإفساد الأذواق، وبلبلة الأفكار.

أكثر أولئك الشعراء والأدباء غير معنيّين بما يجري على الساحة السياسية والاجتماعية والأوباء الأخلاقية.. فهم لا يكترثون لهذا الفساد المستشري في أوساط السياسيين الذين طلّق أكثرهم كلَّ ما يمتُّ إلى المصلحة العامّة بسبب، حسبُ الواحد منهم أن يعلو ولو على جثث أبنائه وزوجته وعشيقاته، ولو على مِزَق الوطن الذي غدا بسبب هذا ونظرائه، أشلاء مبعثرة، وحمىً مباحاً، وكذلك الأمر بالنسبة إلى حيتان التجارة الذين يلتهمون كلَّ شيء يعترض طريقهم، في سبيل الإثراء الفاحش عن أي طريق كان، مهما بلغت درجة النجاسة فيه.

وكذلك الأمر بالنسبة إلى علماء السلاطين الذين يحرقون البخور ويحرقون معه دينهم وأخلاقهم وهم يقدّمون الفتاوى الظالمة في لحنٍ من القول مريب، ويكيلون المدائح في الأفراح والأتراح لهذا الطاغية ولذاك، يسابقون ثلة المنافقين من الشعراء، والساقطين من الصحفيين، في الترامي على العتبات، لا تهمّهم سمعة ولا عار ولا غار، كلُّ ما يهمهم التقاط الفُتات المتناثر من الموائد العامرة بالحرام.

كان الشاعر في الجاهلية لسان حال القبيلة، ينافح عن شرفها، ويفاخر بأمجادها، ويذود عن حياض أمنها وكرامتها.

وكان الشاعر في الإسلام لسان الدعوة الجديدة، يشيد بمبادئها، وينشر ألويتها، ويدافع عن مبادئها وقائدها، ويجاهد في سبيل الله، ويستشهد..

ثم كانت انتكاسة، فصار الشاعر مدّاحة نوّاحة، لقاء ما يُقدَّم إليه من أعطيات.

وجاء عصر (التنوير) وعاد الشعراء والأدباء والكتّاب إلى أمتهم وشعوبهم، يعالجون مشكلاتها بقصائدهم وكتاباتهم، فكان لنا منهم شعر سياسي، وشعر جهادي، وشعر وطني، وشعر اجتماعي، ثم لم يلبث جيل الرواد في العصر الحديث أن انقرض، ليخلفه جيل ثم أجيال متغرّبة في تفكيرها وسلوكها، وفي انزواء بعضها في أبراج عاجية أو زجاجية مهشَّمة، لا نقرأ لواحد منهم وصفاً حياً للسياسي الانتهازي، ولا للتاجر المستغل، ولا للعالم الذي يبيع دينه في المزاد العلني، وفي سوق النفاق النافقة، ولا للصحفي الذي يتلون كالحرباء، حسب المزاد، وعلى من يرسو المزاد، ولا للعامل الكسول، ولا للفلاح التعيس، ولا للمزارع الحوت، ولا للأدباء والكتّاب في سوق النخاسة.

إنّ قلّةً قليلة من أدباء العرب وشعرائهم، تهتمُّ اليوم بما يجري في الوطن الكبير، فتدلي بدلوها في خوف وعلى استحياء، وهي ترى زملاءها يتبجحون في المؤتمرات والندوات المشبوهة، بصلاتهم بالعدوّ، غير آبهين بجماهير هذه الأمة التي تقرؤهم فلا تفهم عنهم شيئاً، لأنهم ليسوا منها، وهي ليست منهم، إنهم عمل غير صالح، إنهم يصبّون في البحيرة الآسنة التي يعلو زبدها وبخارها في زمن العلوّ اليهودي الثاني، لأنهم ينحدرون من أصول حاقدة، أو يأرزون إلى مستنقعات المال الحرام..

وإننا ندعو هذه القلة لتنهض بدورها المشرّف، ولو عاشت الفقر، واقتاتت الآلام والمواجع!

مجلة رابطة أدباء الشام 29 تشرين ثاني 2003

*   *   *

الأديب بين الواقع والمثال

بقلم: عبد الله الطنطاوي

من الأمثال الشعبيّة الدارجة: "اسمع كلامك يعجبني، أشوف أفعالك، أتعجّب".

وهذا المثل شديد التفاعل مع الأديب عامة، والأديب العربي خاصة، وذلك أنّ الأدباء العرب، أعني الكثير منهم، يكتبون لك في المثاليات، حتى ظنّت إحدى المعجبات بأدب (...) ورسومه، أن كاتبها (نبيّ) أو في مستوى الأنبياء، وعندما زارته في منزله، كان منه ما يكون بين وحش كاسر وفريسة عاجزة مستسلمة، والذي يقرأ ما كتبه عنه صديقه الحميم (...)، في كتابه الذي ترجم له، يجد العجب العجاب من ذلك الأديب الشاعر الرومانسي الغارق في مثاليات ليس لها على أرض واقعه نصيب.. وكذلك الأمر بالنسبة إلى عدد من الكتّاب والشعراء الذين يغرقون قراءهم في المثاليات، وليسوا هم سوى وحوش ضارية وهي تلتهم اللحم الحيّ، على طقطقات الكؤوس المترعة بالسمّ الهاري، الذي يسمونه –مغالطة و إجحافاً – مشروباً روحياً- إنهم غارقون في الوحل الجنسي، لأنهم من المنتمين إلى حضارة الطين بكل سوءاتها وسيئاتها، فالمبادئ عند هؤلاء، تبعٌ للأهوية الفاسدة، والأمزجة الهابطة، والشهوات والمصالح الموغلة في انحطاطها ودناءتها.

حدّثنا الشاعر الراحل عمر أبو ريشة عن شاعر عراقي (كبير) جداً، كان في أقصى اليسار، ثم اشترته مجلة (حوار) البيروتية التي كانت تصدرها المخابرات المركزية الأمريكية، والتي استقطبت بعض زعماء كتاب اليسار في بلاد (رواد) القومية العربية، كمصر والعراق وسورية خاصة، بعد أن أغرتهم بدولاراتها التي كانت تنفقها على كتّابها بغير حساب، سوى حساب المخابرات الأمريكية.. أقول: حدّثنا أبو ريشة عن ذلك الشاعر اليساري اليميني المتطور، أنه دُعي لإلقاء قصيدته في مربد البصرة، فلم يجدوه، ثم جيء به في اليوم التالي إلى فندق الخليج العربي بالبصرة، كالطينة، من شدّة السُّكر، وبعد أن صحا، ترجم لهم هذيانه ساعة فقدانه الوعي بسكره، ومحصّلة كلام ذلك الشاعر الكبير جداً، أنه كان في قهوة من قهوات البصرة، فجاءته فتاة وأمّها، واصطحبتاه إلى بيتهما، وأمضى ليلته معهما معاً هناك، وطلّق مهرجان المربد في تلك الأمسيّة، وعقّب أبو ريشة بقوله:

- هؤلاء هم شعراء العرب الذين يظهرونهم في واجهة (الفاترينة).. على حدّ تعبيره.

لسنا في صدد رصد شنائع أولئك الأوغاد الساقطين، ولكننا أردناها مقدمة طويلة،ـ لموضوع مهم وقصير، وهو ما يجب أن يتميّز به الأديب الملتزم من أولئك، بأخلاقه وشموخه وسمو سلوكه في سائر أحواله، فهو لا يقول شيئاً ويفعل شيئاً مغايراً، لأن مبادئه هي التي تحكم مصالحه، ويأبى عليه ضميره المسلكي الملتزم، إلا أن يطابق بين القول والعمل، حتى لا يكون ممن يعنيهم الله سبحانه بقوله:

(لمَ تقولون مالا تفعلون؟ كبر مقتاً عند الله أن تقولوا مالا تفعلون).

وهو يعي خطاب الله ووصفه للشعراء:

(والشعراء يتّبعهم الغاوون، ألم تر أنهم في كل وادٍ يهيمون، وأنهم يقولون مالا يفعلون، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيراً، وانتصروا من بعد ما ظُلموا). صدق الله العظيم.

موقع أدباء الشام 06 كانون أوّل 2003

*   *   *

لغتكم يا عرب

بقلم: عبد الله الطنطاوي

يفرح الناس بيوم الجمعة وأحزن..

أحزن.. لأنني سوف أستمع إلى خطبة تهتزّ منها فرائص الخليل، وتتكسر عظام سيبويه، ويزداد اشتعال الشيب فيما تبقَّى من شعرات سود لعبد الملك الذي سئل عن شيبه المبكّر، فأجاب:

- كيف لا أشيب، وأنا أعرض عقلي على الناس كل جمعة؟

ونحن ما عدنا نأبه للعقول التي تُعرض علينا كل جمعة، فقد شغلتنا ألسنة الخطباء الأشاوس عن عقولهم.

ولهذا الابتلاء بتلك الألسنة الحداد، صرت أطوف في مساجد المدينة، أتخير من مساجدها الكثيرة مسجداً ترتاح لخطبته الأذن، وتشتدّ المحنة في كل مسجد، حتى كانت الطامة في مسجد وقف خطيبه نصف ساعة في الخطبة الأولى، ومثلها في الخطبة الثانية، يتحدث أو يخطب بلسان عجيب، لا أدري من أي (سيبويه) استقى نحوه وصرفه، فالمرفوعات عنده هي: المفعول به، والظرف، والاسم الواقع بعد ظرف أو حرف جر، والمنصوبات عنده هي: الفاعل، ونائبه، والمبتدأ وخبره، أو أحدهما، والمجرورات مشتركة بين هذه جميعاً.. ولا تسل عن استخدام العدد، والممنوع من الصرف، وجمع المؤنث السالم، فاستخدامه لها يدمي الفؤاد، ويضحك الثواكل في آن.

ومن الأدعية التي دعا، ما يخرج من الملّة، والعياذ بالله، إذا كان يقصدها ويعنيها كما جاءت على لسانه الذَّرب.

يا حسرة على لغة القرآن العظيم، وعلى آياته الكريمة، وهي تدور على ألسنة العديد من الخطباء، حتى إني لم أملك نفسي من التصدّي لبعض أولئك (الفحول) في أجسامهم، الهِزال في لغتهم وعقولهم، وقد عَرَضْتُ نفسي على بعضهم، أن يكتب الخطبة، وأقوم بتشكيلها، أو أن أكتبها له وأشكلها، وأجري على الله.

أنا، وأمثالي من عشاق لغة أهل الجنة، لا نملك إلا أن نبدي أحزاننا على ما آلت إليه حال اللغة العربية على ألسنة الخطباء والوعّاظ، والمتحدّثين في الفضائيات والإذاعات الموسومة بالإسلامية، ومقدمات تلك الأحاديث الحافلة بالأخطاء التي تتفاقم لتصير خطيئات، ويا ليت الشيخ الشاعر الداعية الحبيب عائض القرني ينتبه إلى مقدمة برنامجه الرائع: (روائع من السيرة) التي يقدمها صاحب صوت إذاعي جميل، ولكنه أفسد جماله بتنوين (روائع) تنويناً فظّاً منفّراً، وكذلك الذين يقومون أو يقدّمون أحاديثهم في إذاعة القرآن الكريم التي نحبّها، وندعو لها، ويأبى بعض المتحدّثين فيها إلا أن يسيئوا إليها بجهلهم الفاقع في لغة القرآن الكريم، حتى إنهم ليخطئون في تلاوة الآيات والأحاديث التي يستشهدون بها.. يا ويحهم!..

وكذلك على ألسنة المعلقين على البرامج، والمشاركين في الندوات، وعلى ألسنة المذيعين والمذيعات، والممثلين والممثلات، والصحفيين، والكتبة، ومن إليهم ممن تشابكت حياتهم مع هذه اللغة الكريمة التي هجرها وأساء إليها –ولا أقول أفسدها، لأنها عصية على الفساد والإفساد- أساء إليها من كان الأجدر به وبهم أن يحافظوا عليها، ويعلموها الناس.

كنا، ونحن صغار، نتطلع إلى شهر الصيام- لا شهر الطعام والخيام كما انتهى إليه الحال في هذه الأيام- ونستعجل الذهاب إلى المسجد لحضور صلاة التراويح، أما اليوم، فصارت صلاة التراويح باهظة الثمن، شديدة الوطأة على النفوس، وأنت تستمع إلى خطب الخطباء، وأحاديث المتحدثين بين الترويحات.. يا ويحهم.. جعلوا الناس يفرّون من صلاة التراويح، أو يكتفون بالركعات الأربع الأولى، ثم يخرجون سراعاً قبل أن يستمعوا إلى المتحدثين الذين إذا أمسك أحدهم بالميكروفون، أمسكتَ قلبك، وعقلك، وأعصابك، فقد لا ينتهي إلا مع الأذان الأول، وهو لا ينتبه لتسلل الناس من بين يديه، وعن شماله ويمينه.. يطيل الكلام في غير طائل، ويفعل باللغة ما يفعل، وما عليك إلا أن تنسحب وتخسر صلاة الجماعة في المسجد، أو تصبر، وتسلّم أمرك لذلك (العالم)!

وقد أطلت الحديث عن المشايخ والوعاظ، لأنهم المعنيون بلغة القرآن العظيم، أو هكذا ينبغي أن يكونوا.. وكذلك كان أسلافهم الأقدمون، والمحدثون، ونحن لا نطالبهم أن يكونوا مثل أخطب خطباء العصر الذي شهدنا: الشيخ مصطفى السباعي، ولا مثل الخطباء الكبار: عصام العطار، وسعيد رمضان (المصري طبعاً) وعلي الطنطاوي، ومصطفى الزرقا، وعبد الفتاح أبي غدّة، ومحمد أبي الفتح الخطيب، وبهجت البيطار، وحسن حبنكة ومحمد الحكيم وأحمد عز الدين البيانوني، ولا مثل أحمد مظهر العظمة، وعبد الكريم عثمان، وعمر عودة الخطيب، وأمين المصري، وإن كنا نرغب أن يكونوا مثل هؤلاء الأفذاذ الذين تربينا على سماعهم في مسجد جامعة دمشق، وقاعة محاضرات الجمعية الغراء بدمشق، وعلى خطب الفصحاء من مشايخها: كالشيخ نايف عباس، وعبد الرحمن الزعبي، وعبد الغني الدقر، وأديب الصالح، وسواهم من علمائنا الأفاضل، رحم الله الأحياء منهم والأموات، ولكننا نريدهم أن يتقنوا هذه اللغة التي منها ومن علومها يتعيّشون ويتسنّمون المناصب.

أنا أعتب على الإسلاميين أولاً، وعلى العروبيين القوميين ثانياً، ولا أتأبّه عليهم إذ أدعوهم إلى دراسة لغتهم، وفهمها، وحسن النطق بها، ليخرج الحرف من مخرجه الصحيح، وليكون إعراب الكلمة سليماً فلا يفسد معنى، ولا يسيء إلى مستمع.. فهل من مدّكر؟

رابطة أدباء الشام 13 كانون أوّل 2003

*   *   *

النذير العريان

بقلم: عبد الله الطنطاوي

إن ما يتعرض له الوطن من الأخطار فظيع مخيف، وسوف يطول كلَ من عليه من بشر، وما عليه من دابة وشجر وحجر، وما جرى ويجري على الأرض العراقية، نذير أيّ نذير، لمن يحسب حساباً أو يخشى النّذر، ولعل في طليعة من يجب أن يعي تلك النذر، ويتصدّى لتوعية الناس بتلك المخاطر، العلماء والأدباء والكتّاب والشعراء والمفكرين والفنانين، فهؤلاء هم ملح الوطن، وإذا فسدوا فسد الوطن، وإذا استناموا للأوهام، وحلّقوا مع الأحلام،  أو حيّدتهم أنفسهم المحبطة، التي تزعم لهم أنهم مستضعفون في الأرض، مذّلون مهانون، ليس في أيديهم حيلة، وليسوا مسؤولين عن شيء مما لحق ويلحق بالوطن، وأن أصحاب الحول والطول هم (أولو الأمر) (هذه المقولة السليمة التي غدت أكذوبة فاقعة منذ عهد بعيد بعيد، وازدادت بهتاناً في هذه الأيام) وهم وحدهم المسؤولون عن مصير الوطن، أرضاً وشعباً.. (أولو الأمر الأكذوبة) هم وحدهم المسؤولون أمام الله والتاريخ عن ضياع الوطن، وليس في وسع العلماء والأدباء والمفكرين والفنانين أن يفعلوا شيئاً لإنقاذ الوطن مما يراد به، ويقول قائلهم في جلسة حوار:

- والله.. إن (المسؤولين) مستعدون لإبادة أي مظاهرة سلمية تخرج في العاصمة أو في أي مدينة أو بلدة أو قرية.. مستعدون لإبادتها بالدبابات والمروحيات وراجمات الصواريخ وسواها من الأسلحة التقليدية، وربما يستخدمون ما يخبئونه لمثل هذا اليوم العصيب من أسلحة لا يجرؤون على استخدامها مع العدو الصهيوني..

وضرب لنا الأمثال مما جرى في الثلث الأخير من القرن الماضي، من كوارث ومآسٍ كانت من الفداحة بحيث أصبح رجالنا الشجعان، كأنهم خصيان.

ومن عجب، أن يؤمّن بعض السامرين على ما كان يقوله هذا الشاعر المحبط، والأديب المفكر الدكتور أحمد سليمان الأحمد، الذي اغتالته الأيدي الأثيمة قبل عقد من الزمان.. فقد كان محبطاً في أحاديثه الخاصة، ومحذّراً من أيّ تحرك، حتى لا تقع الواقعة التي جعله تصوّرها يهرب من الوطن، لعله يحول دون وقوعها.

وكنت سمعت مثل هذا من رجل كان من (الأعمدة) ثم سفته السوافي بعد أن أخذوا منه كل ما يريدون.

وما زلنا نسمع مثل هذا الكلام المثبّط المحبط..

ولكنّ الوطن أغلى وأكبر من مظاهرة تسحقها الدبابات.. أغلى من أن يُترك للتدمير، ونحن –الأدباء والعلماء والمفكرين- لا نحرّك ساكناً من أجل الإنقاذ..

إن العواصف الهوج قد اجتاحت وطناً عزيزاً، وصارت قريبة منا، ولن تصدّها أو تردّها تصريحات وتطمينات ومقابلات وخطابات وزيارات.. فهذه أسلاك شائكة لا تستطيع منعها ولا ردّها ولا تأخير اجتياحها عن اليوم الموعود المقرر لها.. لا يردها إلا شعب موحّد قوي مؤمن.. شعب تهمه أرضه، ويهمه مستقبل وطنه، وتهمّه سمعته، ونحن هذا الشعب.. نحن العلماء والمفكرين والأدباء والفنانين.. وكل فرد منا هو النذير العريان.. أو هكذا ينبغي أن يكون.. النذير العريان، فهل من مدّكر؟

موقع أدباء الشام 03 كانون ثاني 2004

*   *   *

ولّى عصر الانبهار

بقلم: عبد الله الطنطاوي

في أواخر القرن التاسع عشر، وحتى النصف الأول من القرن العشرين، كان كثير من مثقفي هذه الأمة، من الذين سافروا إلى أوربا للدراسة وسواها، مبهورين بما شاهدوه في أوربا أو أمريكا، من مظاهر التقدم العلمي والصناعي والعمراني. وعندما عادوا إلى أوطانهم، كانوا رسل تبشير بتلك الحضارة الباهرة، ينسون أنفسهم وتاريخهم وحضارتهم وثقافتهم، وهـم يتحدثـون عـن أضواء الحضارة الغربية في انبهار كان يبهر بعض السامعين من أصحاب مركبات النقص، فيقوم هؤلاء بدور المبشر المنذر. المبشر بما سمع مما رأى وشاهد، داعياً إلى الاحتذاء بالغرب، والاهتداء بالمنارات الشامخة هناك، تلك التي تجعل المآذن (البلدية) قزمة  قميئة إلى جانبها، ومنذرين بالويل والثبور، وعظائم الأمور، إذا أبقينا على تلك المآذن في القلوب والعقول.. إذا لم نستبدل بها تلك المنارات الغربية المتلألئة، بكل ما فيها من قيم وعادات وسلوكيات ربما لا تنسجم مع قيمنا العربية والإسلامية، ولامع عاداتنا وتقاليدنا.

وكانت الحركات الهدامة، من جملة تلك المستوردات التي جاءنا بها أولئك  المبهورون، وكانت الدعوة إلى فصل الدين عن قوانين الدولة، بل عن الحياة جملة وتفصيلا، منارة التقدم، والدواء الناجع للقضاء على التخلف الذي ورثنا إياه هذا الدين الإسلامي، وقال قائلهم: "دع ما لله لله، وما لقيصر لقيصر" والذي لله، هذه الصلاة، وذاك الصيام والحج وألوان العبادات الأخرى، وما لقيصر، هو هذه الحياة بما فيها من سلطان ودستور وقوانين وسياسة واقتصاد وأدبيات، وكل ما يمت إلى الحياة بصلة.. سمحوا للناس بالصلاة والصيام، ومنعوهم من إدخال الدين أو تدخله في أي شأن من شؤون الحياة.. كالسياسة، والاقتصاد، والتعليم وسواهما..

وكان التآمر على الدين وقيمه ومبادئه وأخلاقياته،، وكان ضياع فلسطين، وكان التمزيق للأرض والدولة الواحدة، وكانت الدويلات الإقليمية، وكانت الانقلابات العسكرية، ونشطت الدعوات الهدامة، وحكمت الأحزاب المشبوهة، وكانت الهزائم المتتالية على مدى الوطن العربي الكبير، وكانت المشاحنات والحروب بين الأشقاء.. كان كل ذلك نتيجة طبيعية لتلك الدعوات والحركات والأحزاب المرتبطة بالخارج، كما هي نتيجة طبيعية لعزل الدين عن الحياة، ولإبعاد (الأصوليين) عن الدولة، ولانبهار (النخب) المثقفة والحاكمة، بالحضارة الغربية، وما صاحبها من تبعية ودعم غربي: أوربي وأمريكي، للمنبهرين التابعين الذين كانوا حجر عثرة في طريق التنمية والتقدم، والذين كانوا من الساعين لتأكيد حضارة الاستهلاك من المنتوجات الغربية.

ولكن الشعوب العربية والإسلامية، برغم جهلها وفقرها وتخلفها، استعصت على تلك الدعوات المشبوهة، واستمسكت بدينها، وقيمها، وأخلاقها، وكانت أصالتها درعاً تكسرت عليها حراب المستغربين، ولكن هؤلاء، وبحكم تبعيتهم للغرب، ثقافة، وارتباطاً، ومن أجل الحفاظ على مناصبهم ومسؤولياتهم الكبيرة التي تصل إلى المسؤولية الأولى في الحكم، وبحكم دعم الغرب للأنظمة والحكام الموالين لهم... وبعدما أحسوا بانتشار الصحوة الإسلامية، وعودة المثقفين والشبان والطلاب إلى إسلامهم، وأن صناديق الاقتراع في صالح الشباب المسلم- ما كان من هؤلاء (النخب) الحاكمة إلا أن تترامى على أقدام الحاكمين في البيت البيضاوي، وإذا لزم الأمر، وجاءت التعليمات بتقبيل العتبات (المقدسة) في تل أبيب، فهم مستعدون لتقبيلها ومعانقة حاكميها، والائتمار بأوامرهم، وتنفيذ مخططاتهم في حماسة يحسدون عليها، مهما تعارضت تلك المخططات مع مبادئ الإسلام، وتطلعات الشعوب في السيادة الحقيقية، والاستقلال الحقيقي، ومهما تضاربت مع مصالح الجماهير.. إنهم مستعدون للتنازل عن الأرض والعرض والدين وسائر القيم التي يذود الزائدون عنها، لقاء تعهد (السادة) في واشنطن وتل أبيب بالمحافظة على المصالح الشخصية لأولئك، وبالدفاع عن كراسيهم التي احتلوها قهراً وغدراً وبمساعدات خارجية معروفة..

والغريب في الأمر، أن هؤلاء الحاكمين بأمر غيرهم من (السادة) كانوا –آنذاك- يفعلون فعلاتهم في السر ومن وراء الكواليس، ولكنهم الآن، لا يخجلون من المباهاة بها وعرضها في وسائل إعلامهم، دون أن يعرق لهم وجه، أو يحمرَّ خد، أو تتحرك شعرة في شارب أو رأس، بعد أن تبلدت الأحاسيس، وبعد أن استخفوا أقوامهم فأطاعوهم وطبّلوا لهم وزمّروا..

منذئذ، ما عاد الحاكمون يأبهون لشعوبهم التي قمعوها وأذلوها، وأهانوها، وجردوها من كل سلاح، ظناً منهم، أن حصونهم  (الأمريكية والصهيونية)سوف تمنعهم من غضب الله، ومن غضبات الشعوب المقهورة.

ولهذا كثرت التنازلات المذلة، وتسابق المتسابقون منهم نحو تقديم المطلوب وغير المطلوب منهم، إرضاء (للسادة) في عملية انهيار لا يساويها إلا انهيار الأنظمة الماركسية في المنظومة الاشتراكية التي صارت كرتونية بسوء حكامها. وتبعيتهم، وأنانياتهم، وانعزالهم عن شعوبهم التي كانت عدوة حقيقية لهم، كما كانوا هم أعداء حقيقيين لها، فداستهم شعوبهم بأحذيتهم، ورجمتهم بها.. انهيار أمام من حاولوا إيهامنا بأنهم صقور، وليسوا بالحمائم ولا الصقور، إلا أمام الديدان التي تتسلق، منتفخة على شعوبها، ذليلة خسيسة أمام تلك الزرازير والغربان.

إذا كان غيرنا قد شهد عصر انبهار المستغربين فيما مضى من الزمان، فإننا نشهد عصر انهيار الأنظمة والحكام في الحاضر وفيما يستقبل من الزمان، ليس تالياً على الغيب، بل رؤيا ضمير ورؤية عين.. "فإنها لا تعمى الأبصار، ولكن تعمى القلوب التي في الصدور".

موقع أدباء الشام 24 كانون ثاني 2004

*   *   *

شكوى العربية

بقلم: عبد الله الطنطاوي

كان يحدّثني، وكنت أستعيده الجملة بعد الجملة، والكلمة تلو الكلمة، فسألني:

- هل سمعك ضعيف؟

- بل هو حديد.

- إذن.. لماذا تستعيدني الكلام؟

- لأن نطقك ضعيف.. لأنك تأكل الكلمات والحروف.. لأنك تنطق حروفاً لا أعرفها.

قال، وهو يبتسم ابتسامة غامضة:

- ولكني عربي، وحروفي عربية، وكذلك كلماتي عربية، بل أنا لا أعرف غير اللغة العربية.

وكذلك شأن كثير من المتحدثين، والمدرسين، والخطباء، لا تكاد تفهم ما يتفوّهون به، مع أنه، كما يزعمون، كلام عربي، ولكنه غير مبين.. حتى إن بعضهم يتلو الآية على مسامعك، فلا تعيها إلا إذا كنت حافظاً إياها، وكذلك الحديث النبوي الشريف، والبيت من الشعر، والمثل من الأمثال..

لماذا؟

لأن المتحدث بها، ينطقها بلا شفتين، وكأنه أفلح أعلم، مشقوق الشفتين، فلا يكاد يبين.

بعض الخطباء يأكل آخر كلمة من كل جملة، أو بعض حروفها، فيضيع عليك المعنى.. لماذا؟ لست أدري.

وبعضهم يأبى أن يحرك لسانه الحركة المجزية للكلمة والحرف، لتخرج الحروف من مخارجها الطبيعية.

وبعضهم لا يحرك فكّه الأسفل.

وبعضهم لا يحرك شفتيه، وكأنهما لم تُخلقا لأداء وظيفة الكلام على وجهه الصحيح، فلا تخرج الحروف من مخارجها، بل من مخارج مختزلة، مبتذلة، فيضيع المعنى، ويفوت المقصود، لموت الكلمات وهي تطيح في الهواء الطلق، أو في الجوّ الملوّث بالضجيج.

إنني أدعو خطباءنا، ومحدّثينا، ومدرسينا، وشعراءنا، أن يبادروا إلى:

- قراءة الكتب التي تعلّم التجويد

- وإلى قراءة الكتب التي تتحدث عن فن الإلقاء

- وإلى سماع الأشرطة التي ترشد إلى كل ما تقدم، وأنصح بقراءة كتاب (النطق السليم) وسماع الأشرطة المصاحبة له، وهي للفنان القدير الأستاذ صبحي أبو لغد –رحمه الله- ففيه وفيها علم نظري، وتمرينات تطبيقية يومية على حركة الفك –الأسفل طبعاً- وحركة اللسان، وحركة الشفتين، فالمواظبة على قراءة هذا الكتاب، والاستماع إلى تلك الأشرطة، يصقلان الحروف، فتخرج إلى الآذان السميعة لتشنّفها، بعد أن صقلتها التجارب والتمرينات، لتصطف في ميادين الإتقان والإبداع.

إننا نظلم لغتنا الجميلة، ونسيء إليها بتقصيرنا تجاهها، وبتشويه بعض حروفها.

وكما بدأت بحادثة، أختم بأخرى معبّرة لمن يقوى على الاعتبار.

التقيت مرة في مدينة إستانبول، أحد إخواني الأدباء الأتراك، الأستاذ الكبير علي نار، حفظه الله تعالى، فسألني:

- أين كنت؟

أجبته:

- في السوء (أعني في السوق)

فقال في انزعاج:

- حاشاك من السوء.

ثم قال:

- لماذا تفعلون هذا بلغة القرآن العظيم؟

وأنا أتساءل الآن معه:

- لماذا نفعل ما نفعل بهذه اللغة الجميلة؟

  لماذا نسيء إليها، ونسيء إلى أنفسنا معاً؟

إني لأسمعها تشكو إلى خالقها العظيم:

"يا رب.. إني أشكو إليك قلة حيلتي مع الناطقين بي، وهواني على العرب الذين يسيؤون إليّ، ويقصّرون تجاهي، وأنا لغة قرآنهم، ولغة إسلامهم، ولغة أهل الجنة في الجنة..

اللهم اهد مفكريهم، وخطباءهم، وأدباءهم، وشعراءهم، وسائر المسلمين، إلى العناية بي، فعنايتهم بي تعني عنايتهم بقرآنهم، وإسلامهم، وعقيدتهم، وعبادتهم، وسائر شؤونهم الحيوية.. يا رب العالمين".                

موقع أدباء الشام 14 شباط 2004

*   *   *

الأدب الذي نريد

بقلم: عبد الله الطنطاوي

نظرة متأنية إلى ما قدمناه في هذا الموقع , تبينت حقيقة الأدب الذي نريده في هذه الأيام العصيبة , المليئة بالكوارث , و المآسي , و الفواجع , التي دخلت إلى بلادنا , و اقتحمت الأسوار الكرتونية التي تعب حكامنا الكادحون بإنشائها و ابتنائها , حتى أشفق رقيقو القلوب عليهم , و على عضلاتهم ,   وعلى أعصابهم من النصب والاحتراق فالحرائق في كل مكان من وطننا العربي  , و عالمنا الإسلامي , بحيث لم يبق قطر إلا و فيه من المآسي مالو وزع على أهل الأرض لوسعهم و زيادة...

ولو جسنا خلال الحارات العتيقة , و الأزقة التي كثر ما أنفق  أصحاب (الشهامة) من أصحاب (الفخامة) عليها , لوجد نا كل بيت قد فقد حبيباً أو أكثر , في الحروب العبثية , و تكاد تكون كلها بينية , و في السجون والمعتقلات التي لم توفر  شريفاً إلا و دهمته و نكبت أهله بواحد أو أكثر من أبنائها.

مضى القرن العشرون بخسيس الهزائم على سائر الصعد , و هاهو ذا القرن الجديد (يبشر) بالجديد من الهزائم النفسية و الفكرية و العسكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية , و(أحباؤنا) الحكام (البررة) يسعون بين البيوت السود التي يحسبونها بيضاً (كبرت صورة تخرج من عيونهم) من أجل إرضاء  ذوي العيون الزرق و البشرة الشمعية هناك , وأصحاب القبعات الصغيرة هنا.. بقربنا..فوق أرضنا.. داخل قدسنا.. على أرض فلسطيننا.. من شامير إلى رابين , و من بيريز إلى باراك فالشارون الأحقر..

فهل بعد هذا (المجد) من مجد نسعى إليه , و نريح قلوبنا التي تموت كل يوم ألف مرة من شدة (الفرح) بمايقترفه (الشوارين) و اتباعهم من أجل سلام (الشجعان) في غزة و الضفة و العراق , و بما يقدمه (الثوار) لنا نحن الفقراء البسطاء المستضعفين على أيديهم , المقهورين بأيديهم , المقتولين, المنفيين بأيديهم، المعتقلين بأيديهم، المنكوبين بأيديهم... قاتلهم الله أنى يؤفكون. هل تدع لنا كل هذه (الأمجاد) فرصة للتغزل بذوات العيون النجل , و القدود المياسة و ذوات الدل و الدلال ,؟

لا يا سادة

لا يا شعراءنا وأدباءنا وكتابنا ومفكرينا , فالوقت جد و ما يراد بالمنطقة خطير  , فالخرائط ترسم من جديد , و سوف تكون الحدود غير الحدود , و سوف تكون الدول غير الدول..

ستحتوي الخرائط الجديدة على كيانات أو كانتونات جديدة , تريح بني صهيون  أكثر مما هم مرتاحون الآن و طوال الخمسين سنة الماضية. لا نريد الغزل.. و نريد الإنجاب.. فنحن مقبلون على حروب حقيقية , لا كتلك التي (خاضها) عنا الحاكمون بأمرهم..و سوف نحتاج إلى ملايين المجاهدين لإيقاف الغزاة من الخارج و الغزاة المستبدين من الداخل.

نريد حداة الركب ,حماة الحمى , يشدون العزائم , و هم يحدون بالجهاد , و يهزجون للقتال , و يضفرون تيجان الغار للمنتصرين على أنانياتهم و مصالحهم و شهواتهم.

نريد الأدب الذي يتناسب مع طبيعة الحياة المتفجرة التي تجتاح منطقتنا العزيزة على أهلها الأحرار , الأبرار, التي غدت ذليلة بفعل الأذلاء من المفروضين عليها أمام أبالسة الفرنجة ليذلوا الشرفاء من أبناء هذه الأمة المجاهدة التي لا ينبغى لها إلا أن تكون أمة الجهاد و الاستشهاد , حتى تقف أمام سيول التتار القادمين من وراء البحار , حيث البيوت السود , والقلوب السود , و العقول السود , منتجة أسلحة الدمار الشامل التي لم يستخدمها سواهم , و يبدو أنه لن يستخدمها اليوم و غداً سواهم..

من هنا ينبغى أن نبدأ و ننطلق و نواصل المسير المبارك قبل أن تحل بنا الندامة و لات ساعة مندم.

ماذا تريد الأمة من أدبائها

بقلم:عبد الله الطنطاوي

في النصف الثاني من القرن الماضي، عندما كشرت أمريكا الهمجية عن أنيابها الزرق، وحاولت افتراس بعض الشعوب والدول الصغيرة المستضعفة، في فيتنام، وكوريا، وبعض بلاد العرب، وبعض الدول الإفريقية.هبّ أدباء العرب وشعراؤهم  وفنانوهم ينافحون عن تلك الشعوب، وامتلأت الصحف من جرائد ومجلات بقصائدهم ومقالاتهم وقصصهم ومسرحياتهم ورسوماتهم، وكذلك كان من بعض الإذاعات العربية الرسمية، وكل الإذاعات والتلفزيونات العربية رسمية.. 

.. انطلق هؤلاء ينددون بوحشية أمريكا، وبأطماعها، وبانتهاكاتها الخطيرة للكبير والصغير من حقوق الإنسان، ولو جمعنا أو أحصينا ما كتبوه في هذا الميدان الإنساني الرحيب، لكان لنا منه مجلدات في سائر الأجناس الأدبية.

وقد رُبّينا على ذلك الأدب في خمسينيات القرن العشرين وستينياته وسبعينياته، فما بالنا لا نقرأ ولا نسمع إلا القليل من الأدب المقاوم في هذه الأيام التي يخوض فيها مجاهدو الأمة وشرفاؤها من الشباب أضرى المعارك في فلسطين الحبيبة، وفي العراق المظلوم؟

ما بال فناني هذه الأمة المنكوبة بالكثير من أبنائها، حكاماً وشعوباً، علماء ومثقفين، ما بالهم يملؤون وسائل الإعلام، وخاصة المسموعة منها والمنظورة، رقصاً، وميوعة، وانحطاطاً أخلاقياً ما عرفته أمتنا في غابر أيامها؟ حتى إن المشاهد لما تبثه الفضائيات يحسب أننا نعيش أسعد أيامنا وأحلاها، وكانت بلادنا محررة مستقلة، من كل غزو خارجي استيطاني جاء يهلك الحرث والنسل، ليذل الكرامات، ويقضي على ديننا، وقيمنا، وينهب ثرواتنا، ويجعلنا عبيداً ليس لنا من رسالة في هذه الحياة سوى خدمته، والتسبيح بحمده، فقد جلب إلينا (ديموقراطيته) العجيبة، كما كان جلب لنا هذه الأنظمة الثورية التقدمية، لتذل الشعوب، وتنهب خيراتها، وتحكمها بالحديد والنار..

كأن الجولان قد تحرر وعاد إلى وطنه الأم، سورية الجريحة التي تئنّ تحت ثقل حاكميها الذين لم يدركوا حتى هذه اللحظة، أن السلطة التي أهدتهم إياها أمريكا ذات يوم، قد قررت أمريكا نفسها سحبها منهم، فقد انتهت أدوارهم الخسيسة تجاه الشعب السوري الأبّي الذي عملوا على ترويضه أكثر من أربعين سنة، وباؤوا بالفشل، لأنه شعب حيّ ذو كرامة ودين، وإذا طأطأ رأسه طوال أربعة عقود، لئلا تُهدَّم مدنه وقراه وأحياؤه ومنازله، ولئلا تهتك أعراضه، ويزج بنسائه وأطفاله في السجون والمعتقلات، ولئلا يُقتل أبناؤه في الشوارع، والبيوت، والأسواق الشعبية تحت ذرائع مختلفة، وكلها زائفة مكذوبة..

إذا طأطأ شعبنا رأسه ذات ليلة سوداء ممتدة في الزمان والمكان، حتى وصلت إلى باريس (صلاح البيطار) ومدريد (نزار صباغ) وألمانيا (بنان الطنطاوي) وسواها من البلاد الأجنبية والعربية.. إذا فعل شعبنا ذلك، لقسوة حاكميه، فإنه قد بدأ يتململ، وسوف يثور وثورته – هذه المرة – لن تبقي من الظالمين الفاسدين ولن تذر..

وكأن بلادنا العربية قد تخلصت من طواغيتها، وأكابر مجرميها.. ولذلك انطلق الراقصون والراقصات، في كل بقعة إعلامية، وفي الفضائيات، كما في السينما، والمسارح..

يا أدباءنا وفنانينا وشعراءنا وكتابنا..

يا علماءنا ومفكرينا..

الدماء الزكية على أرض المقدسات فلسطين، والعراق، وكل مكان وطأته أمريكا المتخلفة قيماً إنسانية.

الأوطان المحتلة في فلسطين والعراق وجولان سورية الحبيب..

والشعوب المقهورة التي يستذلها طواغيتها ومجانينها المتأمركون والمتصهينون والشعوبيون..

كلها تستصرخ ضمائركم، وعقولكم، وقلوبكم، وأقلامكم، ونخوات العروبة والإسلام في دمائكم، لتجعلوها في الأوائل من سلالم أولوياتكم في هذه الحياة التعيسة البائسة التي تحيونها وتعيشونها مع شعوبكم.. فهل أنتم تسمعون استغاثاتها؟

موقع أدباء الشام 13 آذار 2004

*   *   *

أما آن لهذا الليل أن ينجلي ؟ !

بقلم: عبد الله الطنطاوي

أما آن لهذا الليل أن ينجلي ؟ ! 

 فقد طال هذا الليل و استطال حتى ظننا أنه ليس بمنقض , إلا أن ينزل الله به قاصمة. ظن بعض الناس أن عهد حمامات الدم قد انقضى بمجيء عهد جديد , و أن هذا العهد سوف يقلم أظافر الأجهزة القمعية , و يسير بالبلاد والعباد سيرة ديمقراطية , تحترم فيها الحريات  , وتصان الأرواح والدماء , بإلغاء قانون الطوارئ والأحكام العرفية وسائر المراسيم والقوانين والمحاكم الاستثنائية , تلك التي ألغت الدستور الذي فصّل على قدّ الحاكم , واختصم الناس في العهد (الجديد) بين مصدق لوعود عهد (القسم )  ومكذب , فالسياسيون المخضرمون لم يثقوا بتلك الوعود , واعتبروها تمرير مرحلة , والسياسيون البراغماتيون والمنتفعون من كل عهد , المصفقون لكل قادم , قالوا: اصبروا و سوف ترون. و صبرنا , و فعلاً رأينا: رأينا الظلم ما يزال يجثم على صدور الناس , و رأينا العسف يغتال الحريات و الكرامات و يأكل سائر حقوق الإنسان المواطن... رأينا استمرار الاعتقالات وامتلاء السجون بالمعتقلين , وإذلال المواطنين على سائر الصعد , في الداخل و الخارج على حد سواء , و ها نحن أولاء نشاهد الدم السوري يراق في عدد من المحافظات السورية و نسمع الادعاءات الكاذبة , و الاتهامات الملفقة لكل مواطن يصيح بصوت مخنوق: آخ...في القامشلي و عاموده و ديريك و راس العين و عين العرب كما في حلب و عفرين و جنديرس و دمر و سواها من المدن و القرى... اتهامات تربط تلك الآهات بالخارج و كأنها تريد أن تدفع الناس دفعا للتفكير بـ....

الأكراد مواطنون سوريون و منذ مئات السنين كان منهم – قبل الثامن من آذار 1963 – الضابط الكبير , و الضابط الصغير و الرقباء , و المساعدون , و الجنود , و الموظفون , و النواب , و التجار , و العمال , و الفلاحون , و الطلاب...ثم عدا عليهم العادون , فسحبوا منهم جنسياتهم السورية , و أخذوا أراضيهم , و أعطوها ناساً غيرهم , و ما إلى ذلك من مظالم يعرفها كثير من السوريين.

و قد طالبوا بحقهم هذا , و لهم الحق بهذه المطالبة , فهم مواطنون سوريون و لهم كما لسائر المواطنين السوريين و عليهم ما عليهم , و أيدهم في مطالبهم الشرعية هذه سائر السوريين ما عدا الحاكمين بأمرهم.

ثم كانت الحوادث المؤسفة المؤلمة في القامشلي و لو كان الحاكمون (أولي أمر)حقيقيين يخافون على الوطن و المواطنين لبادروا إلى مراجعة تلك القوانين الجائرة و أعادوا إلى المظلومين ظلاماتهم و لم يسارعوا إلي اتهامهم بالارتباط بالخارج كما اتهموا من قبلهم كل من انتقدهم  من الإخوان المسلمين إلي الشيوعيين , إلى البعثيين (القوميين)إلي رموز (ربيع دمشق)- و ما أقساه – إلى نواب أحرار في مجلس (الشعب) إلى غيرهم من المواطنين السوريين الذين ما عرفوا الذل و الانكسار إلا في عهد الحزب القائد.

يا قوم.. أليس فيكم رجل رشيد ينبهكم إلى ما تجرون البلاد و العباد إليه من و من و من ؟

نحن هنا – في رابطة أدباء الشام – لن نضع أيدينا على خدودنا و نترك لدموعنا العنان لتسح دماً قانياً على ما ستؤول إليه أحوال وطننا الحبيب جراء هذه السياسة الاستبدادية الجائرة المستهينة بمصائر الوطن و أبنائه.

سوف نكون في ركاب الأحرار الذين قلوبهم على الوطن , و نناشد أشقاءنا الأكراد أن يبقوا مع أبناء سورية الحبيبة كما كانوا دائما  و أن يناضلوا الاستبداد و أن يقاوموا الفاسدين الذين لا يهمهم و طن و لا دم.. و كل أحرار سورية معكم في نضالكم الشريف من أجل إعادة الحقوق إلى أصحابها السوريين المظلومين عرباً و أكراداً , فنحن العرب السوريين مثلكم أيها الاخوة الأكراد السوريون فقد أخرجونا من ديارنا و قتلوا عشرات الآلاف منا و استولوا على بيوتنا و أملاكنا , و حرمونا حتى من الوثائق التي تثبت جنسيتنا السورية منذ ربع قرن , و نحن مشردون تحت كل نجم... نحن الآن ثلاثة أجيال بلا وثائق , مثل الآلاف منكم , و قد صبرنا و ما نزال , حتى يحكم الله بيننا و بين ظالمينا بالحق , و الشعب كل الشعب معنا , و الله معنا , و لكل أجل كتاب.

موقع أدباء الشام 20 آذار 2004

 

* يوسف بن إبراهيم العظمة: (1328/1884ـ 1338/1920) بطل معركة ميسلون، ولد في دمشق ونشأ بها، ينتمي إلى أسرة اشتهرت بنباهة رجالها، ومنهم مشاهير في السياسة والقانون والطب، سافر إلى الاستانة لدراسة العلوم العسكريّة، وتخرّج من المدارس الحربيّة العليا في إستانبول وبرلين، وكان يجيد العربيّة والتركيّة والألمانيّة والفرنسيّة، وانتسب إلى (جمعية العربيّة الفتاة) و(حزب الاستقلال) حارب في بلغاريا ورومانيا، ورافق أنور باشا خلال رحلاته إلى الأناضول، واختاره الملك فيصل بن الحسين مرافقاً فرئيساً لهيئة أركان الحرب، ثم تولى وزارة الحربيّة، سقط شهيداً في ميسلون على أبواب دمشق، وكان يوم اسنشهاده في قمّة الرجولة والبطولة والتضحية.

* الأمراني: حسن بن عمر بن السعيدي: (1368/1949 ـ معاصر): أديب إسلامي، شاعر قدير، عضو اتحاد كتاب المغرب، عضو رابطة الأدب اٌلإسلامي، ورئيس مكتب الرابطة بالمغرب، رئيس تحرير (المشكاة)، وعضو (رابطة أدباء الشام)، ولد في مدينة وجدة بالمغرب، تخرّج بكليّة الآداب بجامعة فاس، نال درجة الماجستير من جامعة فاس وموضوع أطروحته: (شعر قيس بن الحطيم) ودرجة الدكتوراه من جامعة الرباط وموضوعها: (المتنبي في دراسات المستشرقين الفرنسيين)، اشتغل بالتدريس في مدارس وجدة، ثم التحق بالتعليم الجامعي أستاذاً مساعداً بكليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة بوجدة، ثم تولى رئاسة شعبة اللغة العربيّة فيها، له إنتاج أدبي يدل على سلامة منهجه الفكري، ودقّة أدائه الفني، يتمثّل في عدد من الدواوين والأبحاث الأدبيّة منها: (أشجان النيل الأزرق) 1998، و(الحزن يزهر مرّتين) 1974، و(مزامير) 1975، و(القصائد السبع) 1984، و(الزمان الجديد) 1988، و(مملكة الرماد) 1988، و(ثلاثيّة الغيب والشهادة) 1989، و(جسر على نهر درينا) وسواها كثير.