رواية (قبل اكتمال القرن) للمبدعة "ذكرى محمد نادر" (3)

د. حسين سرمك حسن

تحليل خمسين رواية عربية نسوية :

رواية (قبل اكتمال القرن)

(قرن الخراب العراقي العظيم)

للمبدعة "ذكرى محمد نادر" (3)

د. حسين سرمك حسن

وحين أقول إن الواقع السردي لا يتفق والواقع الموضوعي حتى لو اتفق معه في الظاهر، فلأن العملية السردية تُصاغ أولا في اللاشعور ثم تمر من حاجز "قبل الشعور" حيث الرقابة لتتشكل في صيغتها النهائية على ساحة الشعور - بعد ذلك - فيتنكّر أصلها اللاواعي المحمل بالحفزات والدوافع العميقة التي هي أصلا منافية للقواعد والقوانين التي تحكم "العمليات الثانوية – secondary procecces" التي تسير وفقها العمليات الإدراكية الواعية.

تتحدث الكاتبة عن حال قوات طاونزند المحاصرة في الكوت حصارا خانقا من قبل القوات التركية .. قوات يعاني أفرادها من الحرمان بكافة اشكاله ؛ جوعا حتى أنهم أكلوا جيادهم وكلب قائدهم "فيدو" الصغير، وإحباطا لأنهم لم يجدوا على الأرض تلك الصورة التاريخية التي اختزنتها ذاكرتهم عن عوالم ألف ليلة وليلة السحرية وبساط علاء الدين الخرافي. ما وجدوه حقا هو :

(جنّة الدموع المخيبة لآمال الجنود الزاحفين إلى غبار الأساطير والحكايات ، ليجدوا باشمئزاز كبير ، بلادا ، لا تشبه الحلم، تحوّلت بعد قرون طويلة من الاستلاب إلى نفاية مطحونة، وجموع هالكة تحمل عيونا تجول فيها نظرات متسائلة عن مصيرها، غير مدركة في أية كفة سيدار زمنها- ص8)...

وجنسيّاً وعاطفيا حين لم يجد الجنود الشبقين نساء علي بابا الملتفات بغلالاتهن الرقيقة فصاروا يمررون منافذ لمتعتهم تحت أستار غريبة مثل الديك الرومي الذي كان يبيت كل ليلة في أحضان ضابط:

( حتى اعتاد الديك اللعبة وأحبها، فكان يجد سبيله الخاص في العثور على شريك الليلة الأخرى ، فيحتك بساقه بحركات رشيقة موحية ، وقد وجد بطنه مليئا بأشياء غريبة لم تُهضم : أزرار ضائعة .. أقلام ملونة.. وسام صغير .. وبضجة كبيرة وُجدت أيضا إبرة الكرامافون المختفية منذ شهر منصرم - ص 10 ) .

وإذا كان زمن الواقع الموضوعي – والسرد التقليدي- مستقيما ، كما قلت ، فإن زمن السرد في الرواية الحديثة – ورواية "ذكرى" هذه منها - هو زمن قد يأخذ أشكالا غريبة مضافة ؛ قد يقفز ويخلق فجوة في السرد طاويا سنوات الزمن الفعلي إلى دائرة واقعة متقدمة تقدم عنها الكاتبة خلاصة موجزة صادمة ثم تعود بعد ذلك إلى السياق التسلسلي "المنطقي" الفيزيائي. فإذ تتحدث الكاتبة عن الكيفية التي انتشرت فيها سمعة فتيان الرضواني بين الناس كمقاومين شجعان ، وكيف نُسجت عنهم - بحنان - أساطير مذهلة جعلت (الشمرّية) تهيم بفتى الرضوانية وتخطط لاصطياده وإيقاعه في حبها ، فكان لها ما أرادت حيث خططت للسير في طريقه فجرا فانسحر برؤية جمالها الخارق .. وتزوجها فورا :

( أشهد أصحابه على زواجه منها، وتحت شجرة وارفة وفوق أوراقها المتساقطة صنع فراشه الأول ، ناما تحتها حتى المغيب، تنخر قربه فرسه الجميلة مللا وغيرة- ص 18).

ومن عرض تفصيلات ليلة زفاف الرضواني على الشمرية تقدم الكاتبة لمحة عن المأتم الذي الذي أقيم على روح الشريف الرضواني البدين (الأب) ، وسلوك الشمرية المستفز فيه.. وانشغال الرضواني الإبن بمضاجعتها ، تعود لتحكي لنا الكيفية التي اصطادت بها الشمرية فتاها الرضواني ؛ هي حركة ذهاب وإياب موجزة زمنيا توسّع خطاها بدرجة كبيرة جدا بعد أسطر حين تنتقل من زواج الرضواني بالشمرية إلى بيته الذي بناه بعيد الحرب العالمية الثانية على واجهة نهر دجلة . لقد قدمت لنا لمحة سريعة اختصرت عقدا من حصار الكوت ورؤية الجنرال الأسير لمتحدّيه الفتى الرضواني بالقول أن مأتم الرضواني الأب حضره مندوب الملك ورئيس تشريفات ديوانه. إن هذا الإختصار ضروري جدا. في حين يقع كتاب آخرون في مصيدة الترهل الزمني من خلال وصف أدق التحولات الواقعية بطريقة تذكرنا بأسلوب جماعة (بلزاك) ؛ فحين يريد بطل "بلزاك" شراء سلعة من متجر فإن الكاتب يصف المقاهي والبارات والبيوت والمارة والأكشاك التي تقع في طريقه . وإذا كان (الشعر هو فن الحذف)، حسب التعبير الرائع للراحل (محمود درويش) ، فإن الرواية هي الفن الذي يجب أن يكون أولى بذلك في مواقف محسوبة مثل هذه التي قامت بها ذكرى محمد نادر. بالإشارة السريعة إلى حضور مندوب الملك مأتم الرضواني الأب ، نكون قد انتقلنا من الحرب العالمية الأولى إلى تأسيس النظام الملكي في العراق . ثم بالإشارة الموجزة إلى أن الرضواني الإبن قد بنى بيته على واجهة دجلة بعيد الحرب العالمية الثانية نكون قد قفزنا عقدين تقريبا . وإذا كانت هذه النقلة قد جاءت هادئة حيث وصفت الكاتبة بعد ذلك مكونات هذا البيت في ثمانية سطور ، فإنها تحقق نقلات واسعة لكن صادمة بعد حركة "استدراجية" تُطمئِن المتلقي وتخدّر حاسة الاستقبال لديه نسبيا لتأتي الواقعة الفاجعة بصورة مباغتة . فبعد أن تتحدث باسترخاء عن حديقة بيت الرضواني الجديد ، وكيف أن اشجار النارنج تملأ الأرض في الربيع بقداحها المتساقط بتيجان صغيرة بيض وطرية تحيط بنخلتي الحوش ، تخز انتباهتنا المغيبة - بقوة - حين تُكمل فورا بالقول :

(نخلتي الحوش اللتين نالتا عن جدارة لقب غلتي فجيعة الملّا الأولى : فعلى إحداها علّق "خليل" أصغر أبناء الملا لرضواني في لحظة يأس وخذلان مشنقته الحزينة، بعد أن أدرك أن زوجته قد حملت من البستاني أول أبنائه، فيما كان هو بصدره العليل يبحث عن مجد مقعدٍ في مجلس النواب ليسحر به زوجته الفتية - ص 19).

هذه الأسطر الأربعة هي شفرة الحكاية التي ستليها حكاية خليل ابن الرضواني العاجز جنسيا مع زوجته المُحتدمة الشهوات الباحثة عن قسوة الإشباع وطغيانه لا عن الحنان الرومانسي ، وكيف بذل الملّا أبوه المستحيل كي يحصل له على مقعد في مجلس النواب. ثم طبيعة إحباطه الساحق الذي أوصله إلى الانتحار. وهناك "رجعات" داخلية في مسار الحكاية تعيد الكاتبة فيها التذكير بموت خليل وكأنها لازمة موسيقية عنيفة توجع الروح والآذان بين حركات سمفونية:

# في الاستهلال البرقي السريع لشفرة الحكاية :

(على إحداها عَلّق خليل أصغر أبناء الرضواني في لحظة يأس مشنقته الحزينة ..)

# مُفتتح فقرة الحكاية الثانية :

(دشّن قبر خليل أرض البستان الخلفي الواسع المُكتظ بالنخيل ..- ص19)

والذي تشير إلى أن فتى الربابة وحده ، بعد أن شاخ وأصابه العمى كان يتلمس تراب قبره ، أي أننا تقدّمنا عقودا طويلة من حياة فتى الربابة الذي وُلد قبل مفتتح القرن العشرين بسنة واحدة.

# مُفتتح الفقرة الثالثة:

(فُجِع الملا بموت خليل .. – ص20)

لتتحدث عن حالة الإكتئاب التي ألمّت بخليل وتجواله الضائع في حقول القمح وتأزّم صلته بزوجته الفتية .

# مُفتتح الفقرة الرابعة :

( مع صباح ملائكة الفجر، وآذان ناعس وجده الملا معلقا على النخلة، تؤرجح الريح الشمالية جسده المزرق..- ص20)

لتصف مظاهر الموت في الجثة المتأرجحة وردة فعل الأب المثكول الذي قَبّل القدم الباردة المُتراقصة.

# التكوين الشبكي :

-------------------                                                                                           مع تصاعد وقائع الرواية ، وتعدّد شخصياتها ، وتشابك علاقاتها ، واتساع المراحل الزمنية ، تلجأ الكاتبة إلى ما يمكن أن نسمّيه بـ (التكوين الشبكي) في سرد الحوادث . هنا تنتشر الوقائع مثل عُقَد شبكة الصيد حيث تستطيع الوصول إلى أي (عقدة) فيها من مسارات مختلفة وعبر تنقلات متعددة مثلما يمكنك أن تنطلق منها نحو أيٍّ من العُقَد المُجاورة .

وهناك أيضا تقنية " الصورة المُقطّعة " التي لجأت إليها في أكثر من موضع من روايتها ، حيث يكون لزاما على القاريء أن يدخل مشاركا في ترتيب أجزاء الصورة المقطعة كي تكتمل ملامحها . ما يهمني هنا هو أنها تختار التقنية السردية المناسبة لطبيعة البنية الزمنية للواقعة .  

# التقنية الإستباقية :

--------------------- 

وحين نتأمل بناء جملة ذكرى ، ثم بناء العبارة ، فالفقرة، فسنجد أنها "متضادة" عاطفيا بصورة مقصودة ، يجتمع فيها السلبي بالإيجابي.. القبح بالجمال.. القلق بالطمأنينة .. وباختصار : الموت بالحياة. وهذه سمة أسلوبية تسم هذه الرواية بأكملها . خُذْ هذه الفقرة التي نتحدث عنها على سبيل المثال لا الحصر، حيث تستهلها الكاتبة بعبارة تقول فيها :

( مع صباح ملائكة الفجر ، وأذان ناعس ، وجده المُلا مُعلّقا على النخلة تؤرج الريح الشمالية جسده المزرق)

وستلاحظ طرفي التضاد، بين هدأة صباح الملائكة وأذان الفجر الناعس ، والمشهد المروّع للإبن المشنوق. تعقب ذلك بعبارة أشد فتكا تجمع مشهدين متناقضين، تتعزز شحنة فعلهما في النفس بهذا التناقض ذاته، حيث تربط بين مظاهر جثة المشنوق المُغثية المُستفزة واسترخاء زوجة الإبن في الغرفة الوردية:

(اندلق لسانه طويلا ، ومال رأسه بلوعة عتبٍ لم يصل شفتيه إلى جهة اليمين ، حيث ترقد زوجته الفتية دافئة في الغرفة الوردية المُعدّة حديثا- ص20).

ثم تكمل الفقرة الدامية بصورتين؛ حالتين نفسيتين، متناقضتين ، بـ "أطروحة" حياة حزن الأب الملتهب بفجيعته ، و "طباق" موت انفعال الإبن الموغل في صمت ملكوته المُنكسر:

( تسمّرت عيناه في الجثة الحبيبة. كان الدمع يتكسر في حنجرته وهو يُقبّل القدم الباردة المتراقصة في ملكوت صمتها المُنكسر – ص 20) .

تتكرّر هذه التقنية "الاستباقية" في حالات كثيرة جداً منها ، مثلا ، حادثة وفاة الرضواني. فقد فُجِع الرضواني - ثانية - بوفاة غريبة لابنه الثاني "طه" ، الشاب الفتي ، المُشتعل حيوية ، والذي لم يتجاوز العام التاسع عشر من عمره. لم يكن يشكو من عارضٍ مَرَضي أبدا. كان يحسب الأيام المتبقية لسفره للدراسة في الخارج. ولكن فجأة، ومع مغيب الشمس، و "ذكرى" تهيّء المسرح - تماما - لاستقبال ضربة الموت العنيفة ضابطةً حتى الحركة الكونية ، احتقن وجهه وصار الدم ينفر من أذنيه . وذكرى - وهذه سمة أسلوبية أيضا - "توغل" تماما ًفي رسم الصور المدمرة ؛ صور الخراب بكافة تدرجات اللون الأسود ، في حين انها ، وبالمقابل ، توغل في تصوير مشاهد تفتّح إرادة الحياة وخلجات الحب بكل تدرجات ألوانهما الباذخة. في الموت تلتقط تفصيلات تبدو في الظاهر بسيطة ، وعابرة ، بل مُبتذلة ، لكنّ موقعها الدقيق والمُعبّر الذي تختاره له الكاتبة ضمن إطار "الصورة الكلية – gestalt" يمنحها شحنة عاطفية عارمة في روح المتلقي. والصورة التي ترسمها الكاتبة للموت ، تشعر وكأنها لا تكتفي بها أو تُشبع نوازعها السادية (وهي مقلوب المخاوف المازوخية المتأصلة من الموت) المُتستّرة بالمطامح الجمالية ، فتعود ثانية ، وثالثة ، لتعالجها - من جديد - وتعصرها حتى ثُمالتها السوداء :                                     

# تصف مرض "طه" المفاجيء أول مرة ، فـ "تنزل" لتقدّم خفايا الأعراض التي لا يعرفها أحدٌ إلا هي:

( مع المغيب شعر بدوار ، بصق الدم من بين أسنانه. احتقن وجهه وصار الدم ينفر من أذنيه ، ونزح خارج فتحة مِقعده ، مخلّفا بقعاً كبيرة على سرواله ، كأسفنجة مُشبعة بالدم كان يرشح من كل مكان. فزع أصحابه. كانوا مذهولين يتابعون بخوف رشيش الدم غير قادرين على عمل شيء سوى الصراخ . حملوه إلى البيت . في كل خطوة يتركون بضع قطرات من الدم يلتهمها التراب العطشان ، فتتكور القطرات الصغيرة المتساقطة ملتفة كعجينة صغيرة – ص 28).  
– بعد سطور تُصوّر فيها انفعال الأب المذهول بدماء ابنه الشاخبة من كل مكان ، والأم الشمّرية المُولولة ، تعود – الروائية - إلى تقليب حالة الشاب المُحتضر على وجه آخر :

( شخصت عيناه برجاء ملهوف أباه، وانطفأت نظرة وداع أليفة في عينيه ، وسال خيطٌ رفيعٌ من الدم مصحوبا بدمعة أخيرة ، سرح من زاوية عينه اليسرى وتوقف عند نهاية صدغه بخطٍ مائل تساقط بقطرات مدورة حُمرٍ على وسادته ، خملت بعد قليل وتخثرت مع الصرخة القوية التي أطلقتها الزنجية – ص 28).

# ولا تترك الكاتبة ميتة "طه" ، وهي تلاحق أخاه الأكبر (مرتضى) ، لتعود إليها في استهلال الفصل الثاني:

( غلّفت الأحزان قلب مرتضى بموت أخيه طه المُحيّر. كانت قطرات الدم المتدلية كعناقيد ناضجة للألم تطلع إليه في كل لحظة دون أن يحاول القيام بأيّ مجهودٍ لمسحها من عينيه - ص37).

بعد هذه الكارثة انحطّتْ مقاومات الرضواني ، واهتزت ركائز وجوده الذي كان خارق الصلابة سابقا. لا تنتظر الكاتبة سير الزمن لتحق حلقاته المُقدّرة لتقدم لنا موت الرضواني كتحصيل حاصل لكوارثه الماحقة : موت ابنه خليل مشنوقا .. وطه نازفا حتى الهلاك .. وشبح أخته الصغيرة المغدورة يلاحقه حتى الموت ؛ أخته التي تعلّق قلبها بجندي هندي جاء مع جيوش طاونزند. لم يتوان عبد الرحمن في الإشراف على ذبح الهندي المسكين . ووصف ذكرى لمشهد ذبح هذا الهندي العاشق ذي الحظ العاثر مشهدٌ فذٌ تستجمع فيه كل طاقاتها التصويرية التي يحفزها بقوة مهماز الدوافع السادومازوخية :

( ذُبح الهندي المنكود العاشق عند قدمي الفتاة المربوطة على وتد الألم ، تحز الحبال الخشنة خاصرتها ويديها وتفتح عينيها على فجيعة موتٍ ألجمتها ، شخب دمه في زحف سريع إليها ، وتسلّق برطوبته الحمراء قدميها وأطراف ثوبها . رأت وهي تفتح عينيها على اتساعهما كيف رفس الفتى برجليه دون أن ينطق سوى بحشرجة يائسة. انفتحت رقبته النحيلة بعد حزّةِ سكين واحدة لا غير من يد حارس الرضواني الجبّار . وقف على رأسه المقطوع بفوهة حنجرته وبخارها الدافيء شاردا من ذلك الثقب الأحمر ، وضع قدمه فوق صدر الهندي التعس يمتزج دمُه بزيت بلواه . شهقت الفتاة ، عضت لسانها المبيض .. وماتت – ص 23).