لا يكفي أن يمدح بعض العرب بطولة غزة ويمجدوها

حماد صبح

في كل جولة قتال بطولية تشتبك فيها غزة مع إسرائيل يتدفق المديح والتمجيد على غزة من أكثر العرب ، على المستوى الشعبي تحديدا ، بأنها أعادت إليهم شيئا من كرامتهم القومية التي يشعرون عميقا بأن إسرائيل وأميركا لا تتوقفان عن وطئها وازدرائها . ويركز هؤلاء العرب في مديحهم وتمجيدهم على شجاعة أهل غزة ، وأن هذه الشجاعة عرت في سهولة وسرعة ما في نفوس الإسرائيليين من جبن ، فهم يندفعون متصارخين هلعين إلى الملاجىء ، وبعضهم ينتحب ، وبعضهم ينهار عصبيا . المديح والتمجيد يكشفان عما في نفوس المادحين والممجدين العرب ، من بين أشياء كثيرة ، من شعور بأن غزة جزء عضوي منهم ، وأنهم عمقها العريض ، وهذا حسن ومتوقع من أبناء الأمة الواحدة خاصة في زمن قلت فيه تجليات الشعور القومي العربي  ، ولكننا نشعر بأنه ينقص بعض هؤلاء المادحين والممجدين  الوعي الصحيح بما تقاسيه غزة أثناء وبعد كل جولة قتال مع إسرائيل حيث لا مجال لأي موازنة بين قوة الطرفين وملاءمة ظروف كل طرف له ، والإسرائيليون يتباهون بأن نسبة تفوقهم في القوة على غزة هي ألف إلى واحد . وغزة في جولات القتال تلك أقرب إلى الحقيقة التي تجسدها عبارة " مكره أخاك ... " ، وأحذف بقيتها ، وهي " ... لابطل " ، فلا أحد يملك القدرة على نفي بطولة غزة التي أعيت إسرائيل ، وأوقعتها في حيرة لم تقع فيها منذ وجودها في 1948 . ومراقبة حوارات الإسرائيليين واقتراحاتهم حول غزة تبين عسر وتعقد هذه الحيرة ، وما في وسائلهم للخروج من دائرتها من عيوب وسذاجة وأخطاء وتهرب من الحقائق ، وما فيها أحيانا من صواب وجودة فهم وواقعية لا تترك تأثيرها على صاحب القرار السياسي الإسرائيلي لتحدث تحولا استراتيجيا حاسما في تعامله مع غزة ومجمل القضية الفلسطينية .

وعاد نتنياهو بعد جولة اليومين الأخيرين التي سماها الجيش الإسرائيلي " حملة الحديقة المغلقة " إلى مسلسل العيوب والسذاجة والخطأ المزمن ، فأعلن بعد إحاطة عن الحالة الأمنية في مقر القيادة الجنوبية التي تقع غزة في اختصاصها ، والتي كانت أول من اقترح بعد الانتفاضة الأولى أنه لا حل إزاء تلك الانتفاضة إلا الانسحاب من غزة ؛ " أن هذه ليست نهاية الحملة " .

فصحيح غزة مقاتلة بطلة ، وعرت بعض مخافي ضعف إسرائيل ، وتستحق كل مدح وتمجيد ، ولكن على بعض المادحين والممجدين أن يعوا عمق مآسي غزة وحرارة نار آلامها ، وأن يشعروا أن كل شهيد يخلف بعده جراحا غائرة في نفس أسرته ، ومشكلات كبيرة في حياتهم . الشهداء ليسوا ارقاما محايدة منعزلة . هم حقائق إنسانية وعاطفية واجتماعية لأسرهم . وكل معاق يصير عبئا يشق تحمله على أسرته التي غالبا ما تكون منهكة فقرا ، وفي قطاع  خدمات صحي وطني مهشم ، قالت صحيفة أوروبية إن ما  يواجهه في مسيرة العودة من أعباء  علاج آلاف المصابين يصيب أي نظام صحي أوروبي بالانهيار . الدول العظمى تتجنب الحروب مباشرة ، وتوظف الوكلاء في حروبها ، وغزة أجبرت على ثلاث حروب في خمس سنوات ونصف ، وعلى أكثر من جولة قتال آخرها جولة اليومين .وتوقع حروب أو جولات قتال جديدة قائم بقوة ، ولا يكفي لمواجهته مديح غزة وتمجيدها . غزة جزء من أمة عربية تعدادها الحالي 400 مليون ، أي أنها بمليونيها 2 في المائتين من العرب ، فهل من العدل والحكمة وانتظار النصر والكرامة القومية أن يلقى العبء على ال 2 في المائتين ، والاكتفاء بمدحهم وتمجيدهم ؟! وهل تكتفي أميركا ويهود العالم والقوى المؤيدة لإسرائيل بمدحها وتمجيدها ؟! وتحدثنا عن المادحين والممجدين العرب ، ونعرف كلنا مواقف الذامين المثبطين منهم ، وهم لا يكتفون بالذم والتثبيط ، ويتجاوزونهما بحكم سلطتهم وقوتهم إلى الفعل الذي يضعف غزة ، ويقوي إسرائيل . أمة تحفظ كرامتها ، وتصر على مكانة مقدرة لها في العالم ، سترى غزة قدوة لها في حفظ الكرامة ،  وفي حفظ الحياة والمستقبل في وجه المشروع الصهيوني الذي يرى السيطرة على فلسطين مرحلة أولية في مشروعه التوسعي الكبير ، الدولة الممتدة من النيل المصري إلى الفرات العراقي ، وغزة الخط الأول في اعتراض هذا المشروع على ضآلة عددها بشرا ومساحة قياسا بالعرب ، فكيف بالمسلمين ؟! يجب أن يتجاوز محبو غزة مدحها وتمجيدها إلى الفعل تقوية لها ؛ لأنها تدافع عنهم ، ودفاعها ناقص قاصر دون فعلهم ، وسميت المقاومة مقاومة ؛ لأن كل القوم يشاركون فيها .